أستاذ يحلم
عرفته منذ أعوام طوال امتدت بنا معًا ما امتد الجزء الأكبر من هذا القرن العشرين، لكننا برغم ما بيننا من روابط الزمن والنشأة والزمالة وتشابه المراحل والأهداف، كنا على مزاجين مختلفين، فهو جاد مجتهد حريص على وقته بكل دقائقه وثوانيه، وأما أنا فقد كنت كثيرًا ما أمزج الجد بالمزاح، والعمل بالراحة، فلا عجب أن غلبت عليه جهامة القسمات، حتى ليكاد الناس لا يرونه إلا عابسًا بغير داعٍ يدعوه إلى العبوس، وكنت أنا على خلافه، باسط الأسارير، مبتسمًا، أتصيد من الأحداث والأقوال ما يبعث على الضحك لأضحك ملء الشدقين، لكن اتفاقنا على سيرة واحدة في الحياة العملية، وخطوات واحدة، وأهداف واحدة، واهتمامات علمية واحدة؛ جعل اختلاف المزاج بيننا انقباضًا وانبساطًا يزيدنا ارتباطًا أكثر جدًّا مما يباعد بيننا.
ولقد كان موضوع حديثنا مساء الأمس حلمًا رآه وأخذ يرويه لي بتفصيل أضفى على الحلم واقعية شديدة، حتى لقد توهمت أنه إنما يروي عن موقف وقع له بالفعل في حياته الجامعية. فقد روى عن رؤياه في الحلم أنه ذهب ذات صباح إلى الكلية التي هو أستاذ بها؛ ليلقي محاضرته الأولى في ذلك اليوم، وقد كان من عادته دائمًا أن يختار أول محاضرة في الصباح؛ لأنه ممن يأوون إلى فراشهم مبكرًا في المساء، ويستيقظون في ساعة مبكرة في الصباح … فواعجباه كيف وجد الكلية في ذلك اليوم، مختلفة المبنى عما قد ألف طوال حياته العاملة، فهي يومئذٍ في منزل ذي طابقين، يقع في شارع ضيقٍ من حي عتيق، فأخذ الأستاذ يلتفت بنظراته يمنةً ويسرةً وإلى أعلى، متسائلًا أهو هذا البناء الذي كان يقصد إليه كل صباح؟ إنه لمحال أن يكون، ولكن هؤلاء هم طلابه يطلُّون من نوافذ الطابق الثاني، وما يزال أفراد منهم يسرعون الخطى في الطريق ليكونوا في قاعة الدرس عند دخول الأستاذ؛ إذ هم قد عرفوا فيه دقة التوقيت على صورة تبعث على احترامه، وعلى الدهشة منه في آنٍ معًا، فحوقل الأستاذ وبسمل ودخل المبنى، وواجهته درجات سلم حجري مرطوبة ومهشمة الأطراف، لكنه مرة أخرى حوقل وبسمل (قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبسم الله الرحمن الرحيم) وصعد، ليجد غرفة الدراسة على يمينه مباشرة.
دخل الأستاذ، فوجد عددًا قليلًا من الطلبة والطالبات، تجمعوا بجوار النافذتين اللتين كانتا على يسار الداخل، وتطلان على الطريق العام، إذ كانت الشمس قد فرشت على الأرض مربعًا من ضوئها إلى جانب كل من النافذتين، فوقف في ذلك المربع المشمس الدافئ كل من استطاع أن يجد موضعًا لقدميه من الطلبة والطالبات، فلقد كان الصباح قارص البرودة، وأما ما أدهش الأستاذ عند النظرة الأولى، فلم يكن ذلك التجمع المتزاحم بجوار النافذتين، إذ كانت لذلك علته، ولكن الذي دهش له هو أنه رأى المقاعد والتخوت قد تناثرت على الأرض في خليط عجيب، وكان فيما سبق يراها مصطفة في نظام محكم، لكن الأستاذ لم يبدِ من دهشته شيئًا، وكل ما في الأمر أنه نظر فوجد كرسيه ومنضدته قد وضعا هناك بالقرب من إحدى النافذتين، ليكونا في المربع المشمس، جلس عليهما بعض الطلبة، لكنهم فور دخول الأستاذ أسرعوا بالوقوف، فقال الأستاذ في هدوء وقور: إنني أفضل الجلوس في الظل، واتجه نحو كرسيه وحمله لينقله إلى الركن المقابل في الناحية الأخرى من الغرفة، ولكي يحمل كرسيه؛ رأى أن يضع حقيبة كتبه وأوراق على المنضدة لتفرغ له يداه، فكان العجب أشد العجب أن وجد الذي بين يديه مقطفًا كبيرًا، وفي أرضيته ورقة مهترئة قديمة، فوضع مقطفه ذاك على أرض الغرفة، وكان ينوي أن يضع حقيبته على المنضدة، لو بقيت له الحقيبة على طبيعتها التي كانت.
حمل الأستاذ كرسيه متجهًا نحو جانب الظل من الغرفة، وتبعه عدد من الطلبة والطالبات، وفي انتقاله ذاك من مكان إلى مكان مقابل؛ رأى ما يشبه أفعال الشياطين في الأساطير، وأخذه رعب أخفاه بضحكات خفيفة؛ لأن أحدًا من مجموعة الطلبة والطالبات التي تبعته لم يبدِ علامة تدل على دهشة أو على رعب، كأن أفراد تلك المجموعة لم يروا ما هو رائيه آنئذٍ، وهو أن الكرسي الذي يحمله بين يديه أخذ ينكمش ويتحول، انكماشًا وتحولًا انتهيا به إلى أن يكون مقعدًا خشبيًّا صغير وطيئًا، كالذي كان يطلق عليه في طفولتنا «كرسي مطبخ»؛ لأن سيدة البيت كانت كثيرًا ما تجلس وهي تطهو على كرسي خشبي صغير يقترب مسطحه من مسطح الأرض، ووضع الأستاذ كرسيه ذاك في ركن غرفة، لم يجدها غرفة الدرس التي تجمع الطلبة والطالبات فيها، إنما هي غرفة مجاورة لها، وبين الغرفتين باب لم يوضع فيها المصراعان الخشبيان، بل كان «فتحة» للمرور، وخلالها سمع زياط الطلبة والطالبات في الغرفة المجاورة، وأما هو فقد جلس جلسة مقرفصة على كرسيه الخشبي الذي كاد يلصقه بأرض الغرفة، ونظر فإذا هو وحده، والغرفة خالية من كل شيء، إلا بلاطها المرطوب العريان، واختفت المجموعة التي كانت تسير وراءه في انتقالته، اختفت ولم يعلم متى اختفت ولا كيف؟
سكت لحظة، فسألته: أعند هذا انتهى الحلم واستيقظت؟
قال: لا، ليته كان؛ بل كانت له تكملة تلفت النظر إذا ما أردنا تأويل الحلم؛ ففجأة وجدتني مع أسرتي: الوالدين والإخوة، وجدتني مع أفراد الأسرة، حين كنت في أول الشباب، وقد كان المفروض أننا — أنا وأخي — على أهبَّة سفر بالطائرة إلى حيث لا أتذكر أين، وأعددنا تذكرتي السفر، ورتبنا حقائبنا، وفجأة مرة أخرى، أدركنا أن موعد إقلاع الطائرة لم يعد بيننا وبينه إلا ربع الساعة، والطريق إلى المطار طويل، يستغرق ما يقرب من ساعة كاملة، فلم أدرِ إلا وقد عدوت وحدي عدوًا سريعًا نحو المطار، لا حقائبي معي ولا تذكرة السفر، وقطع على الطريق خندق عميق، لكنني وجدت طريقًا مدقوقًا بالحجر الأبيض على السفح النازل، وعبر قاع الخندق، ثم على السفح الصاعد إلى حيث الطريق المؤدي إلى المطار. وقفت نصف دقيقة أحسب هل أنا مستطيع العبور؟ وهنا رأيت شابين يعبران وهما يضحكان بقهقهة عالية، فتشجعت وعبرت في سلام، برغم صعوبة التسلق في السفح المقابل والمؤدي إلى حافة الطريق المرصوف؛ إذ كان لا بد للصاعد وهو في المرحلة الأخيرة التي لم يكن بها انحدار يساعد القدمين، بل كان كأنه حائط عمودي أملس. أقول إنه كان للصاعد في تلك المرحلة الأخيرة أن يكون في وضع الواقف، وأن يمد ذراعيه إلى أعلى ليمسك بالحافة الأسفلتية البارزة، ثم يقفز قفزة قوية تقعده على أرض الشارع، وتم ذلك كله بسلام ونجاح. لم يكن على الشارع العريض مخلوق. لم يكن على مرأى البصر عمران، كانت السماء في مثل ظلمة الغسق، لا لأن الليل قد أقبل؛ بل لأن السحب قد حجبت ضياء الشمس، فاستعنت بالله، وعدوت ولبثت أعدو، متجهًا نحو المطار، كان وقت إقلاع الطائرة قد فات منذ مدة طويلة، وحتى لو لم يكن كذلك، فأين هي تذكرة السفر، وأين هي حقيبتي، لكنني أخذت أعدو برغم ذلك كله، حتى هدني التعب وقطع اللهاث أنفاسي أو كاد، فصحوت.
قلت: إنه حقًّا حلم متماسك الأجزاء، واضح الصورة.
قال: إنه يشغلني بكثرة رموزه، فهل لك أن تحاول له تأويلًا؟
قلت: أنت تعلم أن الإنسان صاحب الحلم هو أحق الناس بتأويل حلم نفسه؛ لأنه يعرف دقائق حياته الفعلية، فيعرف إلى أي الأشياء تشير رموز الحلم، فحاول أنت ما استطعت، وها أنا ذا مصغٍ إليك، وربما كانت لي محاولات مفيدة أشارك بها في عملية التأويل، فبين حياتك وحياتي شبه قريب، وإن هذه المناسبة لتغريني بأن أستطرد في الحديث قليلًا لأقدم رأيًا في الطريقة التي يبني بها الإنسان أخلاقه؛ لأنه إذا كانت هنالك آراء يقدمها علم النفس في هذا السبيل؛ فأغلبها منصب على «لماذا» يحلم الإنسان؟ ثم تتعدد الإجابات بتعدد المذاهب. أما ما أريد عرضه الآن فموضوع آخر؛ إذ السؤال فيه هو «كيف» يتم البناء التصويري، الذي تصور به الرؤيا ما تريد تصويره؟ وهي إنما تصور — في كثير من الحالات — شعورية يعيشها صاحب الحلم، وقلما تصور «فكرة» تبلورت واكتمل تكوينها عن الموضوع الذي تدور حوله رؤيا الحالم. والرأي الذي أعرضه هنا لأوضح به «كيف» تبنى الصورة في الحلم، وهو أن قوة الخيال المبدع، التي نراها في حياة اليقظة عند رجال الفن والأدب حين يبدعون ما يبدعونه من مركبات صوتية أو لونية أو لفظية، هي هي نفسها الخيال المبدع أثناء النوم، وكل الفرق بين الحالتين هو فرق في نسقية البناء بعد أن تتم عملية إبداعه، فإذا كان النعاس ينيم الجانب «المفكر» من الإنسان، بما في ذلك الحواس؛ فإن النعاس لا ينيم الخيال المبدع، حتى وإن نقصت فيه قوة إبداعه كثيرًا أو قليلًا، فهو يمضي في نشاطه، بانيًا ما يبنيه من مركبات تصويرية، تكون هي أحلامنا، لكن ذلك الخيال إذ ينشط بفاعليته الإبداعية تلك، إنما يلتقط الأجزاء التي يقيم منها بناءه، يلتقطها من الخبرات السابقة التي وردت في حياة الحالم الماضية، ثم يغلب على الخيال المبدع إذ هو يقيم البناء من تلك الأجزاء التي انتقاها والتقطها من الخبرة السابقة، ألا يستخدمها في معانيها الحقيقية، بل إنه يجعل منها رموزًا تشير إلى معانٍ أخرى، وهذه العملية الرامزة شائعة في كل مبدعات الأدب والفن، ومن هنا كانت مهمة من يتصدى لفهم المعنى الكامن في حلم ما، شبيهة من جانب أساسي بمهمة الناقد في عالم الأدب والفن، فكلاهما يقرأ ما يُعرَض عليه قراءة من يستشف ما قد كمن واختفى وراء الظاهر. ولقد قدمت لك هذا الذي قدمته عن طبيعة الأحلام؛ لأنتهي به إلى اقتراح أعرضه في سبيل التعاون معًا على قراءة حلمك البديع في مبناه. واقتراحي هو أن نبدأ باستخراج الأجزاء التي تبدو عليها الوظيفة الرمزية بصورة لا تحمل الشك، وعليك أنت أن تذكر ما تراه في خواطرك مرتبطًا بكل رمز منها، حتى إذا ما فرغنا من فك الرموز، حاولنا قراءة الحلم قراءة تبين لنا حقيقة معناه.
قال: لقد أمتعتني حقًّا بما قلته، وها أنا ذا على استعداد لذكر ما يفيض به خاطري إزاء كل رمز من الرموز التي وردت في رؤياي، فانطق بها أنت رمزًا وسأجيبك بما يستدعيه عندي كل رمز منها.
قلت: البيت القديم الذي كان في حلمك هو الكلية التي تحاضر فيها؟
قال: بيت قديم كنت أسكنه أيام الدراسة.
قلت: المقطف الذي تحولت إليه حقيبة كتبك وأوراقك؟
قال: مقطف أراه مع جامع القمامة على السلم الخلفي في العمارة التي أسكنها.
قلت: الكرسي الذي تحول بين يديك فأصبح مقعدًا خشبيًّا صغيرًا خفيضًا؟
قال: كرسي الأستاذية.
قال: بماذا توحي إليك صورتك وأنت تجري إلى طائرة أقلعت، وليست معك تذكرة السفر ولا حقيبة الملابس؟
قال: إنها توحي بالسراب الذي تحسبه ماءً، حتى إذا ما اقتربت من مكانه لم تجده شيئًا.
قلت: إنني يا صديقي فور سماعي لرؤياك، قفزت إلى ذهني جملة كدت أنطق بها؛ إذ رأيتها مترجمة لمعنى الرؤيا التي سمعتها، لكنني أمسكت عن نطقها حتى يستبين صدقها خلال حديثنا، وأحسب أن صدقها قد استبان لي في وضوح. وها هي ذي أقولها، وعليك التعليق، إن رؤياك تصوير لجامعة فقدت مقوماتها، ولأستاذ أصابه إحباط؛ فماذا أنت قائل؟
قال: ربما صدقت في حكمك بشطريه، ولكنه ليس كل الصدق. فقد تجاهلت أجزاءً من الصورة، لا بد أن يكون لها معناها؛ ومن أهمها النافذتان في غرفة الدراسة، اللتان نفذت منهما أشعة الشمس الدافئة، لتفرش الأرض بمربعين من الضوء تزاحم فيهما الطلاب، فلماذا لا ترى في ذلك رمزًا للأمل في أزمة تنفرج بعد حين؟
قلت: صدقت … وما رأيك يا صديقي في أن تغضَّ النظر الآن عن رؤياك ورموزها لترخي لنفسك العنان في حديث تنطلق فيه حرًّا، فتروي عن حياتك الجامعية ما يعن لك أن ترويه، على ضوء ما توحي به الرؤيا، دون التقيد بتفصيلاتها؟
قال: سأفعل ذلك، ولكن لماذا أغض النظر عن ذلك الحلم القوي في تعبيره، والواضح في إشاراته وتصويره؟ وكل ما في الأمر من التغيير الذي أحدثه فيه، وهو أن أجعل جزأه الأخير الخاص بالجري وراء طائرة أقلعت يأتي أولًا، وبذلك تستقيم لي القصة في تسلسل فصولها. فالحق أني منذ شبابي الباكر، لم تتعلق آمالي بشيء، كما تعلقت بحياة علمية وأدبية أعيشها. ففي ذلك الشباب الباكر — أو قل فترة المراهقة — تعددت أمامي النماذج، فالأسماء التي كانت تدوي في آفاق حياتنا كثيرة ومنوعة الأهداف، ففي دنيا السياسة نجوم سطعت، وفي دنيا المناصب الحاكمة سلاطين وملوك وأمراء ووزراء، وفي دنيا المال أقطاب، وكذلك كانت حياة العلم والفكر والأدب عامرة بأعلامها. فما تعلق إكباري وإعجابي إلا بهؤلاء الأعلام، وما رجوت لنفسي طريقًا غير طريقهم، ولا هدفًا إلا من جنس أهدافهم، وبهذا رسم أمامي الطريق.
سرت على ذلك الطريق سيرة كانت فيها من العثرات أكثر مما كان فيها من التوفيق، وكنت مع كل عثرة أيأس بالكلام، ولكني لم أيأس قط بالفعل وبالعمل، وما أكثر ما رددت لنفسي عبارات التوبيخ كلما رأيتها تبذل الجهد مضاعفًا، بعد أن يكون الأوان — في ظني — قد فات، وأصبح الجهد المبذول كبذرة بُذرت في أرض جدباء، وأحسب أن ذلك الجزء من الحلم، الذي كنت فيه أعدو لاهثًا وراء طائرة أقلعت وغير مسلح بالأدوات اللازمة للسفر؛ أقول إن ذلك الجزء من الحلم، قد أجاد لي التصوير لتلك الحالة الغريبة التي طال معي أمدها، والتي لم تخلُ يومًا واحدًا من علاقة تتأزم بيني وبين نفسي، فجهود تبدو وكأنها ضائعة، مما كان من شأنه أن يكفَّ صاحبها يائسًا ليستريح. تقابلها من الجانب الآخر عزيمة صممت على ألا يسقط من قبضتها اللواء، وإني لأذكر جيدًا كم حاولت إقناع الجانب اليائس من نفسي، ألف مرة بعد ألف مرة بأنني إنما أعمل للعمل في ذاته، لا لنتائجه؛ لأن حقيقة الأمر في حياة العلم والفكر والأدب والفن، هي أن الفاعلية المبذولة هي جزاء نفسها، فإذا أثمرت أخرى بعد ذلك في الحياة العملية؛ كان خيرًا من الله، وإلا ففي ذاتها جزاؤها الكافي، والعجيب يا أخي هو أن بعض مقومات ذلك الجزء من الحلم، قد جاء انعكاسًا حقيقيًّا لحياتي الفعلية التي عشتها، ولكن مع تعديل لا يخلو من المغزى، فالخندق الذي صادفني في طريقي إلى الطائرة السراب، كان له مقابل حقيقي في حياتي، لكنه في واقعه الماضي كان يخلو من الدرب المدقوق بالحجر الأبيض الذي رأيته في رؤياي، والطريق الذي كان يعبر إليه عابر الخندق لم يكن مرصوفًا ولا نظيفًا ولا خاليًا، كما رأيته في الرؤيا، ولا أدري إن كان هذا التعديل قد جاءت به الصورة الحالمة؛ لتذكرني بأن الصعب يسهل مع الزمن، وبأن القانون الإلهي لحياة الإنسان هو «أن مع العسر يسرًا».
وكانت الطريقة التي انكمش بها كرسي الأستاذية والتي تحول بها، قريبة جدًّا في مدلولها، من الصورة التي وصفها «كافكا» عندما صور إنسانًا أخذ أثناء الليل يتحول إلى خنفساء، ولقد أراد بذلك أن يقول رأيه مختصرًا فيما أصاب حياة الإنسان في عصرنا، وهو يُعاني جانب السوء الذي تولد عن جوانب الارتقاء. وأما أشد الرموز بشاعة، وهو الذي تحولت به حقيبة الكتب والأوراق إلى مقطف يشبه مقطف جامع القمامة، فإنك لتعرف كم هو يقرب من الصدق في تصويره، إذا كنت قد رأيت ما رأيته أنا ذات يوم في طالب لم يكد يفرغ من امتحانه حتى جمع مذاكرته وكتبه وأشعل فيها النار، ووقف أمام الكومة المشتعلة ضاحكًا بما هو شر من ضحكات نيرون عندما أشعل النار في روما، ووقف في شرفة قصره ليمتع عينيه بالنظر إلى صنيعة يديه الآثمتين، وإنما جاءت ضحكات الطالب المعتوه شرًّا من ضحكات نيرون في مغزاها؛ لأن نيرون كان في بلاهته صادرًا عن روح العبث، وأما الطالب فقد أحرق العلم الذي حصله بدافع من روح الانتقام. ولقد انتهت بي رؤياي إلى أن وجدت نفسي على كرسي خشبي صغير وطيء، في غرفة عارية أرضًا وجدرانًا، لكنني لن أتجاهل برغم ذلك كله ذينك المربعين المشمسين المضيئين الدافئين، اللذين أنفذتهما إلى أرض الغرفة نافذتان مفتوحتان على سماء طلقة لا نهائية الأبعاد، فذلك هو الرجاء المصري، كان كلما كبا في عثرة استقام له الطريق بهداية من الله.
قلت: لقد رأيتها منذ اللحظة الأولى رؤية البداهة فور استماعي إليك تروي رؤياك؛ إذ رأيت فيها جامعة تفقد مقوماتها وأستاذًا يصيبه إحباط، لكن للشمس شروقها بعد كل غروب.
وتحقق لي الأمل الذي نشدته منذ الصبا، وأتيح لي من أسباب الدراسة العلمية ما أحمد الله عليه حمدًا لا ينقضي، وأصبحت أستاذًا بالجامعة، وها هنا يأتي الجزء الثاني والأهم من رؤياي، ويشهد الله أني ما سعدت في حياتي الجامعية بقدر ما شقيت. فحقيقة الواقع كما تراها بعين منزهة عن الهوى وعن الرغبة العمياء في الدفاع عن النفس، حتى إذا وجدت تلك النفس على ضلال وعلى ضعف وعجز؛ أقول إن حقيقة الواقع كما تراها من الداخل بتلك العين المنزهة تفزعك وتشقيك، وإني لأقولها لك يا أخي قولة حق يرتجف لها اللسان وترتعش عند نطقها الشفتان، وذلك لأنها حقيقة لا يرضاها إلا من فقد الرجاء في أن نثبت وجودنا أحياءً بين الأحياء، وتلك هي أن رموز الرؤيا في أبشع دلالاتها لم تبعد كثيرًا عن الدقة في تصويرها للواقع كما يقع يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام.
فإذا كنت في الحلم قد ذهبت إلى الكلية لأحاضر الطلاب، فوجدتها مبنًى أجرب، ثم صعدت السلم إلى الطابق العلوي، فإذا درجاته لا تحض على الصعود، ودخلت قاعة الدرس، فإذا قطع الأثاث نفسها قد فقدت نظامها، وإذا الطلاب قد بردت أجسادهم، والتمسوا الدفء يأتيهم من خارج نفوسهم، وما ذلك الخارج المرتجى إلا مربعان مشمسان صغيران لا يسعان جميعهم، فيتزاحم بعض، ويخرج من دائرة الأمل بعض آخر، ولقد بلغ التصوير أدق حالاته، عندما رأيتني في الحلم أهم بنقل الكرسي الذي أعد لجلوسي من النور إلى الظل، فمن ناحية تلك هي نوازعي في حياة اليقظة، ومن ناحية أخرى، فإن تعبير الرؤيا في ذلك الصدد، هو أن العلم قد فقد كثيرًا جدًّا من مكانته في حياتنا، ولم تعد للأستاذ الجامعي تلك المنزلة العليا التي كانت له في عهد الأساطين.