سبع سنابل
كنت أعلم يومئذٍ أن الرجل قد أكمل عمره ثمانين عامًا منذ أربعة أيام. إنه جاري، وقطعنا معًا في ظل الجوار الحسن حينًا طويلًا من الدهر، لم يحدث بيننا قط خلالها ما يعكِّر صفو الود، وربما ساعدنا على ذلك أننا إذا ما التقينا جعلنا اللقاء خالصًا من أجل قضايا الفكر المحايد وما يتفرع عن تلك القضايا من مسائل تستحق النظر؛ لأنها كثيرًا ما كانت مما يمسُّ حياتنا الثقافية مسًّا مباشرًا، إنني لا أزعم أن «الصداقة» كانت هي الرباط الذي يصل بيننا؛ لأن الصداقة الحقيقية تقتضي أن تُسقط الحواجز بين الصديقين ليعيشا معًا في رحب واحد، وكأنهما روح واحد في جسدين، وأما العلاقة بيني وبين جاري فلم تكن كذلك؛ إذ قصرناها على جانب واحد مشترك بيننا، هو جانب الفكر وما يلزم عنه، ثم يظل كل منا بعد ذلك عالمًا مغلقًا بالنسبة إلى الآخر.
ومع ذلك، فقد كنا على تشابه شديد في الخلق وفي وجهة النظر، كلانا منطوٍ على نفسه إلى حد كبير يكاد الواحد منا إذا ما أجبرته الظروف أن يلتقي مع آخرين، أن يكون كالظل يتحرك في غير صوت، وكالظل كذلك بغير كثافة كالكثافة التي تكون للأجسام، إن كلينا يتحقق له وجوده وهو منفرد، وكلانا مطمع سهل لمن تعود التغذي بلحوم البشر، وهم — يا سبحان الله — كثيرون.
نعم، كنت أعلم يومئذٍ أن صاحبي قد أكمل من العمر ثمانين عامًا، وتمنيت أن أقيم له لقاءً مختصرًا بسيطًا هادئًا، ولا أقول «احتفالًا»، لكنني كنت على يقين أنه يموت في جلده إذا ما تعرض لمثل هذا اللقاء، مهما بلغ من الاختصار والبساطة والهدوء، ولماذا تمنيت ذلك؟ تمنيته لأني شعرت أن عدد الثمانين في أعوام العمر، ليس كأي عدد آخر! فالأعوام لا تتساوى في رحلة العمر، بل إن بينها ما يشبه «المحطات» في طريق السفر، يحسن الوقوف عندها، فعند الحادية والعشرين التي هي سن بلوغ الرشد يستحيل ألا تسري في الشاب هزة كأن أحدًا يوقظه قائلًا له: لقد أصبحت منذ اليوم — يا ولد — رجلًا بين الرجال، وعند بلوغ الأربعين محطة أخرى، يستحيل ألا يسمع فيها صوتًا داخليًّا يحذره: إنك يا صاحبي لم تعد شابًّا!
وعند الستين محطة ثالثة، إذا لم يستيقظ لها صاحبها من تلقاء نفسه أيقظه قانون «المعاشات» إذا كان موظفًا في الدولة، وأما محطة الثمانين — بالقياس إلى سابقاتها جميعًا — فلها شأن آخر، تحركت له قلوب الشعراء الذين كُتب لهم أن يعيشوا ليبلغوها، وذلك لأن الثمانين «بوابة» يدخلها الداخل وكأنه قد أصبح على مشارف الأعراف (في مراحل الصعود عند دانتي)، عجيبة هي تلك المشاعر التي يخفق بها القلب عند بالغ الثمانين، وهي مشاعر قد يختلف فيها محور الاهتمام عند الأفراد المختلفين، لكنها تندرج جميعًا تحت عنوان واحد، هو أن السيرة قد بدأت الفصل الأخير من روايتها، وأما الاختلافات في محاور الاهتمام بين الأفراد، فهي في أن يتعقب أحدهم ما يطرأ على أعضاء بدنه من ضعف، كذلك الشاعر الذي ينبئنا في بيت من شعره بأن الثمانين قد أحوجت سمعه إلى ترجمان ليسمعه ما يقوله المتحدثون؛ لأن أذنه وحدها وبغير عون يعينها لا تستطيع السمع! بينما يتعقب آخر ما قد يطرأ على «نفسه» من تحولات عند الثمانين كالشاعر الذي أنبأنا في بيت من شعره بأنه قد سئم تكاليف الحياة، ولم يجد في ذلك عجبًا؛ لأن من يبلغ الثمانين من عمره لا بد أن يكون قد أصابه السأم، وشاعر ثالث قد تجرد — وهو ينظر من ذروة شيخوخته — تجرد من حالاته هو، سواء أكانت تتصل بأعضاء البدن أم كانت تتعلق بأطوار النفس، أقول إنه تجرد من حالات شخصه هو لينظر نظرة أرحب أفقًا، فكان كالذي سأل نفسه عن جوهر الاختلاف بين هذه الشيخوخة التي هو فيها، وبين ذلك الذي كان يسمى شبابًا، ما طبيعته؟ فكان الجواب عنده — في إيجاز نافذ — هو أن الشباب قادر، ولكنها قدرة تنقصها المعرفة، بينما الشيخوخة عارفة، لكنها معرفة تنقصها قدرة العمل، وما كان أكملها من حياة لو عرف الشباب مع قدرته، أو لو قدر الشيوخ مع ما قد جمعوه من معرفة وخبرة.
محطة الثمانين في طريق السير تغري بالوقفة الطويلة المتأملة، ولهذا تمنيت لو أني دبرت لقاءً أحتفل فيه بجاري عندما أكمل تلك المرحلة، لولا أني كنت على يقين من عزوفه عن كل هذا البهرج الذي يفرح له معظم الناس، ومرت بعد اليوم المشهود أربعة أيام، فقلت لنفسي وأنا أهم بعزيمة من يريد أن يصنع شيئًا قبل أن تفلت لحظته: سأطرق الباب على هذا الرجل، وأفاجئه بزيارة، وسأتعمد للزيارة أن تطول، لأتحدث إليه في هذه المناسبة الفريدة الموحية، وماذا في وسعه أن يفعل إزاء المفاجأة إلا أن يستقبلني بوداعته التي عهدتها فيه؟ وهذا هو الذي كان.
نحن الآن جالسان في غرفة المكتب من منزله، تأخذنا الربكة الخفيفة التي تحدث عند بدء الزيارة، عندما تكون زيارة مفاجئة وغير مألوفة على وجه الخصوص، فلما هدأت النفس منه ومني، قلت له: أتعرف يا فلان ماذا ورد إلى ذهني الآن وأنا أستحضر بلمحة سريعة صحبتنا الطويلة في دفء هذه الجيرة المباركة التي جمعتني بك، فتعلمت منها ما تعلمت؟ قال: ماذا؟ قلت إن الذي ورد إلى ذهني هو قوله تعالى في كتابه الكريم: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ، فلقد بارك الله لك في حياتك حتى لقد غزر حصادها، وأفاد بها الألوف من العارفين بفضلك، إني لأذكر تلك اللحظات البعيدة، حين كنت يائسًا من أن تنمو شجرة حياتك حتى تثمر، وأذكر كيف كنت أعجب لهذا القول منك؛ لأنك كنت تبدي اليأس في اللحظة نفسها التي تدأب على العمل فيها دأبًا لم يعرف السأم والملل والتعب، وكنت أسألك: إذا كنت باذلًا لهذا الجهد فكيف تكون يائسًا؟ ولكنك — بتوفيق الله — مضيت تعمل لا تبالي موجة اليأس في جوفك، وها هو عملك، كما ترى بعينيك ويرى ألوف الناس معك، قد باركه الله ورعاه، حتى عاد بالخير الكثير كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ.
قال صاحبي: وفي أي شيء رأيت مثل هذا الحصاد الوفير عندما رأيتني؟ قلت: رأيته في «حكمة» السنين، فهنالك من يقطع مشوار عمره وكأنه عاش يومًا واحدًا يتكرر كل صباح، فلا تنضج له معرفة نضجًا تتحول به أشتات المعارف إلى خبرة، أو قل إلى «رؤية»، أو إلى «حكمة». أما من أراد لهم ربهم خيرًا، فهم يستقطرون من المعرفة رحيقها، كما يُستقطَر من الورود عطرها، وفي ذلك الرحيق تكون «الثقافة» في صميم صميمها، وفيه كذلك ما يستحق أن يسمى بحكمة الحكماء.
جاء حديثي هذا مثيرًا للتواضع عند صاحبي، فتوجه بعينيه نحو قدميه ولبث على صمته وسكونه لحظة، ثم قال: لقد عهدتك حريصًا على معاني الكلمات وحدودها، فماذا قصدت إليه من «الحكمة» التي أكرمتني بنسبتها إليَّ وما هي «الحبة» التي كنت بذرتها، فزادني الله من فضله فضلًا، وأخرج لي من الحبة سبع سنابل في كل سنبلة منها مائة حبة؟ فأجبت صاحبي عن سؤاله بقولي: أما عن الشطر الثاني من السؤال، فقد كانت الحبة التي بذرتها في مطلع شبابك هي إخلاصك لعقلك إخلاصًا دفعك إلى ذلك الدأب الذي لم يفتر معك طوال تلك الأعوام الطوال، التي امتدت بك من العشرين إلى الثمانين، وكان مظهر ذلك الإخلاص على وجهين، أولهما حب لتحصيل المعرفة بلغ حد النهم، وأما الوجه الثاني فهو إصرارك على ألا ترضى عن فكرة إلا إذا عقلتها، وأما ما عدا ذلك فالأفكار إما مرفوضة لبطلانها، وإما معلقة تنتظر التوضيح والتدليل أمام العقل، تلك يا سيدي هي الحبة التي بذرتها فبارك لك الله فيها، حتى أنبتت لك ما أنبتته من حصاد غزير، والفضل والحمد لله، ذلك هو جوابي عن الشطر الثاني من سؤالك، وأما شطره الأول الذي سألتني فيه عما كنت أعنيه بصفة «الحكمة» التي نسبتها إليك؛ فأنت أعلم مني بهذا الضرب من الكلمات الهامة في حياة الناس العقلية والخلقية والوجدانية، حيث تكون الكلمة منها قوية التأثير دون أن تكون واضحة المعنى ذلك الوضوح القاطع الذي نراه — مثلًا — في مصطلحات الرياضة، فنحن إذا قلنا لفظ «مثلث» أو «مربع» كان المعنى مقطوعًا به عند المتكلم وعند السامع معًا، وما هكذا تكون الحال إذا تحدثنا عن «الحب» و«الخير» و«الحرية» و«الجمال» و«الكرامة». وإن صفة «الحكمة» لهي أقرب انتماءً إلى هذه المجموعة، منها إلى مجموعة المصطلحات العلمية، في الرياضة أو في غيرها من العلوم، وعندئذٍ يكون تحديد المعنى المراد بها أمرًا يحتاج منَّا إلى بحث وتحليل، ورجائي لك يا سيدي أن تبدأ أنت بطرح ما تراه في معنى «الحكمة» التي كثيرًا ما يوصف بها نضج الشيوخ، إن الغموض الذي يحيط بمعاني تلك المجموعة الهامة من الكلمات التي أشرت إليها لا يعيبها؛ إذ هو غموض يتكافأ مع أهميتها في حياة الإنسان، فتصبح الواحدة منها وكأنها البئر التي يغترف منها كل من شاء أن يغترف، فيجيء محصوله منها بمقدار ما اتسع دلوه وازدادت قدرته. إنني منصت لما تقوله عن «الحكمة» وما تراه في معناها.
قال صاحبي: إن فكري ليتجه أول ما يتجه إلى الآية الكريمة التي تقول: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وقد أردت يومًا أن أبحث عما قاله الأئمة في تفسيرهم ﻟ «الحكمة»، فوجدت الآراء في ذلك مختلفة، ولكني بعد قليل من إمعان النظر في مواضع الاختلاف وجدته اختلافًا ظاهريًّا، وأما جوهر المعنى فقد بدا لي أن جميع الآراء متفقة عليه، وذلك المعنى — كما رأيته — هو أن يجتمع فيمن يوصف بالحكمة جانبان، هما: المعرفة من ناحية، والعمل بتلك المعرفة من ناحية أخرى، وواضح من ذلك أن تحصيل العلم وحده يجعل من صاحبه عالمًا، ولكنه لا يجعل منه حكيمًا، وكذلك المهارة العملية إذا توافرت لعامل، وظلت عنده مهارة لا تستند إلى معرفة المبادئ التي يستند إليها العمل، تجعل من صاحبها عاملًا، لكنها لا تجعل منه حكيمًا، فالشرط الذي يجب توافره للحكمة هو الجمع بين المعرفة العقلية ثم العمل بها في مجال التطبيق وفي مجال السلوك، هذا هو ما أراه نقطة التقاء بين مختلف الآراء، لكن أصحاب تلك الآراء يختلفون بعد ذلك في تحديدهم للمعرفة، فبماذا تكون تلك المعرفة التي يراد أن يجيء العمل على أساسها؟ فالإمام مالك يجعلها الفقه في دين الله والعمل به، والإمام الشافعي يجعلها معرفة بسنة رسول الله، أو هي عنده — بتحديد أكثر — الأحكام التي أُوحي بها إلى النبي — عليه الصلاة والسلام — فيما لم يرد أحكامه في القرآن الكريم، ويجعلها ابن عباس معرفة بالحلال والحرام، وهنالك من هو أكثر تعميمًا في هذا السبيل، فيجعل المعرفة التي هي إحدى الركيزتين في «الحكمة» علمًا بالشريعة في جميع أحكامها، ولعلك ترى معي أن الاختلاف في الآراء مقصور على تحديد الموضوع الذي يشترط للمعرفة أن تكون معرفة به، أما في جوهر الحكمة وحقيقتها فلا اختلاف في تحليلها إلى عنصرين لا بد أن يجتمعا معًا فيمن يوصف بالحكمة، وهما — كما أسلفنا — المعرفة بالموضوع ثم العمل بها، وذلك هو «الخير الكثير» الذي يؤتاه من شاء له الله أن يؤتى الحكمة. على أنه ينبغي ألا يفوتنا أن «الصواب» في المعرفة وفي الفعل معًا، شرط متضمن، فليس من المعرفة بمعناها الصحيح ما هو خطأ، وليس من الفعل الذي هو خير ما هو ضلال، وقد أوجز الطبري هذا المعنى عند تفسيره الآية الكريمة، حين قال ما معناه: إن الله سبحانه يؤتي من يشاء من عباده الإصابة في القول والإصابة في الفعل، وإن في ذلك لخيرًا كثيرًا.
ولما فرغ صاحبي من هذا العرض الجميل الجليل المفيد، نظر إليَّ وكأنه يسأل بنظرته: ماذا تقول في هذا؟ فقلت: هذا رائع يا سيدي، رائع، لكنني ما زلت أرى أن اللفظة من تلك الألفاظ الغنية المثقلة بمضموناتها الخصبة إنما هي — بسبب عمقها — كالبئر التي يدلي فيها بدلوه من شاء أن يدلي، ثم تخرج الدلاء مليئة بما هو متفق مع الاتجاه الذي يتوخاه المستقي، فالتحليل الذي قدمته يا سيدي لبيان معنى «الحكمة» إنما هو جانب من عدة جوانب في حقيقة «الحكمة»، وذلك الجانب الواحد هو ما تخرج به الدلاء من البئر إذا كان أصحابها من فقهاء الدين، لكن انظر إلى فيلسوف مسلم هو «ابن رشد»، حين نظر في آية كريمة أخرى وهي التي تقول: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ تره قد أخرج لنا معنى ﻟ «الحكمة» يتفق مع رؤية فيلسوف، وذلك أنه رأى الآية الكريمة وكأنها قد جمعت ثلاث طرق للإقناع، وهي طرق ثلاث يعرفها دارسو الفلسفة جيدًا، أولاها طريق «الحكمة» التي هي طريقة الفكر الفلسفي، وخلاصتها ألا يتقيد العقل في سيره إلا بما يفرضه ذلك العقل على نفسه من فروض تقتضيها عملية التفكير، وتلك لا تصلح إلا للصفوة من العلماء الذين أخذوا أنفسهم بمنطق العقل الخالص، وتتلو تلك الطريقة في المنزلة البرهانية طريقة «الجدل»، بالمعنى الذي يعرفه له دارسو الفلسفة، وهو أن يسمح بأن يكون ارتكاز الفكر على شيء أخذه صاحب ذلك الفكر مأخذ التسليم، كأن يكون عقيدة معينة آمن بها، ومنها يبدأ العقل في استخراج دلالاتها، وتلك كانت طريقة من يسمونهم في الفكر الإسلامي ﺑ «المتكلمين» أو «علماء الكلام» (والكلام الذي هم علماؤه هو كلام الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم)، وأخيرًا تأتي الطريقة الثالثة التي هي «الموعظة»، وهي طريقة تعتمد على ضرب الأمثلة وعلى الخطابة، لا على الخطوات الاستدلالية، كما يعرفها علم المنطق، وهذه الطريقة الثالثة هي التي تناسب جمهور الناس، ومن هذا الفهم للآية الكريمة من ابن رشد ترى أنه عندما نظر فيلسوف إلى مفهوم «الحكمة» عند ورودها في القرآن الكريم خرج لها بمعنًى فيه لفتة الفيلسوف، وأظن أن الدرس الذي نخرج به نحن هو أن الكلمة المعينة عندما تكون غنيةً بمضموناتها لا يسهل ولا يجوز تحديد معناها بجانب واحد من جوانبها الكثيرة؛ لأن كل جوانبها بغير حذف هو معناها.
قال صاحبي: لقد أصبت في هذه الإضافة التي أضفتها، وهي إضافة تفتح أمامنا بابًا يوصلنا إلى فهم لمعنى «الحكمة» أدق وأضبط؛ لأنه يضم تحت جناحيه عددًا كبيرًا من المجالات المختلفة التي نستعمل فيها كلمة «الحكمة» استعمالًا صحيحًا، فنحن نقول — مثلًا — «حكمة الشرق» و«حكمة لقمان» و«حكمة المعري» و«حكمة الشيوخ»، وهكذا، وكلها معانٍ لا يجوز إغفالها إذا أردنا لأنفسنا فهمًا أصح، وإنما أردت بالفهم الذي هو أدق وأضبط وأكثر شمولًا أن نفهم «الحكمة» على أنها الوقفة العاقلة التي تلتمس وراء الكثرة البادية رؤية واحدة توحِّد تلك الكثرة في اتجاه واحد، بمعنى أن يمر على الإنسان — مثلًا — خلال حياته خبرات كثيرة ومختلفة، فهو يلتقي بألوف الأفراد من الناس، لكل فرد منهم فكره ومزاجه ودرجة علمه بحقائق الأمور، وهو يصادف خلال حياته ألوف المواقف التي تتطلب منه التصرف بما يناسب كل موقف يصادفه، وهو يسمع آراء، ويقرأ أفكارًا، ويكابد مشاعر الفرح والحزن والغضب والرضى والحب والكراهية، كل هذه الكثرة الهائلة تنصب في وعائه لتتسق أو لتتنافر، فإذا استطاع أن يستخلص من هذا كله مبدأً أو مبادئ، وأن يكشف مستعينًا بتلك المبادئ القواعد التي تتحكم في مجرى الأحداث وفي تشكيل الإنسان، ثم إذا استطاع فوق ذلك كله أن يميز فيما يراه من كثرة وتنوع أين الصحيح فيها وأين الخطأ، كان ذلك هو ما يسمى بالحكمة وكان الرجل به حكيمًا.
«الحكمة» في شعر زهير وفي شعر أبي العلاء المعري وغيرهما كانت هي النظرات النافذة في حقيقة الإنسان وطباعه، بحيث جاءت حكمة البيت الواحد من شعر هؤلاء الحكماء تكثيفًا لعددٍ ضخم من الخبرات الجزئية التي يمكن أن تصادفك في تفاعلك مع الآخرين.
ولعلك — يا أخي — عندما أثرت بيننا بلباقتك الماهرة الماكرة موضوع «الحكمة» ليكون مدارًا لحديثنا هذا، كنت تعني على وجه التحديد حكمة الشيوخ المزعومة، لتذكرني بالثمانين وقد بلغتها.
وحتى لا أفوِّت عليك تحقيق الهدف؛ أقول إن معناها قد اتضح أمامنا الآن، فإذا توافرت للشيخ حكمة، كان ذلك لأنه استطاع أن يستخلص من خبراته الماضية التي لا تقع تحت العد والحصر وجهة نظر على أساسها يفرق لنفسه ولغيره بين الحق والباطل، وبين الصحيح والفاسد، على أن يكون مفهومًا أن تلك النظرة الحكيمة المكتسبة، إنما تنحصر حدودها في شئون الحياة اليومية الجارية، فلا تجاوزها إلى ميادين لا يكون فيها القول إلا للعلم لا للحكمة، وفي هذه المناسبة أقول إن لمحة مرت ذات يوم بخاطري عن العنوان الذي وضعه «القفطي» لكتابه «إخبار (بكسر الألف) العلماء بأخبار (بفتح الألف) الحكماء»، قد يلفت أنظارنا إلى أن هنالك فرقًا بين «العلماء» و«الحكماء»، فعلم العلماء منصب على «الظواهر» لاستخراج قوانينها، وحكمة الحكماء تنظر إلى الغايات.
فلما بلغت مع صاحبي هذا المدى، هممت بالانصراف خاتمًا لقاءنا بقولي: ألم أقل لك يا سيدي إن الله سبحانه قد بارك لك في حياتك لإخلاصك لفكرك ولصدقك مع نفسك ومع الناس، فازددت مع الأعوام بركة على بركة، ونعمة على نعمة، كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ؟ فقل الحمد لله رب العالمين.