كلمة حق عن هذا الجيل
للآباء أحيانًا طريقة يتحدثون بها إلى أبنائهم كلما أرادوا أن يشحذوا فيهم الهمة والطموح، وهي أن يتحسسوا فيهم مواضع الضعف فيضخموها، وأن يسكتوا عن مواضع القوة التي يعرفونها في أبنائهم، فلا يذكرونها ظنًّا منهم أن ذلك أدعى إلى استثارة هؤلاء الأبناء إلى مزيد من الجهد وإلى ارتفاع بدرجة الطموح، لكن انظر إلى أولئك الآباء أنفسهم إذا ما ساقت لهم المصادفات من يقول عن أبنائهم ما قالوه هم لأبنائهم من تضخيم لمواضع الضعف وسكوت عن مواضع القوة، انظر إليهم كيف يجيبون بجواب يقلِّبون فيه الرأي سكوتًا عن الضعف وإظهارًا للقوة؛ فهم عندئذٍ يبرزون للمهاجم الغريب ما قد أغمض عنه العين من قدرات أبنائهم لائذين بالصمت عما فيهم من عجز وتخاذل، وشبيه بهذا الموقف من الآباء نحو أبنائهم موقف المصري عندما يشدد كلمات النقد التي يوجهها إلى مواطنيه، حتى إذا ما سافر إلى خارج وسمع نبرة نقد من غريب انبرى له موضحًا ومصححًا، وليس في هذا كله شيء من تناقض؛ لأن التناقض لا يكون إلا إذا حكمنا بالكذب على شيء هو نفسه الذي كنا بالأمس قد حكمنا عليه بالصدق، وأما ما نحن صانعوه حين ننقد أبناءنا في مواضع قصورهم غاضين أبصارنا عن مواضع قدرتهم؛ فإنما نحن نتحدث عن جانب ونسكت عن جانب آخر، ومن حق المتكلم أن يختار ما يتحدث عنه من الجانبين، وربما اختار لحديثه الجانبين معًا.
وإنني لأعلم عن نفسي كم أهاجم هنا وكم أدافع هناك، فهنا أصطنع موقف أولئك الآباء في الجانب الذي يهاجمونه من أبنائهم، وفي الجانب الذي يلتزمون عنه الصمت، وهناك أقلب الأسطوانة فلا يتحرك لساني أو قلمي إلا بما أعرفه عن أبنائي من قدرات ومواهب ساكتًا عما هو غير ذلك، ومرة أخرى أقول إنه لا تناقض في موقف كهذا ولا كذب، بل هو الصدق في الحالتين، فإذا قيل: لكنه صدق وليس هو «كل» الصدق؛ كان الشفيع في ذلك هو حب الوالد لأبنائه والرغبة البصيرة في أن يراهم من الموكب الحضاري في طلائعه.
أقول هذا تمهيدًا للرد على خطاب جاءني من السيد أحمد عبد العزيز أحمد متسائلًا في مرارة عن جيله هذا ما الذي أصابه ليجعله جيلًا مسطحًا ممسوح القسمات حتى ليتعذر على الفاحص أن يقع له على سمات تميِّزه، ولماذا امتلأ الجيل الماضي بالعمالقة بينما خلا هذا الجيل منهم، فلم يكونوا إلا مجموعة من أقزام. فشعرت — عندما قرأت الخطاب — أن واجب الحق يقتضي أن أقول كلمة الصدق فيما تعودت أن أغمض عنه العين غالبًا، ولا أهتم بذكره إلا قليلًا معتذرًا لنفسي عن ذلك بأن جانب القوة في هذا الجيل هو جانب مكسوب، فإذا كان لنا كفاح لنتجه به نحو الجانب المفقود؛ فالمقارنة بين الجيلين إذا تنزهت عن الأغراض الخاصة إنما تدلنا على أن لكل جيل حسناته التي يتفوق بها على الجيل الآخر، ففي الحياة الثقافية — بصفة عامة — كان الكاتبون الأعلام «قارئين أكثر منهم كاتبين»؛ إذ الكثرة الغالبة مما كتبوه إنما هي عروض جيدة لما قرءُوه. ولقد قرءُوه من كتب التراث آنًا ومن ثقافات الغرب آنًا آخر، وكان لهم في ذلك فضل كبير، لكنه فضل من يمهد الأرض للبناء، والبناء هو الإبداع الذي يأتي أصحابه بجديد غير مسبوق لا في صفحات التراث ولا في صفحات الغرب، وجاء هذا الجيل ليجد الأرض ممهدة يبني مبدعاته، ولذلك غلبت عليه وسيلة الرواية والقصة والمسرحية بعد أن كانت تلك الوسيلة نادرة الظهور عند الجيل الماضي، والفرق واضح — بالطبع — بين الحالتين، فبينما كانت أصابع الجيل الماضي مشغولة بتقليب الصفحات للأخذ عنها، ترى أصابع هذا الجيل مشغولة بالنبض الحي تحسه في أبناء الشعب أينما كانوا على اختلاف أعمالهم وتفاوت درجاتهم، وهكذا استبدلوا بكتب الجيل الماضي مطالعة لحياة البشر.
وكانت تلك الخطوة نحو الإبداع عند أبناء هذا الجيل لتكون نقلة بنا نحو ما هو أفضل وأبعد تقدمًا، لولا أن خالطها ما قيدها وأنقص من قيمتها، وذلك أن أبناء هذا الجيل قد أحاط بهم ما ملأ آذانهم بضرورة توكيد المصري لذاته، وإلى هنا والدعوة خيرة ووطنية ومقبولة، لكن الأمر لم يقف بهم عند هذا الحد المعقول المقبول، بل تجاوزه ليملأ آذان أبناء هذا الجيل بإضافة ليست محققة الصواب، وهي أن توكيد الذات يقتضي بالضرورة كراهية الآخرين، وهي كراهية تقتضي بالضرورة — كما أفهموهم — أن يتنكروا لما عند أولئك الآخرين من فكر وأدب وفن، فإذا أضفنا إلى ذلك الموقف اللاثقافي واللاحضاري، بل واللاأخلاقي واللاوطني أيضًا، إذا أضفنا إليه جانبًا آخر هو أنه حتى لو لم يكن عند أبناء هذا الجيل تلك الكراهية وما تقتضيه في ظنهم من رفض لثقافة المكروه لوجدوا في أنفسهم ما يسد عليهم طريق الاتصال بتلك الثقافات الأخرى، بل ما يسد عليهم كذلك طريق الاتصال بالثقافة العربية ذاتها، وهي في عيونها ومصادرها، وذلك لضعف القدرة اللغوية فيما يختص باللغة العربية ولانعدام قدرتهم — تقريبًا — في اللغات الأجنبية فنتج عن ذلك أن أصبحوا — إذا استثنينا ترجمات شائهة في معظم الحالات — مغلقين في أبراج مصمتة لا يكادون يعرفون شيئًا مما يعجُّ به الغرب من فكر وأدب، اللهم إلا أسماء مؤلفين وعناوين لكتب يخطفونها خطفًا من هنا وهناك ليوهموا الناس بأنهم إذ يزدرون الغرب وثقافته؛ فذلك إنما يفعلونه عن علم ودراية، فانتهى بهم هذا الشذوذ كله إلى نتيجة غريبة، وهي أنهم لما كانت لبعضهم مواهب الإبداع فقد أبدعوا، لكنهم كذلك كانوا فقراء فكر للأسباب التي قدمناها فجاء ما أبدعوه محدود القيمة إذا كانت القيمة هي أن يدوم نتاجهم لتقرأه أجيال بعد أجيال كما هي الحال في البديع إذا جادت خامته. وكما كان الأدباء الأعلام في جيلنا الماضي يكتبون عما قرءُوه أكثر جدًّا مما يكتبون ما أبدعوه، وبذلك جاءت كتاباتهم وكأنها خالية من حياة الناس على أرضنا، فكذلك كان شأن الدارسين أعلامًا وغير أعلام؛ إذ كانوا ينشرون دراساتهم، فإذا هي قد اتخذت موضوعات من أقطار الدنيا في هذا العصر أو فيما سبق من عصور، وكأن مشكلات مصر الآن ليست من شأنها ولا من أخصاصها، فكان يندر أن يجد الشاب القارئ الدارس كتابًا عربيًّا حديثًا في أي موضوع حيوي يعرض له ويريد أن يزداد به علمًا، فكان الشاب منا كلما عرض له موضوع جديد ورغب في القراءة عنه؛ اتجه رأسًا إلى البحث عنه في مظانه من المؤلفات الأجنبية؛ إذ كان أمرًا مفروغًا منه ولا يحتاج منا أن نسأل عن كتاب عربي حديث في موضوعنا، ولكن انظر الآن إلى ما ينتجه الدارسون في هذا الجيل في شتى الموضوعات الجديدة، فما من ميدان إلا وقد صدرت فيه عدة مؤلفات لعلمائنا والدارسين من أبنائنا، فهذه — إذن — نقطة محسوبة بغير أدنى شك لصالح هذا الجيل على سابقه. فالفكرة التي كان الدارس من أبناء الجيل الماضي يكتفي في عرضها بمقالة في مجلة أو صحيفة أصبح الدارس من أبناء هذا الجيل لا يرضيه فيها إلا كتاب.
لكننا وقد أنصفنا هذا الجيل، فاعترفنا له بأنه أكثر من سالفه لجوءًا إلى الإبداع في الأدب وإلى إفاضة القول في الدراسات العلمية وما يشبهها، فليس من حقنا أن نتجاهل حقيقة صارخة في المقارنة بين الجيلين في هذا المجال، وتلك الحقيقة الصارخة بوضوحها هي أنه إذا رأينا هذا الجيل في دنيا الأدب «أكثر» إبداعًا؛ فهي كثرة عددية. ولقد عوَّض الجيل الماضي عن ضيق المجال الإبداعي بارتفاعه في جانب الإجادة، وما زلنا نجد في هذا الجيل الحاضر نفسه أو شوامخه ليسوا من أبنائه، بل هم ممن ينتمون إلى الجيل الماضي، وشاء الحظ الحسن للأدب العربي أن يمتدَّ بهم الأجل، بارك الله لهم في حياتهم وأطال أعمارهم، ليظلُّوا منارات تشهد بقوة ضيائها أنهم أبناء جيل أخلص وأجاد.
وهذه المقارنة نفسها بين الجيلين في دنيا الأدب قلة جيدة فيما مضى وكثرة معظمها هزيل فيما هو قائم حولنا اليوم، أقول إن هذه المقارنة نفسها تصدق كذلك على مجال الدراسات البحثية، بمعنى أنه إذا كان دارس الجيل الماضي تكفيه المقالة أو سلسلة المقالات في عرض دراسته بينما دارس اليوم يلجأ إلى وسيلة «الكتاب»، فلقد اقترنت القلة الكمية عند الجيل الماضي — أحيانًا كثيرة — بقوة الفكرة المعروضة وأصالتها، في حين أن مثل تلك القوة وهذه الأصالة هما في كتب أبناء هذا الجيل أندر من الكبريت الأحمر كما يقال، وإذا شئت فقارن أعوام العشرينيات بأعوام السبعينيات — وبينهما نصف قرن — فبينما كان العمل الفكري أو الفني يصدر عن صاحبه ليشق أمام الناس دربًا جديدًا غير مطروق، وغالبًا ما يكون الدرب الجديد مصحوبًا بنوع من الحرية جديد. تبحث في نتاج السبعينيات عن أمثال تلك الضربات الخلاقة؛ فلا تجد منها إلا ما هو أقل من القليل، فإذا طالبتني بشرح ما أعنيه بالضربات الخلَّاقة أجبتك بأنها الضربات التي من شأنها أن تغير طريق السير المعتاد المألوف ليصبح أمام الناس معيارًا جديدًا ووجهة نظر جديدة.
لقد قرأت منذ فترة قصيرة عرضًا موجزًا وسريعًا لواحد من ألمع من يحملون العلم في أيامنا هذه يذكر فيه — على سبيل المفاخرة بهذا الجيل الذي هو أحد أبنائه بل أحد أفذاذه — وكأنما أراد أن يقول ما معناه: انظر إلينا وقارن ما تراه فينا من براعة وقدرة ونبوغ في شتى المجالات، بما قد كان قائمًا في الجيل الماضي، ولست أريد هنا أن أذكر الأسماء التي ذكرها من أبناء عصره هذا حتى لا أسيء إلى أحد إساءة غير مقصودة بالطبع، ولكنني أذكر الأسماء المقابلة لها من أبناء العشرينيات، والتي لم يذكرها الكاتب في عرضه الموجز السريع، فقد كان في الشعر أحمد شوقي، وكان في الموسيقى سيد درويش، وكان في الدراسة الأدبية طه حسين، وكان في الكتابة السياسية الدكتور هيكل، وكان في الشعر والنقد والكتابة السياسية العقاد، وكان في فن النحت محمود مختار، وكان في فن التصوير محمود سعيد، وكان في الاقتصاد طلعت حرب، وكان الأدب المسرحي على وشك الظهور على يدي توفيق الحكيم، والأدب الروائي على وشك القفزة العالية بعد البدايات التي ظهرت، ولقد جاء بتلك القفزة نجيب محفوظ، وكان محمد عبد الوهاب وأم كلثوم قد بدآ السير على طريق العبقرية في عالم الموسيقى والغناء. تلك كانت أسماء العشرينيات وهي التي تقابل السبعينيات التي فاخر بها الكاتب اللامع في عرضه الموجز السريع.
ولعل هذا الموضع من سياق الحديث هو الفرصة المناسبة للكلام عن الشعر الجديد الذي هو — بغير شك — من ملامح هذا الجيل، وبادئ ذي بدء أشعر بضرورة أن أدفع عن نفسي اتهامًا كثر دورانه على الألسنة، وهو أنِّي عدو لهذا الشعر الجديد عداوة مطلقة غير مقيدة بالضوابط والشروط، وهو اتهام غير صحيح، فقد حدث سنة ١٩٥٧م «بعد العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م بقليل» أن شرعت لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، «هكذا كان اسمه في ذلك الحين ولم تكن قد أضيفت إليه بعد العلوم الاجتماعية». أقول إن لجنة الشعر عندئذٍ وكنت عضوًا فيها وكان العقاد مقررها شرعت في جمع كل ما كان الشعراء قد أبدعوه بمناسبة العدوان الثلاثي لنشره في مجموعة واحدة أولًا، ولإجازة من تراهم اللجنة في المراتب الثلاث الأولى، وانقسمنا نحن الأعضاء لجانًا ثنائية، كل لجنة تنظر في الشعر المجموع كله لاختيار الثلاثة الأوائل مرتَّبين، الأول منهم فالثاني فالثالث. وكان معي في لجنتي الثنائية المرحوم علي أحمد باكثير، ووقع اختيارنا للجائزة الأولى على قصيدة من الشعر الجديد «أظنها كانت للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، لكن أسماء أصحاب الشعر كانت سريَّة لا يعرفها أعضاء اللجان الفاحصون.» وجاء يوم انعقاد اللجنة بكامل أعضائها لعرض أسماء المرشحين، فأولًا كان مما يلفت النظر أن جميع اللجان الثنائية قد اتفقت في ترشيحاتها على الثاني والثالث. وهذا الاتفاق — في رأيي — هام جدًّا للباحثين في فلسفة الجمال الفني، وللقائمين على النقد الأدبي؛ لأنه دليل شديد الرجحان على أن مقومات الجودة في مبدعات الأدب والفن أمور موضوعية موجودة في الأعمال ذاتها، وليس الأمر كله موكولًا إلى الأذواق الذاتية التي لا ضابط لها، وثانيًا عندما دارت المناقشة على من يكون أول الفائزين؛ كنا نحن وحدنا «أعني لجنتنا الثنائية» الذين خرجنا على إجماع بقية اللجان الثنائية. فبينما اجتمع رأي الجميع على شاعر معين؛ كان ترشيح لجنتنا الثنائية لقصيدة من الشعر الجديد، وهنا نشأ الخلاف، وهو الخلاف الذي اشتهر فيما بعد في دوائرنا الأدبية عن رأي العقاد في الشعر الجديد من حيث إنه يدخل في اختصاص لجنة النثر وليس لجنة الشعر، ولقد طلبت أن يُثبت رأيي في محضر الجلسة — ولمن شاء أن يراجع ذلك المحضر — وهو أن الشعر الجديد لا يُرفض رفضًا قاطعًا وبلا قيد، وإنما يُرفض في حالة واحدة فقط، وهو أن يكون خاليًا من أي «شكل» يمكن تقنينه إذا أردنا هذا — بالطبع — إذا كان المضمون ذا خصائص تؤهله لأن يكون شعرًا. وذلك هو رأيي إلى هذه الساعة.
ونعود إلى هذا الجيل وشعره الجديد، فأقول إن الخصوصية الحميمة التي تربط قصيدة الشعر الجديد بصاحبها، هي في ذاتها امتياز يُحسب حسابه إذا أردنا المقارنة بين جديد وقديم، لا سيما في العالم العربي بصفة خاصة، حيث شعور الفرد بفرديته ينقصه الشيء الكثير. ومن وسائل اكتمال تلك الفردية المنقوصة في بلادنا أن يجيء شعر الشعراء نموذجًا في التفرد قد يحتذيه الآخرون، لكن هذه الخصوصية الحميمة التي أشرنا إليها لا يجوز أن تكون على حساب الجوانب الأخرى، التي منها قوة اللغة وسلامتها، ومنها عظمة الموضوع الذي امتلأت به نفس الشاعر فأجراه في قصيدة من شعره، فهذان جانبان يكفلان للشعر أن يدوم جيلًا بعد جيل، وعندي أن قابلية العمل الأدبي للدوام هي من أهم المعايير التي يمكن للناقد الأدبي استخدامها في تقويمه للشعر الذي ينقده، وقابلية الدوام هذه هي الغائبة — فيما أرى — عن الشعر الجديد، حتى ما هو جيد منه، والكلام هنا — بالطبع — هو على سبيل الحكم العام الذي لا ينفي وجود ما يستثنى منه.
ومن الشعر أنقل إلى الفن التشكيلي رسمًا ونحتًا، ولقد كان من حسن حظي أن كنت لمدة عشر سنوات على الأقل «١٩٥٨–١٩٦٨م على ما أذكر» في لجنة المقتنيات الفنية التي كان من عملها أن تزور ما يُقيمه رجال الفن من معارض لاختيار ما هو جدير بالاختيار لتقتنيه الدولة، فكانت تلك عندي فرصة ذهبية تتيح لي مسايرة الحركة الفنية مسايرة مسئولة، ولقد أفدت من الزملاء أعضاء اللجنة — وكانوا جميعًا من مبدعي الفن أو على الأقل من كبار نقاده — وكنت أحرص على أن أسبقهم إلى مكان العرض بنصف ساعة أو نحوها؛ لأكوِّن لنفسي رأيًا خاصًّا على مهل قبل أن أتأثر بآراء الزملاء، وكان ذلك منِّي امتحانًا لنفسي لأرى هل أقترب أو أبتعد في الرأي عن المختصين في الفن إبداعًا ونقدًا، فكنت — بحمد الله — أنجح في هذا الامتحان؛ إذ أراني قد اخترت منفردًا ما يجيء رأي الجماعة ليقع على ما كنت وقعت عليه، نعم كانت فرصة نادرة لي، أتاحت لي فرصة المتابعة، فكان يذهلني حقًّا تلك الخصوبة الفنية الرائعة، وتلك المحاولة المخلصة الجادة في أن تجيء مبدعات الفن حاملة للروح المصرية في عمق أعماقها، فإذا أقمنا مقابلة بين الجيلين كان الرجحان لهذا الجيل، لا من حيث الكثرة وحدها، بل كذلك من حيث القيم الفنية العليا، مع اعترافنا بالأفذاذ النابغين من أبناء الجيل الماضي.
ولقد جاءت تلك النزعة الدافعة لصاحبها نحو أن يكون ذا شخصية متفردة بخصائصها ليكون الفرد فردًا متميز الملامح والصفات دون سواه، وهي النزعة التي نراها ونحسها في مجال الشعر الجديد، وفي مجال الفن التشكيلي الجديد على حد سواء، والتي يحاول بها كل شاعر على حدة أن تكون له رؤياه الخاصة به وأن تكون له كذلك طريقته الخاصة في استخدام اللغة استخدامًا جديدًا، كما يحاول كل فنان في مجال الفن التشكيلي أن يخاطب المشاهد بلغة الألوان والخطوط، أقول إن تلك النزعة المميزة لشعراء هذا الجيل ومبدعي الفن فيه إنما جاءت انعكاسًا للموقف السياسي كله لمصر المعاصرة «ولغيرها من أشباهها» من حيث جهادها في سبيل حريتها الضائعة واستقلالها المفقود، ومن حيث إرادتها لأن تسترد هويتها بكل خصائصها التي تميزها والتي تنفرد بها دون سائر الأقطار.
والحق الذي لا مراء فيه هو أن أبناء هذا الجيل أشد إيمانًا بحرية الإنسان — فردًا كان أو مجتمعًا — من أبناء الجيل الماضي، نعم، إن أولئك كانوا دعاة حريات متنوعة في السياسة وفي الأدب وفي دنيا المرأة وغير ذلك، لكن هذا الجيل قد جاء ليضيف أبعادًا جديدة إلى معنى الحرية المنشودة، يهمنا منها في سياق هذا الحديث روح المغامرة كما هو واضح في هجرة الشباب المصري لا بالمئات ولا بالألوف بل بالملايين كسبًا للرزق والتماسًا لظروف تمكنهم من إظهار قدراتهم في شتى الميادين، وذلك ما قد تحقق لكثيرين منهم بالفعل، وإنه لمن الإنصاف للدولة في مصر خلال هذا الجيل أن نقول إن تلك الروح المغامرة الطموح في شبابنا ربما جاءت نتيجة مباشرة للأجهزة الكثيرة التي أنشئت لتحريك المواهب عند الموهوبين، فوزارتا الثقافة والإعلام كانتا في هذا الجيل شيئًا جديدًا لم يعرفه الجيل الماضي، فإذا أردنا تلخيصًا لما تؤديه هاتان الوزارتان في حياتنا قلنا إنهما تتعقبان شرائح المجتمع كلها لتقدم لكل شريحة منها زادها الثقافي المناسب الذي من شأنه أن يوقظ فيها الوعي بذاتها وبوطنها، فإذا لم تكونا قد بلغتا في ذلك كل ما كنا نتمناه، فقليل الزاد خير من العدم على كل حال، فقد أصبح للطفولة مكانها من الوعي القومي بعد أن لم يكن، كما أصبح مثل ذلك للمرأة وللشباب وللعامل ولغير هؤلاء جميعًا من مجموعات المواطنين، وكان مما ساعدنا على تلك اليقظة الشاملة — بالطبع — أجهزة جديدة أمدنا بها العلم الجديد، وفي مقدمتها الإذاعة مسموعة ومرئية، فضلًا عن أجهزة من نوع آخر أقمناها نحن على أرضنا، فسرعان ما ترددت أصداؤها في كياننا الثقافي بكل جوانبه، ومن أهمها الأكاديميات التي أنشأناها: أكاديمية الفنون وأكاديمية العلوم والبحث العلمي، ثم أكاديميات أخرى لم نعطها هذا الاسم، لكنها تفعل فعلها، منها: المجلس الأعلى للثقافة والمجالس القومية المتخصصة.
أفبعد هذا كله يصح أن يوصف هذا الجيل بأنه خالٍ من أية سمات تميزه؟ لكن هذا لا ينسينا الفوارق البعيدة بين الجيلين، وهي فوارق تجعلهما أقرب إلى أن يكونا ضدين من أن يكونا تسلسلًا طبيعيًّا في مجرى حياة واحدة، ففي الجيل السابق — كما أسلفنا — قلة نسبية في الإبداع، لكنها قلة فيها الأفق الرحب والإجادة، وفي الجيل الحاضر كثرة نسبية في الإبداع، لكنها كثرة فيها الهزال وضيق الأفق، فهل يصح لنا — يا ترى — أن نتوقع من التفاعل المستتر بين هذين الضدين أن ينتج لنا كيانًا ثالثًا فيه من الأولين ما عرفوا به من إتقان وتجويد وفيه من الآخرين كثرة المواهب المبدعة وروح الحرية المغامرة تطبيقًا لحركة التاريخ المثلثة الخطى عند هيجل؟
إن هذا ما أتوقع حدوثه في مستقبل حياتنا الثقافية بعد فترة لن تطول بإذن الله.