الفصل الخامس عشر
تجمَّدتُ في مكاني في المساحة المكشوفة كما لو أنني واقفٌ هناك إلى الأبد، والأيَّل المصعوق عند قدمَيَّ، وعيناي مثبَّتتان على البقعة التي اختفت جينكس فيها.
عرفتُ الآن أنها كانت هي وحدة الاتصال. كنت مخطئًا تمامًا في تفسيري لأفعالها. لقد ظننتُ أنها علمتْ، لكونها ابنة فولر، بتفاصيل «اكتشافه الأساسي»، ولكنها كانت تحاول إخفاءَها عني حتى لا تُلغَى برمجتي.
تصوَّرتُ عند اختفائها من منزلها أنهم قد انتزعوها مؤقَّتًا؛ كي يستأصلوا المعرفة المحظورة من دائرتها. وأيقنتُ في وقتٍ لاحقٍ أنَّ محو البيانات قد جعلها تُطلِق العِنان للتعبير عن حبها لي.
لكن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق.
لقد تصرَّفتْ بغرابة قبل واقعة اختفائها الأول؛ لأنها كانت قلِقة، مثلها مثل مختصِّ المحاكاة الإلكترونية بالأعلى. كانا خائفَين من أنْ أعلم سِر فولر.
ثم نجحَ كولينجسورث — الذي كان مُبرمَجًا على أن يَثنيني عن قناعاتي المحظورة — في أن يجعلني أُصدِّق أنني أعاني من ذلك الشيء المستبعَد الذي أسماه «جنون الارتياب الكاذب». سيطرَ هذا الاعتقادُ على تفكيري تمامًا في تلك الليلة التي خضعتُ فيها لعملية اقتران تقمُّصي، عندما كنت في المطعم مع جينكس.
افترضَ المتحكِّم الأعلى حينها أنني قد أفلتُّ من قبضته. وبدأتْ جينكس بوصفها وحدة اتصال في لعب دور العاشقة المتلهِّفة؛ كي تستدرجني بعيدًا عن شكوكي.
هكذا ظلَّت الأمور مستقرة حتى يوم أمس، عندما عَلِم المتحكِّم الأعلى من كولينجسورث أنني لست وحدي مَن انتابَتْه شكوكٌ عنيدة حول أنَّ عالَمنا لم يكن حقيقيًّا، بل أفيري أيضًا. وقد أتت جينكس هنا البارحةَ لسببٍ واحد فقط، وهو أن تُبقيَني تحت قبضتِها حتى ينتهوا من ترتيب وفاتي «الطبيعية». ربما كانت «ستقتلني» بنفسها!
أدركتُ أخيرًا أنَّ دمًا دافئًا يسيلُ من جُرحي، ويتقطَّر عند أطراف أصابعي. مزَّقتُ كُم القميص ولفَفتُه بإحكام حول ساعِدي المُخترَق بقرن الأيل. ثم عدتُ إلى الكوخ.
حاولتُ مرةً أخرى تفسير تلك التناقضات، ولكن دون جدوى. على سبيل المثال، كيف تمكَّنَت جينكس من الاختفاء هكذا ببساطة؟ لم تتمكَّن أيٌّ من وحدات الهوية في محاكي فولر من فِعل ذلك، باستثناء …
بالطبع! لقد فعلتُ الشيءَ نفسه تمامًا حينما انسحبتُ بعد إسقاط نفسي داخل محاكي «سميولكرون-٣» على دائرة مراقبة مباشرة!
ومن ثَم، فإنَّ جينكس إما وحدة اتصال أو كيان ردِّ فعل. لقد كانت «إسقاطًا لشخصٍ حقيقي في الواقع الأعلى!»
ولكن ما زالت التناقضات قائمة. لماذا لم يُعيدوا توجيهي ببساطة، كما حدثَ مع وحدات هوية أخرى، لدرجة أنهم بدَّلوا حقيقة وجود لينش من الأساس؟
إلى جانب ذلك، لا بد أن المتحكِّم الأعلى قد أجرى اقترانًا تقمُّصيًّا عدة مرات مع كولينجسورث؛ من أجل برمجته في حملة تدمير جهاز محاكاة فولر. لماذا إذن لم يتعلَّم من أفيري قبل يوم أمس أنني لن أتخلَّى عن معتقداتي، فيما يتعلق بالطبيعة الحقيقية للواقع؟
استفقتُ من أفكاري على صوت حفيف وطقطقة لشجرةٍ أثناء سقوطها. نظرتُ إلى أعلى مذعورًا.
كانت شجرة صنوبر ضخمة تُوشِك أن تسقط فوق رأسي مباشرةً!
حاولتُ مسعورًا أن أبتعدَ عن طريقها، ولكنها ضربَت الأرضَ ورجَفَتها، وتطايرت أغصانها الكثيفة بأكملها عليَّ. ثم تدحرجتُ لأجد نفسي أمام جذعٍ آخر.
نهضتُ مرتبكًا، وتراجعتُ أتلمَّس الثَّلْم الدامي الذي أَحدَثه أحدُ الأغصان في وجنتي. ثم دوَّى رأسي فجأة بأعراضِ الاقتران التقمُّصي الناقص المثيرةِ للغثيان، والتي أشعرُ في كل مرة أنها تستهزئ بي وتسخر مني.
هُرعتُ إلى الكوخ، أحاولُ يائسًا إخمادَ الألم الذي لا يهدأ للتقمُّص المتنافر. وصلتُ إلى حافة المساحة المكشوفة، وأنا أشعر برأسي يطنُّ، ورؤيتي مشوَّشة. ثم توقَّفتُ فجأة.
كان دبٌّ أسود ضخم يتشمَّم سيارة جينكس الطائرة. شعرَ بوجودي واستدار. لكنني لم أكن على استعداد لتحمُّل أي مخاطر. قتلتُه بشعاع ليزر حادٍّ مركَّز.
لا بد أن ذلك قد حرمَ المتحكِّم الأعلى من فرصةٍ للتلذُّذ السادي كان ينتظرها بفارغ الصبر. ذلك أنه عندما سقطَ الحيوان، انقطعت رابطةُ التقمُّص وتحرَّرتُ من ضغطها العنيف.
غير أنه بات من الواضح الآن أنني لا بد أن أهرب من الغابة. فهناك العديد من عناصر الطبيعة التي كان من الممكن التلاعُب بها ضدي. وإنْ كان من فرصةٍ أمامي، فستكون حتمًا بالعودة إلى المدينة، حيث ربما لا يتسنَّى للمتحكِّم الأعلى القدْرُ نفسه من الحرية لبرمجة البيئة المزيَّفة ضدي.
لم أكدْ أدخل الكوخَ حتى شرعتُ في تضميد جُرح ذراعي، ووضعتُ مرهمًا على التمزُّق الواخز الذي امتدَّ من صُدغي إلى فكِّي.
على الرغم من الخوف واليأس الذي غشي ذهني كالضباب، كنت قادرًا على التفكير في جينكس. هل كانت جينكس فولر موجودةً فعلًا في أي وقتٍ من الأوقات في عالَمي؟ أم أنها طوال الوقت لم يَعدُ كونها إسقاطًا؟
أخذتُ سترتي متجرِّعًا في النهاية المفارقةَ المريرة لوقوعي في حُبِّها. لم أكن سوى طَيفٍ من وَهْم، وكانت هي شخصًا حقيقيًّا ملموسًا. كان بإمكاني أن أتخيَّل ضحكاتها الساخرة ممزوجةً بضحكاتِ المتحكِّم الأعلى الممتلئة بالحماس.
توقَّفتُ فجأة عند الباب مرتابًا. هل أعودُ إلى المدينة؟ حيث يوجد رجال شرطة سيسكين بالخارج ليُطلقوا النار عليَّ؟ حيث لديهم حليفٌ بالأعلى يتوق بشدة إلى برمجتهم في الاتجاه الصحيح، حتى وإن كان بإمكاني تجنُّبهم؟
كانت هناك حركة مشوَّشة في زاوية رؤيتي، وانحنيتُ لا إراديًّا أسفل أجنحةٍ مضطربة ونعيب أجشَّ.
لكنَّ الغرابَ لم يَعمِد إلى مهاجمتي. انتصبت مرتبكًا، وشاهدتُه ينعطف ويطير مباشرةً إلى داخل المطبخ. فاق الفضولُ الخوفَ ورجعتُ إلى الداخل. كان الطائرُ قد جثمَ على الأرض، وراحَ ينقر على زر باب حجيرة وحدة إمدادات الطاقة المعزولة.
فكَّرتُ في الأسلاك العارية بالداخل. وتجمَّدتُ في مكاني داخل الكوخ للحظةٍ بعدما تملَّكتني حالةٌ من التردُّد المروِّع.
ثم هُرعتُ إلى الخارج، مسرعًا عبر المساحة المكشوفة قبل أن أُلقي بنفسي على الأرض. انفجرَ الكوخ متهشِّمًا بصوت هدير مُدوٍّ، قاذفًا بالحُطام فوق فدانٍ من الغابة شملَ معه المرأب.
لحُسن الحظ، لم تُصِبني أو تُصِب سيارة جينكس الطائرة أيٌّ من الحجارة وقِطع الأخشاب المندفعة وسط المساحة المكشوفة، وهو ما كان يجب أن يثير شكِّي على الفور.
بتفحُّص الحُطام، اقتنعتُ أخيرًا أنني يجب أن أجرِّبَ حظي في المدينة.
على ارتفاع ألفَي قدم من الغابة، كان مصدرُ الطاقة الرئيسي مُعطَّلًا. ضبطتُه على وضع الطوارئ، واستأنفَت ريشاتُه الدوران. غير أنَّ المحرك قد اعتلَّ في تقطُّع، ومع كل طقطقة كانت السيارة الطائرة تغوص مسافة ألف قدم أخرى.
حاولتُ بشدةٍ مع عجلة القيادة للحفاظ على بعض السيطرة. وتمكَّنتُ أخيرًا من تغيير مسار السيارة الطائرة وتحويلها إلى البحيرة، آملًا أن تكون معي دُفعة أخيرة من الطاقة لتقليل صدمة الهبوط.
في تلك اللحظة، تدخَّلَ المتحكِّم الأعلى مجددًا في حواسي الإدراكية. ولكنَّ ألمَ الاقتران الناقص كان أقل وطأةً في تحمُّله هذه المرة. وحدَه وضعي العصيب في حَد ذاته هو ما كان يوفِّر له متعة كافية.
وفجأة بدأتْ رياحٌ معاكِسة قوية تَمخَض سطحَ البحيرة، محوِّلةً إياه إلى غطاءٍ من الزَّبَد، وأصبحتْ زاوية هبوطي أكثر تحدُّرًا. وزادَ ذلك من احتمالية اصطدامي بالأشجار وارتطامي بها، قبل بلوغي خَطَّ الشاطئ.
لكنَّ اندفاعةً غير متوقَّعةٍ من الطاقة دفعَتني لأنطلقَ بأقصى سرعة، وجعلَت اندفاعةٌ أخرى السيارةَ الطائرة تهبط على مسافة خمس أقدام فقط، فوق الأمواج المتلاطمة كالسِّياط.
أمسكتُ عجلة القيادة بإحكامٍ بالغ ابيضَّتْ من شدَّته مفاصلُ أصابعي، وجلستُ مكاني أرتعد وأتصبَّب عرقًا، والسيارة الطائرة ترتفعُ مجدَّدًا في السماء.
استشعرتُ النشوةَ التي كان يشعر بها المتحكِّم الأعلى. وعرَفتُ من قوة مشاعره أنني لن أُفلِت منه بتلك السهولة. استعدتُ قوتي، وانتظرتُ لما عساه أن يأتيَني بعد ذلك، بينما واصلَت السيارة الطائرة طريقَها نحو المدينة، ولا تزال ترتفع.
تذكَّرتُ أنه من الممكن تعديل الاقتران في محاكي فولر للسماح بإجراء تقمُّصٍ متبادَل. كان ذلك الجهاز سيُستخدَم، على سبيل المثال، متى أردت التواصُل مع فيل أشتون دون الحاجة لإسقاط نفسي في عالَمه.
ومن ثَم، حاولتُ العودة إلى الرابطة التقمُّصية، مُدرِكًا طوال الوقت أن المتحكِّم الأعلى سيكون على درايةٍ بنواياي. لكني لم أستطع إدراك أي شيءٍ عبر حواسِّه. كان اقترانًا في اتجاهٍ واحد. غير أنه كان لا يزال بإمكاني الشعور بوجوده إلى حدٍّ ما. بدا الأمر كما لو أنه بإمكاني اكتساب «الشعور» به. وكان الانطباع الذي وصلني من غرضه الخبيث الملتوي واضحًا للغاية.
ثم عبستُ في حيرة. تنامَى إلى ذهني ذلك الافتراضُ المستعصي على الفهم بأن تلك الرابطة بيننا لم تكن سوى شكلٍ من أشكال التقمُّص. بدا أن ثمة إشارةً غامضةً على وجود تشابهٍ معين بين كلٍّ منا. أهو تشابه مادي؟ أم في الشخصية؟ أم أنه لم يَعدُ كونه انعكاسًا لظروفنا التناظرية؛ حيث كان كلٌّ منا مختصًّا في المحاكاة الإلكترونية في عالَمه؟
استقررتُ على ارتفاع ستة آلاف قدم، دون مزيدٍ من التدخل من قِبَل المتحكِّم الأعلى. ثم انحرفتُ بمقدمة السيارة الطائرة لأسفل، مُستخدِمًا الدفع بدلًا من الرفع، وأسرعتُ إلى المدينة. امتدَّت الكتلُ الخرسانية الضخمة للحاضِرة أمامي، على بُعد لا يتجاوز بضعة أميال.
هل سأنجح؟ غُصتُ بعدها راجعًا في مقعدي وقد تملَّكني اليأس. هل أريد حقًّا أن أفعل ذلك؟ في الغابة، حيث كنت وحدي مع المتحكِّم الأعلى وطبيعته المُعادية بكلِّ ما فيها، كانت لديَّ فرصة ضئيلة للبقاء. أما هنا في المدينة، فلم تكن هناك حيواناتٌ متاحة لبرمجتها على مهاجمتي. ولكن ماذا عن الجَماد؟ الشريط المُمزق لرصيف متحرك يُطقطِق فجأة في سرعةٍ فائقة؟ تساقُط إفريز؟ خروجُ سيارة طائرة عن السيطرة؟
حدَّقتُ في قلقٍ عبر القبَّة البلكسيكية في سحابةٍ رمادية صغيرة قسَّمَت الأُفق. اتسعَت رقعتُها على نحوٍ مرعبٍ عندما حملتني السيارة الطائرة مباشرةً نحوها. حاولتُ تجنُّبها، غير أنَّ أوانَ ذلك قد فات.
في أعقاب ذلك مباشرةً، وجدتُ نفسي وسطَ سِربٍ سريع صاخب من طيور الشُّحْرور ذوات الأجنحة الحمراء. على ارتفاع ستة آلاف قدم. اصطدمَت الطيور بالسيارة الطائرة، وتفرَّق السربُ فوق القبَّة. وسُحبَت المئات منه عبر مآخِذ الهواء على ظهر المَركبة. أصدرَت الريشات صوتًا كالأنين، وأحدثتْ ضجة أمام الكتلة شبه الصُّلبة، وأخذتْ تُصفِّق بصوتٍ مرعب. اعتلَّ المحرك، وأصدر أزيزًا، وتوقَّفَ، ثم تحرَّر من ذلك كلِّه، ولكن ليكرِّر دائرة الأزيز المشئوم.
جفلتُ والسيارة الطائرة تسقط بسرعة، حيث تلاعبَ المتحكِّم الأعلى بحواسي من جديد. مرةً أخرى، استطعتُ أن أتحمَّل الاقتران التقمُّصي. ومرةً أخرى، كافحتُ في ظل الفكرة المتضاربة بأنَّ الشخص الذي كان يتغذَّى على يأسي وخوفي ربما يُشبهني على نحو غير مفهوم.
بدأَت الريشات المقصوفة في الاهتزاز، في محاولةٍ بائسة لتخفيض سرعة الهبوط. زادَ الاهتزاز، وسرعان ما بدا الأمر كما لو أنَّ السيارة الطائرة ستُمزِّق نفسها إرْبًا إرْبًا. ثم تصدَّعَت القبَّة وتهشَّمتْ، واندفعتْ متطايرةً فوق رأسي. نظرتُ بالخارج لأرى إلى أي مدًى كنت بعيدًا عن الأرض. ولدواعي المفارقة، أدركتُ أنني قد هبطت تقريبًا أمام المبنى الواسع القصير لشركة ريأكشنز مباشرةً.
أصبحتُ الآن على ارتفاع منخفض جدًّا، حتى إنني تمكَّنتُ من رؤية القوات. وتساءلتُ عما إذا كان المحاكي الأعلى، في ضربة استراتيجية بارعة، سيجعلني أصطدم بالمبنى كي يمحوَني أنا وآلة فولر في آنٍ واحد.
ولكن إذا كانت هذه هي خطته، فقد نسي أمر شبكة الطوارئ التي تحمي المدينة. ذلك أنه عندما بلغَت السيارة الطائرة بالكاد ارتفاعَ مائتَي قدم فوق المبنى، انطلقَت ثلاثة أشعة صفراء كثيفة من السطح، وتقاربت فوق المركبة البائسة.
لقد امتصَّت الأشعة زَخْمها. وتمحوَرَت ببطءٍ وفي تناسُق دقيق، وتحرَّكت بي على طول عدة مئاتٍ من الأقدام فوق السطح نحو أقرب محطة استقبال للطوارئ.
لكنَّ مختصَّ المحاكاة الإلكترونية الأعلى لم يكن ليُحرَم من بهجة وحشية أخرى. انفجرَ محركُ السيارة الطائرة متحوِّلًا إلى لهيبٍ ملأ المركبة بحرارة ضارية. لم يكن لديَّ خيار. كنت ما زلت على ارتفاع مائة قدم فوق منطقة الاستقبال، فقفزتُ من السيارة الطائرة.
في هذه الأثناء، كان المتحكِّم الأعلى قد قطعَ عملية التقمُّص. وإلا فربما استطاع بسهولةٍ تدبير الأمر لإخراجي من الشعاع المُستقبِل. لكن بدلًا من ذلك بقيتُ آمنًا داخل المخروط اللامع، وهبطتُ في ساحة انتظار السيارات قبل بضع ثوانٍ، قبل تحطُّم السيارة الطائرة.
لم أُضيِّع الوقت هناك، كما لم أُضيِّعه مع شرطة المرور ورجال الإطفاء الذين تدفَّقوا خارجين من المحطة. قفزتُ من ساحة انتظار السيارات، ووثبتُ فوق الرصيف الثابت، وهبطتُ فوق أبطأ رصيفٍ متحرك. في غضون ثوانٍ، كنت قد شققتُ طريقي إلى الحزام الناقِل العالي السرعة.
على بُعد مُربعَين سكنيَّين، عدتُ إلى الرصيف الثابت ومشيتُ بهدوءٍ قدر الإمكان إلى أقرب فندق.
كان هناك في الردهة بائعُ جرائد آلي يعلن عن تطوُّرات اليوم بصوتٍ آلي رخيم: «يخطِّط سيسكين لعرض المحاكي «سميولكرون-٣» على الجمهور صباحَ الغَد! ستحلُّ الآلة مشكلات العلاقات الإنسانية أولًا!»
لكن استراتيجية سيسكين لم تحظَ باهتمام كبير مني أثناء أخذي الحزامَ الناقل إلى الجزء الخلفي من الردهة، حيث وجدتُ زوجًا غامضًا من الكراسي شبه مخفيٍّ بنَبْتة شمعية ضخمة. غُصتُ منهَكًا فاقدَ الحس في أقرب كرسيٍّ منهما.
«دوج! أوه، دوج! استيقظ!»
لا بد أن الإرهاق قد جعلني بطريقة ما أستغرقُ في النوم. لكنني استفقتُ متعَبًا، حيث كان أول ما وعيته هو التخدُّر الواخِز في ساقي المُنهَكة. ثم فتحتُ عينَيَّ ورأيتُ جينكس جالسةً في الكرسي المجاور. جفلتُ، ووضعتْ يدها على ذراعي.
قفزتُ مذعورًا وحاولتُ الفرار عائدًا نحو الجزء المزدحم من الردهة. لكن ساقيَّ الْتوَتا وكِدتُ أسقط. وقفتُ مكاني مترنِّحًا، وحاولتُ مسعورًا وضعَ قدم أمام الأخرى.
نهضتْ ودفعتني مرةً أخرى في الكرسي. حدَّقتُ في ساقيَّ مرتبِكًا.
قالت: «أجل يا دوج. لقد أطلقتُ عليهما شعاعَ الليزر، كي لا تتمكَّن من الفِرار مني.»
كان بإمكاني حينها أن أرى انتفاخ مسدس الليزر الصغير في حقيبتها.
قلتُ مُفشيًا الأمر: «أنا أعرف … كلَّ شيءٍ. أنتِ لستِ منا! أنتِ لست حتى وحدة هوية!»
لم تظهر على وجهها المفاجأة، فما بدا عليها سوى القلق الممزوج بالأسى.
قالت بهدوء: «هذا صحيح. والآن أصبحتُ على دراية بمقدار ما تعرفه. لكنني لم أكن أدرك ذلك قبل ساعة واحدة، عندما كنا هناك في الكوخ. لذلك تراجعتُ إلى الغابة. كان عليَّ أن أعرفَ إلى أي مدًى وصلَت معرفتُك عن نفسك، أو إلى أي مدًى سمحَ لك هو بالمعرفة.»
«هو؟ مَن؟»
«المتحكِّم الأعلى.»
«إذن هناك بالفعل متحكِّم أعلى؟ هذا بالفعل عالَم مُحاكًى إلكترونيًّا؟»
لم تنبِسْ ببِنت شَفة.
سألتُ: «وأنتِ مجرد … إسقاط؟»
قالت وهي تهوي بجسدها في الكرسي: «مجرد إسقاط.»
أعتقدُ أنني كنت سأصبح أقل يأسًا إذا كانت قد أنكرت الأمر. لكنها جلست في مكانها فحسب عابسة الوجه، دون أن تعطيني أيَّ بصيص من الأمل، ما منحني الوقت كي أدرك تمامًا أنني كنت بالفعل مجرد وحدة رد فعل. بينما كانت هي شخصًا حقيقيًّا، ذا طبيعة مادية، والذي لا أراه إلا في انعكاس بارع لذاتها الحقيقية.
انحنتْ نحوي. وقالت: «لكنك مخطئ يا دوج! أنا حقًّا لا أريد خداعك. كلُّ ما أريده هو المساعدة.»
لمستُ وجنتي بما فيها من جُرحٍ، ونظرتُ للأسفل إلى ساقيَّ المشلولتَين بفِعل شعاع الليزر. لكنها لم تأخذ إيماءتي على المَحمَل الساخر نفسه الذي قصدتُه منها. بل قالت:
«عندما فررتُ هذا الصباح، كان ذلك لأنني أردتُ أن أُجري عليك فحصًا تقمُّصيًّا سريعًا. كان عليَّ أن أقدِّر حجم شكوكك بالضبط. وذلك كي أعرف من أين أبدأ في حديثي إليك عما كان يجب أن أخبرك به.»
وضعتْ يدها على ذراعي، ومرة أخرى أحجمتُ متراجِعًا. واصلتْ في نبرةٍ دفاعية: «لقد كنتَ مخطئًا تقريبًا فيما ذهبتَ إليه بشأني. شعرتُ باليأس في البداية عندما رأيتُكَ تسعى إلى المعرفة التي ما كان يُفترَض أن تكون لديك.»
«معرفة محظورة على جميع وحدات الهوية؟»
«نعم. لقد فعلتُ كلَّ ما في وسعي لإبعادها عنك. بالطبع تخلَّصتُ من الدفاتر التي كانت في غرفة مكتب الدكتور فولر، بشكل مادي. لكن ذلك كان خطأً. فقد أثار لديك مزيدًا من الشكوك. كان يجب علينا، بدلًا من ذلك، إزالة الدليل عن طريق إعادة البرمجة المحاكاة إلكترونيًّا. لكننا كنا في ذلك الوقت مشغولين للغاية بدفع راصدي ردود الأفعال لإضرابهم.»
ألقتْ نظرةً سريعة على آخر الردهة. وقالت: «حتى إنني برمَجتُ مستطلِع آراءٍ ليَثنيك عما تسعى إليه بتحذيرك في الشارع في صباح ذلك اليوم.»
«كولينجسورث أيضًا؟ هل جعلتِه يَثنيني عن الأمر؟»
«لا. بل المتحكِّم الأعلى هو مَن تولى مسئولية تلك الاستراتيجية.»
هل كانت تريدني أن أصدِّق أنها لم تكن لها يد في مقتل أفيري الوحشي؟
«أوه يا دوج! لقد جرَّبتُ عدة سبل لجعلك تنسى موت فولر، واختفاء لينش، وشكوكك. لكني كنت في تلك الليلة التي أخذتني فيها إلى المطعم على وشك الاستسلام.»
«ولكني قلتُ لكِ حينها إنني صِرتُ مقتنعًا أن الأمر كلَّه كان مجرد تخيُّل مني.»
«نعم أعلم. لكني لم أصدقك. ظننتُكَ تحاول خداعي. لكن عندما انسحبتُ لاحقًا من الإسقاط المباشر، أخبرني المتحكِّم الأعلى في تلك الليلة أنه أجرى عليك فحصًا لتوِّه. وقال إنك اقتنعت أخيرًا بفكرة جنون الارتياب الكاذب، وإنه بإمكاننا الآن التركيز على تدمير محاكي فولر.»
«أوه، لقد علمت — عندما تحدثت إليكِ عبر الهاتف المرئي في اليوم التالي — أنكِ قد أتيتِ إلى المنزل بعد مغادرتي. لكنني تجاوزت عن الأمر، وبدا أنكِ قد قبلتِ توضيحي. على الأقل لم تفعلي شيئًا بعدها لإثارة شكوكي.»
التفتُّ بعيدًا عنها. وقلتُ: «وقد بالغتِ في ردة فعلكِ على أمل أن تَثنيني عن الطريق.»
خفضَت عينَيها وراحت تنظر في يديها. ثم قالت: «أعلم أنك محق تمامًا في النظر إلى الأمر على هذا النحو. ولكن هذا ليس صحيحًا.»
بدَت وكأنها تكافح لإثبات أنها لم تتلاعب بي. ولكنها قالت بدلًا من ذلك:
«ثم عندما بدأ كلُّ شيءٍ في الحدوث لك بالأمس، علمتُ أنَّ الأمور قد حادَت عن الصواب. كان أول ما فعلتُه هو أن هُرعتُ إلى مكان وجودك في أقرب وقتٍ ممكن. لكن عندما وصلتُ هناك، أدركتُ أنني لم أتصرَّف بحكمة. لم أتوقَّع مدى الصعوبة التي كنت سأواجهها في التحدُّث إليك، دون أن أعرف حجم شكوكك، وما كان في بالك عني.
لذلك، غادرتُ في أول فرصة سنحَت لي، وتواصلتُ معك من خلال ما ظننتُ أنه دائرة تقمُّص مباشر. أوه، لم يكن الأمر سهلًا يا دوج. لقد كان المتحكِّم الأعلى في تواصل شبه مستمر معك. كان عليَّ أن آخذ دائرة موازية. كان يجب أن أغيِّر الدائرة بأقصى درجات الحذر، حتى لا يدرك ما كنت أفعله.
لكن عندما فعلتُ ذلك، رأيتُ كلَّ شيءٍ، على الفور. لم أكن أحلم، أوه يا دوج، إنه وحشٌ ضارٍ، عديمُ الإنسانية إلى أقصى درجة!»
«المتحكِّم الأعلى؟»
طأطأتْ رأسها كما لو كانت محرَجة. وقالت: «كنت أعلم أنه شخصٌ بهذه المواصفات. لكني لم أُدرك إلى أي مدًى كانت بشاعته. لم أكن أعلم، أغلب الوقت، أنه كان يتلاعب بك من أجل أن يتلذَّذ فحسب بإحساس المتعة الخبيثة الذي يسعى وراءه.»
رمقتْ آخِر الردهة مجددًا.
سألتُ بجفاء: «إلامَ تنظرين؟»
الْتفتَت إليَّ. وقالت: «الشرطة. ربما برمَجهم بمعلومة أنك قد رجعت إلى المدينة.»
ثم فهمتُ كلَّ شيءٍ. الآن عرفتُ هدفَها من الجلوس معي هنا والتحدث إليَّ.
مددتُ يدي إلى حقيبتها، لكنها قفزت من فوق الكرسي.
حاولتُ بمشقَّة الوقوفَ على قدمَيَّ المشلولتَين، وترنَّحتُ وراءها.
«لا، لا يا دوج! أنت لا تفهم شيئًا!»
«أنا أفهم كلَّ شيءٍ جيدًا!» سبَبتُ ساقَيَّ لأنهما بالكاد استطاعتا أن تحملا وزني. وقلتُ مخاطبًا إياهما: «أنتما تحاولان فقط أن تُبقياني في مكاني حتى يُمكِن للمتحكِّم الأعلى توجيه الشرطة إليَّ!»
«لا! ذلك ليس صحيحًا! عليكَ أن تصدقني!»
استطعتُ أن أحاصرها في أحد الأركان، وأخذتُ أضيِّق الخناقَ عليها.
لكنها سحبت مسدس الليزر ورشَّت ذراعي وصدري. كثَّفتْ شعاعه وأطلقَته على حَلقي. ثم فتحَته على أقصى سَعته وأصابتني إصابةً خفيفة في رأسي.
جلست في مكاني أترنَّح كالثَّمِل، بعينَين نصف مُغمَضتَين، وأفكار مشوَّشة.
أبعدَت المسدس، وأخذتْ ذراعي الرخوة ولفَّتها حول رقبتها. أسندتني من خصري وحملتني بصعوبة إلى المصعد.
مَر بنا زوجان عجوزان وابتسمَ الرجل إلى جينكس، بينما رمقَتنا المرأة بنظرة ازدراء.
ردَّت جينكس الابتسامة، وقالت: «أوه، يا لها من تقاليد!»
في الطابق الخامس عشر، واجهَتها صعوبة بسبب وزني في تحريكي إلى الباب الأول على اليسار. انفتح القُفل بسعتها الحيوية وأدخلتني.
قالت: «لقد استأجرتُ هذه الغرفة قبل أن أُوقِظك في الردهة مباشرةً، لم أتخيَّل أن هذا سيكون سهلًا.»
أسقطتني على السرير، ثم اعتدلت وجلست وحدَّقت بي. وتساءلتُ عما كان وراء التعبير الجامد الذي لازمَ ملامحها الجميلة. أهو انتصار؟ أم تعاطُف؟ أم رِيبة؟
أخرجَت المسدس مرة أخرى، وضبطَته على إشعاع أضيق قليلًا، وصوَّبته نحو رأسي. وقالت: «لا داعي للقلق بشأن المتحكِّم الأعلى لبعض الوقت. حمدًا لله أنه يحتاج إلى الراحة في بعض الأحيان. ونحن أيضًا بحاجة إلى الراحة.»
ضغطَت دون تردد على زر الإطلاق.