العصور هي أفكارها
لم تكن مناسبات قليلة، تلك التي صادفتني آنًا بعد آنٍ، لأقرأ فيها لكاتب أو لأسمع فيها لمتحدث، تساؤل المتعجب من دعوة تدعو إلى أن تتجه الأمة العربية في عصرها هذا، نحو تربية أبنائها وبناتها، وتثقيفهم، على نحو يخرجون منه بتكوين فكري ووجداني، يظلُّون به عربًا كما هم في هويتهم بكل ما تتميز به من سائر الأمم، ثم يستطيعون به — في الوقت نفسه — أن يواجهوا عصرهم الراهن بكل ما يتطلبه ويقتضيه ممن يحيون فيه.
وإن ذلك التساؤل المتعجب، ليبلغ ذروته في السخرية حين يحكم المتسائل على من يتبنون دعوة كهذه بأنهم إنما يحيون في ضروب من أوهامهم تبيح لهم أن يستخدموا ألفاظًا دون أن يكونوا على وعي بمعانيها، وأن يتصورا تصورات تنقض نفسها بنفسها، فكيف يمكن لإنسان أن يعيش في عصر معين دون أن يكون معاصرًا لذلك العصر الذي يعيش فيه؟ هكذا يتساءل أولئك المتعجبون حين تملؤهم دعابات الساخرين، ثم كيف يمكن لإنسان أن يحيا في يومنا هذا ولا يحيا فيه معًا؟ أليس الدعاة إلى صيغة حياة جديدة يدعون لإقامتها على مبدأ الجمع بين «أصالة ومعاصرة» هم بمثابة من يتصور إمكان أن يقع تناقض كهذا، عندما يزعمون أن بين أبناء أمتنا العربية من اختاروا العيش في الماضي ومع السلف؟ إذن فالمتعجب الساخر لا يفهم دعوة الجمع بين أصالة ومعاصرة، لا يفهمها من وجهين، فهو لا يعقل أن يكون إنسانًا حيًّا في هذا العصر وألا يكون معاصرًا، فذلك التناقض في القول، إنما يكون كمن يقول إن فلانًا من الناس يعيش سنة ١٩٨٥م ولا يعيش سنة ١٩٨٥م في آنٍ واحد، وبالمنطق نفسه لا يفهم المتسائل المتعجب، بل ولا يعقل أن يُقال عن إنسان إنه يعيش معنا الآن، ولكنه لا يعيش معنا الآن، بل عاد بأدراج الزمن حتى استقرت له الحياة مع السالفين.
وحقيقة الأمر فيما يتعجب منه المتعجبون، أبسط وأوضح مما تحدث مثل هذا التعجب كله، وتلك السخرية كلها، فإذا تحدث متحدث عن عصر معين من التاريخ الحضاري، أو التاريخ الفكري، فهو إنما يتحدث — بداهةً — عن جانب «الحضارة» أو جانب «الفكر» من العصر الذي جعله موضوعًا لحديثه، فإذا قال قائل — وكاتب هذه السطور هو ممن يقولون ذلك — بأن الأمة العربية في عصرنا هذا لا تعيش كلها بنظرة واحدة، بل يمكن القول بأنها تنقسم على نفسها ثلاثة أقسام، فالأكثرية الغالبة منها تكون راجعة إلى الماضي لتنظر مع السلف كما كان ينظر ذلك السلف، وأقلية قليلة منها تحيا مع عصرها هذا إلى حد الإسراف، الذي يسلبها هويتها العربية، ومجموعة ثالثة، لعلها هي التي أخذت بيدي الأمة العربية لتخطو نحو عصرها تلك الخطوات البطيئة التي حققتها في هذا السبيل، وإنها لمجموعة استطاعت أن تحتفظ للعربي بجوهر هويته العربية، ثم أن تمكنه في الوقت نفسه من أن يأخذ عن العصر ذلك القليل الذي أخذه، فاستطاع أن يتقدم بقدر ما أخذ. أقول: إنه إذا قال قائل مثل هذا القول، فمن غير الإنصاف أن يتناول ناقد من زاوية المعنى الذي نفهم به كلمة «العصر» وكأنها سلسلة من اللحظات الزمنية المفرغة من مضمونها الذي يملؤها بأحداث حقيقية، هي التي تجعلها حياة ذات حضارة بعينها، أو ذات اتجاهات في الفكر والفن والأدب والسياسة، وغير ذلك من جوانب الحياة المعاشة، نعم إننا إذا وجهنا النظر إلى لحظات الزمن كما تشير إليها عقارب الساعات التي يلبسها المتسائلون الساخرون حول معاصمهم لكان من الخبل أن يقول قائل: إن الساعة تشير إلى التاسعة صباحًا، لكنها لا تشير إلى التاسعة صباحًا، ومثل هذا التناقض الصارخ، هو ما قد ظن بعض المتسائلين أنه قائم في القول بأن جماعة منا تعيش هذا العصر (زمنًا) ولكنها لا تعيش فيه (رؤية حضارية وثقافية).
وإذا كان هذا الفكر الواضح، يراد له أن يزداد وضوحًا؛ فلنأخذ أمثلة حية مجسدة في أشخاص كانوا ذوي أجساد من لحم ودم وعظام، وكانوا يتنفسون ويأكلون ويتحركون، وكانوا فوق ذلك يفكرون ويضعون أفكارهم على الورق ليقرأ لهم القارئون، ومع ذلك فقد كانوا يعيشون في زمن واحد بمقاييس الساعات التي نلبسها حول المعاصم، ولكنهم يعيشون في عصور تختلف في أحدهم عن زميله، وليكن المثل هو ثلاثة رجال تزامنوا في مصر إبَّان العشرينيات من هذا القرن، وهم: طه حسين، وسلامة موسى، ومصطفى صادق الرافعي، فعلى الرغم من أن عقارب الساعات كانت تشير بأن الثلاثة أبناء عصر واحد من ناحية الزمن المجيد؛ فقد كانت اتجاهاتهم الثقافية تصرخ صراخًا يسمعه الصم بأن أحدهم كان من الناحية الفكرية وفي تصوره للمثل الأعلى في حياة العربي كيف ينبغي له أن يكون، وهو مصطفى الرافعي يعيش في الماضي مع السلف بفكره وبقلبه وبذوقه جميعًا، بينما كان يقابله في النقيض الآخر سلامة موسى، يريد لنفسه ولقرائه أن يعيش مع أبناء الغرب العصريين، بفكره وبقلبه وبذوقه أيضًا، وكان طه حسين يتوسط النقيضين وسطًا، يريد لنفسه وللناس أن يحيا وأن يحيوا على ثقافة تدمج الطرفين في صيغة واحدة، وهي هي الصيغة التي — لحسن الحظ — قد دعا إليها أعلام نهضتنا جميعًا، ولكنها أيضًا هي الصيغة التي — لسوء الحظ — يقاومها جمهور الشعب، متأثرًا في ذلك بتحفظات من يخشون أن يكون لما يؤخذ عن حضارة العصر وثقافته تأثير سيئ على كيان الهوية العربية التي يكون الإسلام ركنًا جوهريًّا فيها.
فإذا سألنا أولئك المتعجبين الساخرين: من ذا الذي ترونه جديرًا بالريادة الفكرية من هؤلاء الثلاثة؟ أيكون سؤالنا هذا دليلًا على خلل عقلي في رءوسنا؟ لكننا إذا سألناه عن عقل سليم، فمهما تكن إجابة المجيب، فهنالك اعتراف ضمني بأن الزمن الواحد (بحساب الساعات ذوات العقارب) قد يتجاوز فيه ثلاثة أنماط ثقافية: نمط منها يرتد إلى الماضي، ونمط آخر يرتمي بكل وجوده في حاضر الآخرين، ونمط ثالث يفضل أن يستبقي من ماضيه ثوابت هويته القومية والتاريخية، ثم يستبدل بمتغيراتها الماضية متغيرات أخرى تكون هي الأصلح لزماننا هذا وظروفه، فإذا كانت اللغة والدين من الثوابت التي لا يجوز لها أن يتغير من جوهرها شيء؛ فالعلوم وطائفة كبيرة من النظم الاجتماعية كأنظمة الحكم وأنظمة التعليم وغيرها، مما يجوز عليه التغيير؛ لأنها جميعًا متغيرات مع الزمن بحكم كونها حاصلًا ينتج بالضرورة عن الظروف المستحدثة، في الوقت الذي يجب أن تظل الثوابت من البناء الثقافي؛ لأنها هي التي يراد لها أن تتحكم في تلك الظروف المستحدثة لتشكلها وفق مثلها العليا.
وتعالوا نحلل معًا حياة الفرد الواحد في شرائح عمره التي تختلف نظرته العامة وفوق اختلافها، فإذا وجدنا في تلك المراحل العمرية، ما يوجب أن تدوم في شخصية الفرد بعض الثوابت التي تتصل اتصالًا مباشرًا بوجوده الروحي والقومي، ومعها جوانب أخرى لا بد لها أن تتغير مع التغير الذي يُصيب كل مرحلة من مراحل العمر، من جهة، ومن تراكم الخبرات الحية المستفادة من مكابدة الحياة العملية، من جهة أخرى؛ علمنا بذلك أن ما يصدق على الفرد الواحد في تدرُّجه مع امتداد الزمن، قد يصدق كذلك على مجتمع بأسره، إذا لم يكن في الحياة الاجتماعية عناصر إضافية، تُضاف إلى ما يكون طبائع الأفراد، ولئن كان أفلاطون حين أراد أن يحدد حقيقة «العدل» حين يُقال عن فرد من الناس إنه عادل، قد لجأ إلى تحليل فكرة «الدولة العادلة» أولًا، حتى إذا ما رأى حقيقة العدالة هناك، طبَّق ما رآه على الفرد الواحد، وذلك على افتراض منه أن للعدالة معنًى واحدًا في الحالتين، إلا أن ذلك المعنى وهو متمثل في دولة، يكون أوضح ظهورًا منه وهو متمثل في فرد واحد، قائلًا إن الأمر يشبه قراءة ما هو مكتوب على لوحة، إذا كان القارئ ضعيف البصر، فإنه يرى المكتوب إذا اقترب منه أوضح مما يراه وهو بعيد عنه، أو هو يشبه عبارة ما، كتبت بأحرف كبيرة وكتبت كذلك بأحرف صغيرة، فإن قراءتها في الحالة الأولى أيسر منها في الحالة الثانية، فيخيل إليَّ أن موضوعنا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن، وهو تعيين الخصائص التي يجب أن تدوم، وتمييزها من الخصائص التي يجوز لها أن تتغير مع تغير الظروف، إنما يكون أوضح ظهورًا في الفرد الواحد، منه في المجتمع لتشابك الخيوط في نسيجه.
فلا بد أن يكون كل منا قد صادف أفرادًا وهم في سن الرجولة اكتملت فيهم كل المقومات البدنية، بل وربما امتازوا بحدة ذكائهم، ولكنهم مع ذلك لم يظفروا بشيء من التعليم، الذي يغلب أن يصحبه شيء من الثقافة، فنحكم عليهم بأنهم لا يحيون في الناحية الثقافية بما يتناسب مع مراحلهم العمرية، فأين وجه الغرابة إذا قلنا عن الأمة العربية، بكل ما لها من مقومات ومن ذكاء ومن ضروب أخرى من القدرات، بل بكل ما عندها من ذخائر تراثها، بثوابتها ومتغيراتها، أنها متخلفةٌ عن عصرها حضاريًّا وثقافيًّا، لقد حدث لي منذ نحو سبع سنوات، أن وجدت في بريدي كتيبًا أرسله إليَّ مؤلفه، وكان عنوان الكتاب «الأرض لا تدور» وأخذت في قراءة صفحات منه فوجدت الرجل ذا قلمٍ ثابت بين أصابعه، ووجدته جادًّا كل الجد فيما يعرضه على الناس، من أن كروية الأرض فكرة بثَّها فينا «المستعمر»، وأما الفكرة فخاطئة وتقوم ضدها عدة براهين، بعضها من الدين وبعضها الآخر من العلم «الحديث»، وأخذ الرجل يسوق براهينه برهانًا في أثر برهان! فأحسست عندئذٍ أن كتابًا كهذا تدور به عجلات المطابع، ويتولاه ناشر بالتوزيع، ليس مجرد علامة على جهالة فرد من الأفراد، بل ربما كان أقرب إلى الصواب أن نقول إنها كالطفح الذي يظهر على وجه المريض ليدل على أنه في جوفه محموم، لأن كتابًا كهذا يدل ولو بعض الدلالة، على نوع المناخ الفكري الذي تعيش فيه الأمة العربية اليوم، فإذا قلنا عنها إنها بظواهر كهذه تعيش «في» عصرها هذا، لكنها لا «تعيشه» كما نضع جائعًا محرومًا «في» قصر من قصور الأغنياء، لكنه لا يحيا حياة القصر شبعًا وريًّا، وأسوق مثلًا من نوع آخر، ما حدثني به زميل فاضل مشهود له بسعة علمه في مجال تخصصه، ومجاله هو علم النفس، فقد أنبأني بأنه كان قد أجرى بحثًا إحصائيًّا في موضوع معين، وكانت العمليات الإحصائية فيه قد اقتضت منه ساعات تعد بالعشرات (بل لعله قال لي إنها أيام العمل الطويلة — لا الساعات — هي التي كانت تُعد بالعشرات) ثم شاءت له المصادفة أن يسافر في مهمة علمية إلى إحدى الجامعات البريطانية، واصطحب معه بحثه ذاك، فلما اطَّلع عليه أستاذ هناك، وعلم من صاحبنا مقدار ما كلفه بحثه من جهد، قال له: لو أنك أجريت هذه العمليات الإحصائية على حاسب إلكتروني لأنجزته كله في نصف الساعة (وكانت الحاسبات الإلكترونية في أوائل عهدها)، فإذا قلنا إن الطريق التي أدى بها صاحبنا ما أداه يمكن اتخاذها مؤشرًا يدل على نوع المناخ العلمي الذي يعيش فيه العلماء في مصر إذ ذاك، فهل تخطئ خطأً يصل بنا إلى حد الحياة الضالة في أوهامها، إذا نحن قلنا إن حياتنا العلمية عندئذٍ كانت «في» العصر، ولكنها لم تكن تحياه؟
وننتقل من الخاص إلى العام، ونسأل: بماذا تتمايز العصور المتعاقبة في التاريخ؟ لا سيما إذا كان ما نؤرخ له هو الحياة الفكرية؟ الجواب الذي لا أظنه موضع شك هو أن مجموعة من أفكار أساسية في حياة الناس قد استنفدت طاقاتها في إدارة عجلة الحياة، لكثرة ما راكمته الأعوام من ظروف مستحدثة وطارئة، فكان لا بد أن تفرز عقول موهوبة مجموعة أخرى من أفكار تكون أكثر صلاحية لمواجهة الحياة بوجهها الجديد، وعندئذٍ يسدل الستار على عصر ذهب وولَّى، وينفتح عن عصر جديد، وقد لا أكون موفقًا في استخدام صورة الستار ينسدل على عصر ويرتفع على عصر؛ لأن الفاصل بين عصرين هو في الحقيقة أقرب إلى هامش عريض، تتداخل فيه رواسب القديم وبشائر الجديد، قبل أن تخلو الساحة للجديد خالصًا وحده من بقايا سلفه الذي تولَّى وذهب ليبقى في ذمة التاريخ.
وخذ مثلًا لذلك الأمة العربية نفسها، التي هي في الحقيقة مدار حديثنا ومحور اهتمامنا، فلقد كانت خلال القرن الثامن عشر وما قبله، رجوعًا حتى القرن السادس عشر، قد استقرت على حياة فكرية لا يقلق روادها أن يكونوا مجرد حفَّاظ وشرَّاح لما هو قديم، فلما فتحت أبوابها لطلائع العصر الجديد آتية إليها من الغرب، منذ أوائل القرن الماضي، أخذت تتقبل الوافد إليها في حذر شديد، فلا تخطو إليه بخطوات جريئة سريعة، بل غلب عليها أن تتلقاه متحركًا هو نحوها، وهي تكاد تظل في مكانها، وشيئًا فشيئًا، كلما تبين لها أن الوافد الأجنبي إنما يحمل معه مما يحمل لها ضروبًا من المشكلات التي لم تكن لتجد حلًّا عندها، كأدوات القوة العسكرية، ووسائل المعالجة الطبية، وغيرها وغيرها، مدت يدها لتأخذ. إلا أن المأخوذ اليوم على كثرته لم يكن كافيًا بعد لتنقلها من عصر ذهب إلى عصر يجيء، وهي لا تزال حتى اليوم تحيا في ذلك الهامش العريض، الذي تختلط فيه رواسب الماضي ببشائر العصر الجديد، ولعل ما أبطأ حركة الانتقال، هو إصرارها إلى اليوم على أن تأخذ ثمرات العصر جاهزة من أيدي أصحابه ونرفض أن نتشرب وجهة النظر التي من شأن صاحبها أن ينتج بها وفي ظلها تلك الثمرات بأشجار تنمو بجهده وفي أرضه.
العصر الجديد جديد بأفكاره، لا بعقارب الساعات وما تشير إليه، فالساعات حول معاصمنا تواقت الساعات التي تدور حول معاصم أبناء العصر الجديد إبداعًا وإنتاجًا واتجاهًا بالفكر وبالشعور، نحو علم جديد وفن جديد، ويحسن بنا الآن أن نذكر هنا أطرافًا من الأفكار الأساسية التي صنعت مناخ الحياة في أوروبا وأمريكا، فأصبح الناس بها يحيون في عصر جديد، وهي نفسها الأفكار التي جاءت إلينا، فانقسمنا حيالها ثلاثة أقسام، ذكرناها فيما أسلفناه. أغلبية تلوي أعناقها نحو الماضي، رافضةً لتلك الأفكار، وهذا الرفض منها لا يتنافى مع كونها تسمح لأبنائها أن تتلقى تلك الأفكار في المعاهد والجامعات لأنه — كما نعلم — ضرب من التلقي لا يجعل الفكرة المكسوبة ملكًا لحافظها؛ لأنه يأخذها حفظًا، ولا يتشرب المنهج الكامن وراءها، فيخرج بمحفوظات معلبة ولا يخرج برؤية جديدة تتغير بها حياته من جذورها، تلك هي الأغلبية من جمهورنا، تقابله أقلية تتلقى تلك الأفكار وكأنها وحي من السماء يؤخذ إيمانًا وعبادة، ولا يؤخذ نقدًا وتحليلًا وتعديلًا، وفئة ثالثة هي التي تهتدي بفطرتها إلى جادة الطريق، فتتلقى أفكار العصر لتعجنها عجنًا مع أصولنا التي أسميناها فيما أسلفناه بالثوابت، كالعقيدة واللغة والقيم الأخلاقية التي تحرض حاملها على ألا يضحي بإنسانية الإنسان لأي سبب من الأسباب، تلك هي الأقسام التي تشعبنا بها حيال الأفكار التي صنعت عصرنا، وسبيلنا الآن إلى ذكر بعضها وأهمها.
إذا وجهنا النظر إلى أي عصر من عصور التاريخ، مستهدفين التقاط الأفكار الأساسية التي هي لذلك العصر بمثابة الأقطاب التي تدور حولها أرجاء النشاط البشري بكل صنوفه، فإنه لا يجدينا كثيرًا أن نأخذ في تعقب تلك الأفكار واحدة واحدة؛ لأنها قد تتعدد إلى الحد الذي تستعصي معه الإحاطة بما هنالك، وإنما الجدوى في هذا السبيل تصبح ميسورة التحقيق، إذا نحن اتجهنا بالبحث نحو ما يمكن أن يكون الجذع الذي تنبثق منه الفروع، أو إن شئت فقل إننا نبحث عن الينبوع الرئيسي الذي منه تتدفق الروافد والجداول والقنوات، وذلك لأن كل عصر في التاريخ الفكري قد اتكأ في أوجه نشاطه برغم كثرتها على مبدأ أساسي واحد، ومن ذلك المبدأ الواحد تأتي مجموعة القواعد التي تنظم السير بالفكر أو بالسلوك، في الاتجاهات التي تتسق مع العصر القائم وظروفه، فإذا ما حدث في الحياة ما لم يعد يتلاءم مع ذلك المبدأ وما يتفرع عنه، تغير المبدأ، وبهذا يكون الناس على مشارف عصر جديد.
فالأجدر بنا — إذن — ألا نوزع انتباهنا بين أشتات الأفكار الفرعية التي تسود عصرنا وتعطيه طابعه الخاص، بل الأجدر بنا هو البحث عن «المبدأ» المحوري الذي هو الأساس الذي تفرعت منه سائر الأفكار الصغرى، وها هنا قد يحدث اختلاف في الرأي عما يصح أن يكون «مبدأً» لهذا العصر القائم، ولكنه عندئذٍ يكون اختلافًا في عملية التحليل النظري، الذي يرد الكثرة الظاهرة إلى ما يجمعها ويوحدها، وأما وجهة النظر التي أؤيدها دون سواها في هذا الصدد، فهي أن «المبدأ» الذي جاء ليجعل عصرنا هذا عصرًا قائمًا بذاته، إنما هو النظر إلى كل شيء بما في ذلك الكائنات الحية على اختلافها، بل بما في ذلك أيضًا الكون من حيث هو وجود شامل لكل ما هنالك. أقول إن مبدأ عصرنا هو النظر إلى كل شيء، لا على أنه ذو جوهر ثابت ودائم، بل على أنه «تاريخ»، ومعنى «تاريخ» هو أن كل شيء هو سلسلة من لحظات، له في كل لحظة حالة متميزة بصفاتها. فإذا سألتني عن أي إنسان، أو شجرة، أو مدينة، أو أسرة، أو ما شئت أن تسأل عنه: ما هو، وما حقيقته؟ كان الجواب الصحيح إذا أردناه، هو أن أقص عليك «تاريخ» الشيء الذي تسأل عن هويته وحقيقته، أي إن الجواب الصحيح هو أن نتعقب لحظات الزمن المتعاقبة، التي هي هي نفسها وجود الشيء موضع السؤال، لنرى ما حدث فيها من تحولات لحظة بعد لحظة، فإذا كان ذلك عسير التحقيق من الوجهة العملية، فلا أقل من أن نكتفي باللحظات البارزة في سير التحول، وأيًّا ما كان الأمر، فالصواب هو أن تتصور أي شيء تريد أن تراه على حقيقته، أن تتصوره في إطار تحولاته وتغيراته، وليس كما كانت طريقة النظر فيما سبق، وهو تصور الأشياء وشتى الكائنات على أن الشيء منها أو الكائن هو كالحقيقة الرياضية لا تتغير، فقد كانت في ماضيها كما هي كائنة الآن، وكما سوف تكون غدًا، وحتى الكون في مجموعه — من حيث هو كيان موحد — يقول عنه علم عصرنا إنه في اتساع مستمر، فهو إذن في هذه الحقبة الزمنية غير ما كان عليه، وغير ما سوف يكون عليه، من حيث الاتساع وما يترتب على الاتساع من نتائج، على أن سؤالًا يرد هنا ويلح حتى يكون له جواب مقنع وهو: إذا سالت بين أيدينا حقائق الأشياء هكذا، ليصبح كل شيء منها وكأنه سيرة تنتقل من لحظة بما فيها إلى لحظة أخرى بما فيها، وهكذا، فأين نجد «الهوية» الثابتة لأي كائن، بحيث نتمكن من الحديث عنه والإشارة إليه؟ فيجيء جواب ذلك قائلًا: إن تلك الهوية التي تميز كائنًا من كائن إنما هي في «العلاقات» الرابطة بين اللحظات المتعاقبة، وإنه لفي حكم المستحيل — رياضيًّا — أن يتشابه خطان تشابهًا كاملًا.
ذلك هو مبدأ النظر في عصرنا، وهو بمثابة الأساس العميق الذي بنيت عليه التصورات الجديدة في كل الميادين، بما في ذلك «العلوم» نفسها، في أطرها الجديدة، وحسبنا من هذا كله، إذا أردنا أن نعيش عصرنا في روحه التي تميزه، أن ننظر إلى «التغيير» لا على أنه صفة طارئة على ما هو كائن وقائم؛ بحيث نسأل: لماذا تغير هذا أو تغير ذاك من أوضاع حياتنا؟ بل أن نجعل سكون الأوضاع على حالة بعينها، دون أن يطرأ عليها تغير يستوجبه مر الزمن، هو الشذوذ الذي يستدعي منا السؤال: ما الذي حدث لهذا الشيء أو ذاك، فسكن وجمد على حالة واحدة، وكان ينبغي له أن يتغير؟
فالذين يتساءلوا، وكان في تساؤل بعضهم نبرة ساخرة، قائلين: كيف يُعقل أن يعيش إنسان في هذا العصر، ثم نقول عنه إنه ليس معاصرًا، إلى هؤلاء نقول: إن معنى «العصر» هو أفكاره ومبادئه التي تسوده، وليس معناه مجرد وجود زمني يُقاس بأعوامه وشهوره ودقائقه وثوانيه، وعلى هذه الخلفية الفكرية التي هي «العصر» تجيء مطالبة الناس بأن يكونوا مبدعين لا تابعين.