شرح وتشريح
عن حرية التفكير الجريحة أتحدث
إنني أوثر ألا أصل إلى بغيتي بأقصر الطرق؛ لأنني لو فعلت ذلك لأضعت على نفسي وعلى القارئ معالم هامة أريد لها أن تكون موضع السمع والبصر؛ ولذلك سأصحب القارئ في خط دائري يدور حول موضوع الحديث، قبل أن نمسَّه مسًّا مباشرًا. وأما هذا الخط الدائري الذي أعنيه فهو لمحات من المنهج العلمي؛ لأني أرى في تلك اللمحات مُعينًا قويًّا على مواجهة الموضوع الذي هو هدف الحديث.
أما اللمحة المنهجية الأولى فهي أن نتبين أوضح ما يكون التبيُّن وأقواه، بأن أي لفظ من ألفاظ اللغة التي تستخدمها فيما تقول وما تكتب، ليس هو «الشيء» الذي جاء ذلك اللفظ ليعنيه، أي ليشير إليه، أو لينوب عنه؟ فلفظة «كرسي» ليست هي الكرسي الشيء الذي تجلس عليه، وكلمة «لحم» ليس فيها شيء من البروتين الحيواني الذي يتغذى به الجسم؟ وكلمة «أسد» لا تزأر ولا تفترس، إن أية كلمة منطوقة إنما هي موجات الهواء تلفظها الشفتان عند مرسلها، وتتلقاها الأذن عند سامعها.
وأية كلمة مكتوبة إن هي إلا قطرةٌ من مداد جفَّت على الورق، ذلك إذا كان كاتبها قد استخدم لها قلم الحبر والورق.
لكن ألفاظ اللغة تلك ليست هي كل شيء، إنما هي «رموز» اصطلح عليها أصحابها، لتنوب كل منها عن الشيء الذي أُريد لها أن تنوب عنه، وذلك لاستحالة أن نقدِّم — بعضنا إلى بعض — الأشياء نفسها عند التفاهم، فليس بوسعي أن أقدم لك فيلًا كلما أردت أن أحدثك بشيء عن الفيل، فتواضعنا أنت وأنا على أن تنوب هذه اللفظة عنه، ليتم بيننا الحديث الذي أردناه. على أن من الألفاظ ما صنعناه لا ليدل على شيء بعينه، بل ليدل على «علاقة» قائمة بين أشياء، مثل كلمة «بين» التي ذكرتها لتوي! فإذا قلت لسامعي: إن مدينة المنيا تقع بين القاهرة وأسيوط؛ كان الموجود القائم على أرض الطبيعة ثلاث مدن، هي المذكورة في الجملة، وأما «بين» فليست تشير إلى «شيء» بل تشير إلى علاقة معينة تربط الأشياء على صورة محددة، وإذا أعدت النظر إلى الجملة المذكورة، وجدت كلمات أخرى لا تسمي أشياء، بل تشير إلى علاقات تصل الأشياء بعضها ببعض، أو تصل الأشياء بالمتكلم نفسه، وشرح ذلك يطول، ولكن يكفينا عن «حرية التفكير»، ولكي أقيم الحديث عن أرض في صلابة الحديد، صممت على أن أشرك القارئ معي في «منهج» التناول ومحور المنهج هنا هو أن تقف عند العبارة نفسها أولًا، أعني العبارة التي جعلناها موضوعًا لحديثنا؛ إذ ما جدوى أن نتحدث قبل أن نتفق، بادئ ذي بدء، على حقيقة ما أردنا أن ندير حوله الحديث، فالعبارة المشار إليها مؤلفة من لفظتين: «حرية» و«تفكير»، على أن اللفظتين لم نُرد لهما أن تكونا مستقلتين إحداهما عن الأخرى، بل أضفنا إحداهما إلى الأخرى، والمضاف إليه هو «التفكير»، والمضاف هو الحرية، وإذن فالتفكير وطبيعته وحقيقته هو الأساس، ثم بعد ذلك تجيء الصفة المعينة التي قصدنا إليها وهي صفة أن يكون ذلك التفكير «حرًّا»، فماذا نعني بتلك الصفة حين تضاف إلى التفكير، وذلك لأنها قد تصف أشياء أخرى كثيرة، ليست هي جزءًا من موضوع حديثنا هذا.
ونبدأ «بالتفكير» ماذا يعني؟ وأرجوك أن تستحضر في ذهنك ما قد أسلفناه، وهو أن «اللفظة» ليست هي «الشيء» الذي جاءت اللفظة لتشير إليه، فنحن الآن نسأل عن ذلك «الشيء» الذي تعنيه كلمة تفكير، وأول ما نجيب به هو أن الشيء المطلوب في هذه الحالة المعينة هو «عملية» مؤداها شديد الشبه بالعملية التي يؤديها من أراد أن يقوم برحلة، فرسم لرحلته المرتقبة خريطة تبين طريق السير ومراحله؛ فإذا كانت الخريطة قد رُسمت بدقة، جاءت الرحلة على أرض الواقع مطابقة لها مرحلة فمرحلة فهدفًا منشودًا، «وعملية التفكير» هي من هذا القبيل نفسه، مع اختلاف الأهداف وتنويعها، ويكون التفكير سليمًا ودقيقًا؛ بقدر ما نجد أنفسنا أثناء التنفيذ موفقين خطوة بعد خطوة حتى نبلغ ختام الرحلة، فإذا هو الهدف الذي ابتغيناه لأنفسنا منذ البداية، وعلى سبيل التوضيح أحكي لك ما يأتي: لقد أردت لرحلتي صيف هذا العام (١٩٨٤م) أن أقضي أسبوعًا في مكانٍ ما، وكعادتي دائمًا، أردت أن أعدَّ كل ما يمكنني إعداده من تفصيلات التنفيذ قبل أن أبدأ السير، وكان بين تلك التفصيلات أن لجأت لإحدى الشركات لتحجز لي غرفة في المكان المقصود، من يوم كذا إلى يوم كذا، وتم كل شيء في إعداد «الخريطة» أو قل إنني أتممت عملية «التفكير»، فلما وصلت إلى المكان المقصود، فوجئت بأن الغرفة قد حُجزت لي في أيام أخرى غير الأيام التي أردتها، وكان ما كان من عناء، فها هنا ترى أن «التفكير» لا بد أن يكون قد حدث فيه «خطأ» ما، هو الذي ظهر على الصورة التي ظهر بها عند التطبيق.
وإننا لنسأل: إلى أي شيء تشير كلمة «تفكير» (ولا تنسَ أن الكلمة ليست هي الشيء الذي جاءت لتعنيه) وها هو ذا جوابنا نعيده: التفكير عملية ذهنية نرسم بها خريطة العمل المؤدي إلى تحقيق هدف ما، وبعد ذلك لتتنوع الأهداف ما شاء لها أصحابها أن تتنوع، لكنها جميعًا تلتقي عند هذا الأصل المشترك، فصاحب العمارة التي تنهار بعد بنائها، لم يكن يريد لها أن تنهار، لكنها انهارت لخطأ وقع في عملية التفكير الأولى، أي إنه حسب فأخطأ في الحساب، وخريج الجامعة الذي نراه غير مستوفٍ للصفات التي كنَّا نودُّ أن نجده محققًا لها، لم يكن يريد، ولا كنَّا نحن نريد له أن يتخرج ضعيفًا في مهاراته ومدركاته، لكنه خطأ وقعنا فيه عند رسم الخريطة الفكرية للتعليم الجامعي، وهكذا، كما أن الجوانب الكثيرة التي جاءت ناجحة ومحققة لأهدافها إنما استمدت نجاحها من دقة «التفكير» الذي سبق تنفيذه، ونحن إذ نقول عن أنفسنا — بصفة عامة — إنه ينقصنا شيء كثير من دقة التفكير العلمي؛ فإنما نعني هذا الذي ذكرناه، وهو أننا كثيرًا ما «نفكر» فيما نريد إنجازه، فلا نُحسن رسم الخرائط الذهنية لما نريده، فتجيء منجزاتنا وفيها من الضعف ما ينتهي بها إلى فشل جزئي، أو أحيانًا فشل كامل.
هذا — إذن — هو التفكير، فماذا تكون «حريته» عندما يكون حرًّا؟ وللإجابة عن ذلك نعود إلى تشبيهنا عملية التفكير في موضوع ما برسم خريطة لرحلة نريد القيام بها، فالتفكير الحر هو الذي لا يتدخل أحد ذو سلطان في طريقة الراسم للخريطة، فهو راسمها، وهو بعد ذلك مسئول عن تحقيقها لأغراضها، فافرض — مثلًا — أنه قد طلب إلى مسئول أن يُعد خطة — والخطة والخريطة مترادفان — للتعليم الجامعي في مصر، فجلس هذا المسئول «يفكر» والتفكير هو عملية رسم الخطة، فإذا به قد جعل أولى خطوات رحلته، تحديد الأعداد التي يسمح لها بالتعليم الجامعي، فهبط عليه عندئذٍ صوتٌ من ذي سلطان أعلى، ليقول له: لا، لا بدَّ لك أن ترسم خطتك على أساس أن لا تحديد؛ لأننا نريد لأبناء الشعب كله أن يتخرجوا في جامعات إذا استطعنا، كان هذا التدخل عاملًا على تقييد حرية التفكير؛ لأن الخريطة عندئذٍ لن تستوفي شروطها التي من أجلها سُميت باسمها.
ولنوضح فنقول: إن في فلسفة الرياضة ضربًا من العلاقة، يطلقون عليه اسم «علاقة واحد بواحد»، وذلك عندما تقول عن شيئين إن بينهما تشابهًا كاملًا، فالشيئان يتشابهان إذا كان كل عنصر من مقومات الشيء الأول يقابله عنصر مثيل في الشيء الثاني، فمثلًا إذا قلنا عن صورة لفرد معين من الناس إنها صورة دقيقة له، كان معنى ذلك أن كل مقوم من مقومات الفرد الذي صورناه يقابله مقوم مثيل في الصورة، وهكذا تكون الفكرة بالنسبة لمشروعها، ينبغي أن يكون بين الجانبين علاقة واحد بواحد، لكن افرض أن الفرد الذي أريد تصويره اشترط على المصور ألا يخرجه أصلع الرأس، كما هو في حقيقته، فيكسو رأسه بفروة من الشعر، جاءت النتيجة — بالطبع — محققة لرغبات صاحب السلطة، وغير محققة للحقيقة في موضوعيتها، وقد حدث لي ذات يوم من عام بعيد، أن سمعت سيدة تطلب من المصور الفوتغرافي أن يُدخل على صورتها «رتوش»، يحيلها بيضاء ممتلئة الجسم، وشيء كهذا تمامًا هو الذي يحدث، عندما يشترط صاحب سلطان — أيًّا كان نوع سلطته — على المفكر أن تجيء الفكرة مطابقة لما يريده هو لها بغض النظر عن الحقيقة الموضوعية كما يراها المفكر حين يأخذ في رسم خريطته الذهنية التي توصل الناس إلى هدف مقصود.
إنني لأكاشف القارئ بحقيقة تصادفني مرة بعد مرة، وهي أن أجد الكاتب الذي أقرأ له ممن كنت أقرأ لهم من كتَّاب الغرب قد عرض مشكلة اجتماعية أو تربوية أو كائنة ما كانت مما أراه شبيهًا بعض الشبه بمشكلاتنا نحن في بلدنا، لكنني أجده قد رسم لها حلولًا يستحيل على كاتب مصري أن يجرؤ على مجرد ذكرها على قومه، حتى ولو كانت حلولًا — في رأيه — تصلح للتهذيب والتعديل، إذا لم يكن ممكنًا أخذها بحذافيرها. لماذا؟ لأن في بلدنا — إذا لم يكن القارئ يعلم فليعلم — فئات أعطت نفسها حق «الفيتو»، فإذا قالت: لا، وجب على الشعب كله أن يردد وراءها: لا، وبهذا تنتفي حرية التفكير.
وقد لا يصدقني القارئ إذا أنبأته بأن بيننا من يصادف فكرة تعجبه عند مفكر غربي، لكنه في الوقت نفسه يراها تتضمن بعض الجوانب التي قد يمارس عليها أصحاب الحق في «الفيتو» حقهم في الرفض، فماذا يصنع؟ إنه بدل أن يترك الفكرة برمتها؛ نراه وقد لجأ إلى حذف أجزائها غير المرغوب فيها، مع أن مثل هذا الحذف — أحيانًا — يكون من الخطورة بحيث تُنقَل الفكرة من صورتها الأصلية إلى نقيضها، ولا علينا إذا وقع افتراء على المؤلف الأصلي، بل لا علينا إذا مسخت الحقيقة العلمية مسخًا، ومن الأمثلة العامة التي ترد الآن على خاطري «الميثاق» الذي أصدرناه سنة ١٩٦٢م، وليس الذي يعنيني منه هنا جانبه السياسي، بل الذي يعنيني الآن هو الجانب الذي يمسُّ منطق الفكر، فقد بُني الميثاق على مذهب الاشتراكية العلمية كما فُهمت تلك الفكرة عند أصحابها من زاوية الفلسفة المادية الجدلية، والأساس في تلك الفلسفة هو ألَّا شيء وراء الطبيعة المادية، وبالتالي فإذا أردنا أن نردَّ النظم الاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة إلى أصولها الأولى ألفينا أنفسنا وقد انتهى بنا التحليل آخر الأمر إلى البيئة المادية، وما تحتوي عليه من عوامل وظروف، ومن تلك العوامل أدوات الإنتاج ونوعها، إلى آخر ما يُقال في هذا الباب، لكن واضع الميثاق — أو واضعيه — كما لو كانوا قد تذكروا فجأة أننا شعب مؤمن بالله، ومن مقتضى الإيمان بالله أن يكون إطار الرؤية العامة قائمًا على أساس أسبقية الفكرة على المادة؛ لأن هذه مربوبة لتلك؛ فأضاف واضع الميثاق فصلًا أخيرًا يعلن فيه أننا مؤمنون بالله آخذون بما يقضي به دين الله، فها هنا أحب لك أن تلحظ التحليل في منطق التفكير، فأنصار المادية الجدلية وما يلزم عنها من اشتراكية علمية متسقون مع أنفسهم حين ينتهون آخر الأمر إلى وقفة إلحادية، لا هي تؤمن بالله ولا هي تقيم سلوكها على دين الله؛ لأن هذه النتيجة مشتقة من المقدمة التي تفترض أن الطبيعة المادية تفسر كل ما يحدث بين جنباتها، بما في ذلك الإنسان وحياته وتاريخه. فإذا جئنا نحن لنأخذ المقدمة ذاتها ثم لنتلافى النقطة الخاصة بالإيمان الديني، فأضفناها إضافة مصطنعة، وقعنا في تناقض، ولا مخرج لنا من هذا المأزق إلا بأحد أمرين: فإما أن نحرص على المقدمة، وعندئذٍ نلتزم بنتائجها، وإما أن نحرص على تلك النتائج فلا يكون لنا بد من رفض المقدمة التي كانت قد أدت بأصحابها إلى ما ينقض النتائج الإيمانية التي نحن حريصون على بقائها، ولست أظن أن الكثرة الغالبة منَّا تتردد لحظة في الاختيار بين هذين البديلين؛ إذن تختار البديل الثاني. ومرة أخرى أقول: إنني لم أذكر هذا المثل لدلالته السياسية، بل ذكرته لأبيِّن به كيف نخدع أنفسنا بمسخ ما ننقله عن غيرنا من فكر مسخًا يجعله في ظاهره مسايرًا لوجهة نظرنا، ولم يكن مثل هذا التلفيق ليضرنا في شيء، لولا أنه في أغلب الحالات يتركنا أمام فكر مضطرب لا يستند إلى جذور ثابتة.
إن موضوع حديثنا هذا هو حرية التفكير، وقد أسلفت القول بأن تلك الحرية تقتضي من رجل الفكر أن يرسم بفكره خريطة للسير من أجل الوصول إلى هدف منشود، وأنه إذا تدخل ذو سلطان بإقحامه على الخريطة شروطًا من إضافة أو حذف، كان بمثابة من يحول بين السائر وبلوغه الغاية التي يستهدفها، وأود الآن أن أعرض جانبًا من جوانب المنهج العلمي في التفكير؛ لأنه جانب بالغ الأهمية فيما نحن بصدد الحديث فيه، وذلك هو أن كل تفكير منهجي مهما يكن موضوعه لا بد أن يبدأ من أساس يوضع وضعًا، إما على سبيل الفرض، وإما لأنه نص مأخوذ مأخذ التسليم، فحركة الفكر لا تبدأ من فراغ، خذ المجال العلمي الصرف تجد هناك مجموعتين من العلوم، لكل مجموعة منها منهاجها في السير: الأولى هي مجموعة العلوم الرياضية، ومنهاجها هو أن تجعل أساسها الذي تبدأ منه سيرها الاستدلالي عددًا مما يسمُّونه بالمسلمات، لكن تلك المسلمات قابلة للتبديل على أيدي العلماء المختلفين، ولا ضير في ذلك طالما التزم كل منهم مسلماته التي صدَّر بها سيره الاستدلالي، وأما المجموعة الثانية فهي العلوم الطبيعية، وهنا يكون الأساس الذي يبدأ منه الباحث سيره الاستدلالي ما يسمُّونه «فرضًا» يبني على ما كان قد جمع من شواهد ومعطيات، وهنا أيضًا يجب على الباحث العلمي أن يبدل فرضه بفرض آخر إذا وجد أن فرضه الأول قد أوصله إلى نتائج لا تتفق مع واقع الأشياء.
وأما في مجالات الفكر الأخرى، وفي مقدمتها الفكر الديني؛ فالأساس الذي يوضع أمام الباحث العلمي ليبدأ منه سيره الاستدلالي هو النص أو النصوص التي آمن بصدقها إيمانًا دينيًّا، والفرق بين هذه الحالة والحالتين السابقتين وهما: العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، هو أن الأساس المبدوء منه غير قابل للتبديل من باحث إلى باحث.
ولقد ذكرت هذا كله لأوضح على ضوئه كيف تكون حرية التفكير في كل حالة من هذه الحالات، أما في الحالتين الأوليين، فالباحث العلمي حر في فروضه التي يرى فيها قابلية الوصول إلى نتائج صالحة للتطبيق، وأما في الحالة الثالثة؛ فالأغلب فيها أن يكون النص أو النصوص التي تحتم على المؤمنين بها قبولها وتصديقها، أقول إن الأغلب في هذه الحالات أن تكون النصوص قابلة لتعدد التأويلات في فهمها، ولهذا قد تتعدد المذاهب فيما تستخرجه من أحكام ونتائج، وفي هذه الحالة لا ينال من قدرة الفقيه وسمعته أن يختلف مذهبه عن فقيه آخر، ومن حق المتلقي العادي أن يقبل أحدهما دون الآخر ولا يكون في ذلك خروج على مصادر إيمانه.
فإذا أردنا أن نعمم القول تعميمًا يشمل كل مواقف التفكير لترى متى يكون التفكير حرًّا ومتى لا يكون، قلنا إن هنالك طرفين لكل موقف: أما أحدهما فهو الأمر الواقع، وأما الآخر فهو تفسير ذلك الأمر الواقع، واستدلال النتائج التي تترتب على وقوعه، ففي الطرف الأول لا مجال لحرية المفكر، فالواقع واقع، وفي المجال الثاني يكون للمفكر كل الحرية في استخدام قدراته ليفسر ذلك الأمر الواقع بما يراه تفسيرًا مقبولًا عند العقل «والتفسير معناه رد الشيء إلى ما يمكن أن يكون مصدرًا لحدوثه»، كما يكون المفكر حرًّا كذلك في استدلال النتائج التي يرى أنها يمكن صدورها عن ذلك الواقع، خذ مثلًا لذلك: هذه هي أرضنا التي نعيش على سطحها، تدور حول نفسها دورة الليل والنهار، كما تدور كذلك حول الشمس دورة الفصول الأربعة، فليس لأحد حيلة سوى أن يقبل هذا الأمر الواقع، لكن نبدأ حرية العقل في فاعليته حين يسأل: كيف حدث هذا؟ فها هنا لا قيد على العقل في أن يفسر وأن يستدل طالما هو يبين في دقة كيف سارت خطواته المنطقية وهو يرد ذلك الأمر الواقع إلى مصدره، ثم وهو يستدل ما عساه يحدث بعد ذلك. وخذ مثلًا آخر من حياتنا العملية: فهنالك أمر واقع خاص بشبابنا في هذه المرحلة الزمنية الراهنة يمكن تحليلها تحليلًا علميًّا دقيقًا من حيث ميوله ونزعاته ومداركه، وما إلى ذلك من جوانب حياته، وليس لأحد منا حيلة سوى أن يقبل بأن تلك الصورة التي يقدمها لنا التحليل العلمي هي أمر واقع، ويبدأ نشاط العقل في عملية التفكير الحرة حين يأخذ في البحث عن الأصل الذي انبثقت منه حالة شبابنا الواقع، وحين يستبق الزمن لينبئ بما عسى أن يترتب على هذه الحالة من نتائج، لو أنها تركت هكذا بغير تعديل، فإذا تدخلت سلطة أيًّا كان نوعها وحالت بين العقل وبين أن يفسر أو أن يستدل كان ذلك قتلًا لحرية التفكير.
وحرية التفكير إنما هي نوع واحد من صور متعددة تتبدى فيها «الحرية»، فهنالك العبد يعتقه مولاه فيصير حرًّا، وهنالك السجين يُفَك القيد عن يديه أو قدميه أو يُفتَح له باب سجنه ليخرج طليقًا، وهنالك الفرد أو الشعب الذي تستبدُّ به سلطة ما لترغمه على سلوك معين أو لتحرمه من سلوك معين، وقد يثور ذلك الفرد أو الشعب على من استبد به ليسلك في حياته كما يريد لنفسه أو أن يحكم نفسه بنفسه على الصورة التي اختارها، وهنالك وهنالك، لكن صورة الحرية مهما اختلفت وتنوعت فأظنها تلتقي عند أصل واحد وهو أن يكون هناك قيد ما أضيف بغير ضرورة ملزمة إلى القيود الطبيعية التي لا مفر منها، والحرية في كل صورة من صورها هي كسر ذلك القيد، ولعل أسمى ما يسمو إليه الإنسان في مدارج الحرية هو أن يكشف بالعلم سر الطبيعة في هذا الجانب منها أو ذاك، فيصبح بهذا الكشف سيدها بعد أن كان سجينها؛ لأنه كلما كشف سرًّا من أسرارها كان له بذلك القدرة على تسخيرها في المجال الذي انكشف له سره.
لكننا في هذا الحديث قد قصرنا أنفسنا على نوع واحد من الحرية، وهو حين تكون تلك الحرية مضافة إلى عقل يفكِّر، ولقد اخترنا حرية التفكير موضوعًا للحديث بعد أن رأيناها قد أوشكت أن تكون شهيدة طغيان غاشم.