وهكذا انسابت خواطري
عن الحرية النزيهة أتحدث
كانت الساعة في قلب الضحى، وكنت فيها أهدأ ما يكون إنسان! نوافذ الغرفة زجاجها مزدوج، فلا أسمع إلا همهمة خفيفة من صخب الطريق. كانت السحب قد أفرغت ماءَها، فراقت السماء وشفَّ الهواء وامتدت الرؤية خلال زجاج النافذة إلى أقصى مداها. جلست مسترخيًا لا أفكِّر في شيء، بل ولا أريد لشيء أن يشغلني فأفكر فيه، فلقد جئت هنا لأستريح، أحسست في جلستي تلك كأنني وعي صافٍ مجرد لا يستند إلى بدن؛ إذ تحولت بانتباهي إلى باطن نفسي عندئذٍ، لم أكن أرى سابحًا على تيار ذلك الوعي الصافي، سوى ما يشبه البقايا التي تخلفها وراءها عاصفة عاتية، ولقد كانت بالفعل عاصفة هوجاء ظالمة، لا عقل فيها ولا عدل، تلك التي مرت فطفت في تيار الوعي تلك البقايا.
كنت منذ ساعة واحدة، قبل تلك الجلسة المسترخية الهادئة، قد هممت بالكتابة عن فكرة ألحَّت وتريد أن أعبر بها البرزخ الحاجز بين الداخل والخارج، ولكني شعرت بالقلم يثقل حمله بين أصابعي، وكانت علة ذلك أني رأيت تلك البقايا السابحة على تيار الوعي في جوفي، فهي التي حملتني عندئذٍ على أن أسائل نفسي: أتكتب لمن يوشكون أن يطالبوك بأن تُقسم لهم بأن السماء تكون زرقاء إذا صفت، وبأن في البحر ماء يضطرب بالموج إذا هبَّت الريح؟ أتكتب لمن جعلوا قلة الأدب برهانًا على قوة الإيمان؟ لكني لم ألبث إلا دقائق حتى هدأت النفس واطمأن الفؤاد، فقد كان الشاتمون في غير أدبٍ، وكان المعتدون في غير حق ولا عدل، هم أهلي، ولا حيلة لي في أهل بيني وبينهم صلات الرحم.
وفي أثر ذلك كانت تلك الجلسة المسترخية الهادئة، ومددت يدي إلى منضدة صغيرة بجانب مقعدي، والتقطت مذياعًا أصغر حجمًا من الكف، وأدرت ترسه الصغير في أعلاه، فإذا بحديث لمتحدث يحسن صياغة الكلمات، ويجيد النطق إجادةً تستبد بالسمع، فلا تستطيع لنفسك فرارًا إذا أردت الفرار، وكان الحديث لمراسل الإذاعة في كوريا الجنوبية، يصف للسامعين ما قد بلغته كوريا من تقدم في علوم العصر وصناعته، حتى لقد باتت منافِسة خطيرة، فهي إن لم تكن يابان أخرى، فهي بغير شك توشك أن تكون.
أعدت المذياع الصغير إلى حيث كان، ومررت بأصابعي على جبهة أخذت تند بالعرق الخفيف برغم هبوط الدرجة في حرارة الصيف، وذهب الهدوء عن النفس الهادئة، ولم يعد الفؤاد على طمأنينته التي كانت، وخرجت من شفتي آهة حزينة، يتبعها صوت يتعجب وهو يقول: كوريا! كوريا! لقد تعجبنا بالأمس أن يُقال لنا عن اليابان وتقدمها ما يقال، ثم ألفنا أن تكون اليابان في طليعة الطليعة من دول العالم القوية الغنية العالمة المبدعة الصانعة، ثم تعجبنا بعدها أن يُقال عن الصين وتقدمها، وهي التي ترزح أرضها تحت عدد من أبنائها زاد عن ألف مليون، ونحن الآن على وشك أن نألف أن تكون الصين قوة جبارة لا يجرؤ أحد على الاستهانة بها، ولكن كوريا! من الذي يستبعد بعد الآن أن يكون دور الجنس الأصفر في حمل مشعل الريادة في حضارة الإنسان الحديث قد دنا؟
وأنتِ يا مصر، أين أنتِ في معمعة الريادة الحضارية يا مصر؟ ألم يطرق العصر الجديد أبوابك منذ مائة وثمانين عامًا؟ لقد فُتحت له الأبواب مرحبةً به، قبل أن تفعل اليابان ذلك بثمانين عامًا، بل قبل أن تفعل ذلك روسيا! وقبل أن تحلم الصين مجرد الحلم أن تفعل ذلك، وها هي ذي كوريا تكاد تلحق بأختيها، وكأن نبوءة بسمارك قد اقتربت من التحقيق، إذ تنبأ — منذرًا — وهو على فراش مرضه الأخير، قائلًا لمن حوله: حذار من الجنس الأصفر، فهو على حافة اليقظة والوثوب!
وأنتِ يا مصر! افتحي صحائف التاريخ واقرئي، إن كنت قد نسيت، اقرئي لتعلمي أنه ما من حضارة شهدها التاريخ — قبل حضارة عصرنا هذا — إلا وكنت أنت منها في مكان الريادة، إنني إذ أقول ذلك أعرف معنى ما أقول، فحتى بعد أن ذهبت عنك ريادة المبدع الأصيل بذهاب العصور الفرعونية — ولا يغيبنَّ عنك أن مداها في ذلك الإبداع الأصيل قد بلغ أربعين قرنًا في أقل تقدير، بينما عصر الإبداع في الغرب الحديث مدته أربعة قرون — أقول إنه حتى بعد أن ذهبت عنك ريادة الإبداع الأصيل، فقد كان دأبك بعد ذلك أن تجيء إليك من خارجك ثقافة وحضارتها، فلا تلبثين طويلًا حتى تتمثلي هذا الذي جاء إليك من خارج حدودك، لا لتكوني بهذا التمثل واحدة من الأتباع؛ بل إنك لتتمثلينه لتصبحي فيه الطليعة الرائدة، وهذا هو المعنى الحقيقي للعبارة التي نكررها بصدق، وأعني القول بأن مصر كانت دائمًا مقبرة لغزاتها، إنها لم تكن لهؤلاء الغزاة مقبرة بمعنى أنها تقاتلهم فتقتلهم فتقبرهم تحت ترابها، بل كانت مقبرة لهم بمعنى أنها تسود في ثقافتهم وفي حضارتهم، حتى أصبحت تشق الطريق أمامهم وهو يتبعون.
سقطت شعلة الفكر من أيدي اليونان القديمة، فالتقطتها الإسكندرية، لا لتحاكي ما قد أخذته محاكاة الولد لوالده، أو محاكاة التلميذ لأستاذه؛ بل لتتمثله ثم تضيف إليه من روحها، فإذا هو نتاج جديد لم تشهد له الدنيا مثيلًا قبل ذلك، فما هو ذلك الذي التقطته الإسكندرية من اليونان؟ كان في الأساس علومًا وفلسفة، فإذا بجامعة الإسكندرية يومئذٍ تدفع إلى الأمام ما تلقته من العلوم «العلوم الرياضية منها بوجه خاص»، ثم تنفث في الفلسفة المنقولة روحًا دينية من روحها التي تدينت منذ فجر الزمان، وإذا بالناتج ضرب من فلسفة متصوفة لها طرازها الفريد، وهي التي اغترف منها العرب بعد ذلك إبَّان مجدهم ما اغترفوا، غير أنهم كانوا على ظن بأنهم إنما يغترفون من إناء اليونان، ولم يفرقوا في وضوح بين ما كان مصدره اليونان، وما كان مصدره مصر.
ولك أن تزور زيارة فاحصة لمتحف الفن اليوناني الروماني بالإسكندرية، لترى كم كانت مصر في فترة الحكم اليوناني الروماني، مبدعةً في إطار ما قد وفد إليها من الغزاة، وجاء بعد ذلك العصر المسيحي في مصر، وكما هي العادة دائمًا مع الديانات، يبدأ الأمر بإيمان مطلق، لا يريد أن يقف من موضوع إيمانه موقف التحليل الذي كثيرًا ما ينتهي بأصحابه إلى التشعب في مذاهب مختلفة، ثم تذهب مرحلة الإيمان المطلق هذه لتليها مرحلة التحليل والتمذهب، فلما جاءت هذه المرحلة الثانية وحدث فيها اختلاف في التأويل ووجهة النظر، بين مصر وغيرها، كان للمسيحي المصري وجهة نظره التي تميَّزت بما تميَّزت به مصر دائمًا، على تعاقب عصورها، واختلاف المجالات والمواقف، وأعني روح الاعتدال.
وجاءها الإسلام، فأسلمت، وتعربت مع إسلامها، أعني أنها استبدلت بلغتها اللغةَ العربية، ولنتذكر أنه ليس كل من أسلم تعرَّب في لغته كذلك، فهناك من البلاد الإسلامية التي لم تغيِّر لسانها. أمثلة كثيرة: تركيا، وإيران، وباكستان، وإندونيسيا، وكثير من الأقطار الأفريقية. ولقد أراد الله بالإسلام وباللغة العربية خيرًا، حين أسلمت مصر وحين تعرَّبت؛ إذ أصبحت مصر على امتداد تاريخها بعد ذلك هي الحصن وهي المنارة، التي لا ينازعها في ذلك منازع، ونحن إذ نقول اليوم في أحاديثنا العابرة شيئًا عن «التراث» الإسلامي والعربي، فإنما نشير بهذا القول — في الحقيقة — إلى تلك الجهود الجبارة، التي اضطلع بها علماء مصر من رجال الأزهر الشريف؛ إذ إليهم يرجع جزء كبير من الفضل في التجميع والترتيب والتبويب، فيما لو تُرك بغير تلك العناية لتبعثرت أجزاؤه، ولما عرفت في وضوح إلى أي شيء تشير وأنت تتحدث عن «التراث».
هكذا يا مصر كان دورك الريادي في عصورك المبدعة الأولى أولًا، ثم فيما جاء إليك من خارج حدودك، إلا هذه المرحلة الأخيرة يا مصر! فلقد فُتحت أبوابك في بداية القرن الماضي — منذ مائة وثمانين عامًا — مستقبلة لثقافة جديدة تولدت عن حضارة جديدة وصحيح أنك ما لبثت إلا مدة لم تطل أكثر من ثلث القرن، حتى بدأت تعبِّين من ذلك الجديد عبًّا: تُرسلين البعثات إلى الغرب، وتستقدمين العلماء من الغرب، وتُقرنين ذلك بالترجمة عن الغرب جنبًا إلى جنب مع ما تحبينه من تراثك الإسلامي والعربي، وأخذت الثمرة من ذلك كله تتفتح زهورها، وتزداد نضجًا عقدًا من السنين بعد عقد، فكان ما رأيناه من ثورات تلاحقت، كلها يطلب الحرية، ثم يطلب مزيدًا منها، ثم يطلب مزيدًا من المزيد: ثورات أحمد عرابي، وسعد زغلول، وجمال عبد الناصر.
وكذلك كان ما رأيناه من طموح في ميادين التعليم، والأدب، والفن، والاقتصاد، والصناعة، وغيرها، وإنه ليستحيل على المتتبع للحياة المصرية منذ أواخر القرن الماضي، وإلى أن قامت ثورة ١٩٥٢م وما بعد قيامها بنحو عشرين عامًا ألا يشهد في معظم الميادين خطوات تخطو بنا إلى أمام، ولا بد لنا عند كلمة «أمام» هذه من السؤال: ماذا نعني عندما نزعم في مجال معين أننا نسير فيه إلى «الأمام»؟ ولست أجد إجابة مقنعة عن هذا السؤال، إلا أن نقول إن الحركة إنما تكون متجهةً إلى أمام إذا هي تحركت نحو صيغة من الحياة اندمج فيها التراث مع الوافد الجديد من حضارة العصر وثقافته، اندماجًا يعطيه مذاقًا فريدًا نستطيع معه أن نقول هذه هي مصر المعاصرة.
كانت الحركة إذن تسير بنا إلى «الأمام» — بالمعنى الذي حددناه لهذه الكلمة — حتى أوائل الخمسينيات وخلال الستينيات كذلك، مع شيء من النقص ساير تلك الحركة طوال الطريق، وهو أننا فيما كنَّا نأخذه عن الغرب كنَّا نقطف الثمار جاهزة، دون أن نعنى بأن نبث في عقولنا روح «المنهج» الذي أدى بأصحابه في الغرب إلى إنتاج ما أنتجوه، فنتج عن ذلك أن لبثنا نأخذ دون أن نكتسب القدرة على العطاء لما هو مصري أصيل في دنيا العلم وما ينتج عنها من صناعات ومهارات.
لكننا مع هذا النقص الذي تحفظنا فذكرناه كنَّا نسير إلى «الأمام» بصفة عامة، إلى أن حلَّت بنا هزيمة ١٩٦٧م، فأصبحنا حتى اليوم شيئًا آخر، وهو موقف يتطلب منَّا في تحليله ومعالجته كل ما في قلوبنا وصدورنا من نزاهة وإخلاص، وإنه لمن الطبيعي الذي لا يثير سؤالًا، أن يتصرف المهزوم بما يتناسب مع هزيمته، وذلك بأن ينكمش ويكمن، لائذًا بالعناصر القوية في مقومات شخصيته، فيجترها حتى تقوى رجلاه على حمله من جديد، والأغلب في هذه الحالة أن يلتمس مصادر القوة في ماضيه، فمن أبطال الماضي يعيد إلى نفسه الإحساس بالبطولة، ومن مجد الماضي يحفز ملكاته لإعادة ذلك المجد، ومن هنا لم يكن أحد ليدهش في أثر الهزيمة أن يرى اتجاهًا قويًّا نحو الاحتماء في السلف، حتى لا نظن في أنفسنا أننا ممن جاءوا تحت سقيفة التاريخ الحضاري بمحض مصادفة عابرة.
فالموجة السلفية — إذن — كان لها ما يبررها في أثر هزيمة ١٩٦٧م، لكن الذي يرفع أمامنا علامات استفهام هو — أولًا — لماذا لم يكن لانتصارنا في حرب ١٩٧٣م ما يردُّ عنَّا الشعور بالهزيمة وما قد ترتَّب عليه من آثار؛ إذ جاءنا ذلك النصر وذهب، لتعود روح الهزيمة إلى نفوسنا حيث كانت. و— ثانيًا — (وهو الأهم) لماذا نعيش الهزيمة النفسية بالكلام والكتابة، ولا نعيشها في حياتنا العملية بنفس المقدار؟ بعبارة أخرى: ما هي العلاقة بين الهزيمة وأثرها من جهة، ومن جهة أخرى هذه الازدواجية الرهيبة التي تشقُّ حياتنا شطرين: جعجعة متشنجة باللسان وبالقلم، تصرخ صراخ الهوس منادية بالعودة إلى حياة السلف حرفًا بحرف، كما وردت فيما تركه لنا ذلك السلف من توجيهات في طريقة العيش، بل وفي طريقة التفكير ذاتها؟ إنه لمن حسن الحظ (في هذه الحالة) أن نتكلم ونكتب في ناحية، وأن ننشط ونسلك من ناحية أخرى، فنحن — بحمد الله — ماضون في البناء الحضاري بقدر مستطاعنا، نقيم المصانع على أحدث طراز، وندخل الميكنة في الزراعة، ونُعد للكهرباء مصادرها المختلفة من مساقط الماء إلى المحطات، ونسلح قواتنا العسكرية بأكثر الأسلحة تقدمًا وهكذا وهكذا. ثم ترى أشد الدعاة إلى العودة السلفية تحمسًا يحيا هو نفسه من أول حياته اليومية إلى آخرها، مستعينًا ومستمتعًا بما أنتجته حضارة الغرب، فها هو ذلك المسئول الكبير، الذي تقدم بمذكرة رسمية إلى هيئة رسمية، يقول بين ما يقوله فيها إنه يطالب بالزيادة في تحفيظ شبابنا القرآن الكريم؛ ليستطيعوا مقاومة الحضارة القائمة. مفارقةً تستوقف النظر، فالقلم الذي كتب به المسئول الكبير مذكرته أنتجته الحضارة القائمة، والمطبعة التي طبعت له المذكرة صنعتها الحضارة القائمة، ومكبر الصوت الذي تحدث أمامه المسئول الكبير ليسمع الحاضرون قوله هو كذلك من إنتاج الحضارة القائمة، والمصابيح الكهربائية التي تومض بأضوائها في سقف القاعة لتمكِّنه من قراءة مذكرته، هي مما اخترعته الحضارة القائمة، والسيارة التي انتقل بها سيادته من مكتبه إلى مكان الاجتماع أمدَّته بها الحضارة القائمة، والله أعلم بمن نسج له قماش ثيابه التي يرتديها، فهي حتى لو كانت صناعة مصرية، فهي إنما صنعت بآلات اشتريناها من أصحاب الحضارة القائمة. وإنه لفخر لنا أن نتابع حضارة العصر في إنتاجها، فبأي معنًى — إذن — وفي أي جانب من جوانب الحضارة القائمة يريد المسئول الكبير لحافظ القرآن الكريم أن يقاوم تلك الحضارة؟ ولماذا يقاومها؟ ألم يكن الأصوب أن نحمل حافظ القرآن على التزود بقوته ليتمكن من المشاركة في البناء الحضاري، حتى لا نظل إلى الأبد عالة على أصحابها؟
نعم، كان من الطبيعي بعد الهزيمة أن نكمن في ركن من أركان ماضينا المجيد حتى نستعيد قوانا، ونسترجع الثقة في أنفسنا، لكنه أبعد ما يكون عن الطبيعي أن نستطيب الإقامة في ذلك الركن، فنرقد بين جدرانه رقدة الموت.
أليس من الحكمة أن نستعرض في هدوء عاقل ما صنعته بلاد «الجنس الأصفر» اليابان أولًا، فالصين ثانيًا، فكوريا ثالثًا، وقد يكون هنالك غيرها من ذلك الجنس الأصفر تقدم بمثل ما تقدمت به الثلاثة المذكورة، أقول: أليس من الحكمة أن ندرس في أناة وموضوعية ونزاهة، ما صنعته تلك البلاد لتنهض ذلك النهوض القوي، مما لم نصنع نحن مثله فلم نتقدم بمثل ما تقدموا؟ لتكن نتائج هذا ما تكون، لكني أُرجِّح أن يكون من أهم تلك النتائج أن أبناء الجنس الأصفر لم يقعوا في مثل الازدواجية المخيفة التي وقعنا فيها نحن، فالكلام والكتابة في ناحية، والحياة العملية في ناحية أخرى. وقد يسألني سائل قائلًا: وماذا يُضيرك فيما نقوله وما نكتبه، ما دامت حياتنا العملية تسير في إنشاءاتها ومشروعاتها في الطريق الذي تريد لنا أن نسير فيه؟
الإجابة عن هذا السؤال لها شقان: أولهما أن هؤلاء الذين يتكلمون ويكتبون في اتجاه مضاد للتاريخ إنما هم في الحقيقة من صفوة من أنفقت مصر على تعليمهم ما أنفقت، فلو أنهم تكلموا وكتبوا في الاتجاه الحضاري، لكنَّا بمثابة من استثمر المال الذي أنفقناه في تعليمهم؛ لأنهم كانوا سيصبحون قوة دافعة إلى الأمام، بدل أن يكونوا كما هم الآن قوة تسير إلى الوراء فتؤدي إلى «فرملة» السرعة التي كنَّا نتمنى أن نتقدم بها، وأما الشق الثاني من الإجابة فهو أن هؤلاء الألوف ممن يعيشون على دعوتهم الرجعية، كان يمكن أن يكونوا هم أنفسهم من البناة الذين يشيدون المنشآت الحضارية، فهم على كلا الشقين قوة مهدرة على أقل تقدير، إن لم يكونوا إلى جانب ذلك قوة معرقلة، ولك أن تضيف إلى شقي الإجابة المذكورين أن تلك الفئة الكبيرة التي تنفق حياتها في كلام وكتابة لا يعينان أحدًا على عمل إيجابي، نشيد به مسكنًا، أو نخبز به رغيفًا من الخبز أو ننسج به ثوبًا. أقول إن تلك الفئة بما تقوله وتكتبه قد تؤثر في بعض شبابنا تأثيرًا هدَّامًا كهؤلاء الشباب الذين يبلغ بهم التطرف حدودًا نعرفها جميعًا، وننكرها جميعًا، ونقيم لها في وسائل الإعلام ندوات بعد ندوات، لعلنا نفلح في أن نمحو من أذهانهم ما كنَّا نحن أنفسنا الذين حفرناه في أذهانهم بما قلناه وما كتبناه.
وماذا تقول في فئة من خيرة أعلامنا وهم يشغلون أنفسهم في وسائل الإعلام على اختلافها، بمسائل كهذه: من الذي يشفي المريض أهو الله سبحانه وتعالى أم الطبيب ودواؤه؟ من الذي انتصر في حرب ١٩٧٣م، أهي قواتنا المسلحة وحدها، أم ساعدتهم على هذا النصر كائنات من الغيب المجهول؟ ما الذي أدَّى بالطالب المتفوق أن يتفوق، أهو جهده فقط أم كان هناك فوق جهده ما ليس يدريه؟ قل لي: بأي انطباع يخرج القارئ أو السامع لهذه الأمثلة والمناقشات التي تدور حولها؟ أليس من المحتمل أن يؤثر ذلك فيمن هو ضيق الأفق بطبعه، ضعيف الإرادة بطبعه، إلى أن يترك حياته كالسائمة السائبة في الفلاة لا تعرف اتجاهًا لسيرها، ولا هدفًا تسعى إلى بلوغه، وأحب هنا أن أكون واضحًا، حتى لا يُسيء الفهم من يسيء عن عمد أو عن غفلة، فاعتراضي ليس منصبًّا على مشيئة الله سبحانه وتعالى، ولا على العوامل التي تعمل على أن نُوفَّق أو لا نُوفَّق في حياتنا، ولكن اعتراضي منصبٌّ على أن نجعل هذه الأمور موضوعًا للسؤال والحيرة، فالمطلوب من الإنسان أن يحيا بكل جهده وبكل قدراته. وفوق ذلك يكون من مشيئة الله سبحانه وتعالى ما يشاؤه نتقبله مؤمنين. وإلا فليقل لي من يبلبلون أذهان شبابنا بأمثال هذه المسائل: على أي صورة يتغير سلوك المريض، إذا أقمت أمامه السؤال الأول فيما ذكرناه؟ أيذهب إلى الطبيب ويترشد بتوجيهه أم ينصرف عنه؟ فإذا كان الجواب هو أنه يجب أن يعرض حالته على الطبيب؛ فماذا إذن يغير منه أن تثار أمامه مشكلة كالتي ذكرناه؟ وأمثال ذلك كثير في وسائلنا الإعلامية، وعلى ألسنة أعلام من أعلامنا وبأقلامهم، فانظر إلى هذا الجهد الذي يبذلونه وهم لا يريدون لأحد أن يغير من سلوكه شيئًا على ضوء ما يسمعه أو يقرؤه.
وهكذا انسابت خواطري، فعدت إلى قلمي الذي تركته غاضبًا، حين قد ثقل بين أصابعي، فأجريته ليخط على الورق هذا الذي أثاره عندي ما سمعته في المذياع الصغير عن كوريا ونهضتها، مما لم أكن أعلم منه إلا أقل من القليل.