الفصل السابع عشر
كان النهار يزداد سطوعًا في السماء، وأنا أقف الآن أمام النافذة أشاهد الحياة وهي تدبُّ في أوصال المدينة. بالأعلى انحدرَ سيلٌ من شاحنات الشرطة، يحمل على ما يبدو طاقمًا، لتغيير حُرَّاس مبنى ريأكشنز الكائن على بُعد عدة مربعات سَكَنية.
كم بدا كلُّ شيءٍ تافهًا! كم هي عديمةُ النفع كلُّ غايةٍ ومصير! كم كانت كلُّ وحدةٍ من وحدات ردود الفعل ساذجة وجاهِلة!
كان هذا يوم الفَناء. لكنني الوحيدُ الذي أعرفُ ذلك.
ستسير الحياة في مسارها الطبيعي بعد لحظة، سيحتشدُ الناسُ فوق الأرصفة المتحركة، وتُواصِل حركة المرور انسيابَها في غير اكتراث. وفي الغابة، ستنمو الأشجار وتسري الحياةُ البرية في سكينةٍ وسطها. ودون تراخٍ أو توانٍ، ستطرح البحيرات مياهها في موجاتٍ لطيفةٍ فوق الشاطئ الصخري.
في صباح اليوم التالي، سيُطرَح كلُّ الوَهم جانبًا. سيهدأ فجأةً الاندفاعُ المتواصل للتيارات المستمرة في عددٍ لا يُحصَى من المحوِّلات، وسيتوقَّف في منتصف دورة انتقاله من كاثود إلى أنود، ويتجمَّد في تسابُقه المحموم عبر نقاط الاتصال على آلاف حاويات التخزين. في تلك اللحظة، سيتحوَّل الواقع الجليُّ الذي لا يُدحَض إلى عَدَم من الدوائر المُعطَّلة. سيُمحَى كَونٌ إلى الأبد في لحظةٍ مصيرية أخيرة من القصور الكُلي في المحاكاة الإلكترونية.
استدرتُ ونظرتُ إلى جينكس. ما زالت لم تتحرَّك بعد. اقتربتُ وحدَّقتُ في جمالها الذي ظلَّ جليًّا، حتى في الحالة التي هي عليها من فقدان الحركة الأشبه بالغفوة. لقد حاولتْ إنقاذي من المعرفة المرعبة بأن نهاية جميع الخلائق قد أَوشكَت. لقد أَحبَّتني. وصلَ مَبلَغ حبِّها لي أنها أرادت أن تُشاركني زوالي.
انحنيتُ وأحطتُ وجنتَيها بيديَّ، شاعِرًا بنعومة وجهها، وانسدلتْ جدائلُ شعرها الحريري الكثيف الداكن على أصابعي في نعومةً لا تقل عن نعومة وجهها. كانت هنا إسقاطًا لنفسها الحقيقية. لا بد أنها بالجمال نفسه هناك بالأعلى. كانت جميلةً قلبًا وقالبًا، حتى إنَّه ما كان ينبغي أن تُهدِر جمالها مقابل التزامٍ شعوري بالتضحية بالذات، يستند إلى إحساسٍ مضلِّل بالولاء والإخلاص.
رفعتُ وجهَها، وطَبعتُ قُبلةً على جبينها ثم شفتَيها. تُرى هل أَبدتْ أقل قدرٍ من رد الفعل؟ كنت وجِلًا. كان سيُفهَم من ذلك أنَّ إرادتها المُقيَّدة قد استأنفَت الإعلانَ عن نفسها.
لم أستطع المخاطرة بحدوث ذلك. لم أستطع السماح لها بأن تكون محاصَرة هنا عندما تنتهي اللحظة الأخيرة من الوجود المُحاكَى. إذا كانت موجودة حينها، فإنَّ ذلك يعني نهايتها هي أيضًا في الواقع، كما سيحدث مع إسقاطها في عالَمي.
«جينكس.»
«نعم.» ارتعشَ جفناها للمرة الأولى منذ ساعات.
أمرتُها قائلًا: «ستُغادرين الآن. ولن تدخلي في إسقاطٍ مجددًا.»
تراجعتْ وانتظرتْ.
بعد برهة، كرَّرتُ نافدَ الصبر: «ستغادرين … الآن.»
ارتجفتْ، وأصبحتْ صورتها باهتة، كما لو أنها قد حجَبَتها تياراتُ حملٍ حراريٍّ صاعدة من حارة مرورية سفَعَتها الشمس.
لكن الضبابَ قد انقشعَ وظهرتْ مرة أخرى واضحة.
ماذا لو لم أتمكَّن من إجبارها على العودة؟ أمسكتُ يائسًا بمسدسها. ربما إطلاقٌ آخر للِّيزر على مركز إرادتها …
لكني تردَّدتُ. وصحتُ فيها مجدَّدًا: «جينكس! ارحلي! أنا آمُركِ!»
امتعضتْ قَسَماتُ وجهِها في تعبير ينمُّ عن احتجاج وتوسُّل.
غمغمتْ بضَعفٍ ووَهَن: «لا يا دوج، لا تجعلني …!»
صرختُ: «ارحلي!»
بدَت صورتُها باهتةً بفِعل تيارات الحِمل الحراري مرةً أخرى. ثم اختفتْ.
أَعدتُ المسدسَ إلى جيبي، وهويتُ عاجِزًا على حافة السرير. ماذا الآن؟ هل من شيءٍ يمكنني فعله سوى الانتظار؟ كيف يمكن للمرءِ أن يشرع في مواجهة خَصم جبَّار، كُلي القدرة، مهووسٍ بذاته؟
متى ستَحينُ النهاية؟ هل سيتركني في سلام حتى تلك اللحظة، أم سيجد وقتًا ليلاعبني لعبة القط والفأر؟ هل كانت نهايتي ستتزامن مع إلغاء البرمجة الشامل … لكل شيءٍ؟ أم أنه يفكِّر لي في شيءٍ خاص قبل الإزالة الشاملة؟ شيء مماثِل لما سبقَ أن أَعدَّه لأفيري كولينجسورث؟
بعيدًا عن الجانب الشخصي في تلك اللحظة، تساءلتُ عما إذا كان هناك أيُّ شيءٍ يمكن فعله هنا بالأسفل، لجعله يَعدِل عن رأيه بخصوص تدمير خلائقه المُحاكاة إلكترونيًّا.
بدأتُ أتذكَّر الحقائق. كانت الفائدة المرجوَّة من آلتِه مهدَّدةً بلا شك. لقد أتقن فولر صناعة مُحاكٍ داخل مُحاكٍ آخر، وكان غرضُ المحاكي الداخلي أن يؤدي وظيفة المحاكي الخارجي نفسها. كلاهما قُصِد به استطلاعُ الرأي العام عن طريق الْتماس استجاباتٍ من كياناتٍ تناظرية، بدلًا من الأشخاص الحقيقيين.
ولكن آلة فولر الزائفة في تحقيقها لهدفها كانت تجعل عمل المحاكي الأكبر مستحيلًا. ذلك أنه عندما بدأت ريأكشنز في إمداد المسوِّقين، والحكومة، والمؤسسات الدينية، والعاملين في قطاع الخدمة الاجتماعية وغيرهم، بالتنبؤات؛ كان مستطلعو الآراء أنفسهم سيُستبعَدون من المشهد.
كان الحلُّ واضحًا، وهو ضرورة إيجاد طريقة للإبقاء على اتحاد راصدي ردود الأفعال؛ كي يواصلوا عملهم باعتبارهم وسائل المحاكي الأكبر لتحفيز ردود الأفعال، وسط وحدات رد الفعل هنا بالأسفل.
ولكن كيف؟
لا توجد أي وحدة هوية ليست على استعدادٍ للحشد من أجل الدفاع عن آلة فولر، باستثناء منظمة اتحاد راصدي ردود الأفعال. ذلك لأن سيسكين قد وَعَدهم بتحقيق الكثير باستخدامها.
أوه، كان بإمكان المتحكِّم الأعلى أن يدمِّر محاكي فولر تمامًا. بقنبلة ثرميت أخرى. أو حتى بشحنة برق. لكن ذلك ما كان سيحلُّ شيئًا. فما كان ذلك ليؤسِّس على الفور لحركة شاملة فحسب، ولكن وحدات رد الفِعل كانت ستُحمِّل أيضًا راصدي ردود الأفعال المسئولية، وتصبُّ جامَ غضبها على الاتحاد.
أيًّا كانت وجهةُ نظرك في الأمر، فقد كان الاتحاد مقدَّرًا له الهلاك. ونتيجةً لذلك، كان لا بد من إلغاء عالَم بأكمله، كَون زائف بأَسره، من الوجود لإفساح الطريق أمام بدايةٍ جديدة.
نظرتُ عبر النافذة مجدَّدًا، وشاهدتُ قرص الشمس البرتقالي الضخم يرتفع في عَنان السماء، مزحزِحًا سَديمَ الفجر من أمامه. لقد كانت شمسًا لن تبلغ أبدًا الجانبَ المقابِل من الأفق.
ثم شعرتُ فجأة أنَّ شخصًا ما كان معي في الغرفة. لم يكن الأمر سوى إدراكٍ حاضِر البديهة بوجود حركةٍ ورائي، وَقْع أقدامٍ غير مرئية تقريبًا.
دون أن أكشف عن إدراكي للأمر، دسستُ يدي بخفة في جيبي. ثم أخرجتُ المسدس والتفتُّ.
كانت جينكس.
نظرتْ إلى سلاح الليزر في يدي. وقالت: «لن يحلَّ ذلك أيَّ شيءٍ يا دوج.»
أوقفتُ إصبعي على زر الإطلاق. وسألتُها: «لمَ لا؟»
«مهما أطلقتَ عليَّ الإشعاع، فلن يفيد ذلك في شيءٍ. يمكنك أن تقضي على قوة إرادتي. ولكن في كل مرة أغادر فيها، يحرِّرني ذلك من شلل الإرادة. سأظل أعود ببساطة.»
وضعتُ المسدس في جيبي مُحبَطًا. القوة لن تفيد. يجب أن أجد طريقةً أخرى. هل أُناشِدها التعقُّل؟ أم أجعلها تدرك أنهم يجب ألا يعثروا عليها هنا عندما يحدث الأمر؟
اقتربتْ مني. وقالت: «دوج، أنا أُحبُّك. وأنت تحبُّني. رأيتُ ذلك جيدًا عبر الاقتران التقمُّصي. لستُ بحاجةٍ إلى أي سببٍ آخر كي أبقى معك.»
وضعتْ يدها على كتفي، لكنني ابتعدتُ. وقلتُ لها: «لو كنا في حالة اقترانٍ الآن، لعرفتِ أنني لا أريدُكِ هنا.»
«أستطيع أن أفهم ذلك يا حبيبي. ربما حتى لديَّ الشعور نفسه. ولكنني لن أرجع مهما يكن.»
سيطر الإصرارُ على تعابير وجهها عندما استدارت نحو النافذة، وحدَّقتْ بالخارج في المدينة.
سألتْ: «ألم يتدخَّل المتحكِّمُ الأعلى بعدُ؟»
«لا.» ثم أدركتُ ما كان عليَّ فعله إذا أردتُ إخراجَها من هذا العالَم — وإبقاءها خارجه — قبل حدوث إلغاء البرمجة الشامل.
قالَت متأمِّلة: «لقد كنتَ محقًّا بشأن أسلوبه في الاقتران. عادةً لا تدري وحدةُ ردِّ الفعل أنه يتدخَّل حتى. غير أن هناك طريقةً لجَعْل التجربة مؤلمةً بقدر ما تريد. كلُّ ما عليك هو أن تضع جهاز التعديل خارج الطَّور قليلًا.»
لم تكن تخدعني عندما قالت إنه مهما أصبتُ مركز إرادتها بالشلل، فإنها ستواصِلُ العودة. الحلُّ إذن أن آمرَها بالمغادرة قبل اللحظة النهائية مباشرةً، عندما لا يكون أمامها وقتٌ للعودة.
يمكنني أن أفاجِئَها الآن، أُفقِدها الوعي، وأطلِق الإشعاع على مركز إرادتها، الآن. كان ذلك سيحوِّلها إلى كائن آلي خاضِع بالطبع. لكنه كان من شأنه أيضًا أن يجعلها تحت طَوعي. ووقتها، يمكنني أن أنتظر على أمل أن يحدث شيءٌ يشير إلى اقتراب إلغاء البرمجة الكلي. ربما الشمس، أو ربما دعائم أساسية أخرى ستبدأ في الاختفاء من الوجود أولًا. عندما يحدث ذلك، سأوجِّهها ببساطة إلى المغادرة على أمل أن يكون قد فاتَ الأوان على إسقاطها من جديد.
لكن لا بد أنها قد رأت انعكاس صورتي في النافذة، عندما اقتربتُ منها ومسدس الليزر في يدي.
قالت بهدوءٍ: «ضَع ذلك جانبًا يا دوج! إنه فارغ.»
رمقتُ العدَّاد. كان المؤشر عند الصفر.
قالت: «عندما أرسلتَني هناك بالأعلى، كان في مقدوري أن أعود في وقتٍ مبكر عن ذلك. لكني استغرقتُ وقتًا في برمجة تفريغ المسدس من شحنته.»
جلستْ على الأريكة عاقدةً ساقَيها تحتها.
وقفتُ بجوار النافذة مُحبَطًا. في الخارج، كانت أشرطة السير قد بدأت تحتشد بالناس. كان أغلبهم يستقلُّ الرصيفَ المتحرك في اتجاه شركة ريأكشنز المحدودة. كانت المظاهرة العامة التي نظَّمها سيسكين مصدرَ جذب عام.
استدرت بحِدَّة. وقلتُ: «ولكن يا جينكس … أنا لا شيء!»
ابتسمت. وقالت: «وأنا كذلك الآن.»
«لكنكِ حقيقية. لديكِ حياتُكِ الحقيقية كلُّها أمامكِ!»
لوَّحتْ لي من فوق الأريكة. وقالت: «كيف نعرف أن أكثر الحقائق واقعيةً حتى لن يتضح في نهاية المطاف أنها وهمية؟ لا يمكن لأحدٍ أن يثبت وجوده، أيمكنكَ أنت؟»
ارتميتُ بجوارها قائلًا: «كفاكِ تفلسُفًا.» ثم أضفتُ: «أنا أتحدَّث عن شيءٍ مباشر، ذي معنًى. أنتِ لديكِ جسدٌ وروحٌ. أنا لا!»
مرَّتْ بظفرها على ظهر يدي، وهي لا تزال مبتسمة. وقالت: «ها أنت. لا بد أنَّ ذلك يقنع أي أحد أن لديه جسدًا.»
أمسكتُ بذراعِها وأدرتُها نحوي. ثم توسَّلتُ إليها مُدرِكًا أنه لا جدوى من محاولة إعادتها إلى عالَمها: «أرجوكِ يا جينكس! الوضعُ خطير!»
قالت بجدية: «لا يا دوج. ليس هناك تأكيد أيًّا ما كان، ولا حتى في وجودي المادي، أنَّ الأشياء المادية هي مادية بالفعل، وحقيقية.
وأما عن الروح، فمَن قال إن روح الشخص يجب أن تكون مرتبطة، بأي درجة، بشيءٍ مادي؟ في تلك الحالة، فإن قزمًا أبتر لا بد أن له روحًا أقل من عملاق ضخم في أي عالَم كان.»
حدَّقتُ إليها ولم أعقِّب.
واصلَتْ بجدية: «ألا ترى؟ إنَّ مجرد وجودنا هنا بالأسفل لا يعني أنَّ علينا أنْ نضع متحكِّمًا في محاكٍ بيئي، جبَّارًا مهووسًا بذاته، محلَّ تصوُّرنا عن الإله.»
أومأتُ برأسي وقد كنت بدأت أفهم.
قالت بيقينٍ وقناعةٍ شديدَين: «إنَّ العقلَ هو ما يهم. وإذا كانت هناك حياةٌ بعد الموت، فلن تُحرَم منها وحداتُ رد الفِعل في هذا العالَم، تمامًا كما لن تُحرَم منها وحداتُ الهُويَّة في محاكي فولر، أو الأشخاص الحقيقيون في عالَمي.»
أمالتْ وجنتَها على كتفي. وقالت: «لا أملَ في إنقاذ هذا العالَم يا دوج. لكني لا أكترث. ليس تمامًا. فقد خسرتُك هناك بالأعلى، كما تعلم. ولكني وجدتُكَ هنا بالأسفل. لو عُكسَت أدوارُنا، كنتَ ستشعر بالشيء نفسه، وكنتُ سأتفهَّم ذلك.»
قبَّلتُها كما لو كانت اللحظةُ التالية هي اللحظةَ الأخيرة قبل إلغاء البرمجة الشامل.
قالت بقناعة: «إذا تبيَّن أنه سيترك هذا العالَم لبضعة أيام أخرى، فسأعودُ إلى هناك بالأعلى، ولكن فقط لضبط جهاز التعديل على جهد مرتفع. ثم سأعود. وبعدها ببضع ثوانٍ، سيكون الاقتران بين إسقاطي هنا بالأسفل وبين ذاتي المادية بالأعلى قد تعطَّل تمامًا. وسأصبح جزءًا لا يتجزأ من هذا العالَم المُحاكَى إلكترونيًّا.»
لم أستطع أن أَنبِس ببنت شفة. لقد حاولتُ إقناعها. ولكنها، بدلًا من ذلك، أقنعَتني.
ارتفعت الشمسُ في مستوى النافذة، وألقت بأشعَّتِها الدافئة عبر الغرفة.
سألتْ: «ألَم … يتدخَّل مرة أخرى بعد؟»
«لا. لماذا؟»
«أنا خائفة يا دوج. ربما يريد أن يتلاعبَ بك مرةً أخرى قبل أن يغلق جهاز المحاكاة.»
شعرتُ بالرجفة في كتفَيها، وأَحطتُها بذراعيَّ.
سألتْ: «هل ستخبرني عندما يقرن نفسَه بك؟»
أومأتُ موافقًا، ولكني، مرةً أخرى، أردتُ أنْ أعرفَ السببَ.
«لأنه ربما يكون للأمر بعضُ التأثير عليه إذا اكتشفَ أنني سأبقى هنا في الأسفل، إلى الأبد.»
فكَّرتُ في دوجلاس هُول في ذلك الواقع الأعلى. كنت أنا وهو بصورةٍ ما مجردَ وجهَين مختلفَين لشخصٍ واحد. تسلَّلتْ عبارةُ الكتاب المقدَّس «على صورته» إلى ذهني، لكني تجنَّبتُ التمادي في هذه النبرة اللاهوتية الزائفة. إنه إنسان، وأنا إنسان. ويتمتَّعُ بالطبع بمزايا مطلَقة عني. ولكن بصرف النظر عن ذلك، فكلُّ ما يفصلنا هو حاجز مُحاكًى إلكترونيًّا، حاجز ضلَّل تفكيره، وشوَّه عقله، وملأَه بوَهْم العَظَمة، وحوَّله إلى مهووسٍ بها.
لقد عذَّبَ وقتلَ بلا رحمة، وتلاعبَ بكياناتِ ردود الفِعل باستهانةٍ وحشيةٍ غاشِمة. ولكن من الناحية الأخلاقية، هل هو مُدان بأي شيء؟ لقد انتزعَ أرواحًا وحيواتٍ؛ حياة فولر وكولينجسورث. لكنهما لم يكن لهما وجودٌ من الأساس. لم يكن واقعُهما، إدراكُهما لكيانهما، سوى وعي ذاتي منحَهما إياه عبر الدوائر المعقَّدة لمُحاكِيه.
ثم قَمعتُ رغبتي الشديدة في إيجاد تبريراتٍ وأعذار. فما كنت لأتبنَّى موقفَ المُدافِع عن هُول القابع بالأعلى. لقد قتلَ … بوحشية. لم يُبدِ أيَّ قدر من الشفقة في تخلُّصه من تلك الكيانات التناظرية التي اكتشفتْ وَهْم واقعها. ولم يقتل وحداتِ رد فعل فحسب. بل قتلَ بشرًا أيضًا بكلِّ وحشية. ذلك أن الوعي بالذات هو المقياس الوحيد للوجود.
ذكَّرتُ نفسي بعبارة «كوجيتو إرجو سوم». أنا أفكِّر، إذن أنا موجود.
هذا هو بيت القصيد بكلِّ تأكيد.
نهضتُ وعُدتُ إلى النافذة، وحدَّقتُ بالخارج في الأرصفة المتحرِّكة المزدحمة. ولم أستطع أن أرى سوى جزءٍ من مبنى ريأكشنز. بدا المشهد هناك كما لو أنه يولِّد إثارةً كهربائية ذاتية خاصة به. كان مئاتُ الأشخاص المتلهِّفين، الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر إعلانَ سيسكين الموعود عن مُحاكِيه، يَسدُّون الطرقَ المرورية، ويُفقِدون الأرصفة المتحركة حركتها بأوزانهم وأعدادهم التي تفوق الحدَّ.
سألتْ جينكس: «ألمْ يتدخَّل المتحكِّم الأعلى بعد؟»
هززتُ رأسي دون أن أرفعَ عينيَّ عن الحشود المتزايدة. جالَ بخاطري أنَّ الناس أنفسهم — وحدات رد الفعل — هم مَن عرقلوا نوايا المتحكِّم الأعلى. لقد جعلوا تدميرَهم حتميًّا.
كان ضغطُ الرأي العام بمثابة درع منيعة لحماية محاكي فولر، الذي يتعيَّن تدميره نهائيًّا إذا كان لهذا العالَم أن يستمرَّ في الوجود.
كان الوضعُ مليئًا بالمفارقات بطريقةٍ أو بأخرى. سيسكين نفسه هو المسئول عن موقف الجماهير. فقد تلاعبَ بالناس من خلال الاستجداءِ النفسي بكفاءةٍ فاقَت ما كان في إمكان المتحكِّم الأعلى فعلُه، من خلال عمليات المحاكاة الإلكترونية.
ومن أجل تغيير الوضع فيما يخصُّ السد المنيع الذي شكَّله الوضع العام على هذا النحو، أصبحَ يتعيَّن على مختصِّي المحاكاة الإلكترونية إعادةُ برمجة كلِّ وحدة تقريبًا من وحداتِ ردود الفعل. كانت تلك مهمةً هائلةً للغاية. وسيكون من الأسهل محو جميع الدوائر تمامًا والبدء من جديد.
ثم انتبهتُ واقفًا واستدرتُ نحو جينكس، فاغرًا فمي في لحظة إدراكٍ مفاجئ.
أمسكتْ بذراعي. وقالت: «دوج! هل هذا … هو؟»
«لا. جينكس، أظن أن لديَّ خطة!»
«خطة لماذا؟»
«ربما يمكننا أن ننقذَ هذا العالَم!»
تنهدتْ في يأسٍ. وقالت: «لا يوجد شيءٌ يمكننا فعله هنا بالأسفل.»
«ربما يوجد شيءٌ حقًّا. إنها فرصة ضئيلة. لكنها موجودة. هذا العالَم المُحاكَى، الذي هو من اختلاق المتحكِّم الأعلى، لا يمكن إنقاذه؛ لأنَّ الناس، الذين يمثِّلون فيه وحدات ردِّ الفِعل، يصرُّون على الحصول على محاكيهم الخاص بأي ثمن. أليس كذلك؟»
أومأَت برأسها. وقالت: «لا يمكنه تغيير معتقداتهم وآرائهم من دون إعادة برمجة كاملة.»
«لا يستطيع. ولكن ربما أنا أستطيع! أولئك الناس بالخارج يدعمون جميعًا سيسكين؛ لأنهم يعتقدون أنَّ جهاز المحاكاة الخاص به سيغيِّر عالَمهم.
ولكن لنفترضْ أنهم علموا بدوافعه الحقيقية. لنفترض أنهم اكتشفوا أنه لا يرغب في شيءٍ إلا في أن يصبح حاكمهم المطلق. وأنه هو والحزب يتآمرون ضدهم. وأنه لا يخطِّط على الإطلاق لاستخدام «سميولكرون-٣» كوسيلة لإنارة الطريق أمام التقدُّم الاجتماعي!»
عبستْ، ولم أستطع أن أميِّز ما إذا كانت مرتبكة بسبب اقتراحي، أم كانت تستعدُّ لمُحاجَّتي.
واصلتُ: «ألا ترين؟ سيدمرون المحاكي بأنفسهم، سيُصابون بخيبة أمل كبيرة لدرجة أنهم سينقلبون على سيسكين! ربما سيكون بإمكانهم القضاء على الحزب أيضًا!»
كانت ما زالت لا تُظهِر حماسًا كبيرًا.
«سيكون من شأنهم أن يخلقوا أجواءً يستحيل فيها استحداثُ محاكِي فولر من جديد. ومن ثَم، سيتمكَّن المتحكِّم الأعلى بسهولة من إعادة توجيه بعض وحدات رد الفعل مثل سيسكين وهيث وويتني. ذلك حيث يعيدُ توجيه مسارات اهتماماتهم بعيدًا عن تخصُّص المحاكاة الإلكترونية برُمَّته.»
«ولكن ما كان هذا ليحرِّرك يا دوج! ألا ترى؟ حتى إنْ أنقذت هذا العالَم بالفعل، فإنكَ بذلك ستمنح المتحكِّم الأعلى مستقبلًا غير محدود لتنفيذ كلِّ عمليات التعذيب المحاكاة إلكترونيًّا، التي يمكنه …»
«ينبغي ألَّا نقلق بشأن ما يحدث لي تحديدًا! هناك الآلاف من الناس الذين لا يشكُّون حتى فيما هو على وَشْك أن يحدثَ لهم.»
غير أنني استطعتُ أن أفهم وجهة نظرها. لا بد أنَّ تعاطفي مع وحدات رد الفعل كان أعمقَ من تعاطفها معهم. فقد كنت واحدًا منهم.
سألتْ بجدية: «كيف ستوجِّههم لمعرفة حقيقة سيسكين؟ ليس لدينا الكثير من الوقت.»
«كلُّ ما سأفعله هو أن أخرج إلى الشارع وأخبرهم. ربما سيَرى المتحكِّم الأعلى ما يحدث. وعندئذٍ سيدرك أنه ليس عليه أن يدمِّر هؤلاء الناس في النهاية.»
عقدتْ ذراعَيها واستندتْ إلى الحائط بلا حماس.
قالت: «لن تُتاح لك الفرصة لإخبارهم بأي شيءٍ. جعل سيسكين الشرطة بأكملها تبحث عنك. سيطلقون عليك الإشعاع في اللحظة التي يرَونك فيها!»
أمسكتُ بمعصمها واندفعتُ نحو الباب.
لكنها تراجعتْ شبه يائسة. وقالت: «حتى لو نجحت يا حبيبي … حتى لو لم يطلقوا عليك الإشعاع وتمكَّنتَ من إقناع الجميع … فلن ينظروا إليك إلا على أنك جزءٌ من خطة سيسكين. سيمزِّقونك إرْبًا!»
سحبتُها عبر الغرفة. وصحتُ فيها قائلًا: «هيا! سأحتاجكِ على أي حال.»