حرية الفكر مرة أخرى
لقد أعجبت إعجابًا شديدًا بالوضوح الناصع الذي عرض به الفنان الكبير الأستاذ حمدي غيث رده على ما كنت نشرته من حديث عن حرية التفكير، ويتلخص الرد في أنه بمثابة «تكملة» أراد بها الأستاذ حمدي غيث أن يستوفي بها جانبًا من الموضوع رأى الأستاذ أنني أسقطته من حسابي بغير مبرر، وذلك أني حين عالجت موضوع التفكير وحريته، بدأت أولًا بتحليل ذلك الشيء الذي نطلق عليه لفظة «تفكير» فإلى أي شيء نُشير — على وجه الدقة — حين نستخدم هذه الكلمة فيما نقول أو نكتب؟ حتى إذا ما فرغت من ذلك التحليل، انتقلت إلى معنى «الحرية» حين توصف بها عملية التفكير.
وكانت خلاصة ما حددت به طبيعة «التفكير» أنه عملية ذهنية تنتهي بصاحبها إلى ما يشبه رسم خريطة لو اهتدينا بها عند التنفيذ، بلغنا الهدف الذي من أجل بلوغه جرت عملية التفكير عند من أجراها، وبمقدار ما تكون تلك الخريطة الذهنية صحيحة، تكون قوتها في تحقيق الهدف المنشود، وكذلك بقدر بُعدها عن الصواب، لا يترتب على تنفيذها بلوغ للغاية التي يراد بلوغها، ثم تجيء «حرية التفكير» أو الحرمان منها، عند إخراج الخريطة الذهنية، أو النظرية إلى حيز التطبيق، فإذا رُوعيت حرية المفكر، ترك ليخرج فكرته من رأسه إلى دنيا العمل، لتتحول هناك من كونها فكرة في الذهن لتصبح عملًا يؤدَّى، أو سلوكًا يُسلك، أما إذا قُيدت حرية المفكر، رأيت صاحب السلطان الذي فرض ذلك القيد، قد فرض إجراءات من شأنها ألا تتم عملية الترجمة التي تحول الفكرة الكامنة في رأس صاحبها إلى واقع في دنيا الناس يرونه أو يسمعونه.
تلك خلاصة شديدة الإيجاز لما عرضته، فرأي الأستاذ حمدي غيث أنه إذ يوافق على الجانب الذي ذكرته من الموضوع، فهو يراني قد أغفلت جانبًا آخر له أهميته وخطورته، فحديثي عن الحرية أو الحرمان منها قد انصبَّ على جانب الفعل والتطبيق، أي إنه اقتصر على النصف الخارجي المنظور أو المسموع، ولكن ماذا عن الفاعلية الذهنية الداخلية نفسها؟ فإذا أجبته بأن أحدًا لا يستطيع أن يحرمك من فاعلية عقلك، ما دمت منحصرًا في حدود رأسك لا تخرج شيئًا مما يدور فيه إلى الناس كلامًا أو سلوكًا تنشط به، أسرع فتلافى مثل هذه الإجابة في رده، شارحًا لنا أوضح ما يكون الشرح، بأن الذي يعنيه هو أن حرية المفكر تتعرض للخطر حتى وهي لا تزال في مخبئها من الدماغ وذلك إذا كان المفكر قد وقع تحت تأثير العوامل الخارجية التي من شأنها أن تشكل للإنسان المتلقي لتلك العوامل طريقة تفكيره، فهناك ما نعلمه جميعًا من وسائل الإعلام، وما تحدثه في تشكيلنا على نحو ما يريده لنا المسيطرون على تلك الوسائل، وسواء كنَّا على وعي بما يقع علينا ويؤثر فينا، أو كنَّا في غفوة عنه فالحاصل واحد، وهو أن يجد الإنسان نفسه يفكر وفقًا لما شكَّله به من شكَّلوه، لا وفق ما كان ليفعله إذا خلوا بينه وبين فطرته وموهبته؛ ولهذا يرى الأستاذ حمدي غيث وجوب أن يكون المفكر «عاريًا تمامًا إلا من إيمانه بالهدف»، وهذا الجانب الداخلي من حرية التفكير هو الذي يُأخذ على الأستاذ غيث أنني أسقطته من الحساب — مكتفيًا بالجانب الخارجي، جانب التنفيذ — الذي قد يتدخل صاحب السلطان في مجراه فيلغيه أو ينقص منه بالقيود التي يختارها لذلك.
واعتراض الأستاذ حمدي غيث له قوته ووجاهته، لولا أنه يتمنى للإنسان أمرًا مستحيلًا عليه بحكم طبيعته ذاتها؛ إذ إن عملية التفكير لن يكون لها وجود — مجرد وجود — إلا إذا كان قد سبق إلى ذهن الإنسان شيء ما ترتكز عليه، كفراخ الطير تخرج من بيضها مزودة بأجنحتها لتطير، وإلا قبعت في أعشاشها، إن عملية التفكير — بطبيعتها — ضرب من الفاعلية لا يولد إلا وله في الرأس ركيزة يتكئ عليها ليتحرك، وانظر إلى حركة الفكر في دنيا «العلم» بشطريها: العلم الرياضي، والعلم الطبيعي، ففي العلم الرياضي لا بد من «افتراض» مجموعة من المسلمات حتى يُتاح للفكر الرياضي أن يتحرك منبثقًا منها لا لأن تلك «المسلمات» أمور تولدت عن العقل ذاته بما فُطر عليه ذلك العقل منذ ولادته، بل لأن عالم الرياضة قد «افترضها» افتراضًا، وكان يجوز له أو يجوز لغيره أن يفترض سواها، ولماذا وجوب افتراضها؟ ذلك ليكون لحركة الفكر محطة قيام، وإلا لما عرف القطار كيف يسير ولا إلى أين يسير، وأما في العلم الطبيعي فالموقف — في جوهره — هو هو، والاختلاف مقصور على الشكل؛ إذ العلم الطبيعي محطة القيام فيه هي مجموعة معلومات تجمع أولًا عن الظاهرة المراد التفكير فيها بطريقة علمية، ثم يعقب ذلك تفسير يضم تلك المعلومات المتفرقة تحت فكرة واحدة نقدمها على سبيل الافتراض أيضًا إلى أن يثبت تطبيقها على دنيا الواقع أنها فكرة صحيحة فها هنا أيضًا كما ترى، لا بد من ركيزة يستند إليها العقل ليتحرك.
لكنك مع ذلك قد تسأل، ويحق لك أن تسأل قائلًا: صدقنا وآمنا بأن عملية التفكير لا تبدأ في الحركة إلا إذا كان قد سبق ذلك في ذهن المفكر ركيزة ترتكز عليها لتسير، ولكن من الذي يضع في رءوسنا تلك الركيزة، أنضعها لأنفسنا بأنفسنا، أم يضعها لنا ذو نفوذ وسلطان؟ ولقد ذكر لنا الأستاذ حمدي غيث في ردِّه أمثلة لركائز تُقحم على عقولنا بغير اختيارنا، كالتقاليد، وما تبثه فينا الدعاية بأشكالها المختلفة، وها هنا نكون — بحق — قد وضعنا أصابعنا على نقطة بالغة الخطورة في تربية العقل تربية عملية موضوعية، وإن هذه المناسبة مواتية أقول فيها إن التاريخ الفكري للإنسان يشهد في جلاء أنه لا انتقال لجماعة الناس من مرحلة فكرية لم تعد صالحة للعيش المزدهر النامي، إلى مرحلة أخرى إلا إذا اقتلع من رءوس الناس بعض ما ركز فيها من أفكار بليت وذهب زمانها، لتحل محلها أفكار أخرى أكثر صلاحية لسير الحضارة.
ومن الأمثلة القوية لعملية الاقتلاع هذه ما بشَّر به فلاسفة أوروبا؛ إذ كانت على مشارف نهضتها من وجوب تنقية الرءوس مما بها، لإعادة النظر فيه وتمحيصه لكي يُعاد البناء الفكري على أساس أقوى، وكلنا يعلم ما صنعه ديكارت في هذا السبيل حين طالب نفسه أولًا بأن يفرغ رأسه مما يحتويه لأنه قد تلقَّى كثيرًا جدًّا من الأفكار التي تلقاها قبل أن تكون له القدرة على النقد والتحليل والمراجعة والتحقيق؟ فإذا ما نحَّى جانبًا محتوى الذهن، كان في وسعه عندئذٍ أن يُعيد البناء من جديد على أسس ثابتة اليقين، ولا تقبل أن يشك في صوابها.
وفي فاتحة النهضة الأوروبية كذلك كان هنالك فيلسوف آخر أراد أن يُقيم للعقل منهجًا سديدًا، فكان أن دعا أولًا إلى التخلص من مصادر الخطأ، ومن أهمها ما أسماه «أوهام الكهف»، وذلك الفيلسوف هو البريطاني «فرنسيس بيكون»، ويقصد بأوهام الكهف أن كلامنا يطوي في رأسه كهفًا معتمًا مليئًا بحفنة من الأفكار لا يرى سواها، فيظن أنها الحق الذي لا يأتيه باطل، وإذن فأول واجب على من أراد فكرًا صحيحًا هو أن يتخلص من كهفه ذاك ليخرج إلى النور، وجدير بالذكر هنا أن نقول إن «بيكون» قد أخذ التشبيه بالكهف عن أفلاطون الذي أورد هذا التشبيه مفصلًا في محاورة «الجمهورية» ليقول به إن الإنسان في حياته الفكرية والمألوفة هو كمن ولد ونشأ وعاش في كهف ووجهه متجه إلى جدار الكهف الداخلي وظهره إلى الفتحة التي ينفتح بها الكهف على الطريق الخارجي، فهو — أي سجين الكهف — لا يرى أمامه إلا ما قد ينعكس على جدار الكهف الداخلي من ظلال ألقت بها أجساد السائرين خارج الكهف، فلو قيل له إنك لا ترى أمامك إلا ظلًّا للحقائق لا الحقائق نفسها لما فهم معنًى لما يقال، فدنياه كلها هي تلك الظلال.
والمُستفاد من هذا كله أن الإنسان يعبأ منذ طفولته الباكرة بأفكار وصور للسلوك يربيه عليها أبواه ومن عساه يصادفه في محيطه، ثم تأتي المدرسة وتعليمها ووسائل الإعلام وشحناتها إلى آخر تلك القائمة الطويلة، فإذا هو آخر الأمر إنسان «مصنوع» من الناحية الفكرية على أيدي الآخرين، وأخطر ما في الموقف هو أننا لا نستطيع مقابلة هذه الحالة بما يمحوها محوًا كاملًا، فأقصى ما نستطيعه هو أن نُحسن تربية من نربيه لينشأ على استعداد تامٍّ لتصحيح ما كان قد عُبِّئ في رأسه من أفكار إذا ما وجد ما هو أصح منها دون أن يجمد على محصوله القديم، وكأنه منزَّه عن الخطأ.
لكنه حين يستبدل بفكرة قديمة عنده فكرة جديدة أصح منها؛ فهو إنما يعيد الموقف نفسه في صورة جديدة؛ لأن الأغلب هو أن يتلقى هذه المرة فكرة من سواه عاجزًا في معظم الحالات عن تحقيقها لنفسه تحقيقًا علميًّا، كما تلقى في طفولته وصباه أفكارًا عن سواه أخذها مأخذ التسليم.
ولقد ازدادت المشكلة إشكالًا في عصرنا الحاضر، وذلك من جهتين، فأولًا تقدم علم النفس تقدمًا هائلًا مما جعل العلماء على قدرة كبيرة في تشكيل سلوك الإنسان وطريقة تفكيره، ولهذا أصبح ما يطلق عليه اسم «غسل المخ» أمرًا ميسورًا، بمعنى أن يتحكم من أراد أن يتحكم في تفريغ مخ الإنسان من محتواه — إذا صح لنا استعمال هذا التصوير المادي في مجال العقل — لتعبئته بمحتوًى آخر، وفي تشكيل سلوكه بعادات جديدة غير عاداته السابقة، وكثيرًا ما يحدث هذا في أسرى الحرب، بل هذا نفسه هو ما يحدث شيء منه بطريق الدعاية ووسائل الإعلام إذا ما خطط صاحب السلطان لهذا الهدف، وثانيًا كثرة الأجهزة التي نتجت عن التطور التقني الحديث «التكنولوجيا» التي يستعان بها على شحن أي إنسان بالشحنة الفكرية والسلوكية التي تراد له، وقد سبق لي أن كتبت (الأهرام في ٢٧ / ٢ / ١٩٨٤م) تحت عنوان «هذه الأجهزة وحرية الإنسان»، وكانت المشكلة التي دفعتني إلى كتابة ما كتبته هي الخطورة الداهمة التي تصيب مسألة المسئولية الأخلاقية، فنحن إنما نتوقع للإنسان أن يكون مسئولًا عما يفعله بحر إرادته، فماذا وقد تمكَّن العلم بأجهزته أن يُغير من فكر الإنسان وإرادته بحيث أصبح يفكر ويريد متوهمًا أن الفكر فكره الحر وأن الإرادة هي إرادته، مع أن الفكرة والإرادة معًا قد صنعتهما له أجهزة الدعاية وأجهزة الإعلام؟
ولا يسعنا إزاء هذا كله إلا أن نوصي ونلح في التوصية بأن نربِّي أبناءنا على منهج التفكير العلمي حتى نحصل لهم على قدر معقول من النقد والتمحيص والموضوعية، لا أقول ليتخلصوا من البلاء كله؛ بل أقول ليحصروا هذا البلاء في حده الأدنى.
وبعد هذا أعود إلى ما عرضه الأستاذ حمدي غيث في رده من وجوب أن يفكر المفكر الحر «عاريًا تمامًا إلا من إيمانه بالهدف» (هذه هي عبارته)، فأقول: إن ذلك العري الكامل مستحيل نظريًّا وعمليًّا في آنٍ واحد؛ إذ لا بد من أفكار، إما مكسوبة وإما فطرية تكون متكأ لحركة الفكر، وإن الحرية الداخلية في فاعلية الفكر مكفولة لكل إنسان لا يستطيع حيالها أقوى الجبابرة الطغاة أن يتعرض لها ما دامت تلك الفاعلية حبيسة الدماغ لا تتسلل إلى الناس حيث يعيشون، ولذلك فإن ما يستحق أن نطالب به هو أولًا أن نزود المواطنين بقوة النقد والتحليل لما يتلقونه من أفكار، وثانيًا أن يخرج صاحب الفكر فكره إلى العلانية والتطبيق، دون أن يصيبه أذًى.