كانت بالأمس شجرة خضراء
ولِدت بالريف ونشأت فيه خلال السنوات الخمس الأولى، أو ما يقرب منها، ثم أخذت أعاوده كل عام في إجازة الصيف، وربما أُضيفت إلى الصيف فترات أخرى من فصول أخرى إذا اقتضت ذلك ظروف الحياة. وكان بي شغف شديد لقضاء بضعة أيام عند أقارب في قرًى مجاورة، ممن يملكون أرضًا يزرعونها، ولست أنسى تلك النشوة الغامرة التي كانت تملؤني إذا ركبت النورج وهو يدور دائرته ليدرس القمح، وكان لأسرة الأقارب صغار في مثل سني؛ فكنا نمرح معًا ونلهو، نشترك في أشياء وأنفرد وحدي بأشياء، فما كنت أحبه ولا يحبونه أن أصعد السلم الخشبي إلى سطح بناء صغير ذي غرفتين، كانت إحداهما مخزنًا لأدوات منوعة من فئوس ومحاريث وما إليها، وكانت الأخرى جرنًا يخزن فيه التبن والدريس، وأما سطح ذلك البناء فكانت تعلوه كرمة تظله، وعلى ذلك السطح المفروش بكرمة العنب كنت أستلقي على كليم هناك، وأظل وحدي ساعات تطول أحيانًا ما طالت ساعات الضحى، أو ساعات العصر، وقد تقصر إذا أراد الجمع رواحًا مبكرًا، وأما ما كنت أشترك فيه مع أندادي من الصغار، فهو الجلوس تحت شجرة كثيفة الظل لكثافة فروعها وأوراقها، وكانت قريبة من ذلك البناء الصغير الذي أشرت إليه.
كان رب الأسرة على شيء من الجهامة والعبوس، ولم يكن يوجِّه كلماته إلى أبنائه الصغار إلا وهي مشحونة بما يشبه الغضب، أما أنا فقلما توجه إليَّ بحديث، وإذا فعل ألبس شفتَيه ابتسامة حتى يفرغ من حديثه المختصر، ثم يعود فيخلع تلك الابتسامة المصنوعة عن شفتَيه، ولم أكن قد بدأت زيارتي الموسمية لتلك الأسرة إلا بعد أن كان الرجل قد تزوج زوجته الثانية وأنجب منها طفلين، وكانت الزوجة الأولى هي قريبتي، وأبناؤها هم الصغار الذين كنت أرافقهم سارحًا إلى الغيط وعائدًا إلى الدار.
فلما جاوزت العاشرة حدث أن انقطعت عن تلك الزيارة بضع سنوات، ثم عدت إلى زيارة — لعلها كانت الأخيرة — وأنا في نحو السادسة عشرة، فكان أول ما وقع عليه النظر تلك الشجرة التي كنَّا نفترش ظلها الكثيف، وإذا بالشجرة ترقد على الأرض قتيلة وقد جفت حتى أصبحت حطبًا ينتظر المنشار أو الفأس، ليؤخذ منها قطعةً قطعةً بمقدار ما تتطلب النار من وقود. لبثت شاخصًا ببصري إلى الحطبة الباقية، فسألني الأنداد: ما لك؟ قلت فيما يقرب من الهمس المكتوم: إنها كانت بالأمس شجرة خضراء!
وكان رب الأسرة قد أخذ منه المرض مأخذًا، اصفر وجهه واصفر بياض عينيه، يجلس صامتًا معظم وقته، فإذا رأى ما يستوجب التوجيه، قاله في صوت عالٍ ومرتعش، ولبث بعد ذلك فترة تلحظه خلالها وكأنه يلتقط أنفاسه من رئتيه التقاطًا، ولا أدري لماذا احتقرت في ذاكرتي لحظة حاول فيها غلام أن يمر مع بقرتين دفعة واحدة، على معبر ضيق فوق قناة صغيرة من قنوات الصرف فتزاحمت الأجساد الثلاثة، حتى كادت إحدى البقرتين تقع، وهنا صاح الرجل صيحة غريبة خلته بعدها قد جمد منه النفس، وكانت العبارة التي نطق بها في تلك الصيحة أغرب في كلماتها منها في قوتها وارتعاشها؛ إذ قال: «يا شيخ سقها مكلوبة»، فوجدت نفسي عندئذٍ قد انصرفت باهتمامي إلى لفظ «مكلوبة» الذي اشتقه الرجل من كلمة «كلب»، وهو اشتقاق لم أكن سمعته قبل ذلك ولا سمعته بعد ذلك، وسواء أكان جائزًا في اللغة أم غير جائز، فقد أحسست عندئذٍ — وما زلت أحسُّ — أنه كان لفظًا معبرًا أقوى تعبير عن ضيق الرجل بمرضه وبالخطأ الذي رآه في آنٍ معًا، وكان الرجل إذ ذاك قد أنجب من الزوجة الثانية خمسة أبناء وبنات، أضيفوا إلى خمسة سواهم من الزوجة الأولى، وبعد أن رأيته آخر مرة بسنوات قليلة توفي وقيل إن تكاليف علاجه قد أثقلت الأرض بالديون، فذهب بعضها وفاءً لتلك الديون، وقُسم الباقي على عشرة من أبنائه وبناته ومعهم زوجتان، فخرجوا جميعًا من الصفقة وهم فقراء، بعد أن كانت أسرتهم تُعد بين من سترهم قدر من الغنى! فلما سمعت ذلك، قلت لمن نقل إليَّ النبأ، ولعله لم يفهم ما قلته: لقد كانت بالأمس شجرة خضراء!
ذلك كله تاريخ عشت أحداثه، ومن تلك الأحداث ما رسخ في الذاكرة الواعية، ومنها ما اختنق مع مر الزمن، ولكن هذه التفرقة بين ما رسخ وما اختنق إنما هي تفرقة على مستوى العقل وهو في وعيه، وأما إذا ما كان نوم وأحلام فلا تدري من أي القسمين يختار اللاوعي ما يختاره، ليجسده كيفما شاء في رموز يبدعها لغايته، وإذا أنت حين تذكر ما ارتسم لك في الحلم، أمام لوحات وأحداث لفقها الخيال من هنا ومن هناك، ومن ذلك ما رأيته منذ قريب؛ إذ رأيت خليطًا عجيبًا من أشياء، يتوسطها في ضوء ساطع جذع شجرة مخرَّطًا في شرائح متجاورة، وقد جف الخشب وتآكلت أطرافه؛ فما إن صحوت في أثر ذلك الحلم، حتى قفز إلى ذهني شيئان معًا: تلك الشجرة التي رأيتها في الماضي البعيد ملقاة على الأرض في موات الحجر بعد أن كنت عرفتها أغنى ما يكون الشجر فروعًا وأوراقًا وخضرةً وظلًّا، وطالب جامعي معين، فرغ من إجازة الماجستير، ويعد نفسه للدكتوراه، فما الذي قرن هذين الشيئين معًا؟ لم أجد عسرًا في افتراض رابطة بينهما، أما أن يكون ذلك الافتراض صحيحًا أو غير صحيح فيما يتصل بتأويل الحلم كله، فأمر ذلك مرهون بتعقب سائر التفصيلات في الصورة التي رأيتها، ولم يكن في وسعي أن أستعيد الصورة في وضوح لأتقصى تفصيلاتها، ولماذا أفعل؟ إن الرابطة التي افترضت وجودها بين الجذع المهلهل المقطع المنخور لبابه، والطالب الذي جاءني ليستمد مني هداية في موضوع بحثه إذا استطعت له هداية كافية وحدها للوقوف عندها، فلم يدر بيننا الحديث إلا قليلًا حتى تبين لي أن المسكين يوشك أن يكون عاجزًا كل العجز عن قراءة سطر واحد في لغة أجنبية، ودع عنك أن يفهم ما قرأ، وأراد أن يخفف عن نفسه فداحة الهول، فقال إن موضوعه متصل بالفلسفة الإسلامية، فهو — إذن — ليس بحاجة إلى غير اللغة العربية من لغات، كيف ذلك — يا ولدي — والفلسفة الإسلامية لم تكن جسمًا قائمًا وحده ومعلقًا في الفضاء؟ إنها قالت وسمعت ما قاله الآخرون ومزجت قولها بقول سواها لتخلص إلى نتيجة فيها ما في الكائنات الحية من أخذ وعطاء، إنني على كل حال لم أعلق له بشيء مما عساه أن يحمله على يأس، بل اتخذت حياله موقف التشجيع. لكن هل كان في وسعي بعد أن أنهى الطالب زيارته، إلا أن أستعيد بالذاكرة نماذج ممن عرفتهم في مجال الدراسة العليا من قبل؟ بل هل كان في وسعي إثر تلك الزيارة إلا أن أنظر إلى التعليم كله عندنا اليوم، الجامعي منه، وما دون ذلك من درجات؟ لأقارن ماضينا بحاضرنا، إلا أن المقارنة بين ماضٍ وحاضر قمينة أن تقدم لي في الحلم ذلك الجذع المهلهل المنخور، الذي كنت عرفته قبل ذلك شجرة خضراء.
إن أحدًا لا يحق له أن يلوم أحدًا في هذه المأساة، فالقادة في ميدان التعليم عندنا يبذلون جهد الجبابرة في إخلاص وتضحية ليس بعدهما عند إنسان من مزيد، لكن ماذا يصنع الجهد والتضحية والإخلاص إذا ما طُلب من المسئول أن يزحزح الجبل بذراعيه؟ لقد بلغ الخطب من الفداحة حدًّا لم يعد بعده من علاج الكارثة إلا كارثة مثلها، على غرار ما يُقال عن الحديد أنه لا يفلُّه إلا حديد مثله، وأنا أشير بذلك إلى انصراف التلاميذ وأولياء أمورهم إلى جهود ذاتية في المنازل لتغنيهم عن المدرسة أو المعهد يأسًا من المدرسة والمعهد، ولقد أفلحت الحيلة في تحقيق «النجاح»، لكنها أوقعتنا في شر عظيم، هو حرمان المتعلم من جانب التربية بكل محتواها؛ فضلًا عن أن التعلم قد تحَّول مع المتعلم إلى مقطوعات متفرقات يصوغها المدرس الخاص بمهارته وخبرته ليتحقق النجاح للدارس، فقضى بذلك على قدرة الابتكار قضاءً مبرمًا، اللهم إلا من شاء له الله أن تكون في فطرته موهبة لا يستطيع نظام التعليم إطفاءها.
إن العبء ثقيل، لكن ثقله هذا لا يمنع الأمل في أن يجد علماؤنا وخبراؤنا طريقًا للعلاج، فيبينون لنا أين نبدأ السير وفي أي اتجاه نسير؟ لكنني أتساءل تساؤل القلب المخلص لا تساؤل العقل العارف، إذا كان جانب كبير من ذلك العبء يرجع إلى ضخامة العدد وقلة الموارد وضعف الوسائل من أبنية ملائمة إلى هيئة للتدريس صالحة، فلماذا لا نستخلص من ذلك الجيش الجرار من التلاميذ والطلاب نسبة مئوية تتعادل مع قدراتنا، فنقتصر عليها في تكملة الطريق بعد المرحلة الابتدائية، وأما المجموعة الباقية فتخرج إلى الحياة للعمل، ولا سيما ونحن ننشر الآن ضربًا من التعليم يجمع بين الدراسة والعمل، إن أبناءنا جميعًا هم أبناء وطن واحد لا نميز بين اثنين منهم إلا بدرجة التفوق، فالعشرة في المائة المتفوقة وحدها هي التي تدخل الدراسة الثانوية بكل أنواعها، فالجامعة لمن يصلح لها من هؤلاء. أليس ذلك خيرًا من غرق السفينة بكل ركابها؟
ومع ذلك، فلأعد بحديثي إلى طالب الدكتوراه، الذي بلغ ما بلغه من درجات السلم التعليمي، وهو لا يعرف لغة أجنبية — أو يكاد — ولا يحسن حتى لغته العربية — أو يكاد — ولست أذكر اللغة الأجنبية لتكون وسامًا يزدان به صدر الطالب، بل لأن ذلك باب لا يمكن الدخول إلى دنيا العلم على اختلاف ميادينه، إلا إذا كان ذلك الباب هو أحد مسالك الطريق، وإذا شئت فانظر إلى دراسة تكون من أخص خصائص حياتنا الفكرية كالأدب العربي — مثلًا — ثم راجع كبار من لمعت أسماؤهم من دارسيه على مستويات الدراسة العليا، ولست أظنك واجدًا فيهم واحدًا بلغ ما قد بلغه إلا وقد أتيح له أن يراجع ما قاله علماء الغرب في هذا الميدان أو ذاك، وأما مدى إلمام الطلاب — حتى في مرحلة الدراسة العليا — باللغة العربية ذاتها، فحسبك منه أن تطالع رسالة واحدة مما يتقدمون به، فماذا لو كانت دراسة الدارس تقتضي مراجعة المراجع العربية القديمة؟ فهل عرفت الآن لماذا قفز إلى ذهني شيئان معًا كأنهما مرتبطان برباط وثيق، حين استيقظت من حلم رأيت فيه جذعًا لشجرة أصابه موات وقد كنت عرفته من قبل وهو شجرة خضراء!
لست أعرف في مصر مؤسسة واحدة أصابها كل ما أصاب التعليم الجامعي من تدهور وضعف، فإذا أردت أن ترسم خطًّا بيانيًّا يصور ذاك التعليم منذ نشأته حتى اليوم، فأغلب ظني أن الخط المرسوم سينحدر بك انحدارًا مطردًا، فلقد حاولت مع نفسي أن أتصور المسار متمثلًا في أساتذة وأعمال تمت على أيديهم، وحصرت انتباهي فيما أعرفه معرفة على كثير من الدقة والوضوح، تاركًا ما لست أعرفه بكل تلك الدقة وهذا الوضوح. فوجدت في المراحل الأولى للجامعة رجالًا يستحيل أن يُؤرَّخ لحياتنا العلمية دون ذكرهم؛ لأنهم هم الذين كانوا معالم على الطريق، كما وجدت لهؤلاء الرجال أنفسهم آثارًا علمية مما يستحيل كذلك أن تصور مسيرة حياتنا العلمية والثقافية، متجاهلًا تلك الآثار من مؤلفات علمية وغيرها؛ لأن هذه كانت هي نفسها التي صنعت لنا تلك المسيرة التي أردنا تصويرها، ثم انتقل ببصرك من هؤلاء الرجال وما خلفوه لنا، إلى المرحلة الحاضرة من حياة الجامعة نجد طموح الطامحين، ربما كان أشد مما كان عند السابقين وأقوى، لكنه طموح يريد أن تتحقق له الغايات بالمعارك أكثر مما يتحقق بالجهد العلمي، وقد يكون ذلك الأسلوب الجديد في النبوغ العلمي راجعًا في جزء كبير منه إلى عوامل المعيشة وقسوتها، فأصبحت صورة الموقف هي: إما أن أحيا وإما أن أحيي العلم، فترجح كفة الحياة على كفة العلم، ومن الذي لا يعذر المضطر؟ وعلى من لا يرى صدقًا في هذا الوصف الموجز لما هو قائم، فليتفضل بذكر ما يراه فيما ننتجه اليوم من مؤلفات الجامعيين وأعمالهم العلمية، بحيث يضطر مؤرخ الحركة العلمية اضطرارًا أن يذكره؛ لأنه كان هو الذي صنع تلك الحياة، وإذا كان ذلك كذلك (وأرجو مخلصًا أن أكون قد أخطأت التقدير والتصوير) أفلا تكون هي الشجرة التي كانت بالأمس خضراء فأصبحت اليوم حطبة يابسة؟ إنني لمن أشد الناس إيمانًا بمصر وأبنائها، ومن أقوى الناس يقينًا أن مثل هذا المجد الذي طال تاريخه ما طال لمصر تاريخها، لا يفنى ليتحول إلى رماد بسبب جيل أو جيلين اشتدت فيهما وطأة الحوادث على الناس حتى بدَّلوا خصالًا بخصال، فكما أن المجد لا يشيده أصحابه في يوم وليلة، فكذلك لا تستطيع الحوادث أن تفنيه في ليلة ويوم، لكنني أغالط نفسي إذا زعمت أن روح التعاون الأسري التي عهدها الزمن الطويل رابطة بين المصري والمصري، لم يتحول جزء كبير منها في زماننا هذا إلى شيء يقرب من غدر المصري بالمصري، أو على أقل تقدير قلة المبالاة بين المصري وأخيه، إلا حيث لا نفع ولا ضرر، وأغالط نفسي إذا زعمت أن روح الإتقان — لوجه الله وتمام الصنعة — وهي الروح التي عُرفت في المصري ربما أكثر جدًّا مما عرفت في سواه لم تصبها ظروف الحياة في أيامنا بضربة ارتج لها كيانها، بحيث أصبح العامل المصري وأعني كل صاحب عمل يؤديه يكاد يتوهم بأنه إنما يثبت مهارته بالتراخي والإهمال فيما هو صالح عام أكثر جدًّا مما يثبتها بالإخلاص في إتقان عمله، ومع ذلك فهو حريص على أن يتلو قول رسول الله ﷺ: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه؛ لأن الإيمان الديني قد تحول في عصرنا ليكون تلاوة تسمعها الآذان ولا تلبي دعوتها الجوارح، ولكنني في الوقت ذاته أغالط نفسي كذلك، إذا زعمت أن تلك السيئات التي استحدثتها ظروف الحياة الراهنة وقسوتها، هي المصري في حاضره، قلبًا وقالبًا، وجوهرًا وأعراضًا، باطنًا وظاهرًا، ولأي مصري شاء أن ينظر إلى نفسه من الباطن، ويقيني أنه إذا فعل وجد في طويته ضميرًا يعذبه ويؤرقه، وقلبًا مؤمنًا مخلصًا يتمنى لهذه المرحلة المليئة بالضعف والأنانية والغدر واللامبالاة أن تزول، ليعود المصري مصريًّا كما عرفته مصر وسائر الدنيا في تاريخه الطويل.
ومثل هذه المرحلة المنكوبة بظروفها، هي ما يجتازه العالم كله اليوم، وأظنني قد تناولت هذه الظاهرة التاريخية الغريبة بالتحليل والتعليل في مناسبة سابقة، لا أذكر موضوعها. بينت فيها كيف يمر العالم الآن في مرحلة انتقالية بين ثقافتين وبين حضارتين؛ فثقافة وحضارة كانتا قد استقرتا بحياة الناس حتى الحربين العالميتين الأخيرتين، ثم حضارة وثقافة ينتظر لهما أن تتكاملا لتستقرا بعد حين، وأما في هذا النصف الثاني من القرن العشرين فالعالم مضطربٌ اضطراب من يتحول من نظام قديم إلى نظام جديد، ولا عجب — إذن — أن نرى الفواصل الفارقة بين ما هو حق وما هو باطل في كل ميدان من ميادين النشاط البشري، قد انبهمت معالمها، فما نقول عنه اليوم إنه حق قد نعود إليه غدًا لنتهمه بالبطلان، وما نصفه اليوم بأنه خاطئ قد نرحب به غدًا على أنه الصواب الذي لا شبهة فيه، فليس الناس على يقين ثابت أي نوع من الحكومة هو الأفضل؟ وأي نوع من نظام التعليم هو الأكمل؟ وأي نمط من النشاط الاقتصادي هو الأنفع؟ إن لهم في كل يوم جوابًا يختلفون به عن جواب الأمس، وسوف يستبدلون به غدًا جوابًا آخر، وحسبنا مقياسًا لاضطراب المعايير في المرحلة الراهنة أن نجد كل هذا العنف في تعامل الناس بعضهم مع بعض، فلم تعد الألسنة ولا الأقلام تكفي لعرض وجهات النظر، فحل محلها رصاص وقنابل وصواريخ وخطف وسلب ونهب وتعذيب وتشريد، ومما يُضحك ويبكي معًا أن مرتكبي هذا العنف بشتى صوره هم في الحقيقة «مخلصون» لقضاياهم «العادلة» وليس بينهم وبين من ينزلون عليهم صنوف العذاب شيء من عداوة لأشخاصهم، ولذلك تقرأ لهم ما يصرحون به من أنهم يقترفون الظلم بضحاياهم ليحققوا للدنيا عدالة أعمق جذورًا وحياة أدوم بقاءً.
في هذه المرحلة الانتقالية التي تجتازها الدنيا بأسرها — ومصر قطعة من دنياها — غمضت الصلة بين الوسائل والغايات، ولم نعد ندري دراية المستيقن ماذا نعلِّم في المدارس والجامعات، ولماذا نعلمه وكيف نعلمه؟ ماذا ينتج المنتجون وإلى أين يذهبون بإنتاجهم؟ ماذا يرسم رجال الفن؟ وماذا يكتب أصحاب القلم؟ ونحو أي الأهداف يتجهون بنفوسهم وبأفكارهم وبما يبدعونه من الآداب في شتى صورها؟ شيء من الضباب يحجب الغايات ويسد طريق الرؤية الواضحة البعيدة المدى، ومن هنا حدث انفصام بين تصورات الذهن من جهة والوسائل المتاحة، من جهة أخرى، وتلك التصورات الذهنية بغير معطيات الحقائق الواقعة تكون تصورات جوفاء، وكذلك حقائق الواقع إذا لم تستقطبها تصورات الذهن تصبح وكأنها عمياء لا تدري إلى أين تتجه.
قلت لنفسي: إذا سلمنا بأن هذا الوصف صحيح لحياة الناس في عصرنا؛ فأهم منه أن نبحث عن طريق الخلاص. إن شيئًا كالذي ذكرته من غموض الرؤية، ومن الانفصام بين الوسائل وغاياتها هو ما قد يعلل لنا لماذا تحولت أسرة أقاربي من غنًى مستور إلى فقر، ومن يدري؟ لعل النذير الذي أرادت به الأقدار أن توقظ تلك الأسرة من غفلتها كان في الشجرة التي باتت حطبًا يابسًا توقد به النار، بعد أن رأيتها في عزها قوية ظليلة خضراء، وإذا كانت قوانين الحياة تأبى على الحطب اليابس أن يرتد شجرة كالتي كانت، فكيف ترى السبيل؟
وأجبت نفسي عن سؤالها قائلًا: السبيل واضح لمن يريده، وهو أن نزرع شجرة جديدة ننتقي بذرتها ونتولاها بالرعاية، وما أسرع أن تكر السنون، فإذا نحن مرة أخرى مع شجرة سامقة كثيفة الأوراق الخضر، تفرش لنا الأرض بظلها، كتلك التي كانت بالأمس شجرة ظليلة خضراء.