خطاب من مجهول
فضضت الغلاف فخرجت لي منه رسالة من صفحة ونصف صفحة من القطع الكبير، كُتبت بإنجليزية جيدة، مضروبة على الآلة الكاتبة في أحرف نظيفة، لكنها خلت من توقيع كاتبها، كما خلت من تاريخ إرسالها، ولما كنت قد فقدت اللمح بالبصر السريع، الذي كان في مستطاعه بنظرة خاطفة أن يدرك شيئًا يدلني على طبيعة المادة المكتوبة؛ فقد أزحت تلك الرسالة جانبًا حتى تأتيني اللحظة المناسبة التي أستجمع فيها كل ما عندي من قوة التركيز، وقدرة على الصبر، في استعمال العدسات الكاشفة، فلست ممن يهملون الرسائل قبل التيقن من أنها تستحق الإهمال.
وعدت إلى الرسالة بعد يومين، وقد كنت رجحت لنفسي أنه من ذلك النوع من الرسائل العجيبة التي يأمرك فيها كاتبوها أن تنسخ منه خمس نسخات ترسلها إلى خمسة أشخاص، وإلا أصابك السوء، وفي جميع تلك الحالات لا أتردد لحظة في تمزيقها وإلقائها مع المهملات، ولقد علمت من بعض أصدقائي أنهم في حالات كهذه يأخذون بالأحوط، ويفعلون ما أمروا أن يفعلوه، نعم، كنت ظننت أن الرسالة التي جاءتني هي من هذا النوع العجيب؛ لأني كنت استطعت قراءة أول جملة فيها، وهي التي تقول: «هذا خطاب جاد، من رجل جاد وصادق.» إلا أن الرسالة لو تحقق لي أنها من ذلك النوع الذي أشرت إليه، كانت الأولى في نوعها التي جاءتني بالإنجليزية، وفي مثل هذه الصياغة الجيدة، والطباعة النظيفة، لكنني حين قرأتها وجدتها أبعد ما تكون عما ظننت.
بدأت الرسالة المجهول كاتبها بما تكون ترجمته إلى العربية ما يلي: هذا خطاب جاد، من رجل جاد وصادق، إلى أستاذ جاد وصادق وبحَّاثة، ولقد تركت خطابي بغير توقيع، لأنني أرتاب في أن يكون بريدك مراقبًا، فينكشف أمري، وهو ما لست أريده.
«إنك تحاول جاهدًا أن تقول إننا إذا أردنا لأنفسنا البقاء، مشاركين في حضارة العالم بما نضيفه إليها «كما كان شأننا في الماضي» فلا بد لنا من مزج تراثنا، أو — على الأقل — من تطعيمه بثقافات الآخرين، وبثقافة الغرب على وجه الخصوص، فإذا لم أكن أخطأت الفهم عنك، فأنا مؤيدك في حملتك ابتغاء التجديد، لكنني في حيرة، كيف يمكن تحقيق هذا الحلم؟ إن تراثنا إسلامي في الأساس …»
وهنا أخذ صاحب الرسالة يضرب لي الأمثلة ليقول لي بها ما معناه أنه إما إسلام وإما ثقافة هذا العصر وحضارته، أما أن يتلاقى الاثنان فضرب من اجتماع نقيضين لا يجتمعان. والأمثلة التي يسوقها، بعضها يدخل في باب «العقائد»، وبعضها الآخر يقع في باب «الشريعة»، وعنده أن هذا وذاك معًا لا يتسقان مع العلوم المأخوذ بها في هذا العصر، فكيف يكون التوفيق؟ ويذكر الكاتب في رسالته أنه مسلم، رُبِّي على أن يكون قوي الإيمان بإسلامه، لكنه لم يعد يرى كيف يتحقق له ذلك، ويظل آخذًا بأسباب الحياة مع العصر في حضارته وفي ثقافته، وهو ما يراه ضرورة لا مندوحة له عنها.
ولعل هذه الحقيقة الأخيرة عن صاحب الرسالة هي التي دفعته إلى الحرص بأن يبقى مجهول الهوية حتى لا يتعرض للأذى، ومهما يكن من أمره فلقد شعرت شعورًا قويًّا بعد قراءة تلك الرسالة، بوجوب الرد عليها؛ لأن محور الخطأ عنده، موجود عند كثيرين غيره، ممن لا يستطيعون توضيح موقفهم بمثل ما استطاع صاحب الرسالة توضيح موقفه، وأعني بذلك المحور تلك الفكرة الباطلة التي كأنما أصحابها يريدون أن يقولوا: إما إسلام وإما هذا العصر بكل علومه وتقنياته، وهي فكرة شاعت حتى أصابتنا بما يشبه الشلل، ولقد سبق لي في مناسبات كثيرة أن قاومتها؛ لأنني أومن بأنه لو كان المسلمون في قوتهم الأولى، مع هذا العصر وظروفه، لكانوا هم الذين أقاموا حضارة العصر وظروفه، لكانوا هم الذين أقاموا حضارة العصر وثقافته، بكل هذا الذي نراه حولنا من اختراق للآفاق، فليس في كل مقومات عصرنا الأساسية شيء يأباه الإسلام عقيدة وشريعة، والآن فلننظر إلى الأمر نظرة قريبة وفاحصة.
وعلى سبيل التمهيد، أوجه الخطاب إلى صاحب الخطاب، بعد أن أحيطه علمًا بما قد لا يعلمه عن البريد ومراقبته، وهو أنه لم يحدث قط أن فُتح لي خطاب ليراجعه رقيب، وربما كانت إشارة صاحب الخطاب في ذلك إلى فترة زمنية غير الفترة التي نعيش في ظلها اليوم، وأنتقل إلى موضوعنا فأقول: إن خطابك يا صاحبي، باللغة الإنجليزية الجيدة التي كُتب بها، يدل على أنك ضالع في الثقافة الإنجليزية إلى حد بعيد، فإني أوجه إليك هذا السؤال: اختر لنفسك من تشاء من رجال الثقافة في بريطانيا، بحيث تراه مجسدًا بشخصه لروح هذا العصر الذي نعيش فيه، ثم افترض أن من اخترته قد أسلم، فما الذي يتغير في موقفه «العصري» بسبب إسلامه؟ وأرجوك أن تأخذ سؤالي هذا مأخذ الجد، فلقد بدأت خطابك معلنًا أنك رجل «جاد وصادق»، وتأمل سؤالي في رويَّة وأناة، فإذا وجدت أن المثقف العصري الذي اخترته لن تنتقص عصريته تلك مقدار شعرة بسبب إسلامه، كان معنى ذلك أنه لا تعارض بين عقيدة المسلم وبين رؤية عصرية يتخذها لنفسه، من ذا تريد أن تختار من رجال الثقافة المعاصرين في بريطانيا؟ هل توافق على اختيار علمين كانا صديقين ولكنهما اختلفا اتجاهًا، وأعني أولدس هكسلي وتشالز سنو؟ فأولهما نزع منزع الصوفية الشرقية، والثاني فاضل بين العلم والأدب في حياة الإنسان، فجعل الرجحان للعلم، وقد كان هو نفسه عالمًا وأديبًا في آنٍ معًا! إذا وافقت على هذا الاختيار المزدوج، الذي يسمح لنا بشيء من المقارنة المفيدة، وإذا فرضنا أن الرجلين قد أسلما، فكيف تتأثر رؤيتهما «العصرية» بإسلامهما؟ نعم إن أساس العقيدة الدينية يتغير بالطبع، لكنهما لن يجدا في عقيدة الإسلام ما يحول أيًّا منهما دون أن يأخذ في دنيا ثقافته بما أخذ، فإذا فرضنا أن جانبًا من أهم جوانب الرؤية عند أولدس هكسلي هو ارتيابه في أن يكون هذا التقدم السريع للعلوم يخدم حياة الإنسان، إلى الحد الذي جعله يصرخ بأن العلم يجب أن يقف في وثباته عند حد، وإذا رأينا أنه نزع إلى حياة المتصوفة نزوعًا قويًّا، فهل يجد في عقيدة الإسلام ما يصده عن تلك الرؤية وما يرده عن هذا النزوع؟ ثم انظر إلى صديقه تشارلز سنو في إعلائه من شأن العلم على الأدب «وهو — كما قلنا — مرموق في العلم وفي الأدب معًا.» فهل يجد في عقيدة الإسلام ما يستنكر عليه هذا الإعلاء للعلم على الأدب؟ إن المسلم بإسلامه يؤمن بأن الله أحد، وبأن الله صمد، وهذا التوحيد هو صميم الرسالة الإسلامية، فهل تقف عقيدة التوحيد حائلًا بين المؤمن بها وبين الرؤية العصرية؟
والآن فاعكس الاتجاه، واختر من شئت من المسلمين الذين عُرفوا بتشربهم للثقافة الغربية، وانظر في عمق إلى ما قد طرأ عليهم من تغير بسبب تلك الثقافة، ثم قل لي بعد إمعان النظر إذا كان إسلامهم قد اهتز، لا، بل إني لأجد نقيض ذلك تمامًا، وهو أن التزود بثقافة الغرب من شأنه — على الأرجح — أن يفيد صاحبه في عمق نظرته إلى الإسلام، عمقًا قد يؤدي به إلى فهم لا يتاح مثله لمن لم يتسع أفقه بمقارنة الثقافات بعضها ببعض، فكثيرون جدًّا هم علماء الإسلام في عصرنا هذا، الذين نالوا درجاتهم العلمية في جامعات الغرب، ولم يكن ذلك ليؤثر فيهم إلا بأن ازدادوا بإسلامهم وعيًا ولإسلامهم فهمًا، وذلك كله لأن الإسلام وثقافة العصر ليسا نقيضين، وإنما تجيء الثقافة إلى إسلام المسلم فتلقى فيه رحابة صدر وحسن قبول، ومن أين يأتي التناقض والإسلام أساسًا رسالة أخلاق، وثقافة الغرب والمعاصرة — أساسًا — ثقافة عصبها علوم، والذي بين الأخلاق والعلوم إنما هو أن تضاف تلك إلى هذه، لا أن يصطرع الطرفان، وإنني لأجد المعنى غزيرًا في قول الإمام محمد عبده، عندما زار إنجلترا، بما معناه: لقد تركت في بلدي إسلامًا بغير مسلمين، وجئت هنا لأجد مسلمين بغير إسلام، فالإسلام مبادئ أخلاقية، قد يتخلق بها الإنسان إذا أُحسنت تربيته، دون أن يكون في عقيدته مسلمًا، والعكس وارد أيضًا، وهو أن يكون الإنسان بعقيدته محسوبًا على الإسلام دون أن يعلو بتربيته إلى ممارسة المبادئ الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام.
وننتقل مع صاحب الخطاب — بعد هذا التمهيد الطويل — إلى الخطأ الأساسي في محور التفكير عنده، مما أدى به إلى الحيرة التي عبَّر عنها في خطابه، ثم إلى ما بعد الحيرة من اهتزاز في العقيدة، وذلك الخطأ الأساسي عنده — كما أراه — هو في الخلط بين رسالة «الأخلاق» ورسالة «العلم» خلطًا جعله يتوقع من الأولى أن تتحدث إليه باللغة التي تتحدث بها الثانية، ولو أنه فرَّق التفرقة الواضحة بين المجالين، لما وجد ما يدعو إلى حيرة، فضلًا عن أن يجد ما يدعو إلى التشكك في العقيدة، فالعلم تجريبي، يصحح نفسه بنفسه عصرًا بعد عصر، والعقيدة التي تحمل في طيها رسالة خلقية، مطلقة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وإن تغيرت مواقف تطبيقها، وإذا لجأ العلم إلى «رموز» تضبط له معانيه؛ كانت هي رموز الرياضة أو ما يشبهها، وأما إذا لجأت عقيدة الأخلاق إلى رموز توضح معانيها، كانت هي رموز البلاغة في التصوير والتوضيح. وأقول ذلك لأنك — والخطاب موجه إلى صاحب الخطاب — قد أردت — في الأمثلة التي سقتها — أن تفهم لغة العقيدة الأخلاقية على الأساس الذي تفهم به لغة الفيزياء والكيمياء، فوقعت في حيرتك وما هو بعد الحيرة.
وتسألني متعجبًا: كيف يمكن الجمع بين التراث — والإسلام أساسه — وبين حضارة هذا العصر وثقافته، ثم تسمي ذلك المطلب «حلمًا» لا سبيل إلى تحقيقه، فهل ترى — على ضوء ما أسلفناه — استحالة أن تجتمع «أخلاق» من هنا إلى «علوم» من هناك؟ فمفتاح الطريق إلى الصواب هو هذه التفرقة، فالعلم علم كائنة ما كانت عقيدة من يتلقاه، تلقته اليابان بعقيدتها البوذية، فكان منها ما كان، وتلقته اليهودية والمسيحية متمثلتين في أشخاص المتدينين بهما في الغرب فلم تحل العقيدة الدينية دون أن يقيم هؤلاء من صروح العلم ما أقاموه. إن في الولايات المتحدة كل صنوف العقائد، وبقيت لكل ذي عقيدة عقيدته، مع اشتراكهم جميعًا في روح علمية واحدة، فلماذا تراه حلمًا بعيد التحقيق أن تنهض أمة إسلامية فتضيف علمًا إلى دين؟
لقد كتبت منذ عدة أعوام فصلًا قصيرًا بينت فيه أن حضارة الإسلام حضارة أخلاق في أساسها، وقد أقمت ما كتبته على سورة «الفجر» من الكتاب الكريم، وأراني الآن مشدودًا إلى إعادة بعض ما ورد في ذلك الفصل، وهدفي هو أن صاحب الخطاب إذا اقتنع بالفكرة، سهل عليه بعد ذلك أن يرى إمكان الجمع بين إسلام المسلم وعلم العصر الحاضر؛ إذ لا تناقض — كما قلنا — بين «أخلاق» و«علوم» تضاف إليها دون أن نقع في الازدواجية التي أشار إليها صاحب الخطاب، قائلًا إنها ازدواجية تقتضي من صاحبها حتمًا ضربًا من النفاق!
إن الخاصة التي ميزت الحضارة الإسلامية من سائر الحضارات هي أنها أدارت رحاها حول محور «الأخلاق»، فإذا كانت حضارات أخرى قد أرست قواعدها — في المقام الأول — على «الفن» أو على «العلم» أو غير ذلك من أسس كالزراعة أو التجارة أو الصناعة، فإن الحضارة الإسلامية قد اختارت «الأخلاق» أساسًا لها.
على أننا في هذه التفرقة لا يفوتنا أن الجوانب كلها قد تجتمع في كل حضارة على الإطلاق، وذلك بمقادير تتفاوت هنا وهناك، لكننا هنا؛ إذ نميز حضارة معينة بخاصة ما، فإنما نريد أن تكون تلك الخاصة — أكثر من سواها — ركيزة أولى يُقام عليها البناء، وبناء الحضارة الإسلامية ركيزته «الأخلاق».
قف معي لحظة نتأمل فيها هذه الآيات الكريمة من سورة «الفجر»: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، فأول ما يلفت النظر للوهلة الأولى، بل يلفته للوهلة الثانية والثالثة والعاشرة، هو أن هذا العدد القليل من الآيات الكريمة قد أوجز لنا القول إيجازًا بليغًا، في ثلاث حضارات سبقت ظهور الإسلام — ضمن ما سبقه — وهي حضارات ثلاث تشابهت كلها في أنها جعلت «الفن» أساسًا لصروحها، وإن اختلفت بعد ذلك في نوع الفن الذي اختارته كل واحدة منها، فقوم «عاد» الذين عاشوا حضارتهم فيما هو الآن الجزء الشمالي من الجزيرة العربية، كانت براعتهم في فن بناء المدن وأقاموا مدينة «إرم» على نحو يذهل خيالك ذهولًا إذا قرأت شيئًا من تفصيلاته، كما ذكرها المؤرخون، فهي مدينة قوامها قصور شوامخ من ذوات الطوابق، وكانت طريقتهم في بناء الطوابق العليا أن يقيموها على «عمد»، والعمد بدورها تقام على أسطح الطوابق السفلى، لا على الأرض، فكانت تلك العمد تبدو للقادم من بعيد وكأنها غابة كثيفة من جذوع الشجر، وصدق الله العظيم في وصفها بأنها إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ.
وأما قبيلة ثمود، فقد عاشت هي الأخرى في منطقة قريبة من موطن «عاد»، وكان مقرها واديًا صخريًّا، أوشكت حياة النبات وحياة الحيوان ألا تجد لها فيه موردًا للنماء، فدارت براعتهم — أعني قبيلة ثمود — على فن النحت بصفة أساسية، وحتى بيوتهم نحتوها في صخور الجبال، كأنها الكهوف. وأخيرًا يأتي ذكر فرعون وما اختارته حضارة مصر من فن يقيمون به المسلات والمعابد، التي ترتفع ﮐ «الأوتاد» فليس هو فنًّا في بناء المدن، كما رأينا عند «عاد» ولا هو فن النحت بالصورة التي رأيناها عند «ثمود»، بل هو فن ينصب على المعابد وملحقاتها، وفيها ما فيها من قوائم ذات جبروت وشموخ.
هي إذن حضارات قامت على «فنون» ولم يكن في ذلك ما يعاب لولا أنها قرنت فنونها تلك بطغيان، أعني أنها أقامت فنًّا عظيمًا في ذاته، لكنها لم تدعمه بأخلاق التعاطف بين الإنسان والإنسان، فكان القوامون على تلك الحضارات هم من قال عنهم الله سبحانه وتعالى في سورة «الفجر»: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، ثم نقرأ في ختام سورة «الفجر» أمثلة من أخلاق السلوك التي أعوزت حضارات الفنون السابق ذكرها، فهم لم يكونوا يكرمون اليتيم، ولم يكونوا يطعمون المسكين، وكانوا يأكلون التراث أكلًا لمًّا، ويحبون المال حبًّا جمًّا، وإذا أردت أن تضع تلك السيئات في مصطلح عصرنا، فقل إن تلك الحضارات لم تُعنَ بإقامة التكافل الاجتماعي بين الناس، ولا هي عُنِيت بتنظيم «التأمينات» التي يطمئن بها أبناء الشعب على حياتهم وضرورات عيشهم.
من ذلك ترى «والخطاب موجه إلى صاحب الخطاب» أن الإسلام إنما هو جاء ليسد هذا النقص الخطير، وهو أن يُقام مجتمع على ظواهر حضارية خالصة، دون أن يُعنى بما يجب أن تكون عليه حياة الناس، من تعاون وعزة نفس، وتلك هي مهمة «الأخلاق»، ومن هنا كانت الأخلاق هي أعمق الأسس التي بنيت عليها حضارة الإسلام، وعلى هذا الضوء نفهم قول رسول الإسلام — عليه الصلاة والسلام — أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق.
ونعود الآن إلى القضية الأساسية التي طرحها صاحب الخطاب في خطابه، وهي عن الدعوة إلى وجوب الدمج العضوي الذي ينبثق منه كيان حضاري ثقافي متكامل، يجمع بين تراثنا — ومداره أخلاقيات الإسلام — وروح العصر الحاضر — ومداره العلوم وما يترتب عليها من تقنيات — فهل ما يزال صاحب الخطاب يرى أن الجمع بين علوم حديثة من هناك، وأخلاق إسلامية من هنا ضرب من أحلام الحالمين؟ لا، بل إني لعلى اعتقاد متين بأن مثل هذه الإضافة لو استطعناها على الوجه السليم جاءت بمثابة إضافة تحدد دورنا الرئيسي في بناء حضارة العصر.
وقد تتساءل: أوليس لأصحاب حضارة العصر «أخلاق»، ربما كانت هي التي قصد إليها الشيخ محمد عبده حين قال عن القوم هناك إنهم مسلمون بغير إسلام؟ سؤال وجيه، والإجابة عليه هي أن أخلاقهم في صورتها الظاهرة قد لا يؤخذ عليها شيء في معظم الحالات، لكنها مقامة على أساس «المنفعة»، وهو أساس قد يبنى عليه الخير للإنسان تسعًا وتسعين مرة، ثم تجيء المرة المائة كارثة قد تمحو الحضارة كلها محوًا كالذي نراه الآن والعالم كله على شفا حفرة من نار! وتصحيح الوضع هو أن نستبدل بأساس «المنفعة» في البنية الأخلاقية أساسًا آخر هو التعاطف بين الناس، وذلك هو ما جاء الإسلام ليرسي قواعده، فإذا كانت حضارة العصر، كما لخصها الدكتور ليفس، أستاذ الآدب في جامعة كيمبردج والناقد الذي أشهره نقده الأدبي في عالم الفكر الحضاري بصفة عامة، أقول: إذا كانت حضارة العصر كما قال عنها ليفس قائمة على «أخلاق بنتامية وتقنيات علمية» (وبنتام هو الفيلسوف الذي ردَّ الأخلاق إلى منفعة)، فإن الصيغة الثقافية التي ندعو إليها هي: أخلاق التكافل والتعاطف مع تقنيات العلم، فهل ترى هذه الصيغة ضربًا من الأحلام؟
ولقد ضربت في رسالتك «والخطاب موجه إلى صاحب الخطاب» ثلاثة أمثلة مما يدعو إليه تراثنا، تستشهد بها على استحالة الصيغة الحضارية التي ندعو إليها، فأرجوك أن تراجعها بينك وبين نفسك، لترى: أولًا أنها مما يسهل جدًّا فهمها على أنها رموز تعني ما تعنيه. وثانيًا أنها كما هي واردة في تراثنا، فهي واردة بذاتها في تراث شعوب الغرب، فأين موضع الغرابة إذن؟ وإذا كنت لم أذكر أمثلتك هنا إلا بالإشارة؛ فذلك لأني حريص على ألا أُحدث في أذهان القراء بلبلة لا تنفع وقد تضر.
ولقد ختمت رسالتك يا أخي بسؤال عجيب، إذ سألت: من ذا الذي يجرؤ على معارضة وحي إلهي أو حتى على مناقشته؟ وأجيبك: أن من آمن بوحي إلهي، فهو بحكم ذلك الإيمان نفسه لا يخطر له أن «يعارض» أو أن «يناقش»، لكن إيمانه يوجب عليه أن «يفهم» مضمون الوحي الذي آمن به، ليهتدي بهديه وهو على وعي وبصيرة، وبالله يكون التوفيق.