إرادة تأمر وعقل يأتمر
جاءتني رسالة من طالب في إحدى كليات الهندسة، وهو يقول عن نفسه في صدر رسالته إنه «يدرس علوم الإلكترونيات والكهرباء، وهي علوم — كما تعرفون— حديثة ومتطورة بدرجة عالية بحيث نستطيع القول إن حضارة اليوم مبنيةٌ عليها.» فلما قرأت رسالة الطالب إلى ختامها وجدتها مثلًا واضحًا لرسالة تجمع الجيد والرديء في صفحة واحدة؛ أما الجيد فهو ما نحمد الله عليه، وواضح أن صاحب الرسالة هو من خيرة الشباب في جامعاتنا، ومن هنا يشتد أسانا عندما نجد الجانب الرديء من رسالته يشير إلى اهتزاز خطير في منهج التفكير، كما يشير إلى قراءة متسرعة لما يقرؤه صاحب الرسالة، بحيث لا يرسخ في ذهنه مما قرأه إلا صورة مشوهة ممسوخة، وتكون هي الصورة التي يقيم عليها أحكامه بعد ذلك.
بدأ صاحب الرسالة رسالته بقوله إنه يتابعني فيما أكتبه، فبعضه يصادف عنده القبول والرضا، وبعضه الآخر لا يلقى عنده إلا الرفض، وقد لا يعلم الطالب صاحب الرسالة، أن أسعد ما يسعدني من طلابي هو أن أجد فيهم مثل هذا العقل الناقد الفاحص، الذي يعرف كيف يميز القمح من الشعير، حتى وإن اجتمع الصنفان واختلطا في وعاء واحد، وإن أشقى ما يشقيني من هؤلاء الطلاب هو أن أراهم يعبرون على المادة المقروءة مرور الغافلين، فالصواب أمام أعينهم وأذهانهم كالخطأ، وما هو مقطوعٌ بيقينه لا يختلف عندهم عما هو موضع شك ويحتاج إلى مراجعة وتحقيق، ولهذه الخصلة في طباعي، أعجبني من صاحب الرسالة ما يرويه عن نفسه إزاء ما أكتبه، من أنه يقبل ويرفض، فلا هو ممن يقبلون المكتوب كله برغم ما قد يكون فيه من حسنات.
وكان مما لقي عنده القبول مما أكتبه — كما يقول — هو تلك الدعوة التي ما أنفك داعيًا لها، وهي أن يصاغ العربي الجديد في صيغة ثقافية، تضمن بها أن يجيء ذلك العربي الجديد عربيًّا ومعاصرًا في وقت واحد وبنظرة واحدة، وبعد أن يقرر لي ذلك عن نفسه، ينتقل خطوة فينبئني بأنه أراد تطبيق تلك الدعوة على شخصه. إلى هنا والنية طيبة، والاستجابة محمودة، فماذا يطمع كاتب أن يحققه في قرائه أكثر من أن يأتيه النبأ من قارئ بأنه قد هم بتحقيق الدعوة في شخصه؟ لكن هذا الشعور بالرضا لم يكد يسري في النفس بأطراف أوائله، حتى انعكس عندما وقعت عيني على الجملة التالية في رسالة الطالب، وفيها يقول إن ما قد هم بتحقيقه من دعوتي في شخصه: «لا يكون إلا بأن يجمع بطرفي العلوم الوجدانية والعلمية، كلٍّ إلى جوار الآخر …» آه! لقد زلت القدم من مهندسنا الصغير، وارتدت فرحتي به لتصبح شكًّا في قدرته على أن يحقق شيئًا مما قال إنه قد هم بفعله، فهنالك من أوجه الزلل ما قد يبدو للعين الغشيمة أنه زلل خفيف، مع أن العين التي دربتها خمسون عامًا في تربية الشباب وتعليمه، قد ترى في تلك الزلة الخفيفة مظهرًا خطرًا يمس التكوين العقلي في الصميم، إن مهندسنا الصغير قد تخيل أنني أدعوه إلى ما قد عبر عنه في جملته التي أسلفت ذكرها، وإنه لضرب من المحال أن أكون في كل ما كتبته قد أشرت إلى شيء اسمه «علوم وجدانية»؛ لأن المعنيين ينقض أحدهما الآخر، فإذا كان «علم» فلا وجدان، وإذا كان «وجدان» فلا علم، فأين يا ترى قد اتجه الطالب في بحثه ليجد كتابًا فيه «علوم وجدانية»؟ ثم انظر إلى قوله إنه سيضع «العلوم الوجدانية» بجوار «العلوم العلمية»! فهل يعرف الطالب أن ثمة علومًا غير علمية، بحيث يتحوَّط في عبارته فيصف أحد النوعين من العلوم التي اعتزم أن يجاور بينها في رأسه بأنه «علوم علمية»؟ إنه إذا كانت قطرة واحدة من ماء المحيط تكفيني لأعرف منها ملوحة الماء في المحيط كله، فعبارة واحدة كهذه، بما فيها من سذاجة شديدة في استخدام الألفاظ، لتكفيني للحكم على «الفصيلة» التي يندرج فيها الطالب صاحب الرسالة، من بين فضائل طلاب العلم، وعندما أشرت إليه فيما أسلفته بقولي عنه إنه لا بد أن يكون من خيرة الشباب في جامعاتنا، فذلك لأني رأيت فيه بشائر الطموح العلمي وإخلاص الرغبة في تثقيف نفسه، وحسن النية في تحقيق الأهداف السامية، وهذه كلها صفات لا يكثر وجودها اليوم في شبابنا الجامعي، مما يغرينا بالأمل في سهولة توجيهه إلى جادة الطريق، وجادة الطريق يا صاحبي في مجال العلم والمعرفة إنما تكون في ضبط المعاني، وفي تكوين الحاسة الهادية في تمييز السليم من الفاسد في الألفاظ الدالة على تلك المعاني، كالصراف المدرب في تمييز العملة الصحيحة من العملة الزائفة.
وأودُّ للطالب صاحب الرسالة أن يعلم بأن «العلوم» حين تنقسم فروعًا وجب أن يكون كل فرع من تلك الفروع «علمًا» تتوافر فيه الشروط الأساسية في كل تفكير علمي، ومن حقنا طبعًا أن نقسم العلوم بحسب موضوعاتها فنقول: علوم رياضية، وعلوم طبيعية، وعلوم اجتماعية، وعلوم شرعية، وهكذا، لكن تقسيمًا كهذا حين نقيمه على أساس «الموضوع» لا ينفي أن يكون بين الأقسام كلها جانب مشترك، هو الذي يجعل العلم علمًا بغض النظر عن موضوعه، والجانب المشترك هو «المنهج» المتبع في البحث، ولولا أن صاحب الرسالة طالب جامعي، لما استطردت في هذا الجزء من الحديث، ولو كان قد تشرب من موضوع اختصاصه العلمي، ألا وهو — كما أنبأنا في خطابه — علم الإلكترونيات والكهرباء، أقول إنه لو كان قد تشرب من موضوع دراسته منهاجه ودقته؛ لانعكس ذلك المنهاج وهذه الدقة في طريقة استخدامه للكلمات، وكان عندئذٍ يجد في نفسه ما ينفر من عبارات كالتي استخدمها في قوله: «علوم وجدانية» و«علوم علمية».
ثم أنتقل مع صاحب الرسالة إلى نقطة أهم، وردت هي الأخرى في عبارته التي ذكرناها نقلًا عنه، وهي أنه حين أراد أن يتقمص الدعوة إلى الصيغة الجديدة، الصيغة التي نريد لها أن تدمج في صلبها تراثًا ومعاصرةً في وقت واحد، ظن أن الأمر في ذلك لا يعدو أن يضع شيئًا يقرؤه في كتب التراث «بجوار» (وهذه هي الكلمة التي استخدمها) بجوار شيء يتعلمه من علوم العصر، وعلى وجه التخصيص يتعلمه مما يدرسه في كلية الهندسة، وإنني، وإن كنت لا أدري كيف يكون هذا «التجاور» لصنوف المعرفة في رأس الدارس، فليس هو ما يحقق الهدف المطلوب في بناء الصيغة الثقافية الجديدة للمواطن العربي، وعلى سبيل التشبيه أقول: انظر كيف يتغذى الكيان العضوي لأي كائن حي. فانظر إلى الشجرة — مثلًا — وهي تمد جذورها في الأرض، تتحسس العناصر الملائمة فتمتصها دون سواها مما لا ينفع في غذائها ونمائها، وكذلك تمتص الماء المطلوب لترتوي، فهل هي تفعل ذلك لتوضع العناصر المغذية عنصرًا إلى جوار عنصر وتجيء شربة الماء لترص مع تلك العناصر في صف واحد، أو أنها تتمثل هذا كله تمثلًا تختفي معه العناصر المأخوذة من تربة الأرض، وهي إذ تختفي فإنما تختفي ظاهرًا لتتبدى في الأوراق وخضرتها، وفي الأزهار، وفي الثمار؟
إنك يا صاحبي تأكل في غذائك أرزًا ولحمًا وخضرًا وخبزًا وفاكهة ليتحول ما يتحول من هذا كله إلى دماء تجري في شرايينك فتكون لك الصحة التي تحيا بها وتدرس وتفكر.
وشيء كهذا تمامًا هو المطلوب إذا نحن اغترفنا من تراثنا واغترفنا من نتاج العصر، لننسج ما اغترفناه نسيجًا حيًّا في رءوسنا وفي مشاعرنا وفي مواقفنا السلوكية جميعًا، ولكي أضرب لك أمثلة مجسدة على هذا الذي نريده استعرض معك بعض ما صنعناه بالفعل، وجاء محققًا للصيغة الجديدة المنشودة، خذ — مثلًا — من دنيانا الأدبية مسرحيات أحمد شوقي، وتوفيق الحكيم، أو روايات نجيب محفوظ، ثم حاول أن ترسم — في أي عمل من تلك الأعمال — خطًّا فاصلًا يجعل ما أخذه هؤلاء الأدباء من التراث في ناحية، وما أخذوه من الغرب في ناحية أخرى، فهل تستطيع؟ لم يكن في تراثنا الأدبي الشكل المسرحي، ولا الشكل الروائي، في الإبداع الأدبي، فأخذ مبدعونا تلك الأشكال من الغرب، ثم ملئوها بمضمون من حياتنا نحن، فهذه قصة الحب بين قيس وليلى، وهذه قصة أهل الكهف، وتلك قصة الحياة المصرية كما تطورت خلال ثلاثة أجيال، لكن المضمون الحيوي الذي ملأنا به الشكل الأدبي المأخوذ من الأدب المعاصر في الغرب، قد اندمج مع الشكل بحيث أصبحنا أمام كائن عضوي واحد.
وخذ مثلًا آخر، من دنيا العلوم الطبيعية هذه المرة، وهو ما يحاوله علماؤنا في مراكز البحوث المختلفة من إيجاد حلول لبعض مشكلاتنا، فكيف نستزرع مساحات معينة في الصحراء؟ وماذا يمكن الإفادة منه في صنوف الأعشاب التي تنبت في أرضنا؟ وأي الأساليب أفضل في معالجة المرضى بأمراض توطنت في شعبنا؟ وهكذا، إنها مشكلات في حياتنا نحن لكننا تعلمنا من علوم العصر كيف نُجري عليها الأبحاث العلمية التجريبية لعلنا نجد لها حلولًا مناسبة، فإذا ألقيت نظرة إلى واحد من هؤلاء العلماء وهو قائمٌ بعمله العلمي، فأنت عندئذٍ إنما تنظر إلى تراث ومعاصرة تجسَّدا في إنسان؛ لأن ذلك الإنسان الباحث مليء في داخله بعقيدة دينية ولغة عربية وأعراف وتقاليد، ولم يمنعه شيء من ذلك من أن يكون عالمًا؟ وإذا شئت فانظر إلى أحد العلماء في الميدان الذي أسميته أنت ﺑ «العلوم الوجدانية» (!) انظر إليه وهو يحلل نصًّا في وثيقة تاريخية أو أدبية أو فلسفية، أو أثرية أو غير ذلك، فسوف يدهشك أن ليس في الموقف ذرة من «وجدان»، إنما هو تحليل علمي موضوعي لا نختلف في جوهره عن تحليل الأجسام المادية إلى عناصرها الأولية، وهو موقف مما يمكن أن يقال عنه إنه قد دمج تراثًا إلى معاصرة.
والأمثلة في هذا السبيل لا تنتهي؛ لأننا — بالفعل — قد سرنا على الطريق شوطًا بعيدًا، لولا أن شكوانا ما تزال قائمة، من أننا في معظم الحالات «ناقلون» ولم نضف بعد إلى علوم العصر ما يشار إليه على أنه إضافة عربية ذات شأن، ومع ذلك فقد بقي أمامنا في صنع الصيغة الجديدة جانب هو أشد الجوانب عسرًا، ثم هو هو نفسه الذي نعنيه أول ما نعني حين ندعو إلى صيغة ثقافية جديدة، وذلك الجانب الذي أعنيه هو أن ننشئ في أنفسنا «رؤية جديدة»، «وجهة نظر» جديدة أهم ما فيها انتهاج المنهج العلمي السليم حينما كان الموضوع الذي بين أيدينا موضوعًا موكولًا إلى العلم، ولنتذكر جيدًا هنا أن العلم وموضوعاته إنما هو «جزء» واحد من حياة الإنسان، وهنالك غيره أجزاء كثيرة أخرى، ربما كانت أهم منه، لكنها على أية حال لا تنتمي إليه، وإذا نحن أخذنا بالعلم في مجاله أخذًا جادًّا؛ تحتَّم علينا ألا نلقي بالًا لما يناقضه، كما أشار إلى ذلك الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال».
ونعود إلى رسالة الطالب المهندس، فقد ورد فيها أنه حين حاول التطبيق على شخصه في الجمع بين شيء من تراثنا وما يدرسه هو من علوم العصر، بدأ بقراءة صفحات عن أبي حيان التوحيدي، وهي صفحات عرض فيها أبو حيان العلاقة بين «ذكاء» الإنسان و«إرادته»، ويعيد الطالب في خطابه نموذجًا لما قرأه عند أبي حيان التوحيدي، ثم يشعر بالعبث فيما يطالعه فيلقي به، ولا أدري أين ألقى به، ليعود إلى علومه الهندسية وهي العلوم التي تبنى عليها حضارة العصر كما قال، ويسأل في دهشة بما معناه: أهذا هو ما تريدنا أن نتزود به إلى جانب علوم عصرنا؟
فوجدتني أحق منه بالعجب! إن ما نقله عن أبي حيان التوحيدي عن العلاقة بين ذكاء الإنسان وإرادته، وكيف أنه إذا اشتد الذكاء ضعفت الإرادة، إنما هو من أروع ما يكتبه كاتب، قديمًا أو حديثًا، عربيًّا أو غربيًّا، عن الإنسان وفطرته، وقبل أن أعرض هنا مضمون الفكرة التي قدمها أبو حيان التوحيدي فأحدثت القرف والغثيان عند صاحبنا المهندس الصغير (فهو على وشك التخرج) لا يسعني إلا أن أعبر عن أساي وحسرتي كلما وجدت شبابنا الجامعي وحتى الصفوة من ذلك الشباب عاجزًا عن القراءة إلى الحد الذي يجد بين يديه كنوزًا من كنوز العقل البشري، فيختلط عليه الأمر بين اللآلئ والحصى!
إنني عندما قرأت الاقتباس الذي نقله الطالب في خطابه عن التوحيدي ليبرر لي قرفه وغثيانه؛ تذكرت من فوري أن الفكرة نفسها، التي تضمنها ذلك الاقتباس، قد وردت عند «ج. ك. تشسترتون» (توفي ١٩٣٦م عن اثنين وستين عامًا)، وهو أديب إنجليزي يضعه قومه في منزلة عليا من تاريخهم الأدبي، كتب الرواية، لكن مكانته العظيمة استمدت من أدب المقالة عنده، وفي إحدى مقالاته تلك بُسطت الفكرة نفسها التي بسطها أبو حيان التوحيدي، والتي أصابت ولدنا المهندس بالنفور، ولقد كنت حين صادفت الفكرة عند «تشسترتون» قد تملَّكني روعتها ونفاذها وصدقها، حتى ترجمتها إلى العربية لأحفظها عندي بين أعز ما أعتز به من مطالعات، فلما قرأت الاقتباس الحياني في رسالة الطالب، لم أضيع دقيقة واحدة بعد أن فرغت من قراءة الخطاب وقمت لأحاول البحث عما كنت ترجمته عن الأديب الإنجليزي العظيم، ولن أذكر هنا كم ضاقت الدنيا أمامي، حين أخفقت جهودي في العثور على الترجمة، نعم، لقد طالت بيني وبين كتابته الأعوام، لكنني ما زلت أذكر شكل الورقة التي كتبت عليها النص المترجم، أذكرها في وضوح كأنني كتبتها نهار أمس، لكن ماذا يجدي هذا كله أمام مكتبة اختلطت أوراقها، وبصر ضائع لا يكاد يفرق بين ورقة وكتاب؟
لكن الفكرة عند الأديب الإنجليزي هي هي بعينها وبكل تفصيلاتها وحذافيرها الفكرة التي أوردها أبو حيان التوحيدي في المقتبس الذي أرسله إلى الطالب المهندس، ليقيم به الدليل على «تفاهة» تراثنا، وماذا تقول تلك الفكرة؟
يتفق الأديبان معًا — العربي والإنجليزي الحديث — على أنه إذا اتسعت المعرفة عند إنسان، واشتد به الذكاء كان بذلك أميل إلى الوقوف عند الأفكار، يحللونها قبل أن يقيموا عليها عملًا في دنيا العمل، فما من فكرة مما هو متداول بين الناس، ويظنونه بسيطًا وواضحًا ومفهومًا، إلا وتلك الفكرة نفسها عند من اتسعت معارفه ومداركه واشتد ذكاؤه؛ فاشتدت تبعًا لذلك قدرته على التحليل، أقول إن الفكرة نفسها التي رآها عامة الناس بسيطة وواضحة إنما تبدو على حقيقتها لأصحاب المعرفة الواسعة والقدرة على التحليل كثيرة العناصر مركبة التكوين، وليست بكل الوضوح الذي ظنه بها السذج الأبرياء، فماذا يترتب على هذا الفرق بين النظرتين؟ يتوقف عليه أن من قلَّت معرفته وضعفت قدرته على تحليل فكرة ما، طالما هو لا يرى من تلك الفكرة إلا جانبًا واحدًا، فإنه يندفع نحو العمل على أساسها. في حين أن العارف الذكي القادر لعلمه بأن تلك الفكرة معقدة بكثرة تفصيلاتها؛ فهو يتردد كثيرًا قبل المغامرة بعمل يقيمه على أساسها، وبعبارة أخرى نقول: إن العاجز في جانبه العقلي سريع الإرادة نحو تنفيذ الأفكار التي يحسها واضحة وهي على كثير من الغموض، وأما صاحب القدرة العقلية فالإرادة عنده بطيئة لتردده بين أن يعمل أو لا يعمل بناءً على فكرة معينة ليس هو على يقين من نتائجها.
وعلى هذا الفرق بين النمطين من الرجال، تسهل الزعامة على الصنف الأول؛ لأن الزعامة مرهونة بالإرادة، والإرادة عنده سريعة الأداء لتوهمه وضوحًا في رؤية النتائج، لكنها — أي الزعامة — تصعب على الصنف الثاني؛ لأنه لا يريد أن ينتقل إلى دنيا العمل إلا بعد أن تتضح له النتائج مقدمًا، ومثل هذا الوضوح يتطلب منه وقفة طويلة للبحث والتحليل، وبصرف النظر عن الزعامة من يستطيعها ومن لا يستطيعها يمكن التوسع في الفكرة بحيث نقول بصفة عامة إن النجاح في الحياة العملية كثيرًا ما يكون لأصحاب المعرفة القليلة والإرادة القوية، قبل أن يكون لأصحاب المعرفة الواسعة والإرادة المترددة، فالنسبة بين العقل والإرادة كما ترى نسبة عكسية، تقل المعرفة فتشتد إرادة التنفيذ، وتتسع المعرفة فتضعف الإرادة بالتردد.
تلك هي خلاصة الفكرة عند أبي حيان التوحيدي (في القرن الرابع الهجري) وعند «ج. ك. تشسترتون» في عصرنا، وهي التي أصابت صاحبنا الطالب المهندس بالقرف من التراث؛ ولذلك صمَّم على أن يهجره، ولم يكن قد خطا فيه إلا مقدار أصبع من قدم.
وربما سألني الطالب صاحب الرسالة: وبماذا ينفع الناس هذا الكلام؟ وهنا نجيبه قائلين: إنه كلام يلقي الضوء على ما غمض من طبيعة الإنسان فيزداد الناس علمًا بأنفسهم، وبالتالي فهم يزدادون مهارة في التعامل بعضهم مع بعض، أم أن هذا في ظنك حصاد قليل؟ وما دمنا نتحدث الآن عن طبيعة الإنسان، وكيف تنطوي تلك الطبيعة على «تغالب بين الذكاء والإرادة» (وهذه عبارة التوحيدي) فيحسن بنا أن نقف دقيقة أخيرة عند هذين الجانبين: الإرادة والعقل؛ لنحدد على شيء من الدقة نوع العلاقة القائمة بينهما، لأهمية هذا التحديد في مواقف كثيرة جدًّا من حياتنا العملية، ومن أهمها ما ينبغي أن تكون عليه الصلة بين رجال السياسة ورجال العلم، فالإرادة «رغبة» من صاحبها في تحقيق هدف معين يبتغيه لنفسه، لكنها لا تشتمل في ذاتها على «معرفة» الوسائل التي بها تتحقق تلك الرغبة، فيأتي أهل العلم ليحددوا بعلومهم المختلفة — كل عالم منهم في مجاله — ماذا تكون وسائل التحقيق في الهدف وكيف نعالج تلك الوسائل لكي توصلنا إلى ما كنا أردناه، فرجال السياسة، من حيث هم، في مجموعهم، يعكسون الرأي العام، يريدون للأمة أن تبلغ غايات معينة، فهم يريدون «مثلًا» أن تزال الأمية، وأن يكون لكل مواطن فرصة للعلاج الطبي، وألا يقل متوسط الدخل للمواطن عن كذا من الجنيهات في السنة، هم يريدون، لكن ليس من شأنهم أن يقولوا كيف يكون السبيل إلى تحقيق ما يريدون؛ لأن ذلك من شأن العلماء في تخصصاتهم المختلفة، فالرغبة الأولى من الرغبات التي ذكرناها، هي من شأن علماء التربية والتعليم، والرغبة الثانية من شأن علماء الطب، والرغبة الثالثة من شأن علماء الاقتصاد، وهكذا يتبين لنا كيف تجيء «الإرادة» في حياة الإنسان أولًا، ثم يجيء «العقل» (متمثلًا في العلوم) ليخدم الإرادة فيما اتجهت إليه. ثم لا بد لنا من إضافة خطوة ثالثة وأخيرة، وهي أنه إذا ما وضع العلم خطته فهو وحده لا يملك التنفيذ، فتعود القوة المريدة مرة أخرى لتعين في أن تتحول الخطة العلمية إلى عمل، فالإرادة هي بمثابة من يأمر أولًا والعقل العلمي بمثابة من يأتمر في بيانه كيف يكون الوصول، وأخيرًا يتعاون الجانبان في مجال العلم، فإذا سئلنا — على هذا الضوء — على أي نحو ينبغي أن تكون العلاقة بين الجامعات والمجتمع، كان الجواب واضحًا، وهو: المجتمع يعلن عن مشكلاته ورغباته والجامعات تعرض الحلول العلمية لتلك المشكلات ولتحقيق هذه الرغبات، ثم يتعاون الجميع على إخراج الخطة النظرية إلى حيز الوجود.