التراث هو أول الطريق
عن حرية العقل أتحدث
كان الفتى المراهق يتوقَّد ذكاءً، وكان فوق ذكائه موهوبًا في الرؤية الفنية، وأعني بذلك أنه كان مستعدًّا بفطرته للسير في أي طريق شاء لنفسه، أو شاء له أهله، فهو قادر على السير في طريق التعليم الجامعي بكل فروعه قدرته على السير في طريق الإبداع الفني، وهو كأي مراهق آخر، دائب الحيرة بين قدراته المختلفة، أيها يختار لمستقبل حياته؟ وقد سألني ذات يوم: بماذا أشير؟ فأجبته قائلًا: ولماذا لا تملأ حياتك بالقدرتين معًا؟ فالمهنة تقيمها على إحدى الدراسات الجامعية من هندسة وطب وما إليهما، والهواية تقيمها على فن من فنون؟ واعلم — يا بني — أن من مواضع القصور في حياتنا أن كثرتنا الغالبة تخرج من مراحل تعليمها وليس لها إلا شيء واحد تعرفه وترتزق منه، وأقل ما يقال في مثل هذه التربية المنقوصة هو أن حياة الإنسان — كل إنسان — مناوبة بين ساعات للعمل وساعات للفراغ، فإذا أعددنا أنفسنا بالمهنة المعينة لحياة العمل الكاسب للعيش، فلا بد لنا كذلك من هواية نختارها، أو هوايات لنجعل منها مشغلة ومسلاة في ساعات الفراغ، وإن شئت يا ولدي أن أضرب لك أمثلة كثيرة لأفراد لم يكن في مستطاعهم إلا مهنة أو حرفة يحبذونها ويعيشون من ربحها؛ فإذا كان فراغ لم يعرفوا كيف يستخدمونه إلا نيامًا، لسقت لك أمثلة من هؤلاء شاء لهم الله أن يصابوا فيما يُعينهم على أداء المهنة أو الحرفة، فقضوا بقية حياتهم في حسرة وأسى، يثقل عليهم عبء الحياة فلا يجدون بين أيديهم الهواية التي يملئُون بها الفراغ الثقيل، ومضت بيننا دقيقة صامتة، فكسرت حاجز الصمت بأن سألته: هلا أطلعتني على آخر ما أبدعته من تكويناتك الفنية الرائعة؟ فأسرع كالطائر المرح وعاد ليطلعني على رسم مثير للدهشة أولًا، ومثير لسيل من الأفكار ثانيًا؛ إذ هو رسم الإنسان من حروف الأبجدية، بمعنى أنه أقام الشكل من تلك الحروف وحدها، بغير إضافة أي شيء آخر إليها، فمن الحروف كان الرأس وكانت العينان وكانت الأذنان وكان الأنف وكانت الشفتان وكانت سائر الأجزاء جميعًا، ولقد تعمد أن يكون الشكل دالًّا على مجرد إنسان، يصلح أن يكون رجلًا وأن يكون امرأة في آنٍ واحدٍ معًا. كان التكوين الفني من العناصر الأبجدية بديعًا ورائعًا، فأخذتُ أتفرسه، وقد أطلت فيه النظر، فسألني الفتى: ماذا ترى؟ فخرجت الإجابة من بين شفتي تمتمة بكلمات أرددها: أرى … إلى أبعد الآماد! ففرح الفتى بما قد سمعه وسأل في خفة المراهق: كيف؟ قلت له سأحاول أن أعرض عليك الفكرة في أبسط صورة أستطيعها، فرسمك هذا هو أبرع ما يمكن أن نصوِّر به الموقف الثقافي لشعب جمد عند ماضيه، وأبى على نفسه التطور والنماء، وكثيرًا ما شهد التاريخ مواقف ثقافية في مثل هذا التحجر، وكان مصيرها بعد ذلك إلى فناء محتوم، بل إن الأمر في هذا لا يقتصر على تاريخ الإنسان وثقافاته، وإنما يتسع نطاقه ليشمل الكائنات الحية جميعًا، فما أكثر ما جمدت أنواع حيوانية عن التكيف لظروف استُحدِثت في بيئاتها فأخذت تضعف جيلًا بعد جيل حتى اندثرت.
ونحصر حديثنا الآن — يا بني — في الإنسان وثقافته بأوسع معنًى لهذه الكلمة، وألخص لك الصورة قبل أن أنتقل معك إلى تفصيلاتها فأقول: إن موجة التاريخ إذا ما ارتفعت بأمة إلى ذروة حيويتها ومجدها، وجدت تلك الأمة مبدعةً جديدًا كل يوم، فهي اليوم أكثر امتلاءً من الأمس، وستكون في غدها أكثر امتلاءً من يومها، وقلما يحاكي إنسان من أبنائها ذوي الاهتمام المعين إنسانًا آخر في مجال ذلك الاهتمام محاكاةً تامة، ولماذا يحاكيه على تلك الصورة وهي له بمثابة إعدامه وإلغاء لوجوده؟ نعم، قد تجد من يتبعون إمامًا لمدرسة معينة، فيكونون تلاميذه في اتجاهه ومنهاجه، لكنهم يستقلون بشخصياتهم داخل ذلك الإطار، وأما إذا ما هبطت موجة التاريخ بتلك الأمة فها هنا قد يحدث أحد أمرين: إما أن تستعيد الأمة حيويتها الضائعة فتعود بها موجة أخرى إلى الصعود، وإما أن تعجز دون ذلك «فتحفظ» عن ظهور القلوب حفظًا أصم لما خلفه لهم آباؤهم من تراث، وعندئذٍ يصبح العالم من علمائهم هو من حمل رأسه فوق كتفيه، وكأنه يحمل صندوقًا مليئًا بالمحفوظات، ثم يصبح التعليم كله عملية ملء للصناديق بمحفوظات — كلٌّ بمقدار ما تسعفه قوة ذاكرته — فإذا طُرح سؤال على عالم أو على متعلم — ابتغاء إجابة تنفع في حل مشكلة طرأت على الناس — كانت الوسيلة الوحيدة للجواب هي البحث في تلك الصناديق المليئة بمحفوظاتها من مخلفات الآباء، عن قول أو جملة أو لفظة مما يمكن أن يكون لها صلة بالمشكلة الطارئة، فإذا أردنا أن نرسم صورة تبين ملامح الرجل من هؤلاء الذين يحملون أدمغة صندوقية ملئت بمحفوظاتها، لم نجد أبرع من الصورة التي رسمتها أنت يا ولدي، وكأنك أُلِهمت الحقيقة دون أن تدري؛ إذ الحقيقة في أمثال تلك الشعوب التي جمدت عروقها هي أن العالم فيها أو المتعلم لا يراد له ولا يراد منه إلا أن يكون جسدًا قوامه كله الحروف الأبجدية وزعت على محفوظات من أقوال وجمل وكلمات، وأما دنيا العمل والبناء والإنشاء والإنتاج فهذه يتولاها من لم يسعدهم الحظ بحفظ التراث، فيكون لهم هو الثقافة وهو المرتزق في وقت واحد.
تلك هي الصورة في مجملها يا ولدي، ولأعد بك إلى شيء من التفصيل ضاربًا لك المثل في المرحلتين معًا: مرحلة الإبداع والحيوية، ومرحلة المحاكاة والذبول بالأمة العربية في ماضيها وفي حاضرها، ففي ماضيها الذي شهد عزَّها ومجدها، كان كل يوم في حياتها يزيد علمًا وخصوبةً عن أمسها، وبالتالي كان غدهم يُبنى على أمسهم، ثم يضيف من عنده ما قد أبدعه هو في هذا المجال أو ذاك، وخذ أمثلة لذلك في مجال اللغة وعلومها، وفي مجال الفقه وأصوله، وفي مجال الفلسفة وتأصيلها، وفي مجال الأدب ونقده، وفي مجال العلوم الطبيعية والرياضة، وفي مجال التاريخ وتدوينه، وفي مجال الرحلات والكشوف الجغرافية، وفي أي مجال آخر تشاء، ففي كل مجال تجد القرن الثاني للهجرة أوفر علمًا من القرن الأول، والثالث من الثاني والرابع من الثالث، وقد يصل بك الصعود إلى الخامس، ثم يبطئ الصعود ليلتقي رجال العلم عندئذٍ بعملية الترتيب والتبويب في الأعم الأغلب، حتى إذا ما جاء القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) لم يكن في وسع الأبناء إلا أن يحفظ علماؤهم حفظًا أصم لما تركه آباؤهم، وهنا تحققت صورتك التي رسمتها، فلم يكن قوام العلماء إلا أقوالًا يعيدونها مما حفظوه.
وجاء عصرنا، وكدنا نوفق إلى الخروج من تلك الساقية التي تدور بأوعيتها في بئر مغلقة، تمتلئ منها ثم تعود فتصبُّ ماءها فيها، لا بل استطعنا أن نقطع شوطًا في طريق الإبداع — أو على الأقل — في طريق الحث عليه، لكننا يا ولدي عدنا فانتكسنا إلى حياة ثقافية وعلمية، وهي الحياة التي صورتها في رسمك، فالعالم والمتعلم معًا رأسه حروف، وعيناه حروف، وأنفه حروف، وشفتاه حروف، وكل جذعه وأطرافه حروف، تأتلف معه في أقوال وجمل خزنها في دماغ صندوقي حمله فوق كتفَيه، وأما دنيا العمل والبناء والإنشاء والإنتاج، فبقدر ما عندنا منها. إنما توكل إلى من لم يسعد نجمهم ليحفظوا «التراث» عن ظهر قلب، ليكون لهم هو الثقافة وهو مصدر العيش معًا.
والآن استمع إليَّ بكل انتباهك يا ولدي. إنك قد دنوت من الثامنة عشرة، وهي السن التي عندها تدخل من عالم المراهقة إلى دنيا الراشدين، ثم هي السن التي يُباح لك عندها أن تشارك في انتخاب من ينوبون عن الشعب، وبالتالي من يحكمونه، وإنني — فضلًا عن ذلك — لشديد الثقة في ذكائك؛ ولذلك فسوف أخاطبك وكأنني أخاطب الشباب جميعًا، وأول ما أقوله هو أن تلك الحرية السياسية التي ستظفر بها وشيكًا لن يكون لها كل معناها إذا لم يمهد لها ويصاحبها — ويلحق بها — حريات أخرى لا تكون هي شيئًا بغيرها، وماذا تكون حرية سياسية نمارسها في انتخاب النواب ورجال الحكم إذا لم يكن معها حرية ضمير، وحرية فكر، وحرية عقيدة، وحرية تعبير، وإن هذه الحريات جميعًا التي أقرَّها دستورنا وأقرها ديننا لتصبح هواءً من هواء إذا لم نمارسها ممارسة حقيقية في حياتنا العملية، فإذا صادفت يا بني من يريدون أن يجعلوا منها هي الأخرى محفوظات مع سائر محفوظاتهم، يكرونها لك كرًّا باللسان والشفتين، حتى إذا ما نطق ناطق بما لا يتفق مع هواهم حاصروه ليخنقوه؛ فاعلم أنهم هازلون.
استمع إليَّ بكل انتباهك يا ولدي؛ لأنني سأشرح لك نقطتين متصلتين بمنهج التفكير العلمي، وهما نقطتان على شيء من الدقة، فإذا لم تركِّز انتباهك فقد تفلتان منك فتزل في الخطأ كما يزل آخرون، ولهاتين النقطتين أهمية خاصة إذا ما كان الموضوع المطروح متصلًا بالحفظ الأصم لطائفة من المبادئ والقواعد والجمل والألفاظ، ثم يراد لها أن تكون هي الموجهات لحياة الناس في شئونهم العملية الجارية مع جريان الزمن.
أما النقطة الأولى فهي أن الخطورة فيمن «يحفظ» تركيبًا لغويًّا معينًا ويريد له أن يكون هو المرجع للفكر أو السلوك هي أنه قد ينسى أن ذلك التركيب اللغوي المحفوظ ربما كان خاطئًا في ذاته، فإذا استخرجنا منه نتيجة ما، كانت بدورها — في هذه الحالة — نتيجة خاطئة، لكننا بما في طبيعتنا البشرية من نقص وضعف إذا ما ارتبطت حياة أحدنا بمحفوظات حفظها وكررها مرة بعد مرة توهم — دون أن يدري — أنه إنما يحفظ ما هو صواب، فإذا طالبته بإقامة الدليل العلمي على صواب معرفته، تشنج وأخذه الغيظ، وهي حالة يعرفها المحللون النفسيون في مرضاهم، والذي أريد أن أقوله لك — ولسائر الشباب معك — إنه محتومٌ علينا بحكم العقل الذي تميزنا به دون سائر الكائنات بأن نتثبت بكل طريقة علمية ممكنة من صدق ما كنَّا حفظناه إذا نحن أردنا أن نجعل منه قواعد نحتكم إليها في التفرقة بين الصواب والخطأ، وأحسبك يا ولدي مدركًا بذكائك الفطري أنه إذا ما اختلف «الحفاظ» في مسألة معينة؛ فذلك الاختلاف وحده دليل على أن محفوظاتهم تحتاج إلى مراجعة نحتكم فيها إلى منطق العقل.
وأما النقطة المنهجية الثانية التي أردت تقديمها — ولعلها أصعب إدراكًا من الأولى — فهي أن من كانت بضاعته محفوظات لغوية كان بمثابة من بعد عن دنيا الواقع بخطوتين؛ ولذلك لم يكن من حقِّه أن يحكم على أمر من أمور الحياة الواقعية إلا إذا قطع تينك الخطوتين راجعًا من عالم محفوظاته إلى عالم الأشياء. ولماذا هما خطوتان؟ هاك شرح ذلك: إن مفردات اللغة وتراكيبها إذ هي تشير إلى الأشياء والمواقف الفعلية، فهي لا تؤدي ذلك على مستوى واحد بالنسبة إلى جميع الحالات، بل هي في بعض الحالات تمس الواقع مسًّا مباشرًا، وفي بعضها الآخر تبعد عن ذلك الواقع بخطوة أو خطوتين، أو أي عدد من الخطوات، وذلك متوقف على درجة التجريد والتعميم التي يتحدث بها من يتحدث، خذ — مثلًا — هذه الدرجات الثلاث: مريض، مريض بالحمى، جاري فلان مريض بالحمى، فواضح أن الجملة الثالثة تتصل بحالة معينة واقعة اتصالًا مباشرًا، وأما الثانية والأولى فتشيران إلى «تصورات» ذهنية، لا إلى حالات معينة وقعت بالفعل، بعبارة أخرى قد تكون أوضح، إن من يقول كلمة «مريض» أو يقول عبارة «مريض بالحمى» يكون مفهومًا لسامعيه، دون أن يكون هنالك بالضرورة مرض قائم بالفعل، وأما من يقول: جاري فلان مريض بالحمى، فهو أيضًا يكون مفهومًا لسامعيه، لكنه فوق ذلك يجعلنا على علم بشيء حدث بالفعل.
وبناءً على هذا الذي قدمناه يمكن القول بأن اللغة تامة الأداء لوظيفتها الأساسية حين تدلنا على ما هو واقع بالفعل، وتكون ناقصة الأداء حين تشير إلى تصورات ذهنية، نفهم ما تعنيه، لكننا لا نضمن بها أن يكون هنالك في دنيا الواقع ما يقابلها، وهنا نستطيع العودة بحديثنا إلى «الحفَّاظ»؛ فبالبداهة هم لا يحفظون عبارات مأخوذة أخذًا مباشرًا مما هو واقع حولنا، وذلك لأنهم يحفظون أشياء استخرجوها من كتب، والكتب كتبها أصحابها في عصور مضت، فهي على أحسن الفروض إذا كانت صادقة فصدقها كان مرهونًا بما قد كان واقعًا في زمانها، وهي بعد ذلك إما أن يكون صدقها ممتدًّا ليشمل وقائع حياتنا الحاضرة، وإما أن يكون صدقها قد اقتصر على زمانها، ومعنى هذا هو أن حفاظ التراث عليهم في كل حالة على حدة أن يثبتوا أن ما قد حفظوه من الكتب عن أشباه تلك الحالة يمتد بصدقه إلى حالة عصرنا ليشملها.
ربما ظننت يا ولدي أنني قد بعدت بك بعدًا شديدًا عما بدأنا به، فلقد كنت بادئ ذي بدء أضمر في نفسي أن أحدثك عن حرية العقل، ثم جاء رسمك الذي صورت به إنسانًا قوامه كله حروف الأبجدية فرأيت أنا في رسمك رمية صائبة — أردتها أم لم تردها — فذلك سيان، وهي رمية صائبة؛ لأن الرسم على بساطته يصور لي جانبًا هامًّا من حياتنا الراهنة؛ إذ هي حياة يراد لها أن تلقي بزمامها إلى من لا يملكون إلا حافظة وما تخزنه من أقوال محفوظة، وفي ذلك خطورة خطيرة تستحق منا وقفاتٍ متدبرة متأنية، وليس يعيبنا أن نهتدي بحكمة التاريخ، حتى ولو كان تاريخًا يؤرخ لأمم غير أمتنا، وها هي أوروبا وما كانت عليه قبل نهضتها نستطيع أن نراها بكل وضوح فيما رواه المؤرخون وفيما صوَّره الأدباء، كانت أوروبا تجتاز عندئذٍ مرحلة تتحكم فيها «المحفوظات» قبل أن تتحكم فيها «الأشياء» الواقعة والمواقف الحادثة بالفعل، والمحفوظات بطبيعتها تختزن الماضي، وقد تصلح أو لا تصلح لما هو حادث، فجاءت قصة «دون كيخوته» إلى الناس في تلك المرحلة، فكُتب لها منذ الساعة الأولى أن تكون آية من آيات الأدب العالمي كله، لماذا؟ وماذا تحكي تلك القصة؟ إنها بكل بساطة جعلت إنسانًا، هو «دون كيخوته»، يحفظ من الكتب كل شيء عن الفروسية والفرسان — وكان عهد الفروسية والفرسان قد انقضى — لكنه أُعجب بما قرأه إعجابًا ملك عليه كل زمامه، وصمَّم أن يحيا حياته على نحو ما عاش الفرسان، وإذا بالمسكين يصبح أضحوكة الناس، لكنهم في الحق كانوا يشفقون عليه لبراءته بمثل ما كانوا يضحكون منه لسذاجته، ولقد أصبحت القصة منذ ظهورها أروع مثل يساق لمن حفظ عن الماضي شيئًا وأراد أن يطبقه على حاضره، بغض النظر عما قد تغير بفعل الزمن.
هي يا ولدي خطورة خطيرة على أمة من الأمم، أن تلف عقولها في أغشية من «محفوظات» يعيد الناس بها كلمات وعبارات تركها السلف؛ فيحيون حياتهم في «قال» و«قيل». وموضع الخطورة هو أنهم سرعان ما يجدون أنفسهم قد انفصلوا عن عالم الأشياء والوقائع والمواقف والأحداث، فيفاجئهم الحادث الضخم وهم عنه غافلون، وذلك هو ما حدث لنا — وأعني مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي — مرة ومرة وثالثة ورابعة، ولعله آخرها كان هو أن صحونا على شيء اسمه إسرائيل قد انغرس في الجسم العربي ونما وانتشر وازداد قوةً ونحن ما زلنا نلف أنفسنا في أغطية القال والقيل، وإنها لأغطية تشبه في تأثيرها فعل الأشرطة العازلة للكهرباء تلف بها الأسلاك المكهربة فتصبح بردًا وسلامة على لامسيها.
قال الفتى: لقد تابعتك كلمة كلمة، وفهمت عنك ما أردته أحسن الفهم، لكنني أودُّ أن أعلم منك كيف — إذن — تكون الصلة بيننا وبين أسلافنا إذا كان حفظنا لتراثهم لا يرضيك؟
قلت: حاشا لله يا بني ألا يرضيني تراث آبائي وأجدادي، وهو يجري في كياني مجرى الدماء في العروق، لكن المسألة هي في «كيف» أقف من ذلك التراث؟ وجوابي هو أن الأمر فيه يشبه الأمر في أرض زراعية ورثتها عن أبيك، فماذا أنت صانع بها؟ إنك لا تطويها لتخزنها في رأسك لتسير معك حيث تسير، بل تزرعها لتستثمرها، فالتراث الذي ورثناه لا ينبغي أن يكون في حياتنا كالحبائل التي يقع فيها الصيد فلا يستطيع لنفسه فكاكًا حتى يمسك به صياده، بل ينبغي أن نجعل منه أول الطريق نستثمره على النحو الذي نراه نافعًا لنا، فمثلًا قد وجدنا في تراثنا مبدأً يُوصي بأن يكون أمرنا شورى بيننا؛ فعلينا أن نبدأ من هنا ونسأل كيف نجعل هذه الشورى لتلائم ظروف عصرنا؟ فإذا اخترنا أن يكون ذلك بمجلس لنواب الشعب المختارين، فقد يجيء سؤال بعد ذلك عن أفضل طريقة نجري بها عملية الاختيار، وهكذا، فها هنا ترانا قد بدأنا من التراث ثم مضينا في طريقنا نحن الذي يلائم حياتنا في عصرنا، لكن قارن ذلك بما كنا قد قرأناه منذ فترة ليست بعيدة لرجل فاضل ممن يحيون التراث «محفوظات» صماء؛ إذ قال إن علينا أن نتبع أسلافنا في أننا ما دمنا قد اخترنا الحاكم، فقد انتهى دورنا في الشورى، وللحاكم بعد ذلك أن يفعل ما يشاء فلا رقيب عليه ولا حسيب.
وقل شيئًا كهذا في «العلم» ومكانته من حياتنا، فنبدأ بتراثنا فيما أوصى به من وجوب العلم ووجوب استرشادنا، لكننا من نقطة البدء هذه ننطلق فيما يلائم عصرنا، فأي «علم» يكون؟ العلم بماذا؟ كان أسلافنا يوجِّهون الطاقة العلمية — أو معظمها — نحو دراسات كانت في يومهم هي ذات الأولوية الأولى، وكان معظمها منصبًّا على الجانب اللغوي من الفكر، ولا أعني فقط دراسة اللغة من حيث هي لغة، بل أعني أن موضوعات البحث كانت صيغًا لغوية على كل حال، وأما اليوم فبالإضافة إلى تلك الدراسات التي لا بد منها لكل عصر فُتحت أمام الإنسان صفحة جديدة، أو هي كالجديدة، بل وأصبح لها الأولوية الأولى، وأعني بها صفحة الكون وظواهره، فوجبت دراسته بالعلوم التي تصلح لدراسته.
لقد كنت من أشد الناس فرحة بجامعة الأزهر في صورتها الجديدة، وكتبت لأعبر عن فرحتي تلك مقالة جعلت عنوانها: «الثورة الرابعة» اعتبارًا مني بأن مصر كانت قبل ذلك قد حققت ثلاث ثورات، هي الثورة السياسية التي خلصتنا من الاحتلال البريطاني، وأعطت المواطنين شيئًا من حقوقهم السياسية، والثورة الاجتماعية التي رفعت من مكانة الفلاح والعامل، فجعلتهما مساوية لأي جماعة أخرى من أبناء الوطن في القدر وفي الحقوق؛ علمًا بأن تلك الفئة التي كانت مغلوبة على أمرها تبلغ أكثر من أربعة أخماس السكان، والثورة الثالثة هي الثورة الاقتصادية التي غيَّرت ما غيَّرته من الملكية الزراعية، ثم ضاعفت قطاع الصناعة الثقيلة منها والخفيفة أضعافًا عدة، وها هي تلك الثورة الرابعة في مجال التعليم والعلم، وأعني تطوير جامعة الأزهر لتصبح جامعة كسائر جامعات الدنيا. إن وقفت وقفة مع تاريخ الفكر وتاريخ العلم؛ فيجب أن تقف وقفات مع الفكر والعلم كما يعرفهما العصر الذي نعيش فيه، فليس شأني يا بني هو رفض تراثنا — أستغفر الله — وها هي ذي كتبي في هذا الميدان شاهدة على ذلك.
ولكن يبقى مع ذلك سؤال جوهري لا بد لنا من الإجابة عنه إجابة عملية، وهو: كم من التراث؟ وكيف؟
على أني ألاحظ أننا نتحدث عن «التراث» وكأنه طاقية — مثلًا — إما وضعناها على رءوسنا وإما خلعناها، وليس الأمر كذلك، فهذا التراث عالم فسيح الجنبات كثير الأبعاد عميق الأغوار، فيه أصول الدين وفيه مذاهب الفقهاء، وفيه الشعر وفيه النثر الأدبي وفيه الفلسفة وفيه كتب المتصوفة، وفيه علوم اللغة، وفيه العلوم بكل أنواعها، وفيه … وفيه … وليس موقف عصرنا من هذه الفروع الكثيرة متساويًا بالنسبة إليها جميعًا، بل إن فيها ما يظل ماضيه هو حاضره وقديمه هو جديده، وفيها كذلك ما كان ماضيه مرفوضًا كله أو بعضه عند الإنسان الجديد بعلومه العصرية وبحياته التي تغيرت ظروفها.
ومن ذلك ترى — يا ولدي — أن ما ورثناه عن أسلافنا لا بد أن يكون نقطة ابتداء ننظر إليه عندها نظرة جادة نظرة من يحب أسلافه ويحب نفسه، وإما وجدنا الضرورة تقتضي أن نطيل وقوفنا عند تلك النقطة، وإما دفعتنا ضرورة الحياة دفعًا إلى مجاوزتها إلى ما قد استُحدث بعدها، مع إحالتها إلى عناية المؤرخين.