رهبة المجهول
عن الحرية المغامرة أتحدث
من يقرأ لي فيراني متلفعًا بمنطق العقل رائحًا وغاديًا، قد لا يعلم أن لي خيالًا يشتعل لأتفه المؤثرات، اشتعالًا يكتسح أمامه كل ما يعترض طريقه من قوى النفس الأخرى، ولكم تأملت طبيعتي تلك، إذا ما انزاح من رأسي ما اشتعل فيه من سورة خيال تشطح بي إلى دنيا المستحيلات والعجائب، فأحزنني عندئذٍ أن أجد تلك القوة العارمة في فطرتي، مضيعة مع الهباء؛ لأنه وإن يكن خيالًا ملتهبًا، إلا أن لهبه يُحرق ولا يضيء، ويهدم أكثر مما يبني، ولو كان خيالًا بنَّاءً مع قوته تلك، لأنتج لي أعمالًا فنية تستعصي على الفناء السريع، ولكنه لم يفعل، واكتفى معي بتلك الشطحات المجنونة إلى عوالم أغرب من عالم علاء الدين.
ولم يتغير الموقف في ذلك كثيرًا بين طفولتي وأعوام نضجي، اللهم إلا أن يكون الفرق بين العهدين هو أن احتكامي إلى العقل ومنطقه أخذ مع الأيام يزداد، وربما كان ذلك لرغبة أكيدة في عمق نفسي بأن يتولى العقل عني كبح الخيال إذا جمح، ولو كان خيالًا بنَّاءً — كما قلت — لأرخيت له العِنان ليفعل فعله، لكنه جموح، وكثيرًا ما شعرت بشيء من النجاح فيما أردته؛ إذ كنت ألحظ أن ذلك الخيال الملجم المكبوت، يتحول معي إلى أحلام هي أروع وأنصع ما تكون الأحلام عند حالم، وعندئذٍ ينفض الإشكال، فتوزع نفسي قوتيها بين صحو ونوم، فللصحو نشاط العقل بمنطقه، وللنوم أحلام يشطح بها الخيال كما يشاء.
وكان من لحظات الطفولة لحظة، حُكيت فيها حكاية على مسمع مني، فحركت في جوفي ذلك الخيال بأقوى قوته، حتى لقد بقيت معي شعلته حتى هذه الساعة من حياتي، ولو أن شعلته تتقد حينًا وتخبو حينًا. وكانت تلك الحكاية تحكي عن قصر فيه أربعون غرفة، قيل لساكنيه أن يرتعوا في تسع وثلاثين منها، أما الغرفة الأربعون فهي مغلقة، ويجب أن تظل مغلقة حتى لا يكشف أحد عن شيء من سرها المكتوم. وانتهى الحاكي — أو الحاكية لا أذكر — وبدأ الخيال يؤرقني في نهار وفي ليل: ماذا يا ترى في تلك الغرفة المحرمة؟!
ومرت بي الأعوام، وتقدمت بي السن، والسؤال ما زال قائمًا، لولا أن نطاقه قد اتسع، ولم يعد يسأل عن غرفة واحدة من أربعين غرفة، بل ازدادت الغرف المغلقة على أسرارها ازديادًا أشرك العقل في أمره مع الخيال، فكل ذرة في هذا الكون الفسيح العظيم منطوية على سر، يكشف لنا جانبًا من حقيقتها، وتخفي جانبًا أو جوانب، وكأنها الحسناء ترخي قناعها على شيء وتضمه عن شيء، والناس حيال حقائق الكون المكشوفة المحجوبة أحد رجلين: فرجل يؤثر أن يزيد من ألغاز ما انكشف ليصبح كل شيء فوق قدرات البشر، ورجل آخر يصب الضوء على ما احتجب، حتى ينكشف مع ما انكشف، فيزداد الإنسان علمًا بدنياه، فيزداد نتيجة لذلك قدرة على أن يمسك بالعِنان، وأراني من الصنف الثاني، وأرى كثيرين حولي من الصنف الأول، وحول هذا المحور الانقسامي تدور حياتنا الفكرية كلها.
الإنسان بطبعه يرهب المجهول رهبته من الظلام، ويطمئن لما هو معلوم له اطمئنانه للضوء، ففي الظلام تنشط العفاريت وتتحرك الأشباح، وتستيقظ كثرة كثيرة من الحيوان المخيفة ومن الحشرات القارضة واللاسعة والسامة، وكذلك في ظلام الليل يسطو اللصوص على فرائسهم وتُحاك المؤامرات وتُدبر الوقيعة، مهما قيل بعد ذلك عن الليل من حلو السمر فيه ولقاء المحبين، وحقيق بالمؤمن أن يعوذ برب الفلق من شر غاسق إذا وقب، ففي ستر الغسق ينزوي الشر من مكامنه، وتنفث النفاثات بسحرهن في العقد ليؤذين من أردن بهم الأذى، ويدبر الحاسد شراك حسده ليهدم من يدبر له أن ينهدم، ولما كان الإنسان بطبعه يرهب المجهول رهبته من الظلام، حق للمؤمن أن يعوذ برب الفلق من خطورة المجهول وشره، ولكنني أرى — وا عجباه — أصحاب الفكر منَّا ينقسمون رأيين: فإذا كانت دنيانا فيها المعلوم لنا وفيها المجهول، والمعلوم ضوء والمجهول ظلام، والأول مؤنس والثاني موحش، فمنَّا مَن يتجه برأيه إلى محاولة أن يصبح الكل معلومًا — ما وسع الإنسان أن يعلم — ليصبح الكل نورًا تطمئن له النفوس، ومنَّا كذلك مَن يتجه برأيه في الاتجاه المضاد، فيحاول أن يبين للناس أن ما حسبوه معلومًا إنما هو مغلق مجهول، فالكل علينا ظلام في ظلام، وبين من يسعى إلى إضاءة المظلم، ومن يحاول إظلام المضيء، تقع حياتنا الفكرية جدالًا لا أظنه ينفع أحدًا أو يشفع لأحد.
عِلْم الإنسان بشيء معناه حريته إزاء ذلك الشيء، يصوغه كما شاء ويحركه كما شاء، ومزيد من العلم به هو في الوقت نفسه مزيد من حرية الإنسان، إنه إذا بقي الإنسان منحصرًا في ذاته هو، لما عرف الكثير عن تلك الذات نفسها، ولما استطاع عندئذٍ أن يتحرك إلا بمقدار ما تُسعفه رجلاه على التحرك، وكان تطوره في هذا الصدد يقف عند حدود الدواب التي يجد في مقدوره أن يسخِّرها، لكنه إذ عرف سر البخار وقدرته، كان له القطار والباخرة والمصنع الذي تدور عجلاته بغير سواعد البشر، وإذ عرف الكهرباء ازداد تحرره من قيد المكان، وتحولت ظلمة الليل إلى ضوء النهار، إذا أراد لها الإنسان أن تتحول، ثم عرف الذرة وقوتها الحبيسة، فعرف كيف يطلق تلك القوة من سجنها، فكان له ما كان من معجزات تتكشف له كل صباح. إن التحرر من قيود المكان وقيود الزمان، هو من أبرز ما يميز الإنسان من سائر الكائنات الحية، فالنبات سجين موقعه من الأرض، لا يتحول عنه إلى موقع آخر، فلئن كان يعلو بجذعه وفروعه في حركة رأسية، فهو لا يستطيع الحركة الأفقية التي فيها أمام وفيها وراء، وفيها يمين ويسار، فيأتي بعد النبات حيوان ليقهر قيد المكان، محدودًا في ذلك بحركة جسمه، لكنه يظل مقيدًا بلحظته الزمنية، فهو لا يعرف من زمانه إلا «الآن»، ليس له أمس ولا غد، ليس له تاريخ يعيه ويستلهمه، وليس له مستقبل يتسلفه ويدبر له، وأما الإنسان ففي جوهره أن يحطم قيود المكان وقيود الزمان معًا، دون أن تحده في ذلك حدود، فها هو ذا قد أخذ يزداد تحررًا في خفة حركته وسرعتها، حتى تغلب على قوة الأرض في جذبها لجسده؛ إذ جاوز حدود الأرض وغلافها ومجالها، وأما قيود الزمان فقد أعانته فطرته على تحطيمها منذ خلقه الله إنسانًا، إن اللحظة الراهنة لا تعتقله بحدودها، فله من الخيال ما يطير به إلى اللانهاية فيما هو آتٍ أو ما يقدر هو بحسابه أنه آتٍ — ولا يزيل عنه قوة الخيال أن يخطئ في الحساب — كما أن له من قوة الذاكرة ما يسترجع به الماضي وكأنه يحيا في رحابه مع أبناء ذلك الماضي.
تلك الحرية كلها مكسوبة للإنسان، مرتفعة به عن سائر الأحياء إلى فلك أرفع وأسمى، وهي حرية مرهونة بفطرته البشرية أولًا وبما هو في مقدور تلك الفطرة من «علم» بطبائع الأشياء، ولقد ألفنا جميعًا ألا نفهم من حرية الإنسان إلا الجانب السلبي وحده، دون جانبها الإيجابي الذي بفضله تُبنى الحضارات وتقام الثقافات، وجانبها السلبي هو المرحلة الأولى التي تفك فيها القيود، ويصبح الإنسان بعد ذلك «حرًّا» في أن ينطلق إلى حيث شاء، وها هنا يأتي الجانب الإيجابي من الحرية، فإلى أين ينطلق، وكيف ينطلق، وعند هذه النقطة تأتي أهمية المعرفة بطبائع الأشياء، وعندما أُمِرنا في كتاب الله أن نضرب في مناكب الأرض، وأن نتفكَّر في خلق السموات والأرض، كان ذلك التوجيه الإلهي بمثابة إرشادنا إلى الشرط الأساسي الذي بغيره لا تتحقق للإنسان حريته بمعناها الإيجابي البنَّاء. وتلك الحرية — بمفهومها السلبي والإيجابي — هي بدورها المقوِّم الأساسي لجوهر الإنسان وكرامته، وهل تكون مسئولية خلقية بغيرها، أو يكون للإنسان بدونها حضارة تقام بعلومها وفنونها ونظمها وسائر عناصرها؟
مغامرة الإنسان في مواجهته للمجهول، وهتك أستاره وكشف أسراره، ثم تسخيره وتسييره إلى حيث أراد له الإنسان أن يسير، إنما هي صميم الصميم من حرية الإنسان، وقد يغنى فيه أفراد من الناس عن أفراد؛ لأن الناس متفاوتون في القدرات، وتلك المغامرة في مواجهة المجهول قدرة قد توهب لإنسان ولا توهب لآخر، لكنها مع ذلك قدرة يجب أن نجعلها في طليعة القدرات التي نربي أبناءنا على اكتسابها، فالموهبة دائمًا تكون هي الأساس، ولا بد لها من شحذ وتدريب وتنمية حتى تثمر، وأحسب أن ليس في البشر جميعًا إنسان خلت فطرته من هذه الموهبة، أو تلك، لكنه الخوف من الحرية الذي يُصاب به من يُصاب فيشل عن المغامرة ملقيًا بالعبء على سواه، وهذا السوى قد يحيل المهمة بدوره على سوى آخر، وهكذا قد تتسع الدائرة حتى تصبح شاملة للأمة كلها أو معظمها، وأعتقد أن هذه الحالة المتواكلة هي جزء مما أصابنا منذ القرن السادس عشر، وحتى تباشير النهضة الجديدة في أوائل القرن التاسع عشر، حيث أخذت الصحوة تعلو بنا لتردنا إلى ما كنَّا عليه في تاريخنا كله، من إبداع حضاري لم يفتر قط بمثل ما أخذه الفتور — بصفة عامة — في المرحلة الأخيرة، فها هنا غمرتنا حضارة الغرب، فلم نكد نأخذ منها بنصيب حتى أوهمنا من أوهمنا بأنها ليست منَّا ولا نحن منها، فسرى في أوصالنا «خوف» من المغامرة، خوف من الحرية، خوف من الإبداع الذي نشارك به سائر الدنيا التي تقدمت.
وقد تعجب من كلمة «خوف» في هذا السياق، الذي يسوقها منسوبة إلى «الحرية» كيف هذا؟ من ذا الذي يخيفه أن يكون حرًّا؟ ألسنا نثير الثورة تلو الثورة لنظفر بالحرية في جوانبها المتعددة؟ وهذا كله صحيح، لكننا لم نكد نظفر بجانب منها، حتى رأينا كثرتنا الغالبة قد استثقلت عِبئَها، فأحالت ذلك العبء إلى أفراد منَّا قليلين، ليكونوا هم الأحرار أصالةً عن أنفسهم، ونيابةً عن بقية الشعب، وأقول ذلك راجيًا أن يُفهم بالمعنى الحضاري العام، وألا يُقصَر على جانب السياسة وحدها؛ لأن في الحضارة عناصر كثيرة أخرى غير السياسة، ففيها علوم تقتضي منهجًا خاصًّا في النظر إلى الأشياء، فإذا كانت العلوم قد حصَّلها نفر وتأثر بمنهاجها، فهو نفر، أقل من القليل، ولن يكون لنا نهضة حقيقية إلا إذا تسربت الرؤية العلمية الجديدة قطرة قطرة، حتى تعم الشعب كله بدرجات، وتصبح طابعًا يميزه عن نفسه وهو في مراحل تاريخه الماضي.
وفي الحضارة فنون وآداب وفكر، ولكل ذلك في حضارة عصرنا مذاق خاص يميزه عن أشباهها في المراحل الحضارية السابقة، وفي هذا المجال — كما في مجال العلوم ومنهاجها — اقتصر الأمر على فئة قليلة، قليلة جدًّا، هي التي أتاحت لها الظروف أن تتذوق روح العصر في تلك الجوانب المذكورة، ومرة أخرى أقول: إنه لن يكون لنا نهضة حقيقية إلا إذا تقطَّر الذوق الجديد قطرة قطرة حتى يعم الشعب كله بدرجات، وإلا لظل هذا الشعب غريبًا في دنياه، غربة أهل الكهف حين استيقظوا وساروا في شوارع المدينة، فإذا كل شيء حولهم ينكرهم، وإذا هم ينكرون كل شيء، على أني أحب أن أوضح هنا بأن المقصود بهذا ليس هو أن نحاكي سوانا محاكاة تستغرق ذواتنا، بل المقصود هو أن ندخل مع حضارة العصر وثقافته دخول من يقبل ويرفض ويعدل، أي دخول من يحاور ويجادل ويبدع، لكن هذا كله يتطلَّب أولًا إلمامًا بعصرنا وما يدور فيه لا إلمام من يسمع الأخبار وكأنها ليست من شأنه هو، بل إلمام من يتبنى القضية لتكون جزءًا من حياته، مؤيدًا أو مهاجمًا، وقد فعل شيئًا كهذا جمال الدين الأفغاني في «الرد على الدهريين»، وسواء أصاب أو لم يصب فيما أورده من أفكار في ذلك الكتاب، إلا أنه لم يكن ليكتب سطرًا منه إذا لم يكن قد ألمَّ بقدر مستطاعه بتيارات الفكر في أوروبا في عصره، وفي ألمانيا بصفة خاصة، وكذلك فعل شيئًا كهذا الإمام الشيخ محمد عبده، حين كتب رده على هانوتو، وحين زار فيلسوف بريطانيا إذ ذاك «هربرت سبنسر» أثناء زيارة الإمام لتلك البلاد؛ لأنها لم تكن زيارة تفريج، بل كانت زيارة تتيح الفرصة لحوار يدور بين ثقافتين، وفعل شيئًا كهذا أيضًا كثيرون جدًّا من أعلامنا، فأين هؤلاء جميعًا ممن ينادون اليوم بالفزع مما أسموه بالغزو الثقافي؟ وأين هؤلاء جميعًا من ذلك المسئول الكبير الذي سمعته يقول: إن في الدنيا الآن حضارة جديدة، وعلينا أن نحمل شبابنا على حفظ القرآن الكريم ليقاوموا به تلك الحضارة؟! إلا أنه الخوف من مواجهة المجهول، الخوف من الغرفة المحرَّمة في القصر المسحور، ومع الخوف من مغامرة مع المجهول حتى ينكشف يجيء الخوف من أن نكون أحرارًا، وكان كل نصيبنا من الحرية هو أن نهتف باسمها في المظاهرات، ثم نأوي إلى مخادعنا لنغط في النوم!
الحرية مسئولية وفكر وإرادة، لأن يكون الإنسان حرًّا لا بد أن يضطلع بعمل يؤديه أداء القادر الماهر العارف بأسرار مهنته، وهو حر بمقدار ما يكون في وسعه أن يسيطر على مادة مهنته، حرية الطبيب هي أن يعرف أين يكون شفاء مريضه وكيف، حرية القاضي هي أن يعرف مسالك القانون وحناياه، ليعرف أين يقع منها مَن قدَّموه إليه ليحاكمه، وهكذا يكون معنى الحرية في كل ميدان من ميادين العمل، الإنسان الحر «يعرف» فيتصرف على هدي معرفته تصرفًا مؤديًا به إلى تحقيق غايته، وغير الحر لا يعرف أنه يقف أمام وقائع الحياة العملية فاغرًا فاه في ذهول التائه الذي ضلَّ الطريق.
ونحن إذ نجعل الحرية بمعناها الإيجابي، مرهونة بقدرة العامل على معالجة موضوعه بحيث ينتهي به إلى غاية يريد تحقيقها، نودُّ لفت الأنظار إلى نقطة لها الأهمية الكبرى في حديثنا هذا، وهي أن روح العصر تقتضي أن يكون معظم الفكر، ومعظم العمل، منصبًّا على «أشياء» والقليل من ذلك الفكر أو العمل، هو الذي نتجه به إلى «كلمات» إلا أن تكون تلك الكلمات وثيقة الصلة بمواقف عينية فيها مواجهة لأشياء فيقتضي الأمر أن نكون على معرفة علميَّة دقيقة بطبائع تلك الأشياء، فشعورنا بالحرية عندما نغالب قفر الصحراء حتى نرغمها على أن تخضرَّ بالزرع، أغزر جدًّا من شعورنا بالحرية حين نبذل الجهد في حفظ صفحة كتبها سوانا، حفظًا لا يحمل في طيه مفتاحًا نغزو به الأشياء العصية إذا استعصى علينا تشكيلها وتسخيرها لصالح الإنسان.
ولم تكن الحضارات التي شهدها التاريخ كلها سواء في الطابع العام الذي يميِّزها، من حيث رجحان القيمة في كفة «الكلمة» أو رجحانها في كفة «العمل» فانظر — مثلًا — إلى الحضارة المصرية القديمة في عصر الفراعنة، بالمقارنة مع حضارة اليونان القديمة، تجد الأولى أميل إلى العمل في طابعها، العمل في ميادين الصناعة والبناء والنحت والتصوير والحرب، بينما الثانية أميل إلى «الكلمة»، ففيها فلسفة وفكر نظري أكثر جدًّا مما كان فيها من صناعة وبناء إلى الدرجة التي لا يفوتنا معها أن نلحظ أمرين: الأول هو أن المصري القديم حين عرف كيف «يعمل» لم يهمه كثيرًا تنظير ذلك العمل تنظيرًا يُخرج ما كَمَنَ فيه من مبادئ وقوانين وأفكار، حتى لقد جاء اليوناني بعده، واهتمامه الأكبر هو مثل ذلك التنظير، وكان مما حاول استخراج الجانب النظري فيه هو بعض ما كان شاهده مما يصنعه المصري، مثال ذلك ما رآه فيثاغورس اليوناني عندما كان المصري يريد أن يرسم على الأرض زاوية قائمة تحدد له ركن الأرض الزراعية التي في حوزته، فكان يأتي بحبل فيه اثنتا عشرة عقدة، على مسافات متساوية بين العقدة والعقدة، ثم يجعل ثلاثًا منها في جانب، وأربعًا في جانب، حريصًا على أن يرى أن طرفي الحبل قد تلاقيا في جانب ثالث، فعندئذٍ تكون زاوية الركن بين الجانبين الأولين زاوية قائمة، ولم يهتم المصري بعد ذلك بأن يبحث بحثًا نظريًّا يعرف به لماذا نتجت زاوية قائمة بهذه الحيلة العملية، أما فيثاغورس فقد جعل هذا البحث الرياضي النظري مهمته، حتى أقام البرهان المعروف الخاص بالمثلث القائم الزاوية، حين يكون المربع المقام على وتر المثلث مساويًا لمجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين. وعناية اليونان القدماء بالفكر الفلسفي معروفة؛ إذ يكفي أن يكون منهم سقراط وأفلاطون وأرسطو خلال عصر واحد لم يزد على مائة عام. أما الأمر الثاني مما أردت ذكره في تلك المقارنة بين حضارة الكلمات وحضارة الأفعال، فهو أن اليونان قد ذهبوا في مبالغتهم نحو تفضيل الفكر النظري على الفعل، حتى جعلوا «العمل» مما يشين أفراد الطبقة الأرستقراطية، فهؤلاء إنما خُلِقوا للتفكير النظري، وأما مَن دونهم فيختصون بالأعمال التي يُستخدم فيها الجسم، والفرق بين هؤلاء وأولئك هو نفسه الفرق بين الروح والجسم في المنزلة.
وجاءت الحضارة الإسلامية مزيجًا من كلمة وفعل، إلا أن كفَّة الكلمة راجحة، ويكفي أن يكون أخص خصائص العربي هو الشعر، كما ورد عند الجاحظ وهو يتناول الحضارات المختلفة بالمقارنة، وإبراز الطابع المميز لكل حضارة منها. ولقد أغرى هذا الفارق بين الكلمة والفعل بعض الباحثين في خصائص الحضارات أن يجعلوها نوعين: حضارات مدارها «أخلاق»، وأخرى مدارها «أفعال» وهو تقسيم لا ينفي — بالطبع — أن يفيد أصحاب النوع الأول من إنتاج النوع الثاني، وأن يأخذ أصحاب النوع الثاني مبادئ السلوك من أصحاب النوع الأول!
وفي ضوء هذا الذي أسلفته أقدم الصورة التي أتصورها وأتمناها لحياتنا الثقافية في اتجاهها العام، ولطالما عرضت هذا التصور فيما كتبته؛ لأنني مؤمن بصوابه، لكنني هذه المرة أعرض تصوري مقرونًا بما حدث قبل ذلك في تاريخ الفكر الإنساني وتطوره، فنحن في موقفنا الحاضر نواجه حضارتين وما يلحق بكل منهما من ثقافة سايرتها، إحداهما حضارة ورثنا أصولها عن آبائنا، وكان محورها الثقافي هو «الكلمة»، وهي ثقافة — كما قلنا — طابعها أخلاقي، وذلك لأن محورها «مبادئ»، وأما الحضارة الأخرى التي تواجهنا فهي حضارة الغرب في عصرنا الحاضر، وإنها لتختلف عن حضارتنا الموروثة اختلافًا جوهريًّا، في أساسها وفي مدارها معًا، فأساسها ليس «الكلمة» بل «الشيء» ومدارها ليس «المبادئ» مصوغة في ألفاظ، بل «العلم» متمثلًا في منهجه أولًا، وفي قوانينه التي تصور مسلك الأشياء ثانيًا، وإذا كانت «الكلمة» في الثقافة الأولى قد بلغت ذروتها في الشعر فنًّا وفي مبادئ الأخلاق سلوكًا، فإن معالجة «الأشياء» في الثقافة الثانية قد بلغت ذروتها في الأجهزة العلمية والآلات.
ويبدو واضحًا أنه لا بد لنا من الجمع بين أصول الحضارتين معًا في صيغة واحدة، هي نفسها الصيغة التي ترسم لنا خطة السير في ثقافتنا الجديدة، فنجمع بين الكلمة والجهاز، أي بين مبادئ الأخلاق كما وردت في العقيدة الدينية، وقوانين العلم الحديث بما تتضمنه من منهج جديد للنظر، وليس هذا الجمع مستحيلًا، وإن لم يكن يسيرًا، ولقد تحقق هذا النموذج في بعض أعلامنا، كما تحقق في بعض مواقف حياتنا، وفي هذا السياق أذكر المثل التاريخي الذي يوضح مثل هذا الجمع، وهو موقف أوروبا في نهضتها؛ إذ وجدت نفسها أيضًا بين حضارتين وما يلحق بكل منهما من ثقافة تلائمها، فمن جهة كان بين يديها تراث اليونان القدماء، وهو فلسفي أخلاقي في المقام الأول، مضافًا إليه عقيدة دينية استولت وحدها على معظم الحياة الفكرية في العصور الوسطى، ثم كان بين يديها (أعني أوروبا في نهضتها) حركة جديدة قوية، اتجهت بكل اندفاعها نحو الطبيعة تقتحمها برًّا وبحرًا وسماءً، فنتج عنها علم جديد مصحوب بمنهج للنظر والبحث جديد، فما لبثت أوروبا أن دمجت التيارين في نهر واحد هو ما يسمى بأوروبا الحديثة!
وربما قيل إن أوروبا حين احتفظت بتراثها الفكري لتضمه إلى الحركة الكشفية العلمية أيام نهضتها، فإنما كانت تضم قديمها هي إلى حديثها هي، فلا تناقض، أما نحن إذا حاولنا مثل هذا الضم، فإنما نحاول به الجمع بين قديمنا نحن وجديدهم هم، وهنا التناقض فيما يظهر، لكن اعتراضًا كهذا ليس صحيحًا على إطلاقه، لأن الجانب الديني من مقومات الحضارة الأوروبية الجديدة، لم يكن يونانيًّا ولا غير يوناني من السلف الأوروبي، إنما هو عقيدة مسيحية — على الأغلب — هبطت وحيًا على عيسى — عليه السلام — وهو على أرض فلسطين، ولبثت بضعة قرون فيما يسمى الآن بالشرق الأوسط، قبل أن تعبر البحر إلى روما فإلى سائر أنحاء أوروبا.
رافدان لا بد من جمعها معًا في بنائنا الثقافي الجديد: موروثنا الحضاري الثقافي من جهة، وما أبدعه الغرب في العصر الحديث من جهة أخرى، ولئن كان الجانب الأول سيلزمنا بالدوران في نصوصه، حفظًا واستدلالًا، فإن الجانب الثاني لكونه يعالج «الأشياء» فسوف يدفعنا دفعًا إلى ارتياد الكون المحيط بنا، فننعم عندئذٍ بضرب من الحرية لا أظننا قد ألفنا منه الشيء الكثير، وهي الحرية المغامرة في الهواء الطلق، غير منحبسة في نصوص نحفظها ونشرحها ونستدل منه نتائجها، كلا الجانبين ضروري ومطلوب لتولد أمة عربية ناهضة على جناحين، هما تاريخها وتراثها الحيوي من ناحية، وحاضرها بعلومه وفنونه وبعض نظمه من ناحية أخرى.
تعليق على مقال شرح وتشريح
قرأت في عدد الأهرام الصادر يوم الإثنين الماضي مقال الدكتور زكي نجيب محمود بعنوان «شرح وتشريح»، وأنا واحد من الذين يتابعون باستمرار كتابات ذلك المفكر العظيم الذي جعل همَّه الأول الدعوة إلى إعمال العقل وإعلاء الفكر العلمي ليحكم سلوكنا، وليكون منهجًا لحركتنا الاجتماعية والسياسية، بل وسلوكنا الفردي، وهو بلا شك يكابد من جرَّاء هذه الدعوة كثيرًا من العنت ويتحمل كثيرًا من العذاب، ولكنه لا يُفصح عن هذا فيما يكتب، وإن كان المرء لا يفوته أن يدركه من خلال كلماته الصادقة العميقة المفعمة بالمعاناة من أجل الحقيقة.
تحدث الدكتور في مقاله عن «حرية التفكير»، وأخذ في تشريح وشرح ما تحتمله هذه العبارة من معانٍ ومقاصد، وكان تعريفه لحرية التفكير بأنها «عملية ذهنية لرسم خطة عمل نحقق بها هدفًا ما»، كان هذا التعريف جامعًا مانعًا كما يقول المناطقة، ولكن مع ذلك فليسمح لي أستاذي الدكتور أن أختلف معه في تشريحه بعد ذلك لمعنى «حرية التفكير» ومضمونها.
إن مقتضى تعريفه السالف يعني أن هناك حدين لحرية التفكير هما أولًا «العملية الذهنية»، وثانيًا «الخطة التي تحقق هدفًا ما»، والدكتور ركز على أن ما يعتور حرية التفكير إنما يكون فيما يحدث من تداخلات وعوائق في رسم الخطة وتحديد الأهداف، وأخذ يضرب الأمثال على ذلك بمن يضع خطة للسفر، أو بمن يضع خطة للتعليم، وأنه يجب أن تكون هناك علاقة واحد بواحد، أي علاقة مشاكلة كاملة بين الفكرة ومشروعها، وأنه عندما يحدث خلل في هذه العلاقة لسبب ما كتدخل ذوي السلطان تنعدم الحرية عندئذٍ، وهذا كله حق، ولكن الدكتور قصر حديثه على «الخطة» ولم يتحدث عن «العملية الذهنية» نفسها، وقد يتوهَّم واهم أن «العملية الذهنية» — لأنها عملية حيوية — تتم داخل دماغ شخص ما لا يمكن أن تخضع لصاحب سلطان، أي لا يمكن أن يكون لأحد سلطان عليها بالمنع أو الخوف أو الإضافة، ولكن السلطان يفعل فعله عندما يبدأ الشخص (المفكر) في وضع «خطته»، فأنا يمكن أن أرسم خطة العمل بملء حريتي في ذهني، (خطة سياسية أو اجتماعية أو هندسية أو فنية) ولكن عندما أريد أن أخرج بها إلى مجال التنفيذ قد أصطدم بمن يريد أن يغيِّرها بالحذف والإضافة، إما لأن أهدافه تختلف عن أهدافي، وإما لأن فهمه وثقافته ومعطياته العقلية تختلف عمَّا يخصني مما يترتب عليه اختلاف العملية الذهنية نفسها في الأساس.
وهنا إما أن أرضخ لهذا الشخص لأنه صاحب سلطان، فأغير وأبدل وأضيف وأحذف في «خطتي»، وأفقد حريتي، وإما أن أقاوم من أجل حريتي.
وعلى أية حال فإن هذا القهر الذي يقع على «الخطة» و«تنفيذها» هو أهون ألوان القهر؛ لأنه تدخل في المظهر الخارجي ﻟ «التفكير»، هو محاولة لمنع التفكير من أن يحقق ذاته، ولكنه يدع «المفكر» قادرًا على المقاومة، أما أسوأ ألوان القهر، وهو ما لم يتحدث عنه الدكتور، فهو ما يقع على «العملية الذهنية نفسها»، هو ما يكمن في عقل المفكر من عوامل الضغط والإرهاب، أو عوامل الزيف والغش والتدليس، وهي عوامل قد تكون قديمة، كالتقاليد والمسلمات الدينية، التي قد تكون أقوى وجودًا من المسلمات الرياضية، وقد تكون آنية كالدعاية وعمليات غسل المخ الملحة التي تقع تحت تأثير أشد العقول ذكاءً وفهمًا، فتفقد الوعي دون أن تعي ذلك.
ومن هنا فإنه لكي تتحقق «حرية التفكير» لا بد من أن يكون «المفكر» حرًّا من الضغط الخارجي المادي الذي يقع على «خطته» ومن الضغط الداخلي المعنوي الذي يقع على «عمليته الذهنية»، ولا بد من أن يكون المفكِّر قادرًا على أن يقاوم كل المؤثرات التاريخية والآنية، مادية كانت أو معنوية، ليتحقق له إجراء «العملية الذهنية» ووضع «الخطة» دون أي تأثير ينحرف بهذه أو تلك عن الهدف المنشود، يجب أن يكون «المفكر» عاريًا تمامًا إلا من إيمانه بالهدف الذي يريد أن يحققه.
وهذا ليس مجرد فذلكة عقلية، ولكنها رؤية محددة تساعدنا على إدراك ما قد يعتور «حرية التفكير» من عوائق، فليست هذه العوائق مجرد سلطان أو صاحب نفوذ، أو أية عوامل خارجية مادية كانت أو معنوية تعترض «الخطة»، ولكنها أيضًا عوائق قد تخترم العقل نفسه وتؤثر على «العملية الذهنية» دون أن تستثير أية رغبة في المقاومة؛ لأنها تحدث بإرادة من تقع عليه أو على الأقل في غفلة منه، وتسري في دماغه مسرى السرطان الخبيث، ومن أجل هذا كان النضال من أجل حرية التفكير ليس فقط نضالًا «ماديًّا» لإزاحة عوامل القهر التي تقع على «الخطة» وتنحرف بالأهداف، بل أيضًا نضالًا معنويًّا، يستهدف تحرير العقل ذاته الذي يقوم ﺑ «العملية الذهنية»، تحريره من كل عوامل القهر والتخلف والقصور.
ومن هنا أيضًا قد ننخدع في بعض المجتمعات ونعتبرها مَثَل الحرية الأعلى، حيث لا يبدو لنا فيها ذلك القهر المادي الذي يقع على «الخطة والهدف»، وإنما يبلغ فيها القهر مبلغًا فظيعًا من المكر والخبث؛ لأنه يقع على «العملية الذهنية»، يقع في بساطة ويسر وبلا عنف، بل يقع على «المفكر»، أي على «الإنسان» وهو يستمتع به في الصحافة والإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما، بل في برامج التعليم، ويقع بما تحمله التقاليد والموروثات والمسلمات الفكرية، والاجتماعية الطاغية، من عوامل التخلف والقهر.