شيء من روح العصر
كان حديثنا أجمل ما يكون الحديث وأنفعه، تضافرت فيه الفكاهة والجد، ثم الجد والفكاهة، لم نقطب له الجباه، ولم نزم له الشفاه، تفتحت لنا فيه جوانب الموضوع وتفريعاته من تلقاء نفسها، كأنما هو دفتر نُشر بين أيدينا، وأخذت تقلب ورقاته أصابع خفية، ونحن نطالعها صفحة بعد صفحة بغير عناء، لم ينفعل خلاله أحد في أحد، ولم يغضب أحد من أحد، برغم ما اتسعت به هوة الخلاف في الرأي بيننا، وقد جرى حديثنا كالكرة يتلقفها لاعب من لاعب، متجهة في حركتها نحو هدف تصيبه آخر الشوط، فكلماتنا كانت تنساب من شفاهنا هادئة خافتة سلسة، لا شدَّ فيها ولا جذب، ولا ضغط على حرف هنا ولا ارتفاع لحرف هناك، وكأنه لم يكن طي حروفها قضية فكرية ضخمة، أثيرت بيننا ولبثت مدارًا لحديثنا.
ولقد ألقت تلك القضية الضخمة بثقلها بين أيدينا، حين بدرت من أحدنا لفظة «التخلف» يصف بها حياتنا في مصر، فأسرع سائل منَّا إلى السؤال: وما مقياسك فيمن تقدم ومن تخلف؟ أين هو الموقع الذي يقترب منه المتقدم ويبعد عنه المتخلف؟ فما هو إلا أن تفرع بنا الحديث بحثًا عما نجيب به عن هذا السؤال، وكلما تقدمنا بالتحليل خطوة تفجرت لنا على الطريق انحناءات وثنايا لم تخطر لنا أول الأمر، فهل يكون الفارق بين متقدم ومتخلف في هذا العصر مقدار ما يملك من علم، أو مقدار ما يملك من سلاح، أو هي نقطة واحدة تلتقي عندها قوة العلم وقوة السلاح معًا؟ بمعنى أن من ازداد علمًا في عصرنا ازداد في الوقت نفسه قدرة على ابتكار السلاح الأحدث والأقوى، ولاحظ أنني أكرر عبارة «في هذا العصر»؛ لأن معيار التقدم والتخلف لم يكن هو نفسه المعيار في كل العصور، بل كان لكل عصر مناخه الثقافي الخاص، الذي يوحي بالفارق بين الحالتين ماذا ينبغي له أن يكون، ولكننا هنا ندير الحديث حول عصرنا ومقاييسه في درجة التحضر ارتفاعًا وانخفاضًا.
ولم تكن قوة العلم وقوة السلاح وحدها ما قد عرضناه معيارًا للتقدم والتخلف، بل تزاحمت أمامنا المعايير أشكالًا وألوانًا، وكلها وارد، فهنالك من يجعل المقياس مستوى العيش، أو مقدار الطاقة المستهلكة، على اختلاف أنواعها: بترولية، أو كهربائية، أو ذرية، أو غيرها، على اعتبار أن مقدار الطاقة المستهلكة مؤشر يبين اتساع النشاط الصناعي وغزارته، وهناك من يقول ومن يقول … آراء مختلفة لكنها ليست متعارضة في أغلب الحالات؛ لأنها في الحقيقة متشابكة بعضها مع بعض على نحو يجعل الرأي منها تترتب عليه بقية الآراء، لكنك لا تعدم أن يصادفك رأي يتفرد بشذوذه، فلا هو يترتب على غيره، ولا هو من شأنه أن يلد لنا رأيًا، كأن تجد من الناس من يقول إن التقدم معناه السير إلى الوراء.
استغرق هذا النقاش فيما يصلح أن يكون معيارًا للتقدم والتخلف وقتًا طويلًا، حتى رسونا جميعًا على مرفأ ارتضيناه، هو أنه ما دامت العصور المختلفة قد تباينت في معاييرها؛ فينتج عن ذلك وجوب أن يكون لعصرنا معياره الخاص المتوائم مع حضارته وثقافته، وهذا بدوره يستتبع أن نبحث في هذا العصر نفسه عمَّا ينفرد به — نسبيًّا — دون سائر العصور؛ فإذا وقعنا عليه، كان لدينا بذلك أساس متين نقيم عليه المعيار، لكن هذا الجانب من موضوع الحديث، وأعني خصائص عصرنا، ما نكاد نفتحه حتى تنفتح أمامنا متاهات هيهات لنا أن نعرف أين تبدأ وأين تنتهي، ولم يكن في وسعنا إلا أن نختار خصيصة واحدة من خصائص العصر، التي لا تجد بين الناس إنسانًا يعجز عن أن يذكر لك بعضها عفو الخاطر.
وسادت بيننا لحظة صمت، كان كل منَّا يدير فكره يقع لنا على المميز الذي نختاره مدارًا لما بقي لنا من حديث، وكان أن فتح الله على كاتب هذه السطور بفكرة صادفت قبولًا، هي فكرة وجد فيها الزملاء نقطة التقاء لعناصر كثيرة وهامة من مقومات هذا العصر، وهي في الوقت نفسه ليست شائعة ولا مألوفة بين الناس، مع أنها — في الحق — تضرب في أعماق الحياة العصرية حتى جذورها، وهي فكرة تبدأ من صفة تميز منهج البحث العلمي في عصرنا، ثم تمتد تطبيقاتها لتشمل ميادين أخرى واسعة ومتباينة، فمنها ما يمس الأدب والفن، ومنها ما يمس السياسة وغيرها.
فلقد كان المألوف في كل مناهج البحث العلمي خلال العصور السابقة جميعًا أن تتميز الفكرة العلمية بصدقها صدقًا مطلقًا، لا تشوبه من عوامل الشك شائبة، ويكفي أن نضرب مثلين في سرعة وإيجاز، وهما موقفان في تاريخ الفكر، كان لكل موقف منهما أثره البعيد العميق لعدة قرونٍ جاءت بعده. أولهما هو منهج الفكر العلمي كما صاغه أرسطو قديمًا، ولبثت له السيادة من بعده نحو عشرين قرنًا، أي إنه امتد من عهد اليونان القديمة حتى النهضة الأوروبية في نحو القرن السادس عشر، وذلك هو «المنطق» الأرسطي، الذي كان عند أسلافنا العرب شرطًا لا بد من توافره فيمن يُعد من جماعة المثقفين، ويندر جدًّا أن تجد فقيهًا أو لغويًّا أو عالمًا في ميدان الرياضة والفلك والكيمياء وغيرها، أو عالمًا في الطب، أو فيلسوفًا، لم تكن دراسته لذلك «المنطق» ركنًا أساسيًّا في بنائه العلمي؛ لأن ذلك المنطق الأرسطي كان هو «منهج» البحث العلمي خلال تلك القرون، وإن الدارسين لهذا الميدان ليعلمون مدى الدقة التي روعيت في ذلك المنهج حتى تجيء النتائج التي يصل إليها الباحث العلمي في موضوعه مضمونة الصواب.
والموقف الثاني الذي أسوقه من تاريخ الفكر هو موقف فلاسفة «المنهج» في مطلع النهضة الأوربية إيذانًا بفاتحة عصر علمي جديد، وكان على رأس هؤلاء «ديكارت»، والدارسون في هذا الميدان — أيضًا — يعرفون مدى العناء والدقة التي أراد بها الفيلسوف لمنهجه أن يكون هاديًا إلى ما هو صحيح من المعرفة صحة مطلقة، لا موضع فيها لشك، وكان محور ذلك المنهج الجديد وجوب أن يبدأ الباحث طريق سيره من فكرة يثبت صدقها ثبوتًا قاطعًا لكونها بسيطة لا تقبل التحليل من جهة، ولكون الإنسان من جهة أخرى يراها في دخيلته رؤية مباشرة، ولا بد لي في هذا السياق من الحديث أن أشير إلى أن «الغزالي» — قبل ديكارت بأكثر من خمسة قرون — قد عرض منهجًا قريبًا جدًّا من المنهج الديكارتي، وذلك في كتابه «معيار العلم»، من حيث أن تكون نقطة البدء في طريق السير عند الباحث العلمي أفكارًا بسيطة لا تقبل التحليل، ويستنبطها الإنسان في طوية نفسه، فيراها رؤية مباشرة ويسمِّيها الغزالي أفكارًا «أولية»، ولكن كل هذه المناهج — كما ترى — منصبة على دنيا الأفكار التي تتوالد أو لا تتوالد داخل الدماغ، دون أن يكون شأنها بالدرجة الأولى انطباقها على عالم الأشياء والظواهر والحوادث، ولهذا نشأ في عصر النهضة الأوروبية كذلك منهج آخر يساير تلك المناهج الذهنية، ويغطي عالم الظواهر الطبيعية، على أن هذا وغيره يجعل المدار الأساسي هو إثبات ما هو صحيح بحكم البيِّنات والشواهد.
وجاء عصرنا بلفتة جديدة في منهج البحث العلمي، خلاصتها أن يكون الأساس الأول في قبول فكرة ما على أنها علمية هو قابليتها لأن يحاول الباحث «تكذيبها»، وذلك لأن الاكتفاء بأن تكون نتائجنا صحيحة من حيث استخراجها من أفكار سبقتها، لا يضمن لنا في كثير أو قليل أنها ذات صلة بدنيا الواقع، فأنت تستطيع أن تستدل أوهامًا من أوهام استدلالًا تراعي فيه كل قواعد المنطق، فما الذي يفرق لنا بين فكرة موصولة بالواقع، وفكرة أخرى تولد في الأذهان وتقضي حياتها كلها، وكأنه لا واقع هناك يعيش فيه الذي يفرق لنا بين هذه وتلك، هو محاولة «التكذيب» بما نجريه عليها من تجارب علمية، فيكون ذلك بمثابة مصفاة لا ينفذ من ثقوبها تلك الأفكار التي هي أوهام، تبيض وتفرخ داخل الرأس، حتى تصبح عالمًا زاخرًا بكائناته الذهنية، فيقضي صاحبها سنوات عمره في ظلالها ناعم البال وهو لا يدري أنه إنما يقضي عمره في وادٍ وموكب الحياة في وادٍ آخر.
ذلك هو المبدأ المنهجي الذي تركز عليه الانتباه في عصرنا، ولما كان لكل عصر مناخ عام، في ظله تترابط أطراف الحياة كلها، سواء استطاعت أبصارنا العابرة رؤية تلك الروابط أو لم تستطع، كان لا بد أن نجد لهذا المبدأ العصري ما يصله بجوانب الحياة الأخرى، وأول ما يسترعي انتباهنا من تلك الروابط هو علاقة ذلك المبدأ المنهجي في البحث العلمي، والمبدأ الديمقراطي في الحياة السياسية، فكون الحقيقة العلمية لم تعد «مطلقة» كما كان الظن في الماضي، بل هي نسبية وقابلة للتصحيح، مضافًا إلى ذلك افتراضنا المبدئي عن إمكان أن تكون خلوًا من الصواب الذي يدرجها في مجموعة «الحقائق»، كل ذلك سرعان ما ينعكس في رؤية الناس لصاحب السلطان فهو — كالفكرة المرشحة لأن تكون فكرة علمية — إنسان فيه ما في البشر من قابلية الوقوع في الخطأ، وعلى هذا الأساس وجبت مراجعته ومساءلته وتصحيح أخطائه، فإذا لم يكن قابلًا لهذا كله، لم يكن أمام الناس بدٌّ من إبعاده، تمامًا كما هي حالنا إزاء الأفكار المطروحة علينا، لنضيفها إلى الحقائق العلمية إذا كانت ثابتة الصدق أو نرفضها إذا تبيَّن فيها الخطأ، إنه لضرب من المحال — أو قل إنه أمر يتعذَّر وقوعه — أن يظهر في عهود الحكم المطلق في مجال السياسة منهج في مجال العلوم يجعل الأولوية لافتراض الخطأ في الفكرة المعروضة حتى يثبت صوابها، فقبول الناس لحاكم مطلق غير خاضع لرقيب منهم أو حسيب يغلب أن يستتبع قبولهم كذلك ما يقال لهم متسترًا بستار اللغة العلمية، وإنهم ليقبلون الأفكار التي يقدمها إليهم الحاكم المطلق، يقبلونها على أنها هي الأخرى صادقة صدقًا مطلقًا.
إننا إذ نقول عن عصرنا هذا إنه قد بدل في حياته العلمية منهجًا بمنهج فكأننا قلنا كذلك — بصورة ضمنية — إن الناس في موقفهم من الحاكم قد بدَّلوا — كذلك — أساسًا بأساس، فعلينا الآن أن نسأل عن طبيعة التغير الذي طرأ على النظرة العلمية المعاصرة لنرى تبعًا لها طبيعة التغير الذي طرأ على صورة العلاقة الجديدة بين الشعب وحكومته، وهو تغير يقتصر — بالطبع — على من يحيون حياة فيها علوم ومناهجها، مبدعة وأصيلة، لا منقولة ومحفوظة.
ولعله كان من أهم ما حدث من تغير في وقفة العلم في عصرنا هو أن الباحث العلمي في ظاهرة معينة، محاولًا أن يخلص إلى قوانينها، بعد أن كان سلفه يبحث عما هو «يقين» مثل يقين الرياضة تمامًا، قد أصبح يبحث عما هو «محتمل» الصواب؛ لأن يقين الرياضة لا يكون إلا في الرياضة أو ما يشبهها من ضروب الفكر، وأما الظواهر الطبيعية فلا تجيء قوانينها إلا في صورة احتمالية، لكنها ليست هي «اليقين» على كل حال، لماذا؟ لأن ما هو يقيني يقينًا مطلقًا — في العلوم الرياضية أو غيرها — إنما استمدَّ يقينه ذاك من كونه لا يضيف معرفة جديدة يلتزم بصدقها بالنسبة إلى واقع الدنيا، وإنما هو يكتفي بتحليل معنًى ما إلى عناصره الداخلة في تكوينه، لا بحكم الأمر الواقع، بل بحكم «التعريف» الذي اصطلح عليه أصحاب الشأن في مجال معين؛ فحين نقول في الرياضة — مثلًا — إن «١ + ١ = ٢»؛ فنحن نحلل ما نقصد إليه حين نستخدم عدد «٢» تمامًا، كما يقول: إن الأعزب هو من لم يتزوج، فمصدر «اليقين» في هذه الحالة وكل ما يشبهها، إنما هو ما كنَّا قد اتفقنا عليه من «تعريف» وتجيء الجملة بعد ذلك لتفصح عما هو مضمر في المصطلح وفقًا لتعريفنا له، فإذا قلنا عن الجملة التي من هذا النوع، إنها مبتدأ وخبر، كان الخبر فيها هو نفسه المبتدأ.
وأما في مجال العلوم الطبيعية؛ فالأمر فيها غير ذلك؛ إذ لا بد للخبر أن ينبئنا بشيء جديد عن المبتدأ (إذا جاز لنا استخدام مصطلحات النحو في هذا المجال) وما دام الموقف فيه إضافة خبر «جديد» على طبيعة الضوء — مثلًا — أو طبيعة الصوت، أو طبيعة سمك القرش أو ما شئت من ظواهر الطبيعة وكائناتها، فأنت معرَّض للخطأ؛ لأنك مضطر إلى استخلاص الحقيقة التي تعرضها من «متوسطات» تحصل عليها من العينات التي تُخضعها للبحث العلمي. ولقد جاءت «أجهزة» البحث في عصرنا (وهي من أهم ما خلع على عصرنا طابعه المميز) جاءت تلك الأجهزة لنزداد بها دقة في مقاييسنا التي نجريها في بحوثنا العلمية، فإذا أردنا — مثلًا — قياس درجة الحرارة في مريض، أو قياس ضغط الدم أو ضربات القلب، واستخدمنا في ذلك الأجهزة الملائمة، وجدنا أولًا أنه كلما ازداد الجهاز دقة تغيَّر الرقم الذي يعطيه عن الظاهرة التي يقيسها، وثانيًا أننا إذا قمنا بعملية القياس عدة مرات على الحالة الواحدة خرجت لنا أرقام بينها اختلافات يسيرة، فلا يكون أمامنا إزاء هذا إلا أن نستخرج «متوسطات»، وإذا قلنا «متوسطات» فكأننا قلنا إن الحقيقة التي نقدمها قائمة على «احتمال» الصواب بدرجة ما، لا على «يقين» ذلك الصواب، وكيف يكون الأمر في هذا «يقينًا» إذا كان الجانب الكمِّي فيه لا بد أن يتغير قليلًا مع اختراع أجهزة أكثر دقة؟
وماذا يعني هذا كله بالنسبة إلى موضوعنا؟ إنه يعني أن نظرة الإنسان المعاصر إلى «الحقيقة العلمية» قد دخل عليها وجوب المراجعة المستمرة، مع استمرار الزيادة في دقة الأجهزة العلمية، مما زحزحها عن منزلة «اليقين» التي كانت تحتلها فيما مضى، وبالتالي قد انعكست هذه النظرة على ميادين أخرى غير ميدان العلوم، كالنظم الاجتماعية وصور الحكم، فما قد كان منها يوصف باليقين المطلق، أخذ يتواضع ليصبح معترفًا له باحتمال الخطأ وبضرورة مراجعته وتصحيحه تبعًا لذلك.
وفي هذا السياق، الذي نريد فيه أن نربط ديمقراطية السياسة باحتمالية القوانين العلمية — في عصرنا — كما كان الحكم المطلق فيما مضى، قد صاحبته نظرة علمية تجعل الصواب مطلقًا للقوانين العلمية، قد يتبادر في أذهاننا سؤال يقول: لكن كيف نربط صورة الحكم في عالم السياسة بصورة المنهج في دنيا العلم مع أننا نعلم أن منهج العلم واحد عند جميع من ينتجون علمًا، في حين تتعدد صور الحكم السياسي بين غرب وشرق في أوروبا وأمريكا، فضلًا عن تعدد صوره في سائر بلدان العالم؟ والجواب هو أنه لما كانت نسبية العلم وما فيها من بعد عن تصور اليقين الرياضي تستتبع وجهة نظر تتلاءم معها في دنيا السياسة كذلك وأعني أنها تستتبع النظام الديمقراطي في الحكم، بدل نظام الحكم المطلق، فقد نتج عن ذلك ما نراه من تمسح أشد البلاد طغيانًا في نظام حكمها في اسم «الديمقراطية»، حتى أصبح الناس في حيرة أين تكون الديمقراطية بمعناها الصحيح، إذا كان الجميع يدعونها، برغم ما بين الدول المختلفة من تباعد في صورة الواقع؟
وليس انعكاس الوقفة العلمية الجديدة على ميادين الحياة الأخرى مقتصرًا على المجال السياسي وحده، بل انعكست تلك الوقفة الجديدة على الجانب الثقافي بكل معانيه، فلقد كان الرأي السائد إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى هو أن ثمة معيارًا واحدًا للثقافة الرفيعة، ألا وهو ثقافة الغرب، وأما ما دونها من ثقافات الشعوب الأخرى فهي تكون متقدمة أو متخلفة بمقدار قربها أو بعدها بالنسبة إلى معايير الثقافة الغربية. ولكن ذلك كله قد تغير، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، وما ظفرت به الشعوب في آسيا وأفريقيا من استقلال وحرية، وعندئذٍ ارتفع في عالم الثقافات مقياس جديد، هو «نسبية» الأحكام بحيث لا يجوز الحكم على ثقافةٍ معينة بمعايير ثقافة أخرى، فلكل ثقافة معاييرها التي تحكم عليها، وكما تساوت الدول في هيئة الأمم المتحدة من الناحية السياسية (إلا في مجلس الأمن حيث يكون لبعض الدول حق النقض دون بعضها الآخر)، فكذلك تتساوى من الناحية الثقافية في «اليونسكو».
وإذا أردت أن تنتقل بالحديث، من «الثقافة» بوجه عام، إلى الأقسام الفرعية التي منها تتألف الثقافة بمعناها العام، كالفنون والآداب؛ وجدت النتيجة عينها ماثلة أمامك، وأعني «نسبية المعيار»، وما تستتبعه تلك النسبية من حرية للفنان أو الأديب، ومِن ثَم تفجرت الصور الكثيرة التي تراها في كل جنس من أجناس الفن والأدب، فالفن التشكيلي اتجاهات وتيارات يختلف بعضها عن بعض اختلافات واسعة، وكذلك قل في الشعر والرواية والمسرح وفي الموسيقى، وتستطيع أن تضيف في هذا التشعب والتنوع الفكر الفلسفي في عصرنا بمختلف مذاهبه وتياراته.
ها هنا قال زميل من الزملاء الذين اجتمعوا على حوار تديره الصداقة واحترام الفكر وكرامة العقل، قال ذلك الزميل: أظن الوقت قد دنا من لحظة انصرافنا، لكنني أرغب في رجاء أوجهه إلى فلان، على غرار ما يقوله المذيع أو المذيعة لمن يجري معه الحديث، عندما يبلغ ذلك الحديث ختامه: هل لديك ما تلخص به هذا كله في جملة واحدة قصيرة تريد لها أن ترسخ في عقول الشباب؟ قلت: نعم، فإني أقول لشبابنا: إن المتزمت صاحب الأفق الضيق الذي يزعم الحق المطلق لما يقوله هو دون سائر القائلين، لم يعد له في عصرنا مكان.