الفصل الأول
كان واضحًا منذ البداية أنَّ فعاليات الأُمسية لم تكن لتنتقصَ مثقالَ ذرةٍ من سُمعة هوراس بي سيسكين كمُضيفٍ استثنائي.
بالنظر إلى العرض الثلاثي لـ «فوهة تيخو القمرية للألعاب البهلونانية» وحده، فقد قدَّم سيسكين العرضَ الأروع لهذا العام. ولكن بدا جليًّا أنه حازَ مستوًى جديدًا تمامًا من التميُّز، عندما كشفَ عن أول حَجَرٍ منوِّم من منطقة «سيرتس ميجور» في المريخ.
ولكن في رأيي أنَّ العرضَ الثلاثي والحَجَر المنوِّم قد تراجَعا إلى مستوًى عادي قبل انتهاء الحفل، على الرغم مما تميَّزا به من جوانبَ شائقة. وذلك لأنني واثقٌ من أنه ما من شيءٍ أغرب من رؤية رجلٍ يختفي في لَمح البصر.
ولم يكن هذا جزءًا من العَرض بالمناسبة.
ولكي ندرك حجمَ ما أظهره سيسكين من إسرافٍ مُغالًى فيه، تجدر الإشارة إلى أنَّ الخدع التي كان يؤديها مقدِّمو عرض «فوهة تيخو القمرية» الثلاثي؛ قد استلزمت جاذبيةً معادِلة لجاذبية القمر. وقد طَغت المنصة المضادة للجاذبية، بهيئتها الضخمة غير المألوفة، على المكان الفاخر في إحدى الغرف بجناح السقيفة، بينما ازدحمت الحديقةُ العلوية بالخارج بمولِّداتها.
أما عرضُ الحَجَر المنوِّم، فقد كان عرضًا متكامِلًا في حد ذاته، اكتملَ بحضور طبيبَيْن. شاهدتُ أحداث العرض بفتور دون أدنى فكرة عن التطوُّرات الغريبة التي كانت تحملها لي تلك الأمسية لاحقًا.
كانت هناك شابَّةٌ سمراء نحيفة، اغرورقت عيناها الداكنتان الثاقبتان وفاضتا بالدموع، عندما غمرَ أحدُ أوجُه الحَجَر وجهَها بظلالٍ خفيفة باللون اللازوردي.
بحركةٍ غاية في البطء، دارت البِلَّورة على منضدتها الدوَّارة مُرسِلةً أشعةً من الضوء المتعدِّد الألوان الذي اجتاحَ الغرفة المُظلِمة، آخذةً شكلَ أصابع عجلة كبيرة. توقَّفت الحركة الشعاعية، وسقط شعاعٌ قرمزي على الوجه الذي بَدت عليه بعضُ أمارات الحَذر لشريك عملٍ كبير السن من شركاء سيسكين.
جاءَ ردُّ فعله على الفور قائلًا: «كلَّا! لم أُدخِّن قط في حياتي! ولن أُدخِّن الآن!»
ملأَ الضحكُ أرجاءَ الغرفة، واستأنفَ الحَجَر دورانه.
تسلَّلتُ عبر السجاد الوثير إلى مَنْفذ المرطِّبات؛ ربما بدافع الخوف من أن أكون الضحية التالية.
عندما وصلتُ إلى طاولة الشراب، طلبتُ من الساقي الآلي شرابَ سكوتش أسترويد، ووقفتُ أُحدِّق عبر النافذة في المدينة المتلألئة بالأسفل.
«هلَّا تطلب لي كأسًا من شراب البوربون والماء يا دوج؟» كان ذلك سيسكين. وقد بدا حجمُه في الضوء الخافت ضئيلًا للغاية. تعجَّبتُ من التناقض الذي اعترى مظهرَه عندما شاهدتُه يقترب. فلم يكن طوله يتعدَّى خمسَ أقدام وثلاثَ بوصات، بينما أَقدَم واثقَ الخُطى بخيلاء العمالقة، الذين كان منهم في واقع الأمر بالنظر إلى حجم ثروته. كان ذا رأسٍ كثيف الشعر، لا يخطُّه الشيبُ إلا في خصلاتٍ قليلة، لا تبدو عليه السنواتُ الأربع والستون من عمره، وكذلك كان وجهُه الذي خَلا من التجاعيد، وعيناه الرماديتان اللتان تشعَّان بالحماس والنشاط.
أجبتُه مؤكِّدًا بفتورٍ وأنا أُدخِل طلبه على الآلة: «كأسٌ من البوربون والماء في الطريق إليك.»
اتكأ مُسنِدًا ظهره إلى طاولة الشراب. وقال بنبرة تُوحي بالصلافة: «لا يبدو أنَّ الحفل يُعجبك.»
لكني التزمتُ الصمت ولم أُعقِّب.
أسندَ قدمَه التي كان يرتدي فيها حذاءً مقاسه خمسة على مسند الكرسي الجالِس عليه. وقال مازحًا بعضَ الشيء: «لقد كلَّفني هذا الحفلُ الكبير الكثيرَ من المال. وهذا كلُّه من أجلك. ظننتُك ستُظهِر بعضَ الامتنان.»
وصل شرابُه وناولتُه إياه. وسألتُه قائلًا: «أهذا كلُّه من أجلي؟»
فردَّ قائلًا: «حسنًا، ليس كله.» وضحكَ ثم أردفَ: «لا بد لي أن أعترفَ أن للأمر أغراضَه الترويجية.»
«فهمتُ. لقد لاحظتُ بالفعل تمثيلًا جيدًا للصحافة وشبكات الإعلام.»
«ليس لديك اعتراض، أليس كذلك؟ شيءٌ كهذا من شأنه أن يمثِّل حفلَ توديع لائق لشركة ريأكشنز المحدودة.»
تناولتُ شرابي من فتحة الاستلام وتجرَّعت نصفَه. ثم قلتُ: «شركة رين ليست بحاجة إلى حفل توديع. فستصبح قويةً دون مساعدة من أحد.»
انتابَ سيسكين بعضُ الغضب، كما ينتابه عادةً عندما يشعر بمعارضة من أحد ولو كانت مجرد تلميح. «أنا معجبٌ بك يا هُول. وأتوقعُ لك مستقبلًا حافلًا بأي حال، ليس فقط في شركة رين، ولكن ربما في بعض شركاتي الأخرى. ولكن …»
«إنني لست مهتمًّا بأي شيءٍ آخر غير شركة ريأكشنز.»
قاطعه قائلًا في حزم: «ولكن، في الوقت الحالي، تقتصر مساهمتُك بالأساس على الجانب التقني. فالزم العملَ على إدارة تصميمك واترك أيَّ شيءٍ آخر لمسئولي الترويج.»
تناولنا شرابنا في صمت.
ثم أدارَ الكأس في يده القصيرة. وقال: «أتفهَّمُ بالطبع أنك ربما تكون مستاءً لعدم تمتُّعكَ بحصة في الشركة.»
«لست مهتمًّا بالأسهم. إنني أتقاضى راتبًا جيدًا بما يكفي. كلُّ ما أريده هو أن أُنجِز عملي.»
قال سيسكين وهو يمدد أصابعه في توتر حول كأسه: «كما تعرف، لقد كان الأمر مختلفًا مع هانون فولر. فقد اخترعَ الجهاز، أي: النظام. وقصدني طلبًا للدعم المالي. أسَّسنا الشركة، وكنا ثمانية في واقع الأمر. وحسب الاتفاق، كان نصيبُه ٢٠ بالمائة من الأرباح.»
«أعي كلَّ ذلك بحكم أنني كنت مساعِده على مدى خمس سنوات.» طلبتُ إعادة ملء كأسي من الساقي الآلي.
«إذن ما الذي دفعَ بك للخروج إلى هنا عابسًا؟»
تسلَّلَت انعكاساتٌ من الحَجَر المنوِّم عبر سقف المكان وانتشرتْ على النافذة، فأَعتمَت المدينةُ الساطعة. صرخت امرأةٌ حتى أخمدتْ صرخاتِها الحادةَ موجةٌ من الضحك.
اندفعتُ واقفًا بعدما كنت جالسًا إلى طاولة الشراب، وحدَّقتُ في عينَي سيسكين باحتقار. ثم قلت: «لم يمضِ على موت فولر سوى أسبوع. أشعر وكأني ابن آوى وأنا أحتفل بترقيتي لأحلَّ مكانه.»
التفتُّ لأغادر، ولكن سرعان ما قال سيسكين: «لقد كنتَ ستترقى على أي حال. فقد كان فولر على وشك ترك منصبه كمدير فني. لم يكن يستطيع الصمود تحت ضغط.»
«ليس هذا ما سمعتُ به. فقد قال فولر إنه أصرَّ على منعك من استخدام مُحاكي البيئة الاجتماعية في التوقعات السياسية المحتمَلة.»
انتهى عرضُ الحَجَر المنوِّم، وبدأت الجَلَبة التي كانت حتى ذلك الحين خافتةً عن السمع، تتدفَّق نحو طاولة الشراب حاملةً معها مجموعةً من النساء يرتدين ثيابًا أنيقة، ويلوِّحن بأيديهن بصحبة مُرافِقيهن.
توجَّهَت شابةٌ شقراء في مقدمة الجَمْع نحوي مباشرة. وقبل أن أتمكَّن من الفرار، كانت قد جذبت ذراعي ووضعتها حول صِدارها المُقصَّب بخيوط ذهبية. كانت عيناها تملؤهما الدهشة، وكانت خصلات شعرها المُصفَّف كالصِّبية تَثِب فوق كتفَيها المكشوفتَين.
«ألم يكن الأمر غاية في الروعة يا سيد هُول، ذلك الحَجَر المنوِّم القادم من المريخ؟ هل لك صلة بالأمر؟ أظنك كذلك.»
رمقتُ سيسكين، الذي كان يبتعد لتوِّه خُلسة. ثم تذكَّرتُ أن الفتاة هي إحدى فتيات طاقم السكرتارية الخاص به. أصبحت المناورة واضحة. كانت لا تزال تعمل لديه. كلُّ ما في الأمر أن مهامها الآن أصبحت خارج ساعات العمل، مهام استرضائية، وخارج حدود مؤسسة سيسكين الداخلية.
«لا، لقد كانت فكرة رئيسكِ بالكامل.»
قالت محدِّقة فيه بإعجاب وهو يرحل عنها: «أوه، يا له من رجلٍ مُبتكِر ذكي! عجبًا، فما هو سوى دمية، أليس كذلك؟ دمية صغيرة أنيقة وبضَّة!» حاولتُ الإفلات منها، ولكنها كانت مُدرَّبة جيدًا.
«وماذا عن اختصاصك يا سيد هُول، هل له علاقة بالمُحا … بالمحاكاة؟»
«اختصاصي هو المحاكاة الإلكترونية.»
«يا له من أمر رائع! ما أفهمه هو أنه عندما تتمكَّن أنت والسيد سيسكين من تشغيل الآلة … يمكنني أن أطلق عليه مسمى آلة، أليس كذلك؟»
«إنه مُحاكٍ لبيئة كاملة. وقد تمكَّنا أخيرًا من حل مشكلاته التقنية في المحاولة الثالثة. وأسميناه «سميولكرون-٣»؛ أي المُحاكي الإلكتروني-٣.»
«عندما تتمكَّنا من تشغيل المحاكي، فسوف تنتفي الحاجةُ إلى أولئك المتطفِّلين.»
بالطبع كانت تقصد بالمتطفِّلين راصدي ردود الأفعال المعتمَدين، أو «مستطلعي الآراء» كما تشيعُ تسميتهم. وأنا أفضِّلُ التسمية الأخيرة؛ لأنني لا أُنكِر على أحدٍ على الإطلاق فرصتَه لكسب العيش، حتى وإن كان ذلك يعني تكوين جيشٍ من … حسنًا، المتطفلين، الذين يرصدون عاداتِ الناسِ اليومية وتصرفاتهم.
قلتُ شارحًا: «ليس في نيتنا تسريحُ أحدٍ من عمله. ولكن عندما يصبح أخذُ عينات الاقتراع آليًّا بالكامل، سيستلزم الأمرُ إجراءَ بعض التعديلات على ممارسات التوظيف.»
تلوَّت بتودُّد أمام ذراعي وقادتني إلى النافذة. «ماذا تنوي يا سيد هُول؟ أخبرني عن ذلك اﻟ… المحاكي الذي تعمل عليه. ولْتنادِني دوروثي كما يناديني الجميع.»
«ليس لديَّ الكثير لأخبركِ به.»
«أوه، لا تكن متواضعًا. أنا واثقة أنَّ لديك ما تقوله.»
إذا كانت ستمضي قُدمًا في المناورة التي خطَّط لها سيسكين، فلا يوجد ما يمنعني من المناورة أنا أيضًا، بمستوًى أعلى من استيعابها بعضَ الشيء.
«حسنًا، كما تعلمين يا آنسة فورد، نحن نعيش في مجتمع يتَّسم بالتعقيد، ويُفضِّل إبعادَ فرص المخاطرة عن الأعمال التجارية. لذلك، يوجد عدد لا يُحصَى من هيئات استطلاع الآراء. فقبل أن نصنع منتجًا نريد أن نعرف مَن سيشتريه، وبأي كمية، والسعر الذي سيكون المشتري على استعداد لدفعه، ووسائل الجذب التي ستنجح في تغيير المعتقدات، وحجم الفرصة السانحة أمام الحاكم ستون لإعادة الانتخاب، والمنتجات التي يرتفع عليها الطلب، وما إذا كانت العمَّة بيسي ستُفضِّل اللون الأزرق على الوردي في صيحة أزياء الموسم الجديد.»
قاطعتني بضحكة مُجلجِلة. «يختبئ المتطفلون خلف كل شُجيرة.»
أومأتُ موافقًا. وقلت: «هناك وفرة في مستطلعي الآراء. إنهم مزعجون بالطبع. ولكنهم يتمتعون بصفةٍ رسمية بموجب قانون رصد ردود الأفعال.»
«وهل سيقضي السيد سيسكين على كل ذلك … أعني أنت والسيد سيسكين؟»
«بفضل هانون جيه فولر، وجدنا طريقة أفضل. يمكننا محاكاة بيئة اجتماعية إلكترونيًّا. ويمكننا تزويدها بنظائر لأشخاص عبارة عن وحدات هُوية تفاعلية. ومن خلال التلاعُب بهذه البيئة، عن طريق تحفيز وحدات الهُوية هذه، يمكننا تخمين السلوك على نحو تقديري في ضوء مواقفَ افتراضية.»
غابت عنها ابتسامتها المتلألئة لبرهة؛ ليرتسم على وجهها تعبيرٌ ينمُّ عن الحيرة، ثم عادَت إلى كامل زهوها مجددًا. وقالت: «فهمت.» غير أنه كان من الواضح أنها لم تفهم شيئًا. وقد شجَّعني هذا على مزيد من المناورة.
«المحاكي عبارة عن نموذج كهرورياضي لمجتمع عادي. يتيح الإمكانية لوضع تنبؤاتٍ بالسلوك على المدى الطويل. وتكون هذه التنبؤات أصحَّ من النتائج التي يمكن الحصول عليها، من خلال فريقٍ كاملٍ من مستطلعي الآراء — المتطفلين — الذين يجوبون أرجاءَ المدينة.»
ضحكتْ ضحكة فاترة. وقالت: «بالطبع. عجبًا، لم أتخيَّل قط أن أكون … دمية، هل تخيَّلت ذلك يومًا يا دوج؟ فلتجلب لنا شرابًا، أيَّ شيء.»
بدافعٍ من إحساس مُضلِّل بعضَ الشيء بالالتزام تجاه مؤسسة سيسكين، ربما كنت سأجلب لها الشراب. ولكن كان هناك أربعة أشخاص مُصطفون أمام طاولة الشراب، وبينما أنا متردِّد هكذا، توجَّه أحدُ رجال الإعلانات بحماسٍ نحو دوروثي.
مشيتُ بارتياح إلى مائدة الطعام. كان بالقرب مني سيسكين، الذي كان يقف على جانبَيه أحد كُتَّاب الأعمدة الصحفية وممثِّل لإحدى الشبكات الإعلامية، وكان يتحدَّث معهما باستفاضةٍ عن أعاجيب محاكي شركة رين الذي سيُعلَن عنه قريبًا.
فاضَ وجهه تهلُّلًا. وقال: «في الواقع، من المحتمَل أن يكون لهذا التطبيق الجديد لتقنية المحاكاة الإلكترونية — وهي عملية سرية كما تعلمون — أثرٌ كبير في ثقافتنا، لدرجة أنه سيجعل مؤسسات سيسكين الأخرى تتوارى إلى الظل أمام شركة ريأكشنز المحدودة.»
طرحَ المذيعُ سؤالًا، وجاءه ردُّ سيسكين على الفور. حيث أجابه قائلًا: «إنَّ المحاكاة الإلكترونية تقنية بدائية مقارنةً بهذا الشيء. فالتنبؤ بالاحتمالات باستخدام الكمبيوتر يقتصر على طريقة واحدة من طرق التحقيق المُحفِّز للاستجابة. بينما محاكي البيئة الكاملة الخاص بشركة رين — الذي نُطلِق عليه «سميولكرون-٣» — سيجيب عن أي سؤال يتعلق بأي رد فعل افتراضي على امتداد السلوك البشري بكل أشكاله.»
كان بالطبع يردِّد كلام فولر. غير أن الكلمات في فم سيسكين كانت مجرد زهو وتفاخُر. أما فولر، على النقيض من ذلك، فكان يؤمن بالمحاكي كما لو كان عقيدة، وليس مجرد مبنًى من ثلاثة طوابق مليء بالدوائر الكهربائية المعقَّدة.
تذكَّرتُ فولر وشعرتُ بالوحدة، وبأنني لست كُفئًا لتحدي المُضي على خُطاه الإدارية. لقد كان رئيسًا متفانيًا في عمله، وفي الوقت نفسه كان صديقًا وَدودًا ومراعيًا لمشاعر أصدقائه. حسنًا، لقد كان غريبَ الأطوار أيضًا. ولكن ذلك لم يكن لشيءٍ إلا لأنَّ هدفه كان بالغَ الأهمية. ربما لم يكن محاكي «سميولكرون-٣» سوى استثمار من وجهة نظر سيسكين. ولكنه بالنسبة إلى فولر كان طريقًا مثيرًا وواعدًا ستنفتح أبوابه قريبًا على عالَم جديد وأفضل.
لم يكن تحالُفه مع مؤسسة سيسكين سوى وسيلة لتمويل مشروعه. ولكنه كان ينوي دائمًا أنه إلى جانب الأرباح المتعاقد عليها التي سوف يجنيها المحاكي، فإنه سوف يستكشف أيضًا المجالات غير المتوقعة للتفاعل الاجتماعي والعلاقات الإنسانية بصورة كاملة؛ ومن ثَم سيساهم في تكوين مجتمعٍ أكثر تنظيمًا، من أدنى مستوياته إلى أعلاها.
مشيتُ ببطءٍ إلى الباب، وشاهدتُ بطَرْف عيني سيسكين يبتعد عن المراسلين الصحفيين. اجتازَ الغرفة مُسرعًا وحجبَ زر الفتح بيده.
«تفكر في تركنا، أليس كذلك؟»
من الواضح أنه كان يلمِّح إلى احتمالية مغادرتي للحفل. ولكن مهلًا، أكان هذا ما يلمِّح إليه حقًّا؟ تبادَر إلى ذهني أنني كنت مَوردًا لا غنى عنه. أوه، ستواصل رين نجاحها الباهر من دوني. ولكن إذا أراد سيسكين تحقيق أقصى ربح من استثماره، فلا بد لي أن أبقى لتنفيذ التحسينات التي ائتمنني فولر عليها.
في تلك اللحظة، رنَّ الجرسُ وأضاءت شاشة الفيديو أحادية الاتجاه الموجودة على الباب بصورة شخص نحيف حسَن الملبس، يحمل على كُمِّه الأيسر شارة راصد ردود أفعال معتمَد.
ارتفعَ حاجِبا سيسكين في سرور. «إنه أحد المتطفلين، مدهش! سنُنعِش الحفل.» ثم ضغطَ على الزر.
تأرجح الباب وانفتح، وعرَّف المتصلُ نفسَه: «جون كرومويل، راصد ردود أفعال معتمَد رقم ١١٤٦-أ٢. إنني أمثِّل مؤسسة فوستر لاستطلاعات الآراء، بموجب عقد مع لجنة الطرق والوسائل بمجلس النواب.»
نظرَ الرجلُ إلى ما وراء سيسكين، ورأى جموعَ الضيوفِ الذين احتشدوا حول طاولة الشراب والمائدة. بدا نافدَ الصبر ومتوترًا.
تظاهرَ سيسكين بالاعتراض وهو يغمز لي: «يا إلهي! أوشكنا أن نقترب من منتصف الليل!»
«هذا استطلاع رأي ذو أولوية قصوى بتكليف من السلطة التشريعية للبلاد ودعمها. هل أنت السيد هوراس بي سيسكين؟»
«أجل، أنا هو.» طوى سيسكين ذراعَيه، وبدا أقربَ شبهًا إلى ما قالته دوروثي فورد عن كونه يشبه دميةً صغيرة وأنيقة.
قال الآخر، وقد أخرجَ دفترًا من النماذج الرسمية وقلم حبر: «جيد.» ثم أضافَ: «أودُّ أن أعرف رأيك في التوقعات الاقتصادية للسنة المالية القادمة، وكيف ستؤثر على دخل الدولة.»
قال سيسكين مكابرًا: «لن أجيب عن أي أسئلة.»
توقَّف بعض الضيوف عن محادثتهم لمشاهدة ما سيحدث بعد ذلك لعلمهم به. فجاءت ضحكاتهم على ما يترقَّبونه أعلى من همهمة محادثتهم.
قطَّب مستطلعُ الآراء جبينَه. وقال: «بل عليك أن تجيب. فأنت مُستجوَب مُسجَّل رسميًّا، ومُصنَّف في فئة رجال الأعمال.»
إذا كانت طريقته قد بدت رسمية ومُتكلَّفة، فهذا لأنها كذلك بالفعل. وذلك لأن راصدي ردود الأفعال دائمًا ما يرتقون لمستوى الحدث، حيثما تخدم عقود الاستطلاع المَنوطون بها المصلحةَ العامة. أما مسئولو الاقتراعات التجارية العاديون، فليسوا بالقدر نفسه من الرسمية والتكلُّف.
كرَّر سيسكين قائلًا: «ما زلت مُصرًّا على عدم الإجابة. إذا راجعت المادة ٣٢٦ من قانون رصد ردود الأفعال …»
فقاطعه الآخر بنص المادة: «فسأجد أنه لا يجوز مقاطعة الأنشطة الترفيهية لأغراض الرصد.» ثم استطرد: «غير أن بند الامتيازات لا ينطبق عندما يكون استطلاع الرأي لمصلحة الهيئات العامة.»
ضحكَ سيسكين على تشبُّث الرجل برسميته، وأمسكه من ذراعه وقاده إلى الغرفة. «تعالَ. لنحتسِ شرابًا. وربما أقرِّر بعدها أن أجيب عن استطلاعك.»
انفصلت الدائرة الكهربائية للباب الخاصة بالسماح بالدخول عن السعة الكهروحيوية لمستطلع الآراء، فبدأ الباب في التأرجح وكان على وشك الانغلاق. ولكنه توقَّف وبقي مواربًا للسماح بدخول زائر آخر.
وقفَ الزائرُ الآخر في مكانه برأسه الأصلع ووجهه النحيل يتفحَّص الغرفة، بينما كانت أصابعه مُشبَّكةً وتهتز بلا هوادة. لم يكن قد رآني بعدُ؛ لأنني كنت خلف الباب أشاهده عبر شاشة الفيديو.
خطوتُ أمامه وجَفَل.
صرختُ: «لينش! أين كنت خلال الأسبوع الماضي؟»
كان مورتون لينش مسئولًا عن الأمن الداخلي في شركة رين. وكان في الآونة الأخيرة يعمل في مناوبةٍ ليلية، وأصبح مقرَّبًا للغاية من هانون فولر، الذي كان يُفضِّل هو الآخر العمل ليلًا.
همسَ بصوتٍ أجشَّ وعيناه تحدِّقان في عينيَّ: «هُول! لا بد أن أتحدَّث إليك! يا إلهي، لا بد أن أتحدث إلى أحد!»
أدخلتُه. لقد اختفى مرتَين في السابق، ليعود بعد ذلك منهَكًا ومستنفَدًا عقب انغماسه في محاكاة دماغية إلكترونية لمدة أسبوع. خلال الأيام القليلة الماضية، كانت هناك تكهناتٌ حول ما إذا كان غيابُه ردَّ فعل حزينًا على وفاة فولر، أو ما إذا كان مختبئًا في إحدى حُجرات التحفيز الكهربائي للدماغ. أوه، لم يكن مُدمنًا. وحتى الآن كان واضحًا أنه لم يُسرِف في استخدام تيارات المحاكاة التي تعمل على القشرة الدماغية.
قُدتُه خارجًا إلى الحديقة العلوية حيث لا يوجد أحدٌ بالمرة. وسألتُه: «هل الأمر بخصوص حادث فولر؟»
انتحبَ منهارًا على كرسيٍّ شبكي النقش وقد دسَّ وجهه بين يدَيه: «أوه، نعم! لكنه لم يكن حادثًا!»
«إذن مَن قتله؟ كيف …»
«لا أحد.»
«لكن …»
هنا أصدرَ الصاروخُ القمري هديرًا مُدوِّيًا باتجاه الجنوب، وراء الأضواء المتلألئة التي تنتشر مثل بِساطٍ من سطوع متناسق بعيدًا في الأسفل، وغطَّى المدينةَ بانعكاساتٍ قرمزية أثناء تحرُّكه متثاقلًا نحو الفضاء.
عندما انطلقَ الصوت مدويًا، كاد لينش يقفز عن كرسيه. أمسكتُ بكتفَيه وثبَّته محاولًا تهدئته. «انتظر هنا. سأحضر لك شرابًا.»
وعندما رجعتُ بشراب البوربون الصافي، تجرَّعه دفعةً واحدة وترك الكأس يسقط من يده.
استأنفَ كلامه وقد هدأ ارتعاشه بعضَ الشيء: «كلَّا. فولر لم يُقتَل. ما حدث له أسوأ بكثير من أن يُوصَف بكونه قتلًا.»
قلت له ما أتذكره عن الحادث: «لقد اصطدم بسلك عالي الجهد. كان ذلك في وقتٍ متأخر من الليل. وكان منهَكًا. هل رأيتَ الحادث؟»
«لا. لقد تجاذبتُ معه أطراف الحديث قبل ثلاث ساعاتٍ من موته. ظننتُه مجنونًا بسبب ما أخبرني به. قال إنه لا يريد أن يورِّطني في الأمر، ولكن كان عليه أن يخبر أحدًا. كنتَ لا تزال في إجازتك. ثم … ثم …»
«ثم ماذا؟»
«ثم أخبرني أنه يعتقد أنه سيُقتَل؛ لأنه قرَّر عدم الإبقاء على الأمر سرًّا بعد الآن.»
«أيُّ سر؟»
لكن لينش كان متوترًا للغاية لدرجةٍ لا يمكن معها مقاطعته. «وقال إنه إذا اختفى أو مات، يجب أن أعرف أن الأمر لم يكن حادثًا.»
«ماذا كان هذا السر؟»
«ولكني لم أستطع أن أخبر أحدًا، ولا حتى أنت. لأنه إذا كان ما قاله صحيحًا … حسنًا، أظن أنني قضيتُ الأسبوع الماضي أفكِّرُ وأحاول أن أقرر ما ينبغي فعله.»
تعالت فجأة في الحديقة النغماتُ المتنافرة للحفل التي كانت خافتة وراء الأبواب المغلقة حتى ذلك الحين.
«أوه، ها أنت ذا يا دوج العزيز!»
اختلستُ النظر سريعًا لألمح ظِل دوروثي فورد عند المدخل، ووجدتُها تتمايل من أثر الإسراف في الشراب. أؤكِّد على عبارة «اختلستُ النظر» للإشارة إلى أن عينيَّ لم تبرحا مورتون لينش لأكثر من عُشر ثانية.
لكني عندما أرجعتُ النظر إلى الكرسي وجدتُه شاغرًا.