المسلم الجديد
عن بناء الإنسان الحر أتحدث
لست من فقهاء الإسلام أو علمائه، ولكنني مسلم، والمسلم أسبق في ترتيب الزمن ظهورًا من فقهاء الإسلام وعلمائه! إنني كما أنعم بعقيدتي، أشعر شعورًا قويًّا بما تلقيه عليَّ من واجب، ولست أريد بذلك مجرد القيام بفرائض الدين، فذلك أمر مفروغ منه ولا يحتاج إلى سؤال، فهو بمثابة أن تقام للبناء أركانه فيجيء بعد ذلك سؤال: ثم ماذا بعد أن أقمت أركان البناء؟
إن نعيمي بعقيدتي صادر من كونها عقيدة مكنتني من الشعور بإنسانيتي إلى آخر المدى الذي استطاعته جبلتي، ولو كانت الطبيعة التي جُبلت عليها أرحب وأعمق وأقوى، لاشتد ذلك الشعور بإنسانيتي أغوارًا وأبعادًا، ولكن حسبي من عقيدتي أن كانت حافزًا لكل ذرة من قدرة ولدت بها أو اكتسبتها من عرك الحياة والتمرس بخبراتها، وقد كان من الممكن لعقيدة أخرى — لو كان الله قد أراد لي عقيدة أخرى — أن تضع في طريق ملكاتي البشرية قيودًا وعثرات تعرقل انطلاقها ونماءَها بكثرة حرامها وقلة حلالها، ولست بمستطيع في بضع صفحات أن أتقصى كل الجوانب التي تجمعت لي من أصول عقيدتي وتآزرت لتفسح أمامي مجال الشعور بإنسانيتي إلى آخر ذرة في طاقتي، ولكن جانبًا واحدًا هنا يكفيني، وهو أن أتخلق بصفات ربي، فأكون واحدًا أحدًا، كما أنه سبحانه وتعالى واحد أحد، مع الفارق اللامتناهي في حدوده بين الإنسان وربه، فتلك الصفات بالنسبة إلى الخالق جل وعلا لا نهاية لحدودها، ولكنها في البشر تكون محدودة بقصور الطبيعة البشرية وحدودها، هكذا قال لنا فقهاء الدين وعلماؤه، وما كنت لأقوله من عندي؛ لأنني لست من الفقهاء، ولا من العلماء في مجال الدين، ولكنني مسلم أشعر — مستلهمًا عقيدتي — بما قد يجيء الفقهاء والعلماء بعد ذلك فيتناولونه بالتحليل والتأصيل.
وأما الواحدية؛ فهي ما نعبِّر عنه بلغتنا الدارجة بقولنا «فردية»، فأنا بين سائر البشر فرد لا يشاركني في خصائصي بكل تفصيلاتها فرد آخر؛ وهكذا شاء رب العالمين للناس أن يكونوا أفرادًا، لكلٍّ فرديته التي تميِّزه وحده، فحتى لو تشابه مع نوعه في ألف ألف صفة، فهو يتوحد بفرديته ببضع خصائص، وأما «الأحدية» فهي التي قد نقول عنها بلغتنا الدارجة حين نصف إنسانًا سليمًا سويًّا إنه لا ينقسم على نفسه، بمعنى أن قواه الفطرية لا يتنازع بعضها مع بعض، بل هي متعاونة متآزرة على السير في طريق واحد، نحو غايات واضحة ونبيلة، إذ كثيرًا جدًّا ما يقع الإنسان فريسة حرب داخلية بين مختلف نوازعه: العقل يملي عليه بشيء، والعاطفة تدفعه إلى شيء آخر، وبين العقل والعاطفة تأخذه الحيرة والاضطراب.
وإنها لنعمة كبرى أن يكون للفرد من الناس ما يحقق له فرديته تلك، ثم أن يجد ذلك الفرد في طوية نفسه مصالحة مطمئنة بين مختلف الدوافع والقوى، وفرق بعيد بعيد بين أن يكون الإنسان معتنقًا لعقيدة تؤيده فيما يبتغيه بفطرته، وبين أن تشده عقيدته في ناحية وتشده الفطرة في ناحية أخرى، ولست أقول بذلك إنني قد بلغت من تلك النعمة أقصى مداها، كلا، فلم يشأ لي ربي أن يكون في جبلتي ذلك السواء كله، وتلك الطمأنينة كلها، فالناس في هذه النعمة يتفاوتون، وإني لأحمد الله على نصيبي منها، وحسبي أن أكون على وعي بها، فذلك الوعي بالنعمة هو في ذاته نعيم على نعيم.
ولقد أجمع أهل الفكر في عصرنا على أن من أبشع آفات هذا العصر آفة جاءت نتيجة طبيعية مباشرة لأروع ما يتميز به من حسنات، وأعني بها نزوعه إلى «العلم» بأسرار الكون، نزوعًا لم يعهده الإنسان قبل ذلك في أي عصر من عصور التاريخ، وهو علم تولدت عنه صناعة من طراز فريد، لم يكن يعرفه ولا يحلم به الإنسان فيما مضى من حضارات، ثم تولد عن العلم وذيوله الصناعية ضرب من الحياة أفقد «الفرد» الإنساني كثيرًا جدًّا من فرديته، وكثيرًا جدًّا من طمأنينته بنفسه التي هي ناتج الأحدية (أعني اتساق القوى الباطنية فيه) فاستبد بالإنسان في هذا العصر قلق وضجر وسأم ويأس، بدرجة فاقت — هي الأخرى — ما كان قد أصاب الإنسان منها في أي مرحلة سابقة من مراحل التاريخ، وإنني كلما رأيت مفكرًا منهم يحلل تلك الآفة العصرية، باحثًا لها عن علاج، سمعت في صدري صوتًا يقول إن علاج ذلك هو في شعور المسلم بواحديته وأحديته لا بدافع من فطرته وكفى، بل كذلك بحض من عقيدته.
وعلى هذا النحو أنعم بعقيدتي، وإنما اكتفيت هنا بذكر مصدر واحد من مصادر تلك العقيدة، وكان يمكن أن تُضاف إليه عشرات، وكان لا بد لي في مقابل تلك النعمة النفسية أن أشعر بقوة الدفع نحو واجب أؤديه لتلك العقيدة التي أفيء إلى ظلها ولم يكن الواجب الذي تصورته سيفًا أحمله، ولا حتى مالًا أنفقه، ولا ضيقًا في صدري نحو من لا يرون رؤيتي ويعتنقون عقيدتي، بل كان «كلمة» أرددها وألح في ترديدها وأكتبها ولا أمل من كتابتها، وهي الدعوة إلى القوة التي تلائم هذا العصر، وهي قوة أولها «العلم» وأوسطها «العلم» وآخرها «العلم».
هي قوة أولها التزود بعلوم العصر، وأوسطها مزيد من ذلك العلم، وآخرها مزيد من المزيد.
ويا لشقائنا من كلمات نملأ بها أفواهنا دون أن نحدد لها معانيها التي نريدها لها، فأنت إذا دعوت إلى علم وإلى مزيد من علم جاءتك أصوات غاضبة من كل ناحية: أي علم تريد يا مولانا والعلماء عندنا يعدُّون بعشرات الآلاف، «الدكاترة» بل الدكاترة وحدهم من هؤلاء العلماء يبلغون عشرات الآلاف! إذن فكلمة «العلم» في هذا السياق تريد التوضيح والتحديد، العلم بماذا؟ ولهذا السؤال ما يبرره؛ إذ إن كلمة «العلم» هذه قد أُطلقت على أشياء مختلفة في العصور المختلفة، بل إنها في العصر الواحد لتطلق على ميادين يختلف بعضها عن بعض اختلاف الأبيض عن الأسود، فقد كان العلم في العصر اليوناني القديم، ثم على العصور التي توالت بعد ذلك حتى عصر النهضة في أوروبا إبان القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أقول إن العلم خلال ذلك الدهر المديد يعني عند أصحابه — في معظم الحالات — أن يكون بين يدي العالم قول ما، فيستخرج هو منه ما قد كان مضمرًا فيه ليجعله ظاهرًا، وليس هذا بالأمر الهين؛ لأن المسألة في ذلك تحتاج إلى قدرة على التحليل تنصب على القول المعين المبدوء به لتستولده معانيه الكامنة فيه، فما أيسر على الإنسان العادي — مثلًا — أن يقول عن البحر أو عن الجبل أو ما شاء إنه «جميل»، أما الذي هو مضمر في فكرة «الجمال» من عناصر وصفات فهيهات على الإنسان العادي أو من هو فوقه بقليل أن يستطيع استخراجها من جوف الموقف المشار إليه بصفة الجمال، وقل شيئًا كهذا عن صفة «الفضيلة»، فالكلمة جارية على كل لسان، ولكن ماذا تضمر تلك الكلمة في ثناياها من معانٍ؟ ذلك هو ما يحتاج إلى تحليل لا يقوى عليه إلا «العلماء» بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة بين القدماء. وأحب أن أوجِّه الانتباه إلى جانب عظيم الأهمية هنا، وهو أن الفكر الرياضي كله إنما يقوم على مثل هذا الضرب من التحليل، فلا عجب أن يبلغ القدماء من اليونان إلى العرب من بعدهم ما بلغوه في علوم الرياضة، فلما جاءت النهضة الأوروبية كان موضع نهوضها الأساسي هو أنها أضافت (وأرجوك الالتفات إلى كلمة أضافت هذه)، أضافت إلى ذلك النوع من العلم الذي قوامه أن يستولد الرموز اللغوية والرياضية ما يمكن أن يتولد عنها نوع آخر كان موجودًا قبل ذلك في أضيق الحدود، وهو أن ينصب جهد «العلم» على الطبيعة وظواهرها انصبابًا مباشرًا، فليس المطلوب هو فقط أن نضع بين أيدينا جملًا لغوية أو تركيبات من رموز الرياضة لنرى ما الذي نستطيع استخراجه منها، بل مطلوب كذلك أن «نقرأه على الطبيعة»؛ لأنها بدورها بمثابة كتاب مفتوح يراد له أن تفك رموزه حتى ينكشف عن سرِّه الغطاء، ومن هنا نشأ في النهضة الأوروبية منهج جديد «يضاف إلى المنهج السابق عليه ليستطيع العلماء الجدد أن يقرءُوا كتاب الطبيعة كما استطاع السابقون عليهم أن يقرءُوا بمنهجهم ما أرادوا قراءته من صحائفهم، وأعني بكلمة قراءة هنا — كما هو واضح — عمليات التحليل التي تستخرج من الشيء المعروض مضموناته الكامنة في أصلابه».
وكما كان أرسطو إمامًا للمرحلة الأولى كلها، وقد امتدَّت ما يقرب من عشرين قرنًا، إمامًا بصياغاته لقواعد المنطق ومبادئه التي بها يتم استدلال صحيح من قول مقدم إلى قول ينتج عنه، كان نيوتن هو إمام المرحلة الثانية، وذلك من حيث رؤيته للكون رؤية تُحيله إلى مادة وحركة، وهو يخضع في كل ذلك لحتمية صارمة، فالأشياء نفسها ذات قصور ذاتي رأى أنها لا تحرك نفسها بنفسها، بل لا بد للشيء إذا تحرك أن تجيء حركته بفعل عوامل خارجية عنه، وذلك وفق القوانين الحتمية الصارمة التي أشرنا إليها.
وامتدت ريادة نيوتن إلى أواخر القرن الماضي، حين أُضيفت (ومرة أخرى أرجو الالتفات إلى كلمة أُضيفت هذه) فكرة جديدة تستتبع رؤية أخرى تسد مواضع نقص كانت قد تبدَّت في نظرة نيوتن، وذلك حين وجِد أن قوانين الحركة عند نيوتن تنطبق على مجالات دون أخرى، فهي لا تشمل الذرة الصغيرة من حيث حركة كهاربها، كما أنها لا تشمل الأبعاد الفلكية فيما وراء المجموعة الشمسية، فظهر للمرحلة الثالثة — وهي المرحلة التي نجتازها نحن في عصرنا هذا — رائد جديد برؤية جديدة هو أينشتين وفكرة النسبية.
وبهذا العلم في صورته الجديدة كان ما كان من تطور سريع في الأجهزة العلمية التي هي وليد مباشر للعلم في صورته الراهنة، فهل نفتري على الحق كذبًا إذا قلنا إن العالم الإسلامي قد احتفظ بمنزلته الريادية طالما كان العلم منصبًّا على أشياء لم تكن هي كتاب الطبيعة وبمنهج لم يكن هو منهج العلوم الطبيعية، أما بعد ذلك منذ رفع نيوتن لواء علم جديد، ثم تبعه في عصرنا أينشتين ليرفع لواءً آخر لرؤية أخرى، فقد أصبحت القوة لغير العالم الإسلامي، بل أخذت أجزاء هذا العالم تهوي أمام القوة الجديدة جزءًا بعد جزء حتى بات العالم الإسلامي كله في أيدي من غزوه من أصحاب العلم الجديد.
ونسأل عن المسلم الجديد كيف نريد له أن يكون؟ فقل لي بالله ماذا يكون سوى أن يسعى إلى قوة العلم في أحدث صوره، يسعى إليه من أبوابه ومن نوافذه ومن كل ثقب إبرة يوصله إلى تلك القوة، وعندئذٍ يسود الدنيا كما يسودها آخرون، أما علماؤنا فيما هم فيه اليوم، فبرغم فضلهم وتحصيلهم ومؤهلاتهم ومؤلفاتهم فهم لم يحققوا أمرين بغيرهما يتعذر علينا الوصول إلى ما نبتغيه، الأمر الأول هو أنهم في أكثر الحالات حافظون لما صنعه سواهم، ينقلونه من مراجعه نقلًا أقرب إلى التكديس والتجميع منه إلى التفكير المبتكر الأصيل، ولا فرق بين أن يكون المنقول عنهم هم أجدادنا نحن أو أبناء الغرب وثقافته وحضارته، والأمر الثاني هو أنهم يحفظون ما يحفظونه وينقلون ما ينقلونه دون أن يتغير عند أكثريتهم الغالبة ذرة من حيث منهج التفكير، فيظلون ينظرون إلى الدنيا كما كانوا ينظرون.
إنك إذا أردت تعريفًا — أدق تعريف للعلم — فلن تجد ذلك التعريف مستمدًّا من مضامين الموضوعات التي يبحثها العلماء؛ وذلك لأن لكل عالم منهم موضوعًا مختلفًا كل الاختلاف عن موضوع زميله، فواحد يبحث في الضوء وقوانينه، وثانٍ يبحث الجينات التي عن طريقها تتم الوراثة، وثالث يبحث في عوامل سقوط الدولة الأموية، ورابعٌ يبحث في كيفية استخراج السماد من الهواء، وهكذا، وكل هذه الحالات هي «علم» فكيف يمكننا تعريف العلم بمادة بحوثه؟ لكن ذلك التعريف ممكن إذا بحثنا في تلك الحالات كلها عن نقطة تشترك فيها جميعًا، وسنجد أنها كلها تلتقي في «المنهج» الذي ينتهجه الباحث. وقد أسلفنا لك نبذة غاية في الإيجاز تبين كيف تميزت عصور التاريخ في هذا الصدد بتغير المنهج، فقد كان على صورة معينة رائدها أرسطو، ثم أصبح إمام النهضة الأوروبية على صورة ثانية (أضيفت إلى الصورة الأولى)، وكان أبرز من مارس تطبيقها هو إسحاق نيوتن، ثم جاء عصرنا بصورة ثالثة قامت على استخدام الأجهزة، وأحلت الاحتمالية محل الحتمية في قوانين العلم، ووقع هذا كله في ظل النسبية التي كان أينشتين رائدها، ومعنى هذا كله هو أن تعريف العلم إنما يكون بمنهجه لا بمادته، فليكن موضوع البحث أيًّا كان، فهو علم ما دام قد انتهج منهج العلوم، أما أن نقف عند موائد الآخرين لننقل عنهم ما قد انتهوا إليه، ثم ننتهج في جوانب حياتنا طريقة ليست هي طريقة العلماء؛ فذلك هو التلفيق والترقيع والإفلاس.
ونعود بعد هذا العرض إلى المسلم الجديد وما يراد له وما يراد منه، ولقد أسلفنا لك الرأي بأن الذي يراد له ومنه إنما هو علم بمعناه الحديث ومزيد من العلم ثم مزيد من المزيد، وبهذا العلم ينفتح أمامه السبيل إلى القوة وإلى السيادة وإلى المشاركة في موكب العصر، فلقد سمعت ذات يوم مسئولًا كبيرًا — كبيرًا جدًّا — وهو يقول في اجتماع رسمي يخطط فيه الحاضرون لمستقبل شبابنا، سمعته يقول ما معناه إن في الدنيا الآن حضارة جديدة، وعلينا أن نزيد من تحفيظ شبابنا القرآن الكريم ليقاوموا تلك الحضارة، وكان الأصوب أن يقول إن علينا أن نزيد من تحفيظ شبابنا القرآن ليستطيعوا المشاركة في حضارة عصرهم، وفي هذه الجملة الأخيرة بيت القصيد.
إن كتاب المسلم هو القرآن الكريم، الذي يحثُّ المؤمن حثًّا لا ينقطع على أن يتفكر في خلق السموات والأرض، وبهذا أصبح التفكير فريضة إسلامية (وقد جعل العقاد هذه العبارة عنوانًا لكتاب له) فماذا وكيف يكون التفكير في خلق السموات والأرض إلا أن يتقصَّى المسلم كل شيء يستطيع أن يتقصاه ليعرف سره وليستخرج قوانينه، وتلك هي العلوم وما تصنعه بمنهاجها، ربما توهم من توهم أن المراد بالتفكير هو أن يجلس على كرسيه شاخصًا ببصره إلى لا شيء سارحًا بخواطره السائبة فيما ليس يدري هو نفسه إلى أي شيء تؤدي به تلك الخواطر، لا وألف مرة لا، فليست لفظة «التفكير» رمزًا بغير معنًى، بل هو لفظ عربي له في اللغة معناه، ثم حدد له المناطقة ذلك المعنى تحديدًا لم يترك لنا خيارًا في طريقة فهمه، فلأن «تفكر» لا بد لك — أولًا — من مشكلة مطروحة عليك لتجد لها حلًّا «بالتفكير» في طريقة الخروج منها، أو قل إنه لا بد لك من «سؤال» ملقًى ينتظر الجواب ممن يستطيع أن يجيب، فإذا ظننت مرة أنك «تفكر» فعليك أن تقدم لمن يسألك أو أن تقدمه لنفسك «السؤال» الذي تسعى بتفكيرك ذاك إلى الإجابة عنه، إذا فكر الطبيب في علة مريضه فهو بمثابة من يسأل نفسه ماذا عساه يزيل عنه المرض؟ إذا فكر الجغرافي في علة الخماسين فهو بمثابة من يسأل ماذا كانت العوامل المناخية والطبيعية التي حركت الهواء وأثارت الغبار؟ وإذا فكَّر فقيه في حكم الشرع في الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال المودعة فيها، كان بمثابة من يطالب نفسه بالبحث عن الأسانيد التي تثبت هذا وتنفي ذاك، التفكير — إذن — موقف فيه سؤال عن شيء ما ثم البحث له عن جواب، وقد يكون السؤال نابعًا من المفكر ذاته، وكذا قد يأتي السؤال من شخص غير الشخص الذي سيتلقاه ليبحث له عن جواب.
التفكير في خلق السموات والأرض فريضة إسلامية لا تؤدَّى وأنت متربِّعٌ على مقعدك، شاخصًا ببصرك إلى فراغ، سارحًا بخواطرك إلى غير هدف. كلا، ولا هي فريضة تُؤدَّى بتكرار الآيات الكريمة التي تحض المسلم على أدائها، فما من مشكلة طرحها العلم أو سوف يطرحها إلى يوم الدين، إلا وهي خاصة بجزء معين من خلق السموات والأرض. ولقد اضطلع السلف بكثير من التفكير في الكون وكائناته وظواهره؛ فكان منهم علماء الفلك وعلماء الطب وعلماء الكيمياء وعلماء الطبيعة في هذه الظاهرة أو تلك، كما كان منهم علماء الحيوان وعلماء النبات والرحَّالة الذين يجوبون اليابس والماء، ومع ذلك كله فلا يسعنا إلا أن نلحظ في أمرهم نقطتين، الأولى هي أن معظم جهودهم العلمية قد اتجهت نحو فقه الدين واللغة وعلوم الكلام والفلسفة وغير ذلك مما يدور كله حول «الكلمة» في شتى أوضاعها، وأما الكون وكائناته فلم يظفر منهم إلا بالجزء الأقل في جملة اهتماماتهم، والأمر الثاني هو أن العلوم الطبيعية بصفة عامة لم يكن قد آن أوانها من حيث مراحل التاريخ العلمي؛ فلقد برع القدماء في علوم الرياضة بصفة خاصة وتعليل ذلك هو أن «المنهج» الذي كان سائدًا هو منهج الاستنباط الذي يستولد من مقدمة لغوية أو رياضية نتائجها التي كانت كامنة في رموزها، فلم يكن للبحث في ظواهر الطبيعة إلا نصيب أقل من القليل.
فلم يكن قصور أسلافنا في مجال العلوم الطبيعية — أعني القصور النسبي — راجعًا لعجز في قدراتهم، ولكن المرحلة التاريخية التي جاءت حياتهم فيها لم تكن قد شهدت إلا بوادر يسيرة من ذلك الوليد الذي كُتب له أن تجيء ولادته الكاملة في أوروبا عند نهضتها، ومنذ وُلد العلم الطبيعي وولد معه المنهج الذي يلائمه. مرت على الدنيا أربعة قرون أو ما هو أكثر من ذلك قليلًا، حدث خلالها من التطور في أساليب الحياة ما لم يحدث مقدار ذرة منه خلال تاريخ بشري امتدَّ قبل ذلك أكثر من ثمانين قرنًا، بل إنك إذا أحصيت في يومنا هذا عدد العلماء، وأعني علماء الطبقة الأولى ممن جعلوا مجالهم العلوم الطبيعية، لوجدت عددهم في الجيل الواحد الحاضر يفوق بكثير عدد علماء العلوم الطبيعية خلال تلك القرون الثمانين، على أنه لا بد لنا أن نلاحظ هنا أن الأمر في ذلك ليس أمر تفاوت في القدرات العقلية بين أهل الحاضر وأهل الماضي، بل هو مجرد اختلاف في الاهتمامات، فلو كان أفلاطون وأرسطو — مثلًا — من أهل العصر الحاضر، لكان الأرجح جدًّا ألا يتجها بعبقريتيهما نحو المسائل الفلسفية، بل يتجهان بهما نحو فرع من فروع العلم الطبيعي، ولو كان الخليل وسيبويه من أبناء عصرنا لكان الأرجح جدًّا كذلك أن يتجها بذكائهما الخارق لا إلى دراسة اللغة، بل إلى علوم الذرة والكهرباء، فلكل عصر اهتماماته التي استقطبت قدرات أبنائه، وليس الفرق بين عصر وعصر فرقًا في درجة النبوغ عند أبناء هذا وأبناء ذاك. والمسلم الجديد مطالب كما طولب المسلم القديم بالتصدي لعلوم عصره، إنه مطالب بقراءة الكون فيما يعرضه أمام حواسنا من صفحات، لكنها صفحات كُتبت بلغة الصوت والضوء والمغناطيسية والكهرباء. ولقد أراد الإسلام للمسلم أن يكون قويًّا، وللقوة هي الأخرى قنوات مختلفة باختلاف العصور وظروفها، وعصرنا قوته في علومه، فليسأل المسلم الجديد نفسه: كم كان نصيبه لا من نقل علوم الآخرين وحفظها، بل نصيبه من البحث العلمي الأصيل الذي يقدمه إلى الدنيا قائلًا ها أنا ذا؟ فإذا وجد نصيبه في ذلك صفرًا أو ما يقرب من الصفر، فكيف يُبيح لنفسه بعد ذلك أن تأخذه الدهشة، ومع الدهشة غضب وحسرة حين غفا ثم استيقظ ليجد نفسه في قبضة من ليس ينتمي إلى أمته أو ملته يتحكم فيه كيف شاء مستعينًا بعلومه، ولا يقاوم العلم إلا علم مثله، ولا يتأتى للمسلم ذلك إلا إذا أمعن في دراسة كتاب الله، لا ليقاوم به حضارة العصر كما أراد المسئول الكبير، بل ليتشارك بقوته التي يستمدها منه في هذه الحضارة مشاركة الأنداد، فتكون له السيادة كما كانت لأسلافه، وليست هي السيادة على أحد من البشر، بل السيادة المطلوبة هي سيادة على ظواهر الكون بقوة العلم، وبذلك يظفر بالحرية مرتين: حرية القادر على تسخير الطبيعة لصالحه، وحرية أخرى تفك عنه قبضة من ساده بعلمه فحكمه وتحكم فيه.