الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي
فلسفة المتنبي في الميزان
للمتنبي منذ هتفت باسمه الأيام أنصار وخصوم:
وأنصار المتنبي يصفونه بالفلسفة مدحًا له وتنويهًا برفعة شأنه. أما خصوم المتنبي فيقولون: هو فيلسوف في مقام الذم له والغض من مكانته.
المتنبي فيلسوف عند خصومه؛ لأن له شعرًا يدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة مثل:
وقوله:
وهو يحتمل لأبي نواس قوله:
وقوله:
والمتنبي فيلسوف عند خصومه لما يستعمل في شعره من ألفاظ المناطقة والفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين، مثل قوله في وصف فرس: «سبوح لها منها عليها شواهد»، وقوله:
هذا من استعمال كلمات الصوفية المعقدة ومعانيهم المغلقة، ومثل قوله في استعمال ألفاظ المناطقة:
وقوله:
وقد استعمل المتنبي كلمات الفلاسفة في أبيات منها:
ومنها:
وأورد المتنبي في شعره أسماء أرسطاليس وبطليموس وجالينوس وبقراط، وأشار إلى مذهب المانوية، وإلى مذهب السوفسطائية، ومذهب التناسخ، وإلى مذاهب الشيعة وغلاتهم مثل قوله:
وذكر ابن نباتة في شرح رسالة ابن زيدون أن له أشعارًا لم تدخل في ديوانه مثل قوله:
قال: «وهو شبيه بنفسه.»
ومن آيات فلسفة المتنبي عند خصومه أنه يعمد إلى العويص من المعاني خروجًا عن طريق الشعراء إلى مذاهب الفلاسفة في مثل قوله:
وقوله:
ومما يحسن أن نشير إليه في هذا المقام أن من خصوم المتنبي من حاول أن يرد المعاني الجيدة في شعره إلى من سبقه من الشعراء، وأن يرد حكمه وأمثاله إلى كلمات لأرسططاليس؛ ليخرج أبا الطيب من زمرة الشعراء ومن زمرة الفلاسفة معًا.
•••
هذا كلام الحاتمي خصم المتنبي عندما أراد أن يرجع في خصومته إلى العدل، وقد جمع في رسالته مائة موضع وافق فيها أبو الطيب أقاويل المعلم الأول.
وفي بعض هذه المواضع تكلف ظاهر في الوصل بين قول الشاعر وقول الفيلسوف نورد منه أمثالًا:
قال أرسطو: من صحة السياسة أن يكون الإنسان مع الأيام كلما أظهرت سنة عمل فيها بحسب السياسة.
وقال المتنبي:
وقال أرسطو: من جعل الفكرة في موضع البديهة فقد أضر بخاطره، وكذلك من جعل البديهة في موضع الفكرة.
وقال أبو الطيب:
والمتنبي على وجه خاص أولى من عامة شعرائنا (ما عدا المعري) بالنصيب الأوفى في عالم المذاهب والآراء؛ لأن الحقائق المطبوعة لا تكاد تقر في نفسه حتى يرسلها إلى ذهنه ويكسوها ثيابًا من نسجه. ويغلب أن يوردها بعد ذلك مقرونة بأسبابها، معززة بحججها، على نمط لا يفرق بينه وبين أسلوب الفلاسفة في التدليل إلا طابع السليقة وحرارة العاطفة. فتأمل في قوله:
أو قوله:
أو قوله:
ونحن لا ننفي عن أبي الطيب التأثر بالفلسفة وغيرها مما يداخلها أو تداخله على مذهب الأوائل، وكيف يكون ذلك والدنيا يومئذ موج متلاطم بالجدل والخصام، والعلماء يومئذ كثيرون، وأصحاب المذاهب الغريبة متوافرون، وأصحاب الجدل مغرمون بإقامة الشبهة وردها بالحجة والبرهان العقلي، والكتب المخلفة كثيرة لم تذهب بعد، وهي كتب نشأ منها بعد علم الكلام الذي اختلطت به الفلسفة وصارت أصلًا من أصوله؛ والمساجد لذلك العهد كانت عامرة بالصخب الذي لا يجدي ولا ينفع في أصول الدين وعقائده، فلسنا نشك بعد أن هذا الفتى المتوقد، الذي قال عنه كثير ممن رأوه إنه كان واسع العلم والمعرفة قد اختلط وسمع وبحث ونظر وجادل، وأخذ بأطراف مما سمع وقرأ وحفظ، حتى بان ذلك في شعره الأول بيانًا لا خفاء فيه، وقل بعد أن استحكمت قوته، وغلب عليه الأصل الشعري الذي استولى على أكثر موهبته وقدرته.
وقد كان في هذا القسم من شعره يلجأ إلى الأساليب الفلسفية في استخراج المعاني وتوليدها، وكان يكثر من التقسيم الفلسفي والتوجيه المنطقي وغيره من ألوان كلام المتفلسفة والمتكلمة والمتزندقة أيضًا، حتى فسدت معاني شعره؛ فلذلك كان أكثر ما تجد من ساقطه ومرذوله مما عابه عليه النقاد، وخاصمه به المتعصبون عليه هو من هذا القسم الذي قاله في صباه إلى أطراف سنة ٣٢٨ على وجه التقريب لا التحقيق.
هذه خلاصة آراء المتقدمين والمحدثين في فلسفة المتنبي، ولا يتسع المقام للبحث فيها والموازنة بينها.
وعجيب أن يعترف المتنبي بالسبق لشاعر، وهو الذي ملأ الدنيا بشعره فخارًا فهو يقول:
ويقول:
ولم نجد شعرًا للمتنبي وصف فيه نفسه بالفلسفة أو الحكمة على كثرة ما تغنى بمديح نفسه؛ بل إننا لم نجد الوصف بالحكمة والفلسفة في مدائح المتنبي إلا قوله:
وقوله:
وقوله:
ولا يدل ذلك على أن المتنبي لم يكن يعرف للفلسفة قدرها؛ فقد يكون تجنبه ذكرها في بلاد الحمدانيين؛ لأن الفلسفة كانت لا تزال معتبرة في ذلك الوسط العربي علمًا من علوم الأوائل الأعاجم، غير إسلامي ولا عربي.
مصادر فلسفته
والظن عندنا أنه لقي أبا الفضل هذا، وكان يدعي الفلسفة ويتبجح بذكرها، ويظن بنفسه العلم به ويعرض نفسه لقراءة درس فيها، وكان في ذلك أضحوكة يعجب منها ويتفكه بها، وكانت صورته في ذلك كله تستقصي الضحك وتستخرجه، فقال له أبو الطيب هذه القصيدة تندرًا به وعبثًا وسخرية … والعجب للأصفهاني صاحب إيضاح المشكل الذي مر في أول كلامنا ذكره أن يزعم أن معتوهًا كأبي الفضل هذا النكرة قد هوس أبا الطيب وأضله كما ضل، فمن كان في بديهة المتنبي وذكائه وتوقده لا يلعب به رجل مغمور غير مذكور كهذا الذي ذكروه، وظاهر أمر الأصفهاني أو من قال له ذلك، أنه وقع إليه خبر أبي الطيب وتندره بأبي الفضل هذا الدعي على الفلسفة، فقلب الخبر من معنى الهزل إلى معنى الجد، ونسب إلى المتنبي الأخذ عنه والاقتداء بسخفه وهذيانه، فلولا جاءوا بشيخ مذكور من شيوخ الفلسفة وادعوا ذلك فيما ادعوا على الرجل.
وقد أشرنا من قبل إلى أن الحاتمي جمع في رسالته مائة موضع وافق أبو الطيب فيها أرسطو؛ وذلك يدل على أن أبا الطيب متأثر بفلسفة أرسطو. ولا شك أن أثر الفلسفة الأرسطاطاليسية قد وصل إلى المتنبي كما وصل إلى جمهرة المفكرين المثقفين في عصر المتنبي ومن قبله ومن بعده.
على أن كل المترجمين للمتنبي والباحثين في فلسفته قد أغفلوا رجلًا لعله صاحب الأثر الأكبر في فلسفة المتنبي: ذلك الرجل هو أبو نصر الفارابي.
اتصل الفارابي بسيف الدولة حين ملك سيف الدولة حلب سنة ٣٣٣، وبسط حمايته على العلم والأدب، وقد عاش الفارابي منذ ذلك الحين في كنف سيف الدولة، منقطعًا إلى التعليم والتأليف، غير منقطع عن الأسفار التي كان بها مغرمًا، وقد عظم شأن الفارابي في كنف سيف الدولة وظهر فضله، واشتهرت تصانيفه، وكثرت تلاميذه، وتوفي الفارابي سنة ٣٣٩ وصلى عليه سيف الدولة في أربعة أو خمسة عشر من خواصه.
أليست هذه الرواية — وهي من الأساطير — شبيهة بما رواه المؤرخون عن مقتل المتنبي؟
وقد حكى ابن خلكان حكاية ورود أبي نصر على سيف الدولة، وفيها أنه لما قال له سيف الدولة: «اجلس حيث أنت»، تخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه … إلى آخر القصة، وفي ذلك بعض الشبه بما يروون من الشروط التي اشترطها أبو الطيب لمصاحبة سيف الدولة.
وإذا جئنا إلى ما يدور في شعر أبي الطيب من المعاني الفلسفية وجدنا لذلك أصولًا فيما وصل إلينا من كتب الفارابي، وتقصي كل ذلك أو أكثره ليس مما تحتمله هذه الفرصة؛ على أني أضرب لذلك الأمثال:
يكثر المتنبي من القول في الطبع وأنه يعسر تغييره أو يتعذر فيقول: «وتأبى الطباع على الناقل»؛ ويقول:
وقد أثار الفارابي في كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين مسألة الخلاف بين أرسطو وأفلاطون في أن الأخلاق كلها عادات تتغير، وأنه لا شيء منها بالطبع، وأن الإنسان يمكنه أن ينتقل من كل واحد منها إلى غيره بالاعتياد والدربة، كما جاء في كلام أرسطو، أو أن الطبع يغلب العادة كما ذكر أفلاطون في كتاب السياسة.
ويقول المتنبي:
ورويت للفارابي أشعار يجري فيها من المعاني مثل ما يجري في شعر المتنبي.
وأحسب أن ما أورده الحاتمي في رسالته من الأقاويل المنسوبة إلى أرسطو التي وافقها المتنبي قد يكون معظمها من كلام الفارابي، فإن الحاتمي لم يبين لنا مواقعها من كتب أرسطو، وإذا لم تكن من كلام الفارابي فقد تكون وصلت إلى المتنبي من كتب الفارابي؛ فقد ذكر المؤرخون أن له كتابًا اسمه «فصول مجموعة من كلام القدماء»، وهو لم يصل إلينا بعد.
والمدن الجاهلة والضالة إنما تحدث متى كانت الملة مبنية على بعض الآراء القديمة الفاسدة. منها أن قومًا قالوا: إنا نرى الموجودات التي نشاهدها متضادة، وكل واحد منها يلتمس إبطال الآخر، ونرى كل واحد منها إذا حصل موجودًا، أعطى مع وجوده شيئًا يحفظ به وجوده من البطلان، وشيئًا يدفع به عن ذاته فعل ضده، ويجوز به ذاته عن ضده، وشيئًا يبطل به ضده ويفعل به جسمًا شبيهًا به في النوع، وشيئًا يقتدر به على أن يستخدم سائر الأشياء فيما هو نافع في أفضل وجوده وفي دوام وجوده.
وفي كثير منها جعل له ما يقهر به كل ما يمتنع عليه، وجعل كل ضد من كل ضد ومن كل ما سواه بهذه الحال؛ حتى تخيل لنا أن كل واحد منها هو الذي قصدوا أن يجاز له وحده أفضل الوجود دون غيره؛ فلذلك جعل له كل ما يبطل به كل ما كان ضارًّا له وغير نافع له، وجعل له ما يستخدم به ما ينفعه في وجوده الأفضل. فإنا نرى كثيرًا من الحيوان يثب على كثير من باقيها فيلتمس إفسادها وإبطالها، من غير أن ينتفع بشيء من ذلك نفعًا: يظهر كأنه قد طبع على أن لا يكون موجود في العالم غيره، أو أن وجود كل ما سواه ضار له، على أن يجعل وجود غيره ضارًّا له، وإن لم يكن منه شيء آخر على أنه موجود فقط، ثم إن كل واحد منهما إن لم يرم ذلك التمس أن يستعبد غيره فيما ينفعه، وجعل كل نوع من كل نوع بهذه الحال، وفي كثير منها جعل كل شخص من كل شخص في نوعه بهذه الحال. ثم جعلت هذه الموجودات أن تتغالب وتتهارب، فالأقهر منها لما سواه يكون أتم وجودًا. والغالب أبدًا إما أن يبطل بعضًا؛ لأن في طباعه أن وجود ذلك الشيء نقص ومضرة في وجوده هو؛ وإما أن يستخدم بعضًا ويستعبده؛ لأنه يرى في ذلك الشيء أن وجوده لأجله هو …
وإذا لاحظنا ما تنبه له كارا دو فو من صلة التشابه بين بعض ما أورده الفارابي في كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة وبين مذاهب نيتشه في العصور الحديثة، ثم لاحظنا ما تنبه له الأستاذ عباس العقاد من صلة التشابه بين آراء المتنبي وآراء نيتشه، تبين من ذلك ما يؤيد ما نذهب إليه من أثر الفارابي وفلسفته في المتنبي وشعره.
وجملة القول أن المتنبي سليل الفارابي في فسلفته.
ولئن كان أبو نصر غير متبرم بالحياة ولا سيئ الظن بالبشر، فقد كانت تجد له في ساعات الوحدة والعزلة والغربة نزوات من الضجر يفيض بها لسانه فيقول:
أما المتنبي فقد كان متبرمًا بالناس وبالأيام، ولم يكن من أهل القناعة، بل كان من أهل الطموح والغلبة؛ فهو يقذف في زفراته بالشرر في وجوه البشر:
ولم يكن المتنبي من أهل التردد بحكم طموحه واندفاعه؛ لكن تتابع الهزائم والفشل كان يميل به في بعض أوقاته إلى الشك أو ما يشبه الشك فيقول:
وقد جمع أبو العلاء في فلسفته بين قناعة الفارابي وتبرم المتنبي، وأربى في الشك على كل شاك، فالمعري إذن سليل الفلسفتين.
والأدب العربي فيما نعلم لم ينتج غير المتنبي وغير المعري شاعرًا فيلسوفًا، ومن فضل المتنبي على الفلسفة أنه بثها في الشعر يوم كانت تلتمس لها منفذًا إلى العقول والقلوب في تقية وفي وجل، ولعل شعر المتنبي كان من أسباب عناية الكُتاب والشعراء بالدراسات الفلسفية استكمالًا لفنهم وطمعًا في اللحاق بذلك الشاعر الفيلسوف الذي شغلت به الألسن وسهرت في شعره العيون.