نريدها صحوة واعية
إخلاصي للقارئ، ورغبتي الشديدة في أن أكون صادقًا معه في كل حرف أكتبه ليقرأه، يجعلانني أُشركه معي في الحيرة إذا كنت في حيرة، وفي الشعور بطمأنينة اليقين، إذا كنت على يقين، بل أشركه فيما هو أخطر من ذلك. فإذا كنت أعلم أنني لست أقف — في موضوع ما — على أرض ثابتة، بمعنى ألا أكون على معرفة مقطوع بصوابها في ذلك الموضوع، لكنني في الوقت نفسه أشعر بأن لديَّ لمحات عنه؛ بدت لي وكأنها صحيحةٌ، وأنها إذا صحت كانت لها أهمية لي وللناس، بادرت بتحذير القارئ منذ الأسطر الأولى، ليكون على حيطة فيما يأخذ عنِّي وما يدع، وما أكثر ما لقيت العنت بسبب ذلك، إذ يتخذ خصومي من ذلك الصدق سلاحًا يسددونه إلى صدري، فيقولون: انظروا إلى رجل يكتب فيما لا يعرفه وإنه ليعترف بذلك علنًا.
وإنما قدمت حديثي هذا بهذه الكلمات لأني أشعر إزاء موضوعي بشيء من الحيرة، ورأيت أن أشرك القارئ معي في حيرتي، لكي نسير معًا بعد ذلك خطوة خطوة، فهو وأنا بمثابة اثنين أرادا السير في غابة، لم يسبق لهما أن اخترقاها، فهما لا يعرفنا عن دخائلها شيئًا، ومع ذلك فهما يشعران بالرغبة في اختراقها ولا يدريان على سبيل اليقين ماذا عساهما مصادفين من عقبات.
وأبدأ من البداية فأقول إنني «أحس» خللًا في حياتنا الراهنة، وأنا — كما يعلم القارئ عني — معنيٌّ بالجانب الثقافي من تلك الحياة، قبل عنايتي بأي جانب آخر، فلا أنا من رجال الاقتصاد؛ لأعرف كيف يجيء المال وكيف يذهب، وأكتفي من كل ذلك بأنني «أعيش» — بحمد الله — في غير عسر ولا ضيق، ولا أنا من رجال السياسة الذين جعلوا منها سُلمًا للصعود (أو للهبوط كما تشاء لهم الخطوط) بل إني منذ خرجت من مرحلة المراهقة وضبابها، ألفيت نفسي مشدودًا إلى ذلك الشيء الغامض الذي يسمونه «ثقافة» مضافًا — بالطبع — إلى مهنة أرتزق منها، وكانت تلك المهنة لحسن الحظ ذات صلة أو صلات وثيقة بما يسمى ثقافة، ألا وهي مهنة التعليم، وإذا قلنا التعليم فقد قلنا بالضرورة العلم وتحصيله، بل والمشاركة في إنتاجه وفي الإضافة إليه بقدر المستطاع، وكان ذلك هو طريقي في الحياة منذ عرفت نفسي، فإذا بدأت بقولي إنني أحس خللًا في حياتنا الراهنة؛ كنت أقصد بذلك أول ما أقصد الجانب الثقافي من تلك الحياة، وبذلك الإحساس الغامض نفسه أجدني وكأني أرى النقيضين يلتقيان معًا، ففي تلك الحياة صحوة لا شك في وجودها، وفيها كذلك نقص في الوعي لا شك في وجوده أيضًا، فما حقيقة حياتنا إذن؟ ومصدر سؤالي هذا هو أنه إذا كانت صحوة فلا بد أن يصحبها ويحيط بها وعي، وإذا كان الذي هناك هو غيبة للوعي أو لجانب منه فكيف جاءت الصحوة؟ وبأي معنى جاءت؟ لم يبقَ أمامنا إلا أن نقول إننا حين استيقظنا لم تكن اليقظة كاملة، ومع اليقظة المختلطة بظلال من بقايا نعاس يجيء القصور في الوعي.
ذلك كله هو ما أحسه، وأعني بذلك أني أشعر به شعورًا مبهمًا لم ينتقل معي إلى مرتبة المعرفة العقلية الواضحة، وذلك هو أول الوعي، ومن هذه البداية أريد القارئ أن نتعاون معًا على اكتساب الرؤية الواضحة، وأول ما نبدأ به هو أن نبحث من أي نوم جاءت اليقظة؟ والجواب الذي أقترحه لأني لا أرى جوابًا سواه هو أن فترة النوم التي نشير إليها عندما نقول عن أنفسنا إننا «صحونا» هي الثلاثة القرون التي سبقت الحملة الفرنسية على مصر سنة ١٧٩٨م، أي قبل بدء القرن التاسع عشر بعامين، وهو رأي قد لا يأخذ به آخرون، وموقفي من هؤلاء هو موقف المتسائل المتعجب: من أين يا ترى يريد هؤلاء أن يبدءُوا اليقظة المصرية أولًا والعربية ثانيًا؟ إنني اذكر أن الفصل الأول من «الميثاق» الذي كنا أصدرناه في أوائل الستينيات قد خُصص لدحض هذه الفكرة، فكرة أن ما قبل الحملة الفرنسية كانا نعاسًا ثقافيًّا، زاعمًا أن الأزهر كان في القرن الثامن عشر في حركة علمية نشيطة؟ فأردت أن أقطع الشك بيقين ورجعت إلى ما استطعت الرجوع إليه من مصادر، باحثًا عن العلماء الذين اضطلعوا بذلك النشاط، من هم، وماذا أنتجوا من فكر «جديد»، فوجدت قوائم بأسماء يتلوها أسماء، ومع كل اسم لم أجد من ضروب النشاط العلمي إلا شروحًا وتعليقات وملخصات لمؤلفات القدماء، ومعنى ذلك أن علماء القرن الثامن عشر درسوا ما كان هناك من تراث، لكنهم لم يضيفوا إليه جديدًا، فإذا رأينا شيئًا جديدًا دخل في حياتنا منذ أوائل القرن التاسع عشر، كان ذلك الجديد هو بداية اليقظة الثقافية، وكانت البداية التي يحق لنا أن ننسب إليها تحريك العقل بنشاط جديد، هي قدوم الحملة الفرنسية ومن صحبها من مجموعة العلماء.
ومن تلك البداية سرنا في خطوات تصيب وتخطئ، فكان ما كان من تعليم أخذ يتسع ويتنوع، ومن إحياء للتراث القديم بدأناه منذ الطهطاوي، ومن ترجمة عن اللغات الأوروبية، وسفر للبعثات العلمية المصرية إلى أوروبا واستدعاء لعلماء الغرب ليشاركونا فيما كنا بصدد إنشائه من جوانب حضارية وثقافية، وما يتفرع عنها من ألوان النشاط، تلك — إذن — كانت الصحوة وما سبقها من فترة ركود، وحتى إذا نحن لم نتفق على بداية تلك الصحوة من أين جاءت وكيف جاءت؛ فذلك في الحقيقة لا يهمُّ كثيرًا فيما نريد عرضه هنا؛ لأننا على أية حال متفقون على أن يقظة عقلية بدرت معنا بوادرها منذ أوائل القرن الماضي، لكن موضع الأهمية هو ما قد صحب تلك اليقظة من «وعي»، فإذا نحن أخذنا هذه الكلمات بما كان يجب أن تعنيه، قلنا إن اليقظة لا يكون لها معنًى إلا إذا كان الوعي جزءًا من معناها، وهنا تبرز أمامنا المفارقة الغريبة التي أردت أن يشاركني القارئ في حل لغزها، وهي أن يقظتنا آلت إلى حالة لا يحيط بها من شعلة الوعي ما يتناسب مع عمرها الذي جاوزت به قرنًا ونصف قرن.
وكأني بصديقي القارئ الذي يصحبني في رحلتي الذهنية هذه يسألني ما هذا «الوعي» الذي تتحدث عنه، لقد فهمنا عن الصحوة أنها اليقظة جاءت بعد النعاس، فماذا تريد بالوعي الذي تراه خافت النور، وكان ينبغي له أن يتوهج؟ وعن سؤاله أجيب جوابًا بسيطًا واضحًا، وهو أن ذلك الوعي المطلوب يشبه ما يحدث للإنسان عند استيقاظه، فالحواس تعمل عملها بعد أن كانت مقفلة الأبواب، العين ترى بعد أن كانت مسدلة الجفن معطلة الوظيفة، والأذن تسمع، والأنف يشم، والجلد يحس ما يلمسه، وكذلك يعمل العقل بعد أن كان قد انطوى على نفسه، فيقصر نشاطه على الباطن وحده كالأحلام ومعها القليل من الإدراك الذي يظل واعيًا، واختصارًا نقول إن وعي المستيقظ من نومه يشبه فتح نوافذ الغرفة فيتدفق فيها النور؛ وكذلك الحال فيما نحب أن يكون عليه الوعي الثقافي؛ فيصبح معناه أن نكون على دراية بما يحدث حولنا في سائر أنحاء العالم، وأن نكون على فهم صحيح ودقيق بما يُقال لنا وما يقدم إلينا من كلمات المتكلم أو الكاتب، والذي «أحسه» في حياتنا الثقافية الراهنة هو أنها يقظة قليلة الوعي، ونريد لها أن تكون يقظة واعية، فكأن أعيننا تنظر ولا ترى، وآذاننا تنصت ولا تسمع، وعقولنا تنشط بالحركة ولكنها لا تفكر. وإليك مزيدًا من إيضاح.
الوعي الذي كنا نتوقع له أن ينمو وتشتد حدته معنا بعد أن نفضنا عن أنفسنا وخم النعاس هو — في بساطة — القدرة على إدراك الحقائق المحيطة بنا واستيعابها، ثم الاستجابة بالفكر والسلوك الملائمين لما أدركناه واستوعبناه. إننا باليقظة وحدها قد نحقق الشطر الأول، ولكننا بالوعي نحقق الشطر الثاني كذلك، وعلى ضوء هذا التوضيح — وهو على أية حال وجهة نظر — أعيد طرح القضية التي هي موضوع هذا الحديث، والقضية هي أني أحس في حياتنا الثقافية العامة نقصًا جوهريًّا يصيبها بالعرج ويتلخص في أننا ربما نكون قد حققنا جانب اليقظة إلى حد معقول، بمعنى أننا ندرك إدراكًا كافيًا حقائق محيطنا، لكننا في حالة تقرب من الشلل فيما يختص باستجابتنا الذكية لتلك الحقائق بالفكر والسلوك الملائمين.
وليست هذه الاستجابة الملائمة للظروف المحيطة والتي هي جوهر الوعي مقصورة على الإنسان دون سائر الكائنات الحية، بل إنها ليست مقصورة على الكائنات الحية دون سائر الكائنات، والمسألة في الفروق بين هذه وهذه وتلك، هي مسألة تفاوت في الدرجة أولًا، ثم ينفرد الإنسان آخر الأمر بخاصية تميزه في هذا المجال، وهي أنه حين يعي ما يُحيط به يعرف أنه واعٍ، في حين تكون بقية الكائنات واعية ولا تعرف أنها كذلك. إن مقياس الحرارة الترمومتر إذا ما وضِع في محيط على درجة معينة من الحرارة استجاب لمحيطه ذاك بارتفاع عمود الزئبق فيه حتى يتعادل مع الحرارة المحيطة به. وقطعة الحجر تلقيها في مكان ما يتميز بخصائص معينة كشدة الحرارة أو شدة الرطوبة لا بد أن يستجيب لتلك المؤثرات بما يتناسب معها، فإذا انتقلنا إلى عالم الأحياء من أبسط مراحل النبات فصاعدًا إلى عالم الحيوان بدرجاته المتصاعدة في التراكيب؛ وجدنا استجابة الكائن الحي لمحيطه ذات فاعلية إيجابية واضحة، فهو لا يلتقي بالموقف الذي يتلقى العوامل الخارجية دون أن يكون له حيلة فيها، بل تراه يبذل من جانبه جهدًا إيجابيًّا يبحث له عن العوامل التي تضمن له البقاء والنماء والتكاثر، حتى إذا ما وصلنا في مدارج الارتفاع بالوعي إلى مرحلة الإنسان؛ وجدنا ذلك الوعي قد بلغ حدًّا بعيدًا من الدقة التي لا تكتفي بأعضاء الجسد في الاستجابة الملائمة للظروف المحيطة، بل إنها لتمد من قدرات تلك الأعضاء إلى آماد بعيدة، وذلك باختراع الأجهزة التي تساعدها على ذلك، فإذا كانت العين تبصر إلى مسافة معينة؛ جاء المجهر «الميكروسكوب» فزاد لها من ضخامة الكائنات الصغيرة التي لم تكن العين لتراها وهي مجردة فتراها، وكذلك جاء المنظار المقرب «تلسكوب»، فأتى بالأجسام البعيدة إلى بؤرة الإبصار. وهكذا قل في الأذن حين يقف سمعها عند حد معين فيجيء لها الراديو والرادار لتسمع بهما دبيب النمل في شتى أرجاء الأرض، ورفيف الطير في أجواز الفضاء، وانظر إلى ذلك الجهاز الذي أطلقوه منذ لا أدري كم من الأعوام حتى جاوز ذلك الجهاز لا حدود الأرض وحدها بل جاوز حدود المجموعة الشمسية كلها فيما أظن، وهو يرسل إليهم الرسائل عما يمر به من أجرام الكون، ومع هذا الاتساع الهائل فيما أصبح الإنسان يدركه عن الحقائق المحيطة به اتسعت قدراته على الاستجابة بالفكر وبالسلوك الملائمين. وبمقدار ما ازداد به الإدراك وازدادت كذلك القدرة على الاستجابة، تكون غزارة الوعي.
ولا يكون إدراك الإنسان للحقائق المحيطة به ثم الاستجابة لها على صورة ملائمة، لا يكون ذلك وعيًا إذا بقيت تلك العوامل المدركة متفرقة فرادى لا يربطها الرباط الذي يجعل منها وحدة متصلة الأطراف. فقد يعلم قروي كل شيء عن قريته وأهلها ثم يقف عند هذا الحد لا يجاوزه، فلا يكون بذلك الأفق الضيق والنظرة المحدودة على وعي بالوطن المصري، دع عنك أن يتسع وعيه ليشمل انتماءه العربي والإسلامي والإنساني بصفة عامة. وليس هذا الكلام كلامًا من قبيل الإنشاء بالمعنى الساخر لهذه الكلمة في استعمالها المألوف؛ كلا، بل إن ذلك الأفق الضيق إنما ينعكس انعكاسًا مباشرًا على السلوك، فما لم يضع ذلك القروي قريته في وطن يشملها ويشمل غيرها ثم يضع ذلك الوطن بدوره في قومية عربية، وهكذا تظل تتسع به الدائرة؛ فلن تنضبط له الموازين التي يحكم بها على شئون قريته ذاتها. وإني لأذكر في هذا السياق حوارًا دار بيني وبين صديق طبيب كانت له مكانته الرفيعة في عالم الطب — وكان ذلك منذ سنوات ربما بلغت العشرين — وكان موضوع حديثنا منصبًّا على الأساس الذي يجوز للطبيب أن يحدد عليه أجره على عمله. وبالطبع لم تكن أجور الأطباء عندئذٍ قد طارت إلى ما يشبه الأرقام الفلكية التي نعاني منها اليوم! فقال صديقي ذاك «رحمة الله عليه» إن الطبيب حر في تقدير أجره؛ لأنه حر في المكانة التي يريد أن يضع نفسه فيها، وللمرضى بعد ذلك حريتهم كذلك في الإقبال عليه أو في الإدبار عنه، فعارضته في رأيه ذاك قائلًا: إنه لمن دواعي ذلك الإنسان ووقوعه في الخطأ أن يحكم على الأشياء والمواقف وهي منزوعة عن ظروفها ومحيطها، فليس الطبيب ومريضه حقيقتين مجردتين عن المكان والزمان، بل هما مواطنان مصريان، يعيشان معًا في هذه الفترة الزمنية التي نعيش فيها، ففي هذه الظروف المحددة؛ نستطيع أن نجري عملية حسابية اقتصادية اجتماعية، يكون فيها من دقة الحساب العلمي درجة كبيرة، فنعلم في هذه الظروف المحسوبة كم يكون مستوى الدخل في المتوسط، وبالرغم من أن الأفراد يزيدون عن ذلك المتوسط حينًا وينقصون حينًا، إلا أنه يظل مع ذلك مرجعًا ضابطًا نلجأ إليه لنعرف متى يكون في تقدير الطبيب لأجره شطط ومتى لا يكون، ونحن في حديثنا هذا إنما نتحدث عن «الوعي»، ونقول إنه مرهون بإدراك الإنسان لعوامل محيطة، ثم الاستجابة الملائمة لتلك العوامل، فلست أراه طبيبًا «واعيًا» ذلك الذي يعلم أن متوسط دخل المصري خمسون جنيهًا في الشهر — مثلًا — ثم يجعل أجر كشفه على المريض خمسين جنيهًا، ففي هذا خلل واضح في علاقة الأجزاء بالكل الذي يحتوي على تلك الأجزاء، والخلل الواحد في البناء لا بد أن يستتبع في جدران البناء شقوقًا وشروخًا حتى ينهار البناء كله على رءوس ساكنيه.
نعم، إنه يستحيل الحكم على شيء معين، أو على موقف معين أو على فكرة معينة إلا بعد نسبتها إلى الكل الذي يحتويها هي وغيرها في جسم واحد، والآن فلأضرب مثلًا لذلك أقيمه على مساحة أوسع من مساحة الطبيب ومريضه، وهو مثل أقارن فيه بين مواطن أمريكي ومواطن مصري، وكيف يمكن قياس «القيمة» الواحدة المعينة من زاويتين مختلفتين: الأمريكي من زاوية بيئته، والمصري أيضًا من زاوية بيئته، فمن الفروق الواضحة بين الحالتين أن في أمريكا أرضًا واسعة وسكانًا قليلين بالنسبة إليها، وأن في مصر أرضًا ضيقة، وأعني الجزء المسكون وسكانًا كثيرين بالنسبة إليها، ذلك من حيث المكان، وكذلك نرى — من حيث الزمان — أن المواطن الأمريكي قصير التاريخ، ثلاثة قرون تقريبًا، وبالتالي فهو لا يحمل فوق ظهره إلا قليلًا جدًّا من قيود التقاليد، في حين أن المواطن المصري طويل التاريخ، ستون قرنًا، وبالتالي فهو مقيد بتقاليد لا حصر لعددها، ومعنى ذلك أننا إذ ننظر إلى الأمريكي في مكانه وزمانه وإلى المصري في مكانه وزمانه كذلك؛ نرى في الحالة الأولى إنسانًا لا حدود في أرضه الفسيحة تحد من حركته ونشاطه ومغامراته. ثم لا قيود من تقاليده تحرم عليه ضروبًا من ذلك النشاط. فنتج عن ذلك أن انبثق للأمريكي من واقعه الذي يعيشه مبدأ يتواءم مع تلك الحياة، وهو مبدأ النجاح بالمعنى الذي حدده الأمريكي لهذه اللفظة، وهو مقدار المال الذي عاد به نشاطه ومغامراته، ولأن أمريكا «الولايات المتحدة» أصبحت هي الذروة في البناء الحضاري في عصرنا، ومصداقًا للقاعدة الحضارية التي صاغها ابن خلدون في مقدمته؛ فقد هبط المعيار الأمريكي على سائر أقطار الدنيا هبوط الماء من قمة الجبل إلى سفوحه، حتى أصبح النجاح في الحياة بالمعنى الأمريكي معيارًا شائعًا في سائر الشعوب، وأصبحنا نحن في مصر نقيم معيار الملايين وتحصيلها كسبًا حلالًا أو نهبًا حرامًا هو مبدأ من أهم المبادئ التي على أساسها نحكم بالنجاح في الحياة وجودًا وعدمًا.
لكن النجاح بذلك التعريف الأمريكي جاء نتيجة طبيعية انبثقت من مكان مطلق فسيح الأرجاء يسمح بالنشاط المغامر، ومن زمان قصير لم يطل حتى الآن أكثر من ثلاثة قرون؛ فلم يفرز في طبائع الناس هناك قيودًا تعرقل سرعة الحركة. وأما في مصر أو ما تقرب ظروفه من ظروف مصر؛ فالإطار المرجعي الذي كان ينبغي أن تنبثق منه مبادئنا الأساسية هو على نقيض الإطار المرجعي في الولايات المتحدة؛ إذ المكان المعمور فيها محدود المساحة، والزمان وراءنا طويل مما كثرت منه تقاليدنا، وينتج عن ذلك وجوب ألا يكون المليونير هو النموذج الأصيل، بل إن ذلك النموذج في حياتنا كان ينبغي أن يكون صاحب العمق النفسي الذي يتمثل في مقاييس داخلية أكثر مما يتمثل في حسابات مصرفية، وتلك المقاييس الداخلية ثقافية كلها، وعلى رأس القائمة فيها عمق الإيمان الديني وصدقه وإخلاصه، بما يتضمنه ذلك الإيمان من خلافة الله في الأرض لتعميرها بالعمل، مستعينًا بقوة العلم ومضاء العزيمة، وما يترتب على ذلك الإيمان كذلك حتمًا من رؤية خاصة إلى الكون ومصدره بصفة عامة، وإلى الإنسان وقيمة سلوكه بصفة خاصة.
على هذا النحو يكون إدراكنا لظروف محيطنا كما تكون استجابتنا في مواءمتها لتلك الظروف، فمن هذا المنظور نرى التفصيلة الواحدة من تفصيلات حياتنا لا يُحكَم عليها وهي مفردة، بل لا بد من اتساقها مع النسيج العام حتى يُحكَم عليها بالصلاحية والقبول، ولو أن صديقي الطبيب الذي كنت أحاوره في حرية الطبيب أو عدم حريته عند تحديد العلاقة بينه وبين مريضه قد نظر إلى المسألة من هذا المنظور؛ لأدرك الإطار المرجعي الذي على أساسه يكون الحكم، إنه إذا قيل إن في الولايات المتحدة عددًا ضخمًا من أصحاب الملايين؛ لكان أول ما يرد إلى خاطري هو أن ذلك قد جاء نتيجةً طبيعية للظروف الخارجية التي منها يتكون مسرح النشاط البشري، إلا إذا ثبت العكس في الحالات التي جاءت فيها الملايين إلى أصحابها بطريق غير مشروع، أما في مصر فإذا قيل لي إن فيها الآن عددًا ضخمًا من أصحاب الملايين؛ فإن أول ما يرد إلى خاطري هو أن أفردًا داسوا أفرادًا آخرين بصورة ما إلا في الحالات التي يثبت فيها العكس، وهو أنها جاءت إلى أصحابها بطريق الإنتاج. وها هنا أيضًا يجيء حكمي هذا على أساس النظر إلى النسيج العام وهل من طبيعته أن يفرز المليونير، أو أن المليونير فيه أقرب إلى الورم الذي أنتجه المرض.
لقد صحونا حقًّا منذ أكثر من قرن ونصف قرن، بمعنى أننا أيقظنا في أنفسنا وسائل الإدراك لما حولنا في بلدنا وفي سائر العالم، لكننا لم نلحق ذلك الإدراك باستجابة ملائمة، فنتج أن ظلت صحوتنا بغير وعي يصاحبها، فلا نحن اتسقنا بأفكارنا وسلوكنا مع حقائق الواقع على مستوى العصر في العالم كله، ولا نحن اتسقنا بتلك الأفكار وهذا السلوك مع حقيقة الواقع المصري.