المعلم الثاني الفارابي
نسبه وموطنه
لا خلاف بين المؤرخين في أن اسم الفارابي «محمد» وأنه ملقب «بأبي نصر»، وقد اختلفوا بعد ذلك في نسبه: فمنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان، كما في «عيون الأنباء» لابن أبي أصيبعة، ومنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن طرخان بن أوزلغ كابن خلكان، ومنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان كالقفطي والبيهقي، ومنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن طرخان كابن النديم في الفهرست، ومنهم من يقول: هو أبو نصر محمد بن محمد بن نصر كصاعد في الطبقات، ويقول صاعد في موضع من كتابه: أبو نصر محمد بن نصر.
فلا اتفاق على تسمية آبائه ولا على ترتيبهم، وإذا كان اسم أبيه موضع خلاف فلا غرو أن أحدًا من المؤرخين لم يشر إلى اسم أمه ولا إلى نسبها.
وأكثر المترجمين للفارابي يذكرون أنه تركي، لكن صاحب طبقات الأطباء يقول: «وكان أبوه قائد جيش وهو فارسي المنتسب»، ولا سبيل إلى تحقيق نسبه من هذه الناحية لتقارب البلادين واشتراك الأعلام فيهما، وإذا صح أن أباه كان قائد جيش فهو لم يكن من كبار القواد الذين يشيد بذكرهم التاريخ، ولعل فيما امتاز به الفارابي من الشجاعة والصبر على احتمال متاعب الدرس ومشاق الأسفار وشظف العيش ما يشعر بأنه سليل أبطال.
ولم يقف الخلاف في أمر الفارابي عند حد التضارب في نسبه؛ فقد اختلف المؤرخون في وطنه الأول أيضًا.
والفارابي منسوب إلى فاراب، ولم يشذ عن القول بذلك إلا ابن النديم في الفهرست، فإنه يقول: أصله من الفارياب من أرض خراسان، وإلا البيهقي في كتابه المخطوط في تاريخ الحكماء، فإنه يذكر أن الفارابي من فارياب (تركستان). لكن النسبة إلى فارياب هي فاريابي، وقد ذكر معجم البلدان أسماء جماعة من الأئمة نسبوا إليها منهم محمد بن يوسف الفاريابي.
وفاراب التي ينتسب إليها فيلسوفنا، وتسمى باراب أيضًا هي ناحية كبيرة واسعة وراء نهر جيحون (أموداريا)، كذا يقول ياقوت عند الكلام على باراب، ولكنه يقول عند ذكر فاراب: «ولاية وراء نهر سيحون (سرداريا) في تخوم بلاد الترك وهي أبعد من الشاشن قريبة من بلاساغون، ومقدارها في الطول والعرض أقل من يوم إلا أن بها منعة وبأسًا، وهي ناحية سبخة لها غياض ولهم مزارع في غرب الوادي تأخذ من نهر الشاش.»
والشاشن هي مدينة بما وراء النهر ثم ما وراء نهر سيحون متاخمة لبلاد الترك، ويتبين من ذلك أن لا خلاف بين عبارتي ياقوت، فإن «فاراب» وراء نهري جيحون وسيحون معًا، ثم إن فاراب على جانبي الفرع الأكبر لنهر سيحون وهي في طرف بلاد الترك «تركستان».
ويقول ابن حوقل (نحو سنة ٣٦٧ﻫ / ٩٧٧م): إن على الشاطئ الغربي من سرداريا كانت توجد مدينة «وسيج» التي ولد بها الفيلسوف أبو نصر الفارابي، والمستشرقون يعتمدون هذا القول، لكن كثيرين من مؤلفي العربية كالقفطي وابن أبي أصيبعة وابن خلكان صرحوا بأن الفارابي من مدينة فاراب.
وقال ابن خلكان: إن هذه المدينة تسمى في عهده «أُطرار»، ويقول الأستاذ بارتولد في الفصل الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية: «إن الإصْطَخري الذي وجد في أوائل القرن العاشر يذكر أن قصبة ولاية فاراب كانت مدينة تسمى «قدَر» في شرقي نهر سرداريا على نصف فرسخ من مجراه، وعلى الشاطئ الغربي من هذا النهر على فرسخين دون «قدَر» توجد «وسيج» التي هي حصن صغير.»
أما المقدسي الذي نبغ في أواخر القرن العاشر الميلادي فهو يذكر أن قصبة «فاراب» كانت تسمى باسم الولاية، وعنده أن «قدر» مدينة حديثة النشأة.
ويرجح الأستاذ «بارتولد» أن تكون فاراب التي لم يذكرها ابن حوقل ولا الإصطخري هي المدينة الحديثة النشأة.
أما «قدر» فهي المدينة القديمة، «وأطرار» هي نفس مدينة «فاراب» وهي أحدث منها.
وعلى ذلك فالراجح أن الفارابي ولد بوسيج كما ذكره ابن حوقل، ونُسب إلى ولاية فاراب لا إلى المدينة المسماة بهذا الاسم التي حلت محل مدينة «قدَر»، ثم حلت محلها «أطرار».
مولده ونشأته
ولسنا نعرف مولد الفارابي إلا بالتقريب استنتاجًا مما ذكره المؤرخون في وفاته، فقد ذكر ابن خلكان أنه توفي سنة ٣٣٩ﻫ / ٩٥٠-٩٥١م، وقد ناهز ثمانين سنة ويكون إذًا مولده حول سنة ٢٥٩ﻫ / ٨٧٢-٨٧٣م.
ولا يُعرف شيء عن طفولته وشبابه، إنما يقول المؤرخون: إنه خرج من بلده وانتقلت به الأسفار، إلى أن وصل بغداد وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي فتعلم اللسان العربي وأتقنه، ثم اشتغل بعلوم الحكمة على أبي بشر متى بن يونس، وهو مسيحي نسطوري معروف بين تراجمة الكتب اليونانية وإليه انتهت رئاسة المنطقيين في عصره، وعلى الطبيب المنطقي المسيحي يوحنا بن حيلان، ولم يذكر له المؤرخون أساتذة غيرهما.
وإذا كنا لا نعرف التاريخ الذي خرج فيه الفارابي من بلده ولا التاريخ الذي وصل فيه إلى بغداد، فإنا نستطيع أن نتلمس بعض هذه التواريخ استنباطًا من ثنايا كلام المترجمين للفارابي.
يقول صاعد في «طبقات الأمم»: «أخذ — أي: الفارابي — صناعة المنطق عن يوحنا بن حيلان المتوفى بمدينة السلام في أيام المقتدر.» والخليفة المقتدر توفي سنة ٣٢٠ﻫ / ٩٣٢م. ويقول ابن خلكان: إن الفارابي ارتحل من بغداد إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان فأخذ عنه طرفًا من المنطق.
ويؤخذ من ذلك أن يوحنا كان يشتغل بحران أولًا، ثم انتقل إلى بغداد ومات بها قبل سنة ٣٢٠ﻫ، أما أبو بشر متى بن يونس فقد كان شيخًا كبيرًا يقرأ في بغداد كتاب أرسطاطاليس في المنطق ويملي على تلامذته شرحه، فحضر أبو نصر دروسه زمنًا قبل انتقاله إلى حران، ولعلنا نستطيع أن نقدر زمن درسه ببغداد، ثم اشتغاله بحران ثم انتقال أستاذه يوحنا بن حيلان إلى بغداد ومقامه فيها إلى أن مات، بنحو عشر سنين، فيكون دخول الفارابي إلى بغداد لأول مرة حوالي سنة ٣١٠ﻫ، ولا يكون هذا الفرض جزافًا إذا راعينا ما ينقله ابن أبي أصيبعة من أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج، فيقرأ عليه صناعة النحو وابن السراج يقرأ عليه صناعة المنطق، وأبو بكر بن السراج توفي سنة ٣١٦ﻫ، فلا بد أن يكون تبادل التعلم بينه وبين الفارابي قبل وفاته بست سنين على الأقل، خصوصًا إذا روعي ما لاحظه بعض زملائنا المشتغلين بدراسة تاريخ النحو من أن ابن السراج قد تأثر في مؤلفاته النحوية بأساليب المنطق وقواعده.
ثقافته ورحلاته
قد خرج الفارابي إذًا من بلده قاصدًا إلى بغداد حوالي سنة ٣١٠ وهو يومئذ يناهز الخمسين، فحضر دروس أبي بشر بن متى في المنطق وتعلم في أثناء ذلك العربية عن ابن السراج في مقابل تعليمه المنطق.
والظاهر أن الفارابي حين وصل إلى بغداد لم يكن جاهلًا للعربية ولا للعلوم الحكمية كما يفيده كلام المؤرخين، فليس من المعقول أن الإمام ابن السراج المجمع على فضله وجلالة قدره في النحو والأدب يتعلم المنطق عن ناشئ يتلقى دروسه الأولى، ثم يتأثر عقله بأسلوب هذا الناشئ وتعاليمه، وليس بالمعقول أن من يجهل اللغة العربية يبتدئ بتعلم ألفها وبائها عن ابن السراج.
إنما خرج الفارابي من بلاده ليتصل بأئمة الحكمة والعلم في العراق والشام تكميلًا لما عنده من العلم والحكمة.
وقد ذكروا أنه إنما أخذ عن أبي بشر متى بن يونس وعن يوحنا بن حيلان علم المنطق، وأخذ العربية عن ابن السراج، فكيف تعلم الرياضيات، وقد قالوا: إنه كان رياضيًّا بارعًا؟ وكيف تعلم الموسيقى وقد كان يحسنها تلحينًا وتوقيعًا؟ حتى ليحكى كما في ابن خلكان أن الآلة المسماة بالقانون من وضعه، وهو أول من ركبها هذا التركيب، ويقول غير ابن خلكان: إنه وضع آلة تشبه القانون، وكتابه في الموسيقى أشهر كتب الفن كما أنه كان في صباه يضرب بالعود ويغني، ويقول «كارا دو فو» في دائرة المعارف الإسلامية: إن دراويش المولوية لا تزال تحتفظ بأغان قديمة منسوبة إليه.
ثم إنه كان له بالطب معرفة، بل ذكر بعضهم أنه مارسه عملًا، وأنكر ذلك آخرون.
فهل لم يتعلَّم كل هذه العلوم، وهي لا تستغني عن موقف إلا بعد مجيئه إلى بغداد؟!
ثم إنهم ذكروا أنه كان يعرف لغات كثيرة عند قدومه إلى بغداد، ورووا أساطير تدل على أنه كان يعرف سبعين لغة، ومع ما في ذلك من الشطط فإنه لا يخلو من أثر الحق، إذ هو بالضرورة كان يعرف التركية، ولعله كان يعرف الفارسية وقد أتقن العربية، وهو يتحدث في بعض كتبه عن اللغة اليونانية حديث خبير بها، فهل يضطلع بعلم هذه اللغات إلا الرجل العليم؟!
بعد أن قضى الفارابي وطره من دروس أبي بشر متى تحول عن بغداد إلى حران فأخذ عن يوحنا بن حيلان المنطق أيضًا، ثم إنه قفل راجعًا إلى بغداد كما يقول ابن خلكان، وقرأ بها علوم الفلسفة وتناول جميع كتب أرسطاطاليس وتمهر في استخراج معانيها. ويقال: إنه وجد كتاب النفس لأرسطاطاليس وعليه بخط أبي نصر الفارابي: إني قرأت هذا الكتاب مائة مرة، ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت السماع الطبيعي لأرسطاطاليس الحكيم أربعين مرة وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته.
ويذكر ابن خلكان أن الفارابي ألف في بغداد معظم كتبه، ثم انتقل الفارابي إلى الشام، ثم توجه إلى مصر وعاد إلى الشام، واتصل هناك بسيف الدولة بن حمدان الذي عرف له فضله وأكرم وفادته فعاش في كنفه حتى مات.
وكلام المؤرخين مضطرب في أمر هذه الانتقالات، وقد أورد ابن خلكان في كتاب الوفيات أن أبا نصر ذكر في كتابه الموسوم بالسياسة المدنية أنه ابتدأ بتأليفه في بغداد وأكمله في مصر.
وليس في كتاب السياسة المدنية المطبوع شيء من هذا، وذكر ابن أبي أصيبعة أنه ابتدأ بتأليف كتاب المدينة الفاضلة، والمدينة الجاهلة، والمدينة الفاسقة، والمدينة المبدلة، والمدينة الضالة ببغداد، وحمله إلى الشام في أواخر سنة ٣٣٠، وتممه بدمشق في سنة ٣٣١، وحرره ثم نظر في النسخة بعد التحرير فأثبت فيها الأبواب، ثم سأله بعض الناس أن يجعل له فصولًا تدل على قسمة معانيه فعمل الفصول بمصر في سنة ٣٣٧، وذكر ابن أبي أصيبعة في موضع آخر من ترجمته ما نصه: «ونقلت من خط بعض المشايخ أن أبا نصر سافر إلى مصر سنة ٣٣٨ ورجع إلى دمشق وتوفي بها سنة ٣٣٩.»
والظاهر أن الفارابي رجع من بغداد إلى دمشق سنة ٣٣٩، وهي السنة التي حدث فيها وباء ببغداد وغلاء مفرط حتى أكل الناس الجيف، وفيها حدثت فتنة البريدي.
وأقام بدمشق في شظف من العيش وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة، قال ابن أبي أصيبعة نقلًا عن الآمدي: إن الفارابي كان في أول أمره ناطورًا في بستان بدمشق، وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة والنظر فيها والتطلع إلى آراء المتقدمين وشرح معانيها.
وكان ضعيف الحال حتى إنه كان في الليل يسهر للمطالعة والتصنيف ويستضيء بالقنديل الذي للحارس، وبقي على ذلك مدة.
وملك سيف الدولة حلب سنة ٣٣٣ وبسط حمايته على العلم والأدب، فقصد إليه الفارابي وآوى منه إلى ركن شديد، ثم إنه عظم شأنه وظهر فضله واشتهرت تصانيفه وكثرت تلاميذه …
وقد عاش منذ ذلك الحين في كنف سيف الدولة منقطعًا إلى التعليم والتأليف، غير منقطع عن الأسفار التي كان بها مغرمًا، وبلغت به أسفاره إلى مصر ثم رجع إلى الشام. ولعله كان يتنقل بين حلب عاصمة الحمدانيين ودمشق التي كانت تدخل في حوزتهم تارة وتخرج أخرى.
وفاته
وظل هذا حاله إلى أن توفي بدمشق سنة ٣٣٩ وصلى عليه سيف الدولة في أربعة أو خمسة عشر من خواصه، ودفن بظاهر دمشق خارج الباب الصغير.
وقد سمعت من أستاذي — رحمه الله — أن أبا نصر كان يرتحل من دمشق إلى عسقلان، فاستقبله جماعة من اللصوص الذي يقال لهم: القبان، فقال لهم أبو نصر خذوا ما معي من الدواب والأسلحة والثياب وأخلوا سبيلي، فأبوا ذلك وهموا بقتله. فلما صار أبو نصر مضطرًّا، ترجل وحارب حتى قتل ومن معه. ووقعت هذه المصيبة في أفئدة أمراء الشام مواقع فطلبوا اللصوص، ودفنوا أبا نصر وصلبوهم على جذوع عند قبره. وبعض من لم يكن له معرفة بالتواريخ يحكي أن أبا نصر قد عراه الماليخوليا، ومر على شط دجلة برجل يبيع التمر، فقال له: كيف تبيع التمر؟ فأجاب الرجل بكلام غير ملائم فضربه، وقال: أسألك عن الكيف، وأنت تجيب عن الكم.
ولو صحت حكاية قتل الفارابي لأشار إليها من ترجموا له ممن كان زمنهم قريبًا من زمنه كأبي الحسن على المسعودي المتوفى سنة ٣٤٦ﻫ / ٩٥٧م. على أنا لاحظنا في ترجمة البيهقي للفارابي خلطًا تاريخيًّا يزعزع الثقة بها، وهذه الرواية المنقولة عن قتل الفارابي تشبه أن تكون تحريفًا لما رواه المؤرخون عن مقتل أبي الطيب المتنبي الشاعر المشهور في عودته من بلاد فارس إلى الشام سنة ٣٥٤ﻫ.
وقد وقع للبيهقي خلط أيضًا في ترجمة الفارابي حيث نقل عن كتاب أخلاق الحكماء أن الصاحب إسماعيل بن عباد بعث إلى أبي نصر هدايا وصلات واستدعاه إليه، وأبو نصر يتعفف وينقبض ولا يقبل منه شيئًا، حتى ضرب الدهر ضرباته ووصل أبو نصر إلى الري، ودخل مجلس الصاحب متنكرًا إلى آخر ما ذكره من رواية تشابه القصة المروية عن اتصال الفارابي بسيف الدولة.
والصاحب إسماعيل بن عباد ولد سنة ٣٢٦، فهو عند موت الفارابي كان صبيًّا لم يجاوز ١٣ عامًا.
أما صلاة ابن حمدان في بعض خواصه على أبي نصر التي عني المؤرخون بتسجيلها، فهي آية مودة وتكريم من سيف الدولة لرجل آتاه الله حكمة تتعالى عن عقول العامة وقلوبهم.
نمط حياته
وقد عاش الفارابي عيشة الزهاد حياته كلها، فلم يقتن مالًا ولا اتخذ صاحبة ولا ولدًا.
وكان يستطيع أن يستمتع برفه العيش، خصوصًا في شيخوخته أيام استظلاله بظل الملك الجواد سيف الدولة بن حمدان، لكنه لم يكن يتناول من سيف الدولة إلا أربعة دراهم فضة في اليوم يخرجها فيما يحتاجه من ضروري العيش، وهو الذي اقتصر عليها لقناعته ولو شاء زيادة لوجد مزيدًا.
قال ابن خلكان: «وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون غالبًا إلا عند مجتمع ماء، أو مشتبك رياض ويؤلف هناك كتبه ويتناوبه المشتغلون عليه»، وفي مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: «وكان منفردًا بنفسه لا يكون إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، ويؤلف كتبه هناك وكان أكثر كتبه في الرقاع، ولم يصنف في الكراريس إلا قليلًا؛ ولذلك كانت أكثر تصانيفه فصولًا وتعليقات وبعضها مبتورًا ناقصًا.»
وتلك حياة فيلسوف زاهد وموسيقي شاعر.
والفارابي إنما كان يعتزل الناس ويؤثر الوحدة لما رأى أن أمر النفس وتقويمها أول ما يبتدئ به الإنسان، حتى إذا أحكم تعديلها وتقويمها ارتقى منها إلى تقويم غيرها، كما ذكر ذلك في كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين تبريرًا لتخلي أفلاطون عن كثير من الأسباب الدنيوية وإيثاره تجنبها.
ولم يكن الفارابي ضجرًا بالحياة ولا متبرمًا بالناس، أما الخمر فما نحسبه كان يشربها شهوة وتلهيًا، ذلك الرجل الذي كف نفسه عن شهوات الحياة ولهوها.
وقد يكون شعر الفارابي ضاع فيما ضاع من آثاره، ولولا شك ابن خلكان شكًّا وجيهًا لرجح عندنا أن يكون الفارابي هو القائل:
قصص نبوغه ومواهبه
وأما إبداعه الموسيقي فقد رويت فيه أعاجيب: فمن ذلك ما حكاه ابن خلكان إذ يقول: إن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف، فأدخل عليه وهو بزي الأتراك، وكان ذلك زيه دائمًا، فوقف فقال له سيف الدولة: اقعد، فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟ فقال: حيث أنت، فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارهم به قَل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني سائله عن أشياء إن لم يوف بها فاخرجوا به، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه، وقال له: أتحسن هذا اللسان، فقال: أحسن أكثر من سبعين لسانًا. فعظم عنده ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن. فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل، وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله: فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن نأكل؟ فقال: لا، فهل تشرب؟ فقال: لا، فهل نسمع؟ فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر، وقال له: أخطأت. فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصناعة شيئًا؟ فقال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيدانًا وركبها، ثم لعب بها فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيبًا آخر ثم ضرب بها فبكى كل من كان في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وضرب بها ضربًا آخر فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نيامًا وخرج.
ولئن كانت هذه الحكاية أدنى إلى الأساطير منها إلى التاريخ، فهي تشبه أن تكون غلوًّا مجاوزًا لا اختراعًا صرفًا.
وقد روي للفارابي شعر فيه نفحة من أساليب الفلاسفة أحيانًا، وفيه أحيانًا صريخ محب للعزلة سيئ الرأي في الناس.
ومما روي من شعره:
روى له هذا الشعر ابن أبي أصيبعة، وروى له أيضًا:
وذكر ابن خلكان أنه وجد في مجموعة أبياتًا منسوبة إلى الفارابي هي:
وقد شك ابن خلكان في صحة هذه الأبيات، وذكر أنه رآها في كتاب الخريدة منسوبة إلى شاعر من شعراء القرن السادس معاصر لصاحب الكتاب.
ونحن نشك في صحة معظم هذا الشعر أن يكون للفارابي؛ لما في أسلوبه من تكلف ينبو عنه أسلوب فيلسوفنا وطبعه، ولما في معانيه من تبرم بالحياة والناس، واستهتار بالشراب.
مكانته الفلسفية ومؤلفاته
يقولون الحكماء أربعة: اثنان قبل الإسلام وهما أفلاطون وأرسطو، واثنان في الإسلام وهما أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا، وكان بين وفاة أبي نصر وولادة أبي علي حوالي ثلاثين سنة، وكان أبو علي تلميذًا لتصانيف الفارابي يعترف أنه لولاها لما اهتدى إلى فهم ما بعد الطبيعة.
وكما لقب أفلاطون بالحكيم الإلهي وأرسطاطاليس بالمعلم الأول، لقب الفارابي بالمعلم الثاني، وابن سينا بالشيخ الرئيس.
وآراء الناس مختلفة في تقديم الفارابي أو ابن سينا، فالقفطي يقول عن الفارابي: «فيلسوف المسلمين غير مدافع»؛ ويقول ابن خلكان عنه: «وهو أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن منهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا المقدم ذكره بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه.»
أما الشهرستاني فيقول عند الكلام على فلاسفة المسلمين: «ومنهم الفارابي، وإنما علَّامة القوم أبو علي الحسين بن سينا.»
وأما الفارابي اضطرب وخلط وتناقض وتشكك في العقل الهيولاني، وزعم أن ذلك تمويه ومخرفة، ثم شك في النفس الناطقة: هل غمرتها الرطوبة، أو حدثت بعد وتنوع اعتقاده في بقاء النفوس، بحسب ما ذكر في كتاب الأخلاق، وكتاب المدينة الفاضلة، والسياسة المدنية، وأكثر تآليفه في المنطق. وعدة كتبه نحو خمسة وسبعين كتابًا، وفيها من الإلهيات تسعة، وهذا الرجل أفهم فلاسفة الإسلام، وأذكرهم للعلوم القديمة، وهو الفيلسوف فيها لا غير، ومات وهو مدرك ومحقق وزال عن جميع ما ذكرته، وظهر عليه الحق بالقول والعمل، ولولا التطويل لذكرت ذلك مفصلًا.
وابن سبعين هذا قد تناول بالنقد اللاذع، بل بالتحقير الشنيع، ابن سينا والغزالي وابن رشد.
ويقول الأستاذ «كارا دو فو» في ترجمته للفارابي بدائرة المعارف الإسلامية: «ومذهب الفارابي هو مذهب الفلاسفة، أعني الأفلاطونية الجديدة الإسلامية، الذي بدأه من قبله الكندي، ووجد في كتب ابن سينا من بعده أكمل عبارة عنه، وقد يكون من الراجح أن الفارابي يخالف الكندي وابن سينا في بعض المواضع، ولكن من العسير تعيين هذه المواضع. ومن المناسب التحفظ بل الشك في تفسير ما يتعلق بتفصيل مذهبه. والواقع أنا لا نعرف من آثاره إلا قليلًا، ثم إن أسلوبه لا يخلو من غموض. وفيما عرفنا من رسائله ما هو مصوغ في صورة حكم في نهاية الإيجاز، من غير نظام في ترتيبها، ثم إنه لا يمكن البت عن يقين بأن مؤلفات كثيرة كمؤلفات الفارابي يتداولها تأثير أرسطو وأفلاطون وأفلوطين تتجرد من التناقض، على أن الفكرة التي تعتبر قاعدة لهذا المذهب، وهي التوفيق بين أرسطو وأفلاطون من ناحية، وبين هذه الفلسفة الملفقة والعقيدة الإسلامية من ناحية أخرى، ليست في نفسها سليمة من التضارب.»
وهذه العبارة في جملتها قد تبين بيانًا صحيحًا عن مكانة كل من الكندي والفارابي وابن سينا في الفلسفة الإسلامية، وإن كانت تفاصيلها لا تخلو من نقد.
وفي حاشية المطالع لمولانا لطفي: أن المأمون جمع مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق، وثابت بن قره، وترجموها بتراجم متخالفة مخلوطة غير ملخصة ومحررة لا توافق ترجمة أحدهم للآخر، فبقيت تلك التراجم هكذا غير محررة، بل أشرف أن عفت رسومها إلى زمن الحكيم الفارابي. ثم إنه التمس منه ملك زمانه المنصور بن نوح الساماني أن يجمع تلك التراجم، ويجعل من بينها ترجمة ملخصة محررة مهذبة مطابقة لما عليه الحكمة، فأجاب الفارابي وفعل كما أراد وسمى كتابه «بالتعليم الثاني». فلذلك لقب «بالمعلم الثاني». وكان هذا في خزانة المنصور إلى زمان السلطان مسعود من أحفاد المنصور كما هو مسودًا بخط الفارابي، غير مخرج إلى البياض؛ إذ الفارابي غير ملتفت إلى جمع تصانيفه، وكان الغالب عليه السياحة على زي القلندرية. وكانت تلك الخزانة بأصفهان وتسمى «صوان الحكمة»، وكان الشيخ أبو علي بن سينا وزيرًا لمسعود، وتقرب إليه بسبب الطب حتى استوزره وسلم إليه خزانة الكتب، فأخذ الشيخ الحكمة من هذه الكتب، ووجد فيما بينها التعليم الثاني، ولخص منه كتاب الشفاء. ثم إن الخزانة أصابها آفة فاحترقت تلك الكتب، فاتُّهم أبو علي بأنه أخذ من تلك الخزانة الحكمة ومصنفاته، ثم أحرقها لئلا تنتشر ولا يطلع عليه، فإنه بهتان وإفك؛ لأن الشيخ مقر لأخذه الحكمة من تلك الخزانة، كما صرح به في بعض رسائله. وأيضًا يفهم في كثير من مواضع الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني.
وفي ذلك القول خطأ تاريخي: فإن منصور بن نوح الساماني إنما ولي أمر خراسان بعد سنة ٣٤٣ بعد موت الفارابي.
ولا ينتهي فضل الفارابي عند تفسير كتب أرسطو وتصحيح تراجمها، والتمهيد بذلك للنهضة الفلسفية في الإسلام التي تكاملت من بعده؛ بل له أيضًا أنظار مبتدعة، وأبحاث في الحكمة العلمية والعملية عميقة سامية، لم تتهيأ بعد للباحثين كل الوسائل لتفصيلها تفصيلًا وافيًا، وللفارابي كتاب في المدينة الفاضلة، كما أن لأفلاطون كتابًا في الجمهورية الفاضلة.
والفارابي هو أول من عني بإحصاء العلوم وترتيبها في كتابه «إحصاء العلوم»، الذي نشره (سنة ١٩٣١) الدكتور عثمان أمين مدرس الفلسفة بكلية الآداب، ووضع له مقدمة طيبة، وعني بنشره أيضًا المستشرق الإسباني «بلانسيا» في سنة ١٩٣٤.
ومن أجل ذلك يعتبر بعض الباحثين أبا نصر أول واضع في العالم لنواة دوائر المعارف.
ولئن كانت الأجيال تهتف باسم الفارابي منذ ألف عام في الشرق والغرب، فإنه قد استحق ذلك بما وهب حياته لخدمة العلم والحكمة، وبما ترك من أثر في تاريخ التفكير البشري، وفي تاريخ المثل العليا للحياة الفاضلة.
•••
هذا، ولما كان من المتعذر في عجالة كهذه أن نعرض بتفصيل لنظريات الفارابي الفلسفية، فقد رأينا أن نعرض منها جانبًا يتمثل فيه ابتكاره وطرافة نظراته وهو مذهبه في ترتيب العلوم وتقسيمها:
مذهب الفارابي في إحصاء العلوم٣
قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علمًا علمًا، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وأجزاء كل ما له منها أجزاء، وجمل ما في كل واحد من أجزائه». وقد يتبادر إلى الناظر أن قصد الفارابي إنما هو تعديد أشهر العلوم المعروفة لعهده مع بيان مسائلها إجمالًا. وحينئذ يكون كل فضل الفارابي في كتابه أنه سبق إلى فكرة جمع أسماء العلوم المشهورة والتعريف بما تشتمل عليه جملة، ويكون كتابه أجدر أن يسمى «إحصاء العلوم»؛ لكنه لا يكون صاحب مذهب في تصنيف العلوم وترتيبها. على أنه يبقى مع هذا الفرض لكتاب الفارابي فضل السبق إلى تدوين ما لا يستغني عنه مثقف من المشاركة في أهم العلوم المعروفة لعهده. وقد أشار المعلم الثاني إلى هذا في قوله في مقدمة كتابه: «وينتفع به المتأدب المتفنن الذي قصده أن يشدو جمل ما في كل علم، ومن أحب التشبه بأهل العلم ليظن أنه منهم.
ولعل ما نسميه اليوم «الموسوعة» أو «دائرة المعارف» أو «المعلمة» لا يخرج في الجملة عن أن يكون من هذا الباب، فليس مجانبًا للحق قول من يرى أن الفارابي هو أول من وضع دائرة معارف، ولسنا نعرف من قبل الفارابي من قصد إلى تدوين جملة المعارف الإنسانية في زمنه موطأة مجملة يسهل تناولها على المتأدبين.
•••
على أننا نلاحظ أن الفارابي في كتاب «إحصاء العلوم» لم يعمد إلى تعديد العلوم الجزئية على غير نسق؛ بل هو قد صنف العلوم أصنافًا، فجمع أفرادًا من العلوم في علم اللسان مثلًا، وفي علم التعاليم، وفي العلم المدني. وإذا لم يكن نبه في بعض الأقسام على اشتماله على عدة علوم كما في علم الفقه وعلم الكلام، فليس ذلك بمانع من تضمن هذه الأقسام لعلوم متفرعة في عهد الفارابي، وبذلك يتبين أن الفارابي إنما قصد إلى إحصاء العلوم بمعنى الإحاطة بأصنافها صنفًا صنفًا. ففي كتابه تقسيم للعلوم. وللفارابي في هذا التقسيم أو التصنيف للعلوم مذهب لا نعرف أنه سبق إليه بملاحظة ما فيه من الشمول، وهو قد قسم العلوم ثمانية أقسام:
(١) علم اللسان (٢) علم المنطق (٣) علم التعاليم (٤) العلم الطبيعي (٥) العلم الإلهي (٦) العلم المدني (٧) علم الفقه (٨) علم الكلام.
أما جعله كتابه خمسة فصول فالظاهر أنه لم يلاحظ فيه إلا تقسيم مؤلفه إلى أجزاء متقاربة المقدار، وبين أنه بنى تصنيفه للعلوم على اختلاف الموضوعات التي تتناولها بالبحث اختلافًا بالذات أو بالحيثية، فما يبحث عن الألفاظ الدالة عند أمة، منطوقة كانت هذه الألفاظ أو مكتوبة، هو علم اللسان. وما يبحث عن المعقولات هو المنطق، وهكذا. وذلك جلي لكل ناظر في الكتاب.
وخلاصة القول في ذلك أن السعادة هي غاية يتشوقها كل إنسان، وأن كل من ينحو بسعيه نحوها فإنما ينحو نحوها على أنها كمال، وكل غاية يتشوقها الإنسان، فإنما يتشوقها على أنها خير.
ولما كانت السعادة إذا حصلت للإنسان لم يحتج بعدها أن يسعى لغاية أخرى غيرها، تبين من ذلك أن السعادة هي آثر الخيرات وأعظمها وأكملها، وهي أحرى الأشياء بأن تكون مكتفية بنفسها.
والسعادة ليس ينالها الإنسان بأحواله التي لا يلحقها حمد ولا ذم؛ ولكن بجملة أحواله التي يلحقه بها حمد أو ذم.
وهي ثلاثية؛ أحدها: الأفعال التي يحتاج فيها إلى استعمال أعضاء بدنه الآلية، مثل القيام والقعود والنظر والسماع.
والثاني: عوارض النفس، مثل الشهوة واللذة والفرح والغضب والشوق والرحمة.
والثالث: هو التمييز بالذهن.
والسعادة ليست تنال بالأفعال الجميلة متى كانت عن الإنسان باتفاق، أو بأن يُحمل عليها من غير أن يفعلها طوعًا؛ بل بأن تكون له وقد فعلها طوعًا وباختياره، وأن يختار الجميل في كل ما يفعله وفي زمان حياته كله.
وهذه الشرائط يجب أن تكون في عوارض النفس الجميلة أيضًا.
والسعادة ليست تنال بجودة التمييز ما لم يكن بقصد وصناعة، ومن حيث يشعر الإنسان بما يميز كيف يميز، وفي كل حين من زمان حياته.
وكل إنسان مفطور من أول وجوده على قوة بها تكون أفعاله وعوارض نفسه وتمييزه على ما ينبغي، وتكون على غير ما ينبغي: فالأمران ممكنان على حد سواء، ثم تحدث بعد ذلك للإنسان حال يكون بها أحدهما أشد إمكانًا من الآخر.
أما القوة التي يفطر الإنسان عليها من أول وجوده، فليس إلى الإنسان اكتسابها، وأما الحال الأخرى فإنها إنما تحدث باكتساب من الإنسان لها.
وجودة التمييز هي التي بها تحصل لنا معارف جميع الأشياء التي للإنسان أن يعرفها، وهي صنفان: صنف شأنه أن يعلم، وليس شأنه أن يفعل، مثل علمنا أن العالم محدث وأن الله واحد. وصنف شأنه أن يعلم ويفعل، مثل علمنا أن بر الوالدين حسن، وأن الخيانة قبيحة، وأن العدل جميل، وأن علم الطب يكسب الصحة.
وكل واحد من هذين الصنفين له صنائع تجوزه.
فالصنائع أيضًا صنفان: صنف لنا به علم ما يعلم فقط، وصنف لنا به علم ما يمكن أن نعمل، والقوة على عمله.
وهذا الصنف الأخير قسمان: قسم يتصرف به في البدن، مثل الطب والتجارة والفلاحة وسائر الصنائع، وقسم يتصرف به الإنسان في السِّير أيها أجود ويتميز به أعمال البر والأفعال الصالحة، وبه يستفيد القوة على فعلها.
وكل واحدة من هذه الصنائع الثلاث له مقصود من المقاصد الإنسانية الثلاثة: اللذيذ والنافع والجميل، والنافع إما نافع في اللذة، وإما نافع في الجميل.
والصناعات البدنية مقصودها النافع، والتي تميز بها السير وتستفاد القوة على ما يستحسن، مقصودها الجميل من قِبَل تحصيلها العلم، واليقين بالحق، واليقين بالحق جميل، فإذن الصنائع صنفان: صنف مقصوده تحصيل الجميل، وصنف مقصوده تحصيل النافع.
والصناعة التي مقصودها تحصيل الجميل فقط هي التي تسمى الفلسفة وتسمى الحكمة على الإطلاق.
ولما كانت السعادات إنما ننالها متى كانت لنا الأشياء الجميلة قُنية، وكانت الأشياء الجميلة إنما تصير لنا قنية بصناعة الفلسفة، فلازم ضرورةً أن تكون الفلسفة هي التي بها تنال السعادة، ولما كانت الفلسفة إنما تحصل بجودة التمييز، وكانت جودة التمييز إنما تحصل بقوة الذهن مع إدراك الصواب، كانت قوة الذهن حاصلة لنا قبل جميع هذه، وقوة الذهن إنما تحصل متى كانت لنا قوة نقف بها على ما هو حق بيقين، وما هو باطل بيقين، ونقف على الباطل الشبيه بالحق والحق الشبيه بالباطل، فلا نغلط ولا ننخدع، والصناعة التي نستفيد منها هذه القوة تسمى صناعة المنطق.
فيلزم ضرورةً أن تكون العناية بهذه الصناعة تتقدم العناية بالصنائع الأخر.
ولما كانت صناعة المنطق هي أول شيء يشرع فيه بطريق صناعي، لزم أن تكون الأوائل التي يشرع فيها أمورًا معلومة سبقت معرفتها للإنسان فلا يعرى من معرفتها أحد.
وهي أمور حاصلة في ذهن الإنسان من أول وجوده غريزية فيه، غير أن الإنسان ربما لم يشعر بما هو حاصل في ذهنه، حتى إذا سمع اللفظ الدال عليه شعر به. وكثير من الأشياء التي يمكن الشروع بها في صناعة المنطق لا يشعر بتفصيلها وهي حاصلة في ذهن الإنسان، فينبغي متى قصد التنبيه عليها أن تحضر أصناف الألفاظ الدالة على أصناف المعاني المعقولة، حتى إذا شعر بتلك المعاني ورأى كل واحد منها على حياله اقتضت حينئذ من المعاني ما شأنه أن يستعمل في تكشف هذه الصناعة.
فلذلك ينبغي أن يكون في صناعة النحو التي تشتمل على أصناف الألفاظ الدالة غناء ما في الوقوف على أوائل هذه الصناعة؛ لأن موضوعات المنطق هي المعقولات من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات.
- (١)
علوم نظرية وهي تشتمل على علوم التعاليم أي: العلوم الرياضية بأنواعها والعلم الطبيعي والعلم الإلهي.
- (٢)
علوم عملية وقد ذكر منها العلم المدني (أي: علم الأخلاق وعلم سياسة المدينة) ثم علم الفقه وعلم الكلام.
ويظهر أن الفارابي قد قدم العلوم النظرية على العلوم العملية لتوقف هذه على تلك، فالأولى دعامة للثانية.