فيلسوف العرب الكندي
قبيلته ونسبه
وأما «كندة» فلا يعدون من أهل البيوتات إنما كانوا ملوكًا.
وقال الكلبي: قال كسرى للنعمان: هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة؟
قال: نعم.
قال: بأي شيء؟
قال: من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل ذلك بكمال الرابع، والبيت قبيلته فيه.
قال: فاطلب لي ذلك. فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر، بيت قيس بن عيلان، وآل حاجب بن زرارة بيت تميم، وآل ذي الجدين بيت شيبان، وآل الأشعث بن قيس، بيت كندة.
قال: فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم فأقعد لهم الحكام العدول، فأقبل من كل قوم منهم شاعر، وقال لهم: ليتكلم كل رجل منكم بمآثر قومه وفعالهم، وليقل شاعرهم فيصدق، فقام حذيفة بن بدر وكان أسن القوم وأجرأهم مقدمًا فقال …
ثم قام الأشعث بن قيس، وإنما أذن له أن يقوم قبل ربيعة وتميم لقرابته بالنعمان، فقال: لقد علمت العرب أنَّا نقاتل عديدها الأكثر، وقديم زحفها الأكبر، وأنا غياث اللزبات.
فقالوا: لم يا أخا كندة؟
قال: لأنا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه، وتقلدنا منكبة الأعظم، وتوسطنا بحبوحه الأكرم.
ثم قام شاعرهم فقال:
ثم قال بسطام بن قيس فقال: … ثم قام حاجب بن زرارة فقال: … ثم قام قيس بن عاصم فقال: … فلما سمع كسرى ذلك منهم قال: «ليس منهم إلا سيد يصلح لموضعه فأسنى حباءهم.»
هذه سيرة يعقوب الكندي في الجاهلية.
•••
أما نسبه في الإسلام فهو: أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس.
ومنهم: الشعراء كجعفر بن المكفوف شاعر الشيعة، وعزام بن المنذر من المعمرين وهو الذي يقول في شعره:
وفد إلى النبي سنة عشر من الهجرة في وفد كندة وكانوا ستين راكبًا فأسلموا … وكان الأشعث ممن ارتد بعد النبي فسير أبو بكر الجنود إلى اليمن، فأخذوا الأشعث أسيرًا فأحضر بين يديه فقال له: استبقني لحربك وزوجني بأختك، فأطلقه أبو بكر وزوجه بأخته، وهي أم محمد بن الأشعث، ولما تزوجها اخترط سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملًا ولا ناقة إلا عرقبه، وصاح الناس: كفر الأشعث، فلما فرغ طرح سيفه وقال: إني ولله ما كفرت، ولكن زوجني هذا الرجل أخته، ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه، يا أهل المدينة انحروا وكلوا، ويا أصحاب الإبل خذوا أثمانها فما رئي وليمة مثلها، وشهد الأشعث اليرموك بالشام ففقئت عينه ثم سار إلى العراق فشهد القادسية والمدائن وجلولا ونهاوند، وسكن الكوفة وابتنى بها دارًا، وشهد صفين مع علي وكان ممن ألزم عليًّا بالتحكيم، وشهد الحكمين بدومة الجندل، وكان عثمان — رضي الله عنه — استعمله على أذربيجان، وكان الحسن بن علي تزوج بنته فقيل: هي التي سقت الحسن السم فمات … وتوفي سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة أربعين.
مات في آخر سنة أربعين بعد قتل علي … مات بعد قتل علي بن أبي طالب بأربعين ليلة فيما أخبر ولده، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين.»
ولمحمد بن الأشعث ولد يسمى عبد الرحمن خرج على الحجاج واستولى على خراسان، ثم سار إلى جهة الحجاج وغلب على الكوفة وقويت شوكته، ثم أمد عبد الملك الحجاج بالجيوش، فانهزم عبد الرحمن ولحق بملك الترك، وأرسل الحجاج بطلبه وتهدد ملك الترك بالغزو إن أخره، فقبض ملك الترك على عبد الرحمن وعلى أربعين من أصحابه، وبعث بهم إلى الحجاج، فلما نزل في مكان في الطريق ألقى عبد الرحمن نفسه من سطح فمات وذلك في سنة خمس وثمانين.
ويظهر أن في هذه الرواية خلطًا؛ لأن الذي ولي الولايات لبني هاشم إنما هو إسحاق بن الصباح كما أجمع عليه سائر المؤرخين، ولأن الكندي لم يكن بصريًّا وإنما كان من الكوفة، على أن الصباح كان من عشيرته في مقام رفيع حتى أصبحوا ينتسبون إليه، فيقال لهم: بنو الصباح كما يقال: بنو الأشعث بن قيس.
وإذا كانت صلة بني الأشعث بن قيس بالخلفاء من بني مروان قد انقطعت منذ خروج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج، وعبد الملك بن مروان، فإن بيت الكندي ظل في الكوفة من بيوتات المجد والحسب الشامخ، ولما تولى الخلافة العباسيون عاد بيت الكندي إلى الظهور في ميدان السياسة والحكم، فتولى إسحاق بن الصباح الكوفة في أيام المهدي والرشيد.
أما كتب التاريخ والأدب فتذكر كثيرًا من أخبار ولايته وعزه وجاهه وكرمه وصلته بالشعراء والعلماء ومظاهر غناه ونبله وأخذه بأسباب الترف والنعيم.
وقال فيه أيضًا:
وأول عهد إسحاق بن الصباح بالولايات والحكم كان في سنة ١٥٩ في عهد الخليفة المهدي الواقع بين سنتي ١٥٨–١٦٩.
وكان موسى بن عيسى واليًا على الكوفة، فقال موسى لشريك: ما صنع أمير المؤمنين بأحد ما صنع بك، عزلك عن القضاء، فقال شريك: هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة ويخلعون ولاة العهود فلا يعاب ذلك عليهم، فقال موسى: ما ظننا أنه مجنون هكذا لا يبالي ما تكلم به، وكان أبوه عيسى بن موسى ولي العهد بعد أبي جعفر فخلعه بمال أعطاه إياه، وهو ابن عم أبي جعفر.
فوالد الكندي كان يزاحم بمنكبه أبناء عمومة الخليفة، وكانت ولاية الكوفة دُولة بينه وبينهم، بل كان ابن عم الخليفة يلجأ إلى إسحاق بن الصباح ليُلين من شكيمة القاضي شريك بن عبد الله.
والظاهر أن إسحاق بن الصباح توفي في أواخر عهد هارون الرشيد المتوفى سنة ١٩٣، وظلت قرابته تتصل بخدمة الخلفاء، فإن المؤرخين لا يعرضون لإسحاق بعد زمن الرشيد، وقد سبقت الإشارة إلى قول كتب الرجال: إنه من أهل المائة الثانية.
وشريك هذا هو أبو عبد الله: تولى القضاء بالكوفة أيام المهدي ثم عزله موسى الهادي، وتولى القضاء بعد ذلك بالأهواز، توفي بالكوفة سنة ١٧٧ أو ١٧٨ﻫ وكان هارون الرشيد بالحيرة فقصده ليصلي عليه فوجدهم قد صلوا عليه فرجع.
جرى بينه وبين مصعب بن عبد الله الزبيري كلام بحضرة المهدي، فقال له مصعب: أنت تنتقص أبا بكر وعمر — رضي الله عنهما — فقال القاضي شريك: والله ما انتقص جدك وهو دونهما. ودخل يومًا على المهدي فقال له: لا بد أن تجيبني إلى خصلة من ثلاث خصال، قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: إما أن تلي القضاء أو تحدث ولدي وتعلمه، أو تأكل عندي أكلة؛ وذلك قبل أن يلي القضاء، فأفكر ساعة ثم قال: لأكلة أخفها على نفسي.
فأجلسه وتقدم إلى الطباخ أن يصلح له ألوانًا من المخ المعقود بالسكر الطبرزد والعسل وغير ذلك، فعمل ذلك وقدمه إليه، فأكل فلما فرغ من الأكلة قال له الطباخ: والله يا أمير المؤمنين ليس يفلح الشيخ بعد هذه الأكلة أبدًا.
قال الفضل بن الربيع: فحدثهم والله شريك بعد ذلك، وعلم أولادهم، وولي القضاء لهم.
وقد كتب له برزقه على الصيرفي فضايقه النقد، فقال له الصيرفي: إنك لم تبع به بزا. فقال له شريك: بل والله بعت به أكثر من البز، بعت به ديني.
وفي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي المتوفى سنة ٤٦٣: «قال عبد الله بن مصعب: حضرت شريكًا في مجلس أبي عبيد الله، وعنده الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والجريري (وهو رجل من ولد جرير كان خطيبًا للسلطان)، فقال شريك: حدثنا أبو إسحاق … عن عمر بن الخطاب قال: إنا كنا نأكل لحوم هذه ونشرب عليها النبيذ ليقطعها في أجوافنا وبطوننا، فقال الحسن بن زيد: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق، فقال شريك: أجل والله ما سمعت، شغلك عن ذلك الجلوس على الطنافس في صدور المجالس.»
نشأته وبيئته
تاريخ ميلاد الكندي غير معروف إلا ظنًّا، وقد أشرنا فيما مضى إلى أن الراجح أن ميلاده كان في أواخر حياة أبيه الذي توفي في زمن الرشيد، والرشيد توفي سنة ١٩٣ﻫ / ٨٠٨م.
ولما كان يعقوب بن إسحاق الكندي قد توفي في أواسط القرن الثالث الهجري كما سيأتي تحقيقه، ولم يكن أحد ممن ترجموا له أشار إلى أنه كان من المعمرين، فمن المرجح أنه ولد في عواقب عمر أبيه وأن أباه تركه طفلًا، فنشأ في الكوفة في أعقاب تراث من السؤدد ومن الغنى، وفي حضن اليتم وظل الجاه الزائل.
وإذا كان جاه بني الأشعث بن قيس لم يزل بزوال إسحاق، فإن عهدهم الزاهر في الكوفة قد تولى بموته، وكانوا انتشروا في البلاد، فلم يبق للصبي اليتيم إلا أمه التي لا نعرف من شأنها قليلًا ولا كثيرًا.
كانت الأيم تريد بالضرورة لولدها أن يعيش كأبيه ميسرًا وجيهًا، فدبرت له ماله ونشأته مقتصدًا مرهفًا غنيًّا، ثم ساقته في سبيل العلم لما آنست من ذكائه المتوقد وشوقه إلى التهام المعارف، حتى إذا فاتته فخامة الحكم لم تفته جلالة العلم والحكمة.
ثم دخلت عليه وهو معزول وإذا هو في بيت كتبه وحواليه الأسفاط والرفوف والقماطير والدفاتر والمساطر والمحابر، فما رأيته قط أفخم ولا أنبل ولا أهيب ولا أجزل منه في ذلك اليوم؛ لأنه جمع مع المهابة المحبة، ومع الفخامة الحلاوة، ومع السؤود الحكمة.»
كانت علوم الأحكام الدينية ووسائلها هي العلوم التي تروج يومئذ سوقها، وتكسب صاحبها كرامة عند الخلفاء المحتاجين إلى أهل هذه العلوم في إقامة ملكهم على سند من السياسة الشرعية، وكانت هذه العلوم أيضًا تهب صاحبها جلالًا في قلوب العامة الذين تهمهم من الدين شعائره وشرائعه.
وكانت فيما حوالي هذا الزمن نكبة البرامكة يتناقل الناس أخبارها الفاجعة، فيتمثلون ما في شرف الولايات والحكم من أخطار.
وقد شهدت أم الكندي عهد «شريك» القاضي العالم الديني، ورأت سلطانه يغالب سلطان ابن عم الخليفة في الكوفة ويذل ما لزوجها من حسب وجاه شامخ.
وكل سلطانه يقوم على علمه ودينه، وكانت الأحاديث عن عزة شريك وشدته في الحق على أهل الشرف والجاه سمر المجالس.
أمثال هذه الأسمار عن شريك وغير شريك كانت جديرة أن ترغب الناس في العلوم التي شأنها أن توصل إلى هذه المنزلة، وهي كما ذكرنا علوم الأحكام الدينية ووسائلها.
أما علوم الكلام، فلم تكن حين ذاك برغم تشجيع الخلفاء لها إلا فنونًا من النظر العقلي مبتدعة، ينكرها أهل الزعامة الدينية وهي بعيدة الصلة بالحياة وحاجاتها، فلا جاه لها من دين ولا من دنيا.
وأما الفلسفة وما إليها، فلم تكن إلا علومًا دخيلة يشتغل بتعريبها أناس لا هم مسلمون ولا من العرب.
ثقافته
كان طبيعيًّا إذًا أن تدفع أم الكندي طفلها إلى العلوم الدينية وآلاتها، فتعلم علوم اللغة والأدب وشدا من علوم الدين شيئًا، ولكن الطفل كان بفطرته طلعة، يلتمس أن يدرك بعقله الأشياء وعللها ويريد أن يحيط بكل شيء علمًا، فما هو إلا أن بلغ رشده وأصبح أمره بيده، حتى انطلق يرضي شهوة عقله فيتصل بعلم الكلام، ويشارك المتكلمين في مباحثهم ويغلبه حب المعرفة، فلا يجد فيما تمارسه بيئته الإسلامية العربية ما يكفي حاجة عقله الطموح، ويقتحم غمار الفلسفة وما إليها من العلوم المنقولة عن يونان وفارس والهند، ولا يجد فيما يترجمه النَّقَلة غنى، فيحاول أن يرد هذه العلوم في منابعها، ويتعلم اليونانية، ويترجم بها ويصلح ما يترجمه غيره، ويتصل بالثقافة اليونانية اتصالًا ظاهر الأثر في عواطفه وفي تفكيره.
ويظهر أن الكندي كان عارفًا بالسريانية، وكان ينقل الكتب منها إلى العربية.
وقد يكون تبحره في هذه الفنون دليلًا على أنه تعلم من اللغات ما أعانه على ذلك.
وفي مواضع متفرقة من كتاب «الفهرست» ما يدل على أن الكندي كان محيطًا بمذاهب الحرنانية الكلدانيين المعروفين بالصابئة ومذاهب الثنوية الكلدانيين.
وفي الفهرست أيضًا ما يدل على أن الكندي كان خبيرًا بمذاهب الهند معنيًّا بدرسها، فقد جاء فيه ما نصه: «قرأت في جزء ترجمته ما هذه حكايته: «كتاب فيه ملل الهند وأديانها، نسخت هذا الكتاب من كتاب كتب يوم الجمعة لثلاث خلون من المحرم سنة تسع وأربعين ومائتين».» لا أدري الحكاية التي في هذا الكتاب لمن هي؟
وقال محمد بن إسحاق: الذي عنى بأمر الهند في دولة العرب: يحيى بن خالد وجماعة البرامكة واهتمامها بأمر الهند وإحضارها علماء طبها وحكماءها.»
وإذا كان فيما نقله القفطي وابن أبي أصيبعة خطأ من ناحية جعل الكندي بصريًّا، ففيه أيضًا تعارض؛ إذ كيف يكون بصريًّا ثم يقال: نزل البصرة؟
على أنه ليس ببعيد أن يكون الكندي نزل البصرة قبل ذهابه إلى بغداد، وليس ببعيد أن كانت له ضيعة هناك.
أما تاريخ انتقاله من الكوفة إلى البصرة وتاريخ ذهابه إلى بغداد فليس عندنا منهما خبر.
وقد كانت الكوفة والبصرة وبغداد مراكز الثقافة في بلاد الإسلام على اختلاف فنونها.
وليس لدينا ما يدل على أن صلة الكندي بهؤلاء الخلفاء كانت عبارة عن دخوله في المناصب إلا ما يروى من أنه كان مؤدبًا لأحمد بن المعتصم.
وفي كتاب «سرح العيون» لابن نباتة المصري: «حكى أنه كان حاضرًا عند أحمد بن المعتصم وقد دخل أبو تمام، فأنشده قصيدته السينية، فلما بلغ إلى قوله:
قال الكندي: ما صنعت شيئًا. قال: كيف؟ قال: ما زدت على أن شبهت ابن أمير المؤمنين بصعاليك العرب.» وأيضًا أن شعراء دهرنا تجاوزوا بالممدوح من كان قبله، ألا ترى إلى قول العكوك في أبي دلف:
فأطرق أبو تمام ثم أنشد:
ولم يكن هذا في القصيدة، فتعجب منه. ثم طلب أن تكون الجائزة ولاية عمل. فاستصغر عن ذلك. فقال الكندي: ولوه فإنه قصير العمر، لأن ذهنه ينحت من قلبه. فكان كما قال.
وقد يكون في ذلك ظهرت له دلائل من شخصه على قرب أجله.
وسمع الكندي إنسانًا ينشد ويقول:
فقال: والله لقد قسمها تقسيمًا فلسفيًّا.
وسمع رجلًا ينشد قول ربيعة الرقي:
فقال ليس يجب أن يقول الإنسان في كل شيء: نعم، وكان الوجه أن يستثنى، ثم قال:
وهذه الشواهد تعرب عن منهج الكندي في النقد الأدبي، وهو مذهب فلسفي يقوم على العناية بسلامة المعنى من الوجهة المنطقية واستقامته في نظر العقل.
وإذا كان الكندي يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض، فما ظنك بالعامة ومن هو في عداد العامة ممن لا يخطر شبه هذا بباله؟
واعلم أن ههنا دقائق لو أن الكندي استقرى وتصفح وتتبع مواقع «إن» ثم ألطف النظر وأكثر التدبر لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل.»
وقد نسبت إليه أشعار رواها ابن نباتة في «سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون» ورواها غيره ممن ترجموا له، منها قوله في وصف قصيدة:
ومنها أيضًا:
وظاهر من هذا الشعر: أن يعقوب الكندي لم يكن جديرًا بأن يعد في الشعراء ولم يكن أديبًا يتصرف في أفانين البيان بالأساليب البارعة.
ويذكر بعض من ترجموا له أنه كان يعاب بضعف بيانه.
أسلوبه
والذي يلاحظ في أسلوب الكندي اعتمادًا على هذه المصادر الضئيلة أن فيه غموضًا يأتي بعضه من أن الألفاظ الاصطلاحية الفلسفية لم تكن استقرت في نصابها وتحددت معانيها.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في كتاب «أتولوجيا» ص٢: «وإذ قد ثبت في اتفاق أفاضل الفلاسفة أن علل العالم القديمة البادية أربعة: وهي الهيولى، والصورة، والعلة الفاعلة، والتمام»، والذي سماه التمام هو الذي سمى فيما بعد العلة الغائية، كما يؤخذ من سابق كلامه ولاحقه.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: استعماله في كتاب «أتولوجيا» كلمة «مبسوط» بمعنى «بسيط» كما جاء في صفحة ١٦: قلنا «وما الذي يمنع النفس إذا كانت في العالم الأعلى من أن تعلم الشيء المعلوم دفعة واحدة، واحدًا كان المعلوم أو كثيرًا، لا يمنعها شيء عن ذلك ألبتة؛ لأنها مبسوطة ذات علم مبسوط فعلم الشيء الواحد مبسوطًا كان أو مركبًا دفعة واحدة.
والواقع: أن الأصول التي كان يرجع الكندي إليها مترجمة كانت إلى العربية أو غيرها أو موجودة في لغاتها الأصلية لم تكن تخلو من تحريف ومن غموض، وكان طبيعيًّا أن يجد الكندي عناء في استخلاص معان منها مستقيمة في نظر العقل منتظمة النسق.
وكان جهد الكندي في استخلاص هذه المعاني مجتمعًا إلى جهده في إبرازها في لغة لم تذلل للأبحاث العلمية، يظهر في أسلوب الكندي، فيضعف من روعة بيانه حين يقاس بأساليب البلغاء من أدباء العربية في ذلك العهد، ويضعف من وضوح معانيه أيضًا، مع ميل الكندي للإيجاز والاقتصار من الألفاظ على ما يضبط المعنى، ويمثله في الذهن مستقيمًا.
قلت لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال: أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الموضع الذي تدعوني إليه قلت حاجتهم إلي فيها، وإنما كانت غايتي المنالة، فأنا أضع بعضها هذا الموضع المفهوم لتدعوهم حلاوة ما فهموا إلى التماس فهم ما لم يفهموا، وإنما قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى هذا التكسب ذهبت.
ولكن ما بال إبراهيم النظام وفلان وفلان، يكتبون الكتب لله بزعمهم، ثم يأخذها مثلي في موافقته وحسن نظره وشدة عنايته ولا يفهم أكثرها؟!
وما كان الكندي يلتمس بعلمه المنالة والكسب، فقد كان غنيًّا بما ورث من آبائه وبما قد وصل إليه من بر الخلفاء.
معيشته
وكان في دار الكندي أسباب للنعيم المادي إلى جانب أسباب المتاع العقلي كما يشهد له ما نقلناه عن كتاب «الحيوان».
وكان للكندي ضيعة بالبصرة كما أشرنا إليه آنفًا، وكانت له ببغداد دور يستغلها بالأجر كما يؤخذ من كتاب «البخلاء» للجاحظ.
وكان الكندي بعد أن ترك الاشتغال بفنون الأدب، وترك علم الكلام، وانصرف بكليته إلى علوم الفلسفة وما إليها، يعيش عيشة عزلة وانكباب على الدرس، يدل على ذلك ما روي من شعره الذي أسلفناه.
المكتبة الكندية
فتقدم محمد بن موسى في الكتب إليه، وأخذ خطه باستيفائها، فوردت رقعة الكندي بتسلمها عن آخرها، فقال: قد وجب لكما علي ذمام برد كتب هذا الرجل ولكما ذمام بالمعرفة التي لم ترعياها في، والخطأ في هذا النهر يستتر أربعة أشهر بزيادة دجلة.
وقد أجمع الحساب على أن أمير المؤمنين لا يبلغ هذا المدى، وأنا أخبره هذه الساعة أنه لم يقع منكما خطأ في هذا النهر إبقاء على أرواحكما، فإن صدق المنجمون أفلتنا الثلاثة؛ وإن كذبوا وجازت مدته حتى تنقص دجلة وتنضب أوقع بنا ثلاثتنا.
فشكر محمد وأحمد هذا القول منه واسترقهما به، ودخل على المتوكل فقال له: ما غلطا. وزادت دجلة وجرى الماء في النهر فاستتر حاله، وقتل المتوكل بعد شهرين.
وسلم محمد وأحمد بعد شدة الخوف مما توقعا.»
وهؤلاء القوم ممن تناهى في طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب، وأتعبوا فيها نفوسهم، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها إليهم، فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبذل السني فأظهروا عجائب الحكمة.
فهم كانوا ممن يجمع الكتب ويعرف أقدارها، واهتمامهم بأمر مكتبة الكندي دليل على عظم شأنها.
شخصيته
ويظهر أن نوع الحياة التي كان يحياها الكندي الفيلسوف بحكم ما فيها من عزلة، وانقطاع عن مجامع الأدباء والعلماء، واتصال بالمترجمين والفلاسفة، وهم غير مسلمين ولا عرب، لم يكن من شأن ذلك أن يجعل الكندي خفيفًا على أرواح من يرون في الحياة غير ما يرى.
فالكندي عند الجاحظ مثل في البخل: «لا يزال يقول للساكن وربما قال للجار: إن في الدار امرأة بها حمل، والوحمى ربما أسقطت من ريح القدر الطيبة، فإذا طبختم فردوا شهوتها ولو بغرفة أو لعقة، فإن النفس يردها اليسير، فإن لم تفعل ذلك بعد إعلامي إياك فكفارتك أن أُسقطت غرة عبد أو أمة، ألزمت نفسك ذلك أم أبيت.
قال: فكان ربما يوافي إلى منزله من قصاع السكان والجيران ما يكفيه الأيام؛ وإن كان أكثرهم يفطن ويتغافل، وكان الكندي يقول لعياله: أنتم أحسن حالًا من أرباب هذه الضياع، إنما لكل بيت منهم لون واحد وعندكم ألوان.
وكان الكندي يشترط على السكان أن يكون له روث الدابة وبعر الشاة، ونشوار العلوفة، وأن لا يخرجوا عظمًا، ولا يخرجوا كساحة، وأن يكون له نوى التمر، وقشور الرمان، والغرفة من كل قدر تطبخ للحبلى في بيته، وكان في ذلك يتنزل عليهم، فكانوا لطيبه وإفراط بخله، وحسن حديثه يحتملون ذلك.»
وافتن الجاحظ في خياله فأنشأ على لسان الكندي احتجاجات يساجل بها الساكنين عنده تبريرًا لشح نفسه، وطمعه في النزر القليل، وأسلوب الجاحظ نفسه ظاهر كل الظهور في تلك الاحتجاجات، على ما فيها من تكلف الجدل الفلسفي.
على أن الجاحظ في تشنيعه على الكندي تند منه كلمات بإقراره بعقل الرجل وعلمه، وأنه ينقم منه الشح بالطعام، وترويج ذلك الشح.
كان الكندي رجلًا منصرفًا إلى جد الحياة، عاكفًا على الحكمة ينظر فيها التماسًا لكمال نفسه، ويقوم بأول محاولة لتوطيئها ومدافعة ما يعوق قومه عن الإقبال عليها من العصبية الجنسية والعصبية الدينية، وقد يكون ذهابه إلى أن يونان بنو عمومة للعرب من وسائله لتهدئة ثائرة العرب على علوم العجم، كما كانت له وسائل للتوفيق بين الدين والعلوم الحكيمة مدافعة لنفرة المسلمين من هذه العلوم.
كان الكندي هادئًا في حياته آخذًا بأسباب الاقتصاد والنظام وسياسة النفس ومجاهدة شهواتها، ومن حكمه المأثورة: «اعص الهوى، وأطع ما شئت»، «لا تنجو مما تكرهه حتى تمتنع عن كثير مما تحب وتريد»، «إن النظر في كتب الحكمة اعتياد النفوس الناطقة».
وما كان ذلك ليعجب الجاحظ الضاحك الساخر العايش عيشة الأدباء من غير نظام ولا حدود ولا اقتصاد.
لا جرم كان الجاحظ يسخر من الكندي ويشنع عليه لبعد ما بين طباعيهما، وبعد ما بين سلبهما في الحياة.
وكان الجاحظ بصريًّا وكان الكندي كوفيًّا، وبين أهل البلدين عداوة وتنافس، والجاحظ معتزلي ولم يكن يسلم من لذعاته إلا من تحرم بحرمة الكلام.
والكندي لم يكن ممن تحرم بحرمة الكلام، بل هو قد ألم به في أول أمره مسايرة لحكم الوقت ثم انصرف عنه إلى الفلسفة.
ولم يكن الكندي ممن يخافهم الجاحظ عندما كتب كتاب البخلاء، يقول الجاحظ في مقدمة الكتاب: «وقد كتبنا لك أحاديث كثيرة غير مضافة إلى أربابها إما بالخوف منهم وإما بالإكرام لهم.»
وقد توفي الكندي قبل ذلك التاريخ كما سيأتي تحقيقه، ولم يكتف الجاحظ بإشاعته حديث البخل مكبرًا عن الكندي في كتابه «البخلاء»، بل ألف رسالة في فرط جهل الكندي، ولعل تشنيع الجاحظ هو أساس لكل ما تناقل الرواة من بعده. فابن النديم صاحب الفهرست يقول عن الكندي: «وكان بخيلًا». ويقول ابن نباتة في سرح العيون: «ومن نوادره وكلامه في البخل كان يقول: إنك تقول للسائل: لا ورأسك إلى فوق، ومن ذل العطاء أنك تقول: نعم وأنت رأسك إلى أسفل.
وكان يقول: سماع الغناء برسام حاد؛ لأن الإنسان يسمع فيطرب فينفق فيسرف فيفتقر فيغتم فيعتل فيموت … ومن وصيته لولده: «يا بني كن مع الناس كلاعب الشطرنج تحفظ شيئك وتأخذ من شيئهم، فإن مالك إذا خرج عن يدك لم يعد إليك، واعلم أن الدينار محموم فإذا صرفته مات، واعلم أنه ليس شيء أسرع فناء من الدينار إذا كسر والقرطاس إذا نشر، ومثل الدرهم كمثل الطير الذي هو لك ما دام في يدك فإذا ند عنك صار لغيرك. وقال المتلمس:
وأعرف هنا بيتًا بيَّت أكثر من مائة ألف في المساجد، وهو قول القائل:
فاحذر يا بني أن تلحق بهم.»
ومن كلامه مما أوصى به لولده أبي العباس، نقلت ذلك من كتاب «المقدمات» لابن بختويه، قال الكندي: يا بني الأب رب، والأخ فخ، والعم غم، والخال وبال، والولد كمد، والأقارب عقارب، وقول: لا، يصرف البلا؛ وقول نعم، يزيل النعم، وجماع الغناء برسام حاد؛ لأن الإنسان يسمع فيطرب، وينفق فيسرف فيفتقر فيغتم، فيعتل فيموت. والدينار محموم فإن صرفته مات، والدينار محبوس فإن أخرجته فر، والناس سخرة فخذ شيئهم واحفظ شيئك، ولا تقبل ممن قال اليمين الفاجرة فإنها تدع الديار بلاقع.
أقول: وإن كانت هذه من وصية الكندي، فقد صدق ما حكاه عنه ابن النديم البغدادي في كتابه، فإنه قال: إن الكندي كان بخيلًا.
وقال يومًا لجارية كان يهواها: إني أرى فرط الاعتياصات من المتوقعات على طالبي المودات مؤذنات بعدم المعقولات، فنظرت إليه وكان ذا لحية طويلة فقالت: إن اللحى المسترخيات على صدور أهل الركاكات محتاجة إلى المواسي الحالقات.
آثاره وآراؤه ومنزلته العلمية
ويدل عدد ما نسبه المترجمون له من الكتب في الموضوعات المختلفة على سعة معارفه، وكثرة اطلاعه.
والكندي هو بلا ريب أول مسلم عربي اشتغل بالفلسفة التي كانت إلى عهده وقفًا على غير المسلم العربي، وكان معاصرًا لأبي الحسن ثابت بن قرة الحراني الصابئي و«قسطًا» بن لوقا البعلبكي المسيحي، وكانوا ثلاثتهم أعلامًا في مملكة الإسلام بعلم الفلسفة في وقتهم، كما ذكر ذلك صاعد في كتاب «طبقات الأمم» وكان ذلك جديرًا بأن يثير على الكندي أحقادًا من كل نوع، فمنها حسد منافسين كعداوة ابني موسى بن شاكر، ومنها إنكار متشددين في دينهم كما رأينا في شعر الناشي. ومن أمثلة ذلك: ما ذكره صاحب «الفهرست» عند الكلام على أبي معشر المنجم قال: «وكان أولًا من أصحاب الحديث، ومنزله في الجانب الغربي بباب خراسان، وكان يضاغن الكندي ويغري به العامة، ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة، فدس عليه الكندي من حسن له النظر في علوم الحساب والهندسة؛ فدخل فيه فلم يكمل له، فعدل إلى علم أحكام النجوم، وانقطع شره عن الكندي بنظره في هذا العلم؛ لأنه من جنس علوم الكندي.»
وقد قال يعقوب بن إسحاق الكندي في بعض رسائله في أفعال الأشخاص العلوية والأجرام السماوية في هذا العالم: إن جميع ما خلق الله صير بعضه لبعض عللًا، فالعلة تفعل في معلولها آثار ما هي لديه علة، وليس يؤثر المفعول المعلول في علته الفاعلة.
والنفس علة الفلك لا معلولة له، فليس يؤثر الفلك فيها أثرًا؛ إلا أن من طباع النفس أن تتبع مزاج البدن إذا لم تجد شيئًا، كما هو موجود في الزنجي الذي حمي موضعه فأثرت فيه الأشخاص الفلكية، جذبت الرطوبات إلى أعاليه، فأجحظت عينيه وأهدلت شفتيه، وأفطست أنفه وعظمته، وأشالت رأسه بكثرة جذب الرطوبات إلى أعالي بدنه، فخالف بذلك مزاج دماغه عن الاعتدال، فلم تقدر نفسه على إظهار فعلها فيه بكمال، ففسد تمييزه وأخرجت الأفعال العقلية منه.
ولئن كان الكندي قد اشتغل بالتنجيم القائم على ربط الحوادث الأرضية بحركات النجوم، وعوارض الأفلاك ومطالع الكواكب، وألف الكتب التي كان لها يومئذ شأن عظيم، فإنه اشتغل أيضًا بالأبحاث الفلكية العلمية، وظهر تميزه في هذه الأبحاث لعهده وبعد عهده، واقتبس من مذاهب الهنود ما لم يكن مقتبسًا في فنون العرب الفلكية من قبله، وكانت له آراء طريفة بناها على أرصاده وحسابه بنفسه، وأسعده في ذلك تبحره في الرياضيات، والهندسيات.
والشهرزوري يجعل الوصف الأول للكندي: كونه مهندسًا، وكذلك يفعل البيهقي، فهما يقولان: «يعقوب بن إسحاق الكندي كان مهندسًا، خائضًا غمرات العلم.»
وكان كما يقول «ده بوير» مولعًا بتطبيق الرياضيات لا في العلم الطبيعي وحده، بل في الطب أيضًا؛ فهو مثلًا يفسر عمل الأدوية المركبة بالتناسب الهندسي الحادث من مزاج صفاتها الحسية، أي: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة.
وقد يدل على هذه النزعة إلى تطبيق الرياضيات على الطب والعلاج ما يرويه المترجمون للكندي من أنه كان يجعل من اللحون الموسيقية طبًّا لبعض الأمراض، وعلم الموسيقى كان يومئذ معتبرًا فرعًا من فروع العلوم الرياضية، وكان الكندي عالمًا بالموسيقى وبالطب، وله فيهما مؤلفات.
عني الكندي بالكيمياء فيما عني به من العلوم، ووضع فيها مصنفات وذكر في بعض رسائله تعذر فعل الناس لما انفردت الطبيعة بفعله، وخدع أهل هذه الصناعة وجهلهم، وأبطل دعوى الذين يدعون صنعة الذهب والفضة، وترجم الكندي هذه الرسالة: «بإبطال دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة من غير معادنها»، وقد نقض هذه الرسالة على الكندي «أبو بكر محمد بن زكريا الرازي».
ورأى «ابن أبي أصيبعة» في الكندي وتآليفه يبينه بقوله: «وترجم من كتب الفلسفة الكثير، وأوضح منها المشكل ولخص المستصعب، وبسط العويص». ويقول القفطي في الكندي مثل ذلك.
ولسنا ندري كيف يقولون: إن الكندي أهمل صناعة التحليل في المنطق؟ مع أنا نجد في أسماء كتبه تفسيرات وشروحًا على «أنولوطيقا الأولى» تحليل القياس، وعلى «أنولوطيقا الثانية» البرهان، ولم يترك الكندي قسمًا من أقسام المنطق لم يعرض له بالشرح والبيان وبالاختصار أحيانًا، فلعل تلك الكتب لم يتصل بالقاضي «صاعد» علمها، فكتب ما كتب، ويؤيد ذلك أن «صاعدًا» ذكر أن عدد كتب الكندي نحو خمسين، على حين يبلغ بها غيره ١٥٠، بل قيل: هي ٢٦٥ كتابًا.
والكندي صاحب مؤلفات في «الجغرافيا» فقدت فيما ضاع من كتبه؛ لكنها كانت مرجعًا لمن جاء بعده من المؤلفين، وكانت تظهر آثار اطلاعه الواسع وفكره العميق، ونجد في كتب المسعودي نماذج منها.
•••
فيما أسلفنا دليل على إحاطة الكندي بكل أنواع المعارف التي كانت لعهده على اختلافها إحاطة تدل على سعة مداركه وقوة عقله، وعظم جهوده، وقد ألف في كل تلك العلوم كتبًا ورسائل يشهد ما عرف منها وما تنوقل من مقتطفاتها بما للكندي من استقلال في البحث ونظر ممتاز.
وإذا كنا لا نعرف للكندي مصنفات في العلوم الدينية، فإن في بعض مؤلفاته آثارًا من معرفته بعلوم الدين، بل هو قد عالج مسائل علم الكلام وكتب فيها.
أما شأنه في الفلسفة فهو أهم شئونه ومظهر عبقريته، ومناط الخلود لاسمه في ثنايا التاريخ.
علوم الفلسفة ثلاثة: فأولها العلم الرياضي في التعليم وهو أوسطها في الطبع؛ والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع؛ والثالث علم الربوبية وهو أعلاها في الطبع.
وإنما كانت العلوم ثلاثة؛ لأن المعلومات ثلاثة: إما علم ما يقع عليه الحس وهو ذوات الهيولى، وإما علم ما ليس بذي هيولى إما أن يكون لا يتصل بالهيولى البتة وإما أن يكون قد يتصل بها.
وقد كان هذا المنحى في فهم معنى الفلسفة وتقسيمها باعتبار الموضوع توجيهًا للفلسفة الإسلامية منذ نشأتها.
والكندي هو الذي وجه الفلسفة الإسلامية وجهة الجمع بين أفلاطون وأرسطو؛ وهو الذي وجهها في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين.
وليس فيما بين أيدينا من آثار الكندي ما يمكننا من استخلاص مذهبه الفلسفي نسقًا كاملًا.
ويقول بعض مترجميه كابن نباتة: إنه حذا حذو أرسطو، ويقول «ابن أبي أصيبعة»: احتذى في تآليفه حذو أرسطوطاليس.
ويورد له الشهرزوري أقوالًا كلها بسط لآراء أفلاطون منها: «أما أفلاطون فإنه قال: إن مسكن الأنفس العقلية إذا تجردت، كما قالت الفلاسفة القدماء، خلف الفلك في عالم الربوبية حيث نور الباري، وليس كل نفس تفارق البدن تصير من ساعتها إلى ذلك المحل؛ لأن في الأنفس ما يفارق البدن وفيها دنس وأشياء حسنة، فمنها ما يصير إلى فلك عطارد فيقيم فيه مدة، فإذا تهذبت ونفت ارتقت إلى عالم العقل وجازت الكل، فصارت في أجل محل لا تخفى عليها خافية، وواصلت نور الباري تعالى، وصارت تفكر في الأشياء قليلها وكثيرها كعلم الواحد بأصبعه الواحدة، وصارت الأشياء كلها لها مكشوفة وبارزة، فحينئذ يفوض الباري إليها من سياسة العالم أشياء تلتذ بها وبعقلها والتدبير لها.»
ولعل الشهرزوري يشير بذلك إلى إيثار الكندي لأفلاطون.
والأشبه أن يكون الكندي قد بنى مذهبه على ما صح في نظره من الآراء المختلفة من غير تقيد بما نسب لأفلاطون ولا بما نسب لأرسطو، بيد أنه كان بلا شك يراهما إمامي هذا الشأن، فهو كما يقول «ده بور»: «بحق، كان من أهل الترجيح والتخير.»
وقد سار على نهجه أكثر من بعده من فلاسفة الإسلام.
الكندي هو «فيلسوف العرب» كما في كتاب «أخبار الحكماء» وكتاب «طبقات الأطباء»: «ولم يكن في الإسلام من اشتهر عند الناس بمعاناة علوم الفلسفة حتى سموه فيلسوفًا غير يعقوب هذا»، وفي الفهرست: «وسمي فيلسوف العرب.»
ويقول ابن نباتة: «الكندي هو يعقوب بن الصباح المسمى في وقته فيلسوف الإسلام.»
والكندي كان جديرًا بهذه التسمية في وقته وسيظل بها جديرًا، فإنه أول عربي مسلم مهد للفلسفة سبيل الانتشار بين العرب وفي ظل الإسلام، فقد كان أمر الترجمة من قبله لنقلة حرصهم على الترجمة الحرفية مع ضعف بيانهم العربي يجعل تراجمهم رموزًا يستعصى حلها، حتى جاء الكندي يترجم بنفسه ويصلح هذه التراجم ليسهل تناولها؛ ولكيلا تنفر من أساليبها أذواق العرب، ثم درس الكندي هذه الكتب المترجمة ويسر من موضوعاتها ما كان معسرًا، واختار ما صح من آرائها في نظره فبسطه إن كان محتاجًا لبسط، ولخصه إن كان محتاجًا لتلخيص، وجاهد كما بينا من قبل في تزيين الفلسفة في أعين العرب جهادًا مكللًا بالنصر، بذل فيه كل ما يستطيع إنسان أن يبذله من نعيم الحياة وجاهلها، وصبر في سبيل ذلك على أذى أشرنا إلى بعضه فيما مضى.
والكندي هو الذي وجه الفلسفة الإسلامية في وجهتها فسارت في سبيلها على أيدي تلاميذه ومن أخذ عن تلاميذه.
عقيدته
بقي أن البيهقي قال في كتابه «تاريخ حكماء الإسلام» عن الكندي: «واختلفوا في ملته فقال قوم: [كان] يهوديًّا ثم أسلم، وقال بعضهم كان نصرانيًّا». وقال الشهرزوري في «نزهة الأرواح»: «وقيل: كان يهوديًّا ثم أسلم، وقيل: كان نصرانيًّا»، ويلاحظ أن المؤلفين كليهما لم يذكرا للكندي نسبًا إلا أنه يعقوب بن إسحاق، وليس في الاسمين ما يميز ملته، فدل ذلك على أنهما خلطا بين أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الأشعثي وبين كندي آخر. ولا يستحق هذا الاشتباه إلا أن ينبه إليه. وفي كتابي البيهقي والشهرزوري أخطاء تاريخية كثيرة ظاهرة البطلان عند الكلام على غير الكندي، وفي النسخ التي بين أيدينا منهما تحريفات كثيرة على أنه لا يبعد أن تكون هذه الأضاليل من آثار ما كان يدسه على الكندي خصومه تشويهًا لذكره وتشنيعًا عليه.
وفاته
هذا وقد ذكر صاحب كتاب «أخبار الحكماء» سبب موت الكندي بقوله: «قال أبو معشر: وكانت علة يعقوب بن إسحاق أنه كان في ركبته خام، وكان يشرب له الشراب العتيق فيصلح، فتاب من الشراب وشرب شراب العسل، فلم تنفتح له أفواه العروق، ولم يصل إلى أعماق البدن وأسافله شيء من حرارته، فقوي الخام فأوجع العصب وجعًا شديدًا، حتى تأتى ذلك الوجع إلى الرأس والدماغ فمات الرجل؛ لأن الأعصاب أصلها من الدماغ.»
أما تاريخ وفاته فلم يعرض لذكره أحد عرفناه ممن ترجموا له من الأقدمين، وقد حاول المحدثون أن يحددوا ذلك التاريخ من سبيل الاستنباط: فمنهم من جعل موته سنة ٢٤٦ﻫ / ٨٦٠م كالأستاذ «مسنيون» في نصوصه الصوفية، ومنهم من جعله نحو سنة ٢٦٠ﻫ / ٨٧٣م كالأستاذ «نالينو» في محاضراته في الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى.
ويقول «ده بوير» في دائرة المعارف الإسلامية: إن الكندي كان يعيش سنة ٢٥٧ﻫ / ٨٧٠م حيث اعتقد أنه يستطيع أن يؤكد للخلافة العباسية، وهي يومئذ مهددة بالقرامطة، بقاء يدوم حوالي ٤٥٠ عامًا.
وقد نقلنا فيما سبق عن الفهرست ما يثبت أن الكندي نسخ كتابًا بخطه سنة ٢٤٩ رآه ابن النديم. وفي تاريخ الطبري عند الكلام على موت المنتصر بالله سنة ٢٤٨ والتشاور في تعيين خلفه: أن محمد بن موسى المنجم سعى في دفع الخلافة عن أحمد بن المعتصم؛ لأنه صاحب الكندي الفيلسوف.
كل هذا يباعد رأي الأستاذ «مسنيون».
ثم إن الجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥ﻫ يذكر ما ذكره عن الكندي في كتابيه «الحيوان» و«البخلاء» في صيغة الماضي الدالة على أن الكندي كان ميتًا حين كتب كتابه، وكتاب «البخلاء» مؤلف على الراجح سنة ٢٥٤ﻫ وكتاب «الحيوان» سابق عليه. فالكندي لم يكن حيًّا في سنة ٢٥٤ﻫ ولا في سنة ٢٥٣ﻫ إن صح أن الجاحظ كتب «الحيوان» في هذه السنة.
وتدل رسالة الكندي في ملك العرب وكميته على أنه شهد عهد الخليفة المستعين، وشهد الفتنة التي قتل في أعقابها المستعين آخر رمضان سنة ٢٥٢، فالراجح أن الكندي توفي في أواخر سنة ٢٥٢.