الفصل السادس عشر
عندما استيقظتُ، كان الظلامُ في الغرفة لا يمثِّلُ سوى حاجزٍ خافِت أمام أضواء المدينة المتلألئة التي تسرَّبتْ عبر النافذة. استلقيتُ في مكاني وأنا أنوي ألَّا أدعها تعلم باستيقاظي حتى أتمكَّن من تحديد مكانها. حرَّكتُ ذراعي، ثم ساقي، على نحو غير ملحوظ. ولم أشعر بأي ألمٍ باقٍ من إشعاع مسدس الليزر البارحة. لقد كانت حذِرة على الأقل وهي تُطلِق الإشعاع، ما تركَ لديَّ آثارًا جانبية بسيطة.
لاحظتُ حركةً على الكرسي بالقرب من السرير. لو كان بإمكاني أن أُدير رأسي في اتجاهها دون أن تُلاحظ، لربما تمكَّنتُ من معرفة مكان مسدس الليزر.
لكن بينما كنت مستلقيًا في مكاني، أدركتُ أنني قد نمت عشر ساعاتٍ على أقل تقدير. ولم يحدث شيءٌ يُذكَر. لم تأتِ شرطة سيسكين. ولم يتخلَّص المتحكِّم الأعلى مني. والأهم من ذلك أنَّ جينكس لم تُطلِق عليَّ إشعاعًا قاتلًا هنا وأنا وحدي في غرفة الفندق، وهو ما كان يمثِّل بالتأكيد الطريقة الأسهل للتخلص مني.
تردَّدَت كلماتُها الواضحة في ضوء الغرفة الخافت حيث سألت: «أنت مستيقظ، أليس كذلك؟»
استدرتُ وجلستُ.
نهضتْ ورفعتْ يدها نحو نطاق استشعار السعة الحيوية لمفتاح السقف، ودخل الضوء. لوَّحت بيدها لضبطه على كثافة خفيفة، ثم اقتربتْ من السرير.
«هل تشعر بتحسُّنٍ الآن؟»
لُذتُ بالصمت.
«أعرفُ مدى خوفك وارتباكك بالتأكيد.» وجلسَت بجواري. ثم أضافت: «أنا أيضًا كذلك. لهذا السبب يجب ألَّا يعمل كلٌّ منا ضد الآخر.»
نظرتْ في جميع أنحاء الغرفة.
أشارت إلى ذراع الكرسي وقالت: «مسدس الليزر هناك.» ثم، كما لو كانت تريد إثبات صدقها، أخذَته وأعطَته لي.
ربما أصبحتُ أكثر ميلًا للوثوق بها بعدما أخذتُ قسطًا من الراحة وزال عني الإرهاق. غير أنه لم يكن هناك ما يمنع من الاستمتاع بهذا الشعور أيضًا والمسدس في جيبي؛ فذلك أفضلُ من أن أتركه في حوزتها. أخذتُه من يدها التي مدَّتها نحوي.
اتجهتْ نحو النافذة وحدَّقتْ في الليل المُضاء اصطناعيًّا. وقالت: «سوف يتركك وشأنك حتى الصباح.»
نهضتُ متشكِّكًا في قدرتي على الوقوف، وجرَّبتُ تحريك ساقَيَّ. لم يكن بهما خدَر. ولم يكن هناك أي أثر لشعاع الليزر، ولا حتى الصداع الخفيف الذي يعقبه مباشرةً في بعض الأحيان.
الْتفتَت نحوي. وسألتني: «هل أنت جائع؟»
أومأتُ إيجابًا.
مشتْ إلى فتحة الاستلام وضغطتْ على زر فتح الباب. أحضرَت الصينية الذاتية التسخين ووضعتها على كرسيٍّ بجانب السرير.
حاولتُ أن آكلَ بِضعَ قضماتٍ، ثم قلتُ: «في النهاية تريدينني أن أصدِّق أنكِ تساعدينني.»
أغمضتْ عينَيها في يأسٍ. وقالت: «نعم. لكنه ليس باستطاعتي أن أفعلَ أكثر من ذلك.»
«مَن أنتِ؟»
«جينكس. لا، لست جينكس فولر. بل جينكس أخرى. لا يهم. الأسماءُ لا تهم.»
«ماذا حدث لجينكس فولر؟»
«لم تكن موجودةً من الأساس. إلا قبل بضعة أسابيع قليلة.» أومأتْ برأسها إيماءة العارف، قبل أن أتمكَّن من الاحتجاج. «أنت تعرفها بالتأكيد منذ سنوات. لكن هذه المعرفة ليست سوى نتاج لعمليات إعادة البرمجة أو البرمجة الرجعية. كما ترى، وقعَ حدثان في الوقت نفسه. اكتشفَ الدكتور فولر طبيعة عالَمه. وبالأعلى، أدركنا أنَّ محاكي فولر يمثِّل مشكلة يجب التخلص منها. فقرَّرنا نحن أن نزرع مراقبًا هنا بالأسفل لملاحظة التطوُّرات عن كَثب.»
«نحن؟ مَن … تقصدين؟»
رفعتْ نظرَها إليَّ لبرهة. وقالت: «مهندسو المحاكاة الإلكترونية. اختاروني لأكونَ المراقِبَ. ومن خلال البرمجة الرجعية، أضفنا فكرةً متوهَّمةً أخرى بأن فولر كانت لديه ابنة.»
«لكنني أتذكَّرها وهي طفلة!»
«الجميع — جميع كياناتِ رَد الفعل ذات الصلة — يتذكَّرونها في طفولتها. كانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تبرير وجودي هنا بالأسفل.»
تناولتُ المزيدَ من الطعام.
نظرتْ من النافذة. وقالت: «لا تزال أمامنا سُويعاتٌ قليلة حتى انفلاق الصبح. سنكون بأمان حتى ذلك الحين.»
«كيف؟»
«حتى المتحكِّم الأعلى لا يمكنه أن يظل مستيقظًا لمدة ٢٤ ساعة في اليوم. هذا العالَم مبنيٌّ على الأساس الزمني نفسه للعالَم الحقيقي.»
بغضِّ النظر عن استيعابي لهذا الأمر وتصديقي له، لا بد أنها كانت هنا لسبب من سببَين؛ إما لمساعدة المتحكِّم الأعلى في تدمير محاكي فولر، وإما لتنفيذ عملية التخلص مني. لم يكن ثمة احتمال ثالث. فقد استطعتُ أن أتخيَّلَ نفسي في سعةٍ تناظرية، وقد نزلتُ إلى العالَم المزيَّف لمحاكي فولر. بالأسفل، كنت سأعتبر نفسي إسقاطًا لشخصٍ حقيقي، مقارنةً بالشخصيات التناظرية تمامًا ممن حولي. وعندئذٍ، ما كانت لتَعنيني الشئون التافهة لأيٍّ من وحدات الهوية الدنيا.
سألتها بلا موارَبة: «ما غرضكِ من الوجود هنا؟»
«أريدُ أن أكونَ معك يا حبيبي.»
حبيبي؟ كم كنت ساذجًا في ظنها؟ هل كان من المفترض أن أصدِّق أن شخصًا حقيقيًّا قد يقع حقًّا في غرام وحدة رَد فعلٍ، مجرد ظِل مُحاكًى إلكترونيًّا؟
غَطتْ وجهَها بيديها المرتعشتَين على ما بدا أنه اضطرابٌ.
وقالت: «لكن يا دوج، أنت لا تعرف مدى وحشية المتحكِّم الأعلى!»
قلتُ بمرارة: «بل أعرف.»
«لم أكن أعلم ما يفعله قبل أن أقترن معك يومَ أمس. ثم رأيتُ ما كان ينوي فعله. كما ترى، إنَّه يتمتع بالسلطة المطلقة على محاكيه، وعلى هذا العالَم. أظن الأمرَ أشبه بما لو أنه إله. أو على الأقل هكذا بدا الأمر أخيرًا بالنسبة إليه.»
توقَّفتْ محدِّقةً في الأرض. ثم قالت: «أظنه كان صادقًا في البداية في محاولته برمجة عملية تدمير محاكي فولر. لا بد أنه كان كذلك بالفعل؛ لأني أتصوَّر أنه إنْ كانت آلة فولر قد كُتِب لها النجاح، فلم يكن ليصبح هناك أيُّ مكان بالأسفل هنا لنظام استطلاع ردود الأفعال، المتمثِّل في راصدي ردود الأفعال أنفسهم. أتصوَّر أنه كان صادقًا أيضًا في رغبته الإنسانية في التخلص من أي وحدة رد فعل تَعي طبيعتَها المحاكاة إلكترونيًّا.
عندما انحرفتَ عن الطريق المحدَّد لك، حاولَ قتلَك، بسرعة، بطريقة عديمة الشعور. ولكن شيئًا ما قد حدث. أظنه أدركَ حجم المتعة التي كان يحصل عليها من اختبار مهاراتك. وفجأة، لم يعُد يريد التخلص منك، على الأقل ليس بسرعة كبيرة.»
قاطعتُها مفكِّرًا: «قال كولينجسورث إنه يمكنه أن يفهم كيف يفكِّر مختصُّو المحاكاة الإلكترونية في أنفسهم بوصفهم آلهة.»
حدَّقتْ في وجهي باهتمام. ثم أضافتْ: «وتذكر عندما تحدَّث إليك كولينجسورث، كان المتحكِّم الأعلى قد برمَجه ليقول ذلك بالضبط.»
تناولتُ بعضَ القضماتِ الأخرى ودفعتُ بالصينية جانبًا.
تابعتْ: «لم أدرك سوى أمس أنَّ باستطاعته حلَّ مشكلته معك، في أي وقتٍ يشاء، عن طريق إعادة توجيهك. ولكن لا. لقد كانت هناك تلك الرغبة المنحرفة التي يريد إشباعها بتركك لتقترب من سِر فولر، ثم الدفع بك بعيدًا، والزجِّ بك طوال الوقت نحو مصير مماثل للذي رتَّبه لكولينجسورث.»
قلتُ لها وقد تجمَّدت أوصالي: «أنتِ لا تعتقدين أنه قد حاول تشويه …»
«لا أعلم. لا يمكن لأحدٍ معرفة ما ينوي فعلَه. لذلك كان عليَّ أن أبقى هنا معك.»
«ما الذي يمكنكِ فعله؟»
«ربما لا شيء. كلُّ ما يمكننا فعله هو أن ننتظر ونرى ما سيحدث.»
لفَّت ذراعَيها حولي في توتر. هل توقَّعَت مني أن أصدِّق أنها أرادت أن تكون معي بدافع من روح التعاطف، لمجرد أنَّ أحدًا بالأعلى قد قرَّر تعذيبي؟ حسنًا، يمكنني سحب البساط من تحتها ودحض ادعائها الكاذب بسهولة شديدة.
«جينكس، أنتِ شخصٌ حقيقي. وأنا لستُ سوى نسج خيالِ شخصٍ ما. لا يمكنكِ أن تحبِّيني!»
تراجعتْ إلى الوراء، وعلى ما يبدو قد تألمتْ. ثم قالت: «أوه، ولكن أنا يا دوج! إنه … من الصعب شرح الأمر.»
لقد تصوَّرتُ أنه سيكون كذلك. جلستْ على حافة السرير ونظرتْ إليَّ مرتبِكة. كانت عيناها مضطربتَين. بالطبع، لم تكن تدري كيف تشرح كيفية وقوعها في حبي في ظل هذه الظروف.
وضعتُ يدي في جيبي وتحسَّستُ مسدس الليزر. تأكَّدتُ من أنه كان مضبوطًا على أقصى سرعة. ثم أخرجتُه بسرعة واستهدفتُها فجأة.
اتسعتْ عيناها وشرعتْ في النهوض. وقالت متوسِّلة: «لا يا دوج! لا!»
أطلقتُ عليها شعاعًا سطحيًّا، مركِّزًا على رأسها، وسقطَت هي فاقدةً الوعي فوق السرير. هذه الدفعة القصيرة كانت كفيلة أنْ تشلَّ حركتها لمدة ساعة على الأقل.
في تلك الأثناء، كان بإمكاني التحرك والتفكير بحرية، بعيدًا عن ضغط وجودها. وأدركتُ على الفور تقريبًا ما عليَّ فعله بعد ذلك.
بينما كنت أفكِّر في الخطة، أمضيتُ الوقت في الاغتسال، ثم في استخدام ماكينة الحلاقة الآلية الموجودة في الحمام. ثم أدخلتُ مقاسي في الموزِّع الشخصي، وانتظرتُ خروجَ القميص الذي طلبتُه مغلَّفًا بالبلاستيك.
شعرتُ بالانتعاش أخيرًا، ونظرتُ في الساعة. كان الوقتُ قد تجاوزَ منتصفَ الليل بكثير. رجعتُ ونظرتُ إلى جينكس وهي ساجيةٌ فوق السرير. وضعتُ مسدس الليزر على الوسادة وجثوتُ على ركبتَيَّ بجوار السرير.
كان شعرها الداكن حريريًّا ولامعًا وهو ينسدلُ متألقًا على الوسادة. دفنتُ يدي في أعماقه الناعمة، متلمِّسًا بأصابعي فروةَ رأسها. وجدتُ أخيرًا خياطة الجُرح السهمية الشكل، وضغطتُ بقوة طوال الوقت حتى وجدت الجزءَ الدقيقَ الغائر الذي كنت أبحث عنه.
بينما كانت إصبعي على هذا الموضع، ضبطتُ مسدس الليزر على التركيز المطلوب، ثم وضعتُ المكثِّف في مكان إصبعي تمامًا. ضغطتُ على الزر قليلًا، ثم ضغطتُ مرة أخرى إضافية.
هالَتني للحظةٍ اللاعقلانيةُ فيما أقوم به من فِعلٍ مادي في إسقاطٍ غير مادي. غير أنَّ الواقعَ المتوهَّم كان، وهكذا كان يجب أن يكون، مثاليًّا لدرجة أنَّ جميع الحالات الفيزيائية الزائفة قد ظهرت بشكل ملائم في صورة آثار مُحاكاة إلكترونيًّا. والإسقاطات لم تكن استثناءً من القاعدة.
تراجعتُ. فلتحاول الآن أن تخدعني! يمكنني الآن — بعد أن رششتُ مركز إرادتها جيدًا بالليزر — أن أصدِّق أيَّ شيءٍ كانت ستقوله، ولو على مدار الساعات القليلة التالية على الأقل.
انحنيتُ فوقها. وقلتُ: «جينكس، هل تسمعينني؟»
أومأتْ برأسها دون أن تفتح عينَيها.
قلتُ آمرًا: «لن تغادري. هل تفهمين؟ لن تغادري حتى أسمحَ بذلك.»
أومأتْ مجدَّدًا.
بعد خمس عشرة دقيقة، بدأتْ تستيقظ.
وقفتُ أمامها وهي جالسةٌ في مكانها على السرير، حيث كانت مترنِّحة قليلًا من أثر شعاع الليزر الأخير. كانت عيناها من بعيد صافيتَين ومستقرتَين.
قلتُ: «انهضي.»
ونهضتْ.
«اجلسي!»
جلستْ مُذعِنة.
كان واضحًا أنني قد استهدفتُ مركز إرادتها.
طرحتُ السؤال الأول. فقلتُ: «هل من شيءٍ غير صحيح فيما أخبرتني به للتو؟»
ظلَّتْ عيناها مرتكزتَين في الفراغ. كانت تعابيرُ وجهِها مجمَّدة. وأجابت: «لا شيء.»
جفلتُ. ها أنا مُفحَم من البداية. ولكن لم يكن من الممكن أن يكون كلُّ ما قالته صحيحًا!
عندما أعدتُ التفكير في المرة الأولى التي رأيُتها فيها، سألتُها: «هل تتذكَّرين رسم أخيل والسلحفاة؟»
«نعم.»
«لكنكِ أنكرتِ لاحقًا وجود رسم كهذا.»
لم تقل شيئًا. ثم عرفتُ سبب صمتها. لم أكن قد طرحتُ سؤالًا أو وجَّهتُها لقول شيءٍ بعينه. ومن ثم، سألتُها: «هل أنكرتِ لاحقًا وجود رسم كهذا؟»
«نعم.»
«لماذا؟»
«لأنني كان من المفترَض أنْ أَثنيكَ عن الطريق، أنْ أحجبَ عنك المعرفةَ المُهلِكة.»
«لأنَّ هذا ما أراده المتحكِّم الأعلى؟»
«جزئيًّا فحسب.»
«هل من سببٍ آخر؟»
«لأني وقعتُ في حُبِّك ولم أرغب أن أراكَ تتورَّط في ملابساتٍ خطيرة.»
أُحبطتُ مرةً أخرى. لأنني كنت أعلم أنَّه من المستحيل عليها أن تشعر بعاطفةٍ حقيقية تجاهي، بقدر ما هو مستحيلٌ عليَّ أن أتورَّط عاطفيًّا مع إحدى وحدات الهوية في محاكي فولر.
«ماذا حدث بالفعل للرسم؟»
«أُعيدَت برمجته.»
«هناك في مكانه المحدَّد؟»
«نعم.»
«اشرحي لي كيف حدث ذلك!»
«كنا نعلم بوجوده هناك. بعد ترتيب المتحكِّم الأعلى لموت فولر، قضيتُ أسبوعًا أراقبُ حاويات ذاكرته التي عُطلَت بحثًا عن أي تلميحاتٍ ربما تركها وراءَه حول «اكتشافه». نحن …»
قاطعتُها بقولي: «لا بد أنكِ تعرفين إذن أنه أرسلَ المعلومات إلى مورتون لينش.»
اكتفَت بالتحديق أمامها فحسب. كانت تلك جملة خبرية.
«ألم تعلمي بعد ذلك أنه أرسل المعلومات إلى لينش؟»
«بلى.»
«لماذا لم تتخلَّصي على الفور من لينش؟»
«لأن ذلك كان سيتطلَّب إعادة توجيه العديد من وحدات رد الفعل.»
«كان عليكِ إعادة توجيههم على أي حال عندما قررتِ في النهاية إلغاء برمجة لينش.» انتظرتُ حتى أدركت أخيرًا أنني لم أعطها سوى جملة خبرية أخرى. ومن ثَم، أعدتُ صياغة الفكرة: «لماذا لم تريدي إعادة توجيه هذا العالَم إلى الحقيقة البديلة بأنَّ لينش لم يكن له وجود من الأساس؟»
«لأنه بدا أنه سيَلزم الصمتَ بشأن ما أَخبره به فولر. اعتقدنا أنه سيُقنع نفسه في نهاية المطاف أنه كان يتخيَّل فحسب أن فولر قال إنَّ هذا العالم كان لا شيء.»
توقَّفتُ لاستجماع أفكاري. وقلت: «كنتِ تشرحين لي كيفية اختفاء رسم فولر. أكملي شرحكِ.»
«بمراقبة حاويات ذاكرته التي جرى تعطيلها، اكتشفنا الرسم. وعندما ذهبتُ إلى ريأكشنز لأخذ متعلقاته الشخصية، كان عليَّ أن أبحثَ عن أدلة ربما كانت قد غابت عنا. قرَّر المتحكِّم الأعلى التخلص من الرسم في ذلك الوقت تحديدًا؛ كي نتمكَّنَ من اختبار كفاءة مُعدل الاستئصال.»
ذرعتُ الغرفة مرة أخرى جيئةً وذهابًا أمامها، وأنا على اقتناع أنني حصلتُ أخيرًا على الحقيقة الكاملة. لكنني أردتُ أن أعرفَ كلَّ شيءٍ. ربما أعلمُ مما تخبرني به ما إذا كان هناك ما يمكنني فِعله للهروب من نوايا المتحكِّم الأعلى السادية.
«إذا كنتِ شخصًا حقيقيًّا بالأعلى هناك، فكيف يمكنكِ الحفاظُ على إسقاط نفسك هنا بالأسفل؟» كان ما دفعني إلى طرح هذا السؤال أنني أدركتُ فجأةً أنني لم يكن بإمكاني أن أظلَّ إلى أجل غير مسمًّى في محاكي فولر في دائرة مراقبة مباشرة.
أجابت بطريقة آليَّة، دون أي مسحة من التعاطف أو الاهتمام. وقالت: «في كل ليلة، بدلًا من أن أَخلُد إلى النوم، أعودُ إلى الأعلى هناك. وخلال هذا الجزءِ من اليوم الذي يُفترَض منطقيًّا ألَّا أكون فيه على اتصال بوحدات رد الفعل هنا بالأسفل، أختفي.»
كان ذلك منطقيًّا. فالوقتُ على أريكة الإسقاط كان مكافئًا للوقت الذي يقضيه المرءُ في النوم. ومن ثَم، تُلبَّى الحاجة البيولوجية إلى النوم بالكامل. وعندما تغادر هذا العالَم، يمكنها الاهتمام باحتياجاتها المادية الأخرى.
واجهتُها فجأةً بالسؤال المهم. «كيف تفسِّرين وقوعكِ في حُبي؟»
قالت بلا عاطفة: «أنتَ شديد الشبه برجلٍ كنت أُحبُّه ذات يومٍ بالأعلى.»
«مَن؟»
«المتحكِّم الأعلى.»
بطريقةٍ ما شعرتُ بدُنوِّ لحظة الكَشف. تذكَّرتُ كيف جاءني ذلك الانطباعُ الغريب بوجود تشابه غامض بيننا، خلال مراتِ الاقتران التقمُّصي الأخيرة معه.
«مَن هو المتحكِّم الأعلى؟»
«دوجلاس هُول.»
تراجعتُ غير مُصدِّق. «أنا؟»
«لا.»
«لكن ذلك ما قلتِه للتو!»
صمتت، كردِّ فِعل على جملتي الخبرية التي لم أطلب لها جوابًا أو تأكيدًا.
«كيف يمكن للمتحكِّم الأعلى أن يكون أنا وليس أنا في الآن نفسه؟»
«إنه شيء كالذي فعله الدكتور فولر مع مورتون لينش.»
«لا أفهم.» ثم عندما لم تردَّ، قلتُ: «اشرحي ذلك!»
«أعادَ فولر تكوين لينش كشخصيةٍ في محاكيه، وكان ذلك على سبيل المزح فقط. وأعادَ دوجلاس هُول تكوين نفسه كشخصية في محاكي فولر.»
«تقصدين أنني أُشبِه المتحكِّم الأعلى بالضبط؟»
«إلى حدٍّ ما. الشَّبه المادي مطابق تمامًا. لكنَّ السمات النفسية مختلفة. أرى الآن أنَّ هُول الذي بالأعلى مصاب بجنون العظَمة.»
«ولهذا السبب لم تعودي تُحبينه؟»
«لا. لم أعد أحبه قبل ذلك بكثير. لقد بدأ يتغيَّر منذ سنوات. أظنه الآن يعذِّب وحدات رد فعل أخرى. يعذِّبها ثم يُلغي برمجتها لإخفاء أي دليل قد يُخزَّن في دوائر ذاكرتها.»
مشيتُ إلى النافذة، وحدَّقتُ في الخارج في سماءِ الصباح الباكر. لم يَبدُ معقولًا بطريقة أو بأخرى أن يُشبِع شخصٌ رغبةً منحرفة لديه، بمشاهدة كياناتٍ تخيُّلية تعاني عذابًا مُحاكًى. ولكن، على أي حال، يستمدُّ جميعُ الساديين حسًّا من «التقدير الذاتي» من مَشاهد المعاناة. وفي بيئة مُحاكاة إلكترونيًّا، كان التعذيب المُبرمَج صفةً ذاتية تمامًا مثل ردِّ الفعل النفسي على التعذيب الفِعلي في عالَم حقيقي.
رجعتُ إلى جينكس وقد بدأتُ أفهم الآن موقفَها، ودوافعَها، وردودَ أفعالها. ثم سألتُها: «متى علمتِ أنَّ المتحكِّم الأعلى قد برمَجَ معادِله المُحاكَى إلكترونيًّا في جهازه؟»
«عندما بدأتُ أستعدُّ لمهمة الإسقاط هذه.»
«لماذا فعل ذلك في رأيكِ؟»
«لم أستطع حتى التخمين في البداية. لكنني أعلم الآن. لا بد أنَّ الأمر له دافعٌ في اللاوعي. نوعٌ من تأثير دوريان جراي. لقد كانت حيلة ماسوشية. لكنه ربما لم يدرك حتى أنه كان بالفعل يقدِّم لنفسه نفْسًا تناظرية، كان بإمكانه أنْ يُطلِق العِنان لعُقدة ذَنبه في مواجهتها.»
«منذ متى وأنا هنا بالأسفل؟»
«عشر سنوات، مع ما يكفي من عمليات إعادة البرمجة لمنحك ماضيًا يبدو حقيقيًّا ومشروعًا قبل ذلك.»
«كم عمر جهاز المحاكاة نفسه؟»
«خمسة عشر عامًا.»
غُصتُ مجدَّدًا في الكرسي، مرتبِكًا ومرهَقًا. أمضى العلماءُ قرونًا يفحصون الصخور، ويدرسون النجوم، وينقِّبون عن الحفريات، ويمشِّطون سطحَ القمر، ويطبِّقون بدقة وعناية نظريتَهم المنطقية تمامًا القائلة بأن هذا العالَم عمره خمسة مليارات سنة. وعلى مدار تلك السنوات تقريبًا، كانوا طوال الوقت على خطأ. كان الأمر مَدعاةً للسخرية والازدراء على المستوى الكَوني.
في الخارج، كان أولُ شعاعٍ قد شرعَ في البزوغ على هيئة هلالٍ رفيع فوق الأُفق. كان بإمكاني تقريبًا الآن أن أفهم كيف يمكن لجينكس أن تحب شخصًا لم يكن حقيقيًّا.
سألتُ بهدوءٍ: «لقد رأيتِني لأول مرة في مكتب فولر، وأدركتِ أنني كنت أقربَ شبهًا إلى دوجلاس هُول الذي وقعتِ في حُبه يومًا عن ذلك القابِع هناك في الأعلى؟»
«لقد رأيتُكَ عدة مراتٍ قبل ذلك، عندما كنتُ أستعد لمهمة الإسقاط. وفي كل مرة كنت أدرسُ فيها خِصالكَ، وأسمعُكَ تتحدَّث، وأتابِعُ أفكارَك، كنت أعرفُ فيها أنَّ دوج هُول الذي افتقدتُه هناك بالأعلى في جهاز المحاكاة الخاص به؛ موجودٌ هنا بالأسفل في جهاز المحاكاة نفسه.»
اقتربتُ منها وأخذتُ يدها. تركَتها لي باستسلام.
سألتُها ساخِرًا بعضَ الشيء من قرارها: «والآن تريدين البقاءَ معي هنا؟»
«ما دُمتُ أستطيع. حتى النهاية.»
كنت على وشك أن آمرها بالعودة إلى عالَمها. لكنها ذكَّرتني دون قصدٍ أنني لم أسألها بعدُ أهم سؤال.
«هل اتخذ المتحكِّم الأعلى قراره بشأن محاكي فولر؟»
«لا يوجد شيءٌ يمكنه فعله. لقد خرجَ الموقف عن السيطرة. جميع وحدات رد الفِعل هنا بالأسفل تقريبًا على استعدادٍ للكفاح من أجل حماية آلة فولر؛ لأنهم يعتقدون أنها ستحوِّل عالَمهم إلى مدينةٍ فاضلة.»
سألتُ مذعورًا: «إذن، سوف يدمِّرها؟»
«لا بد له أن يفعل ذلك. لا توجد وسيلة أخرى. لقد فهمتُ ذلك منذ آخِر مرة اختفيتُ فيها.»
سألتُ متجهِّمًا: «كم من الوقت لدينا؟»
«إنه ينتظر فحسب الانتهاء من رسميات استشارة المجلس الاستشاري. سيفعل ذلك صباح اليوم. ثم سيقطع المحوِّل الرئيسي.»