الفصل الثالث
مرت عدة أيام قبل أن أتمكَّن من محاولة التعمق في اللغز الذي يربط بين المحارب الإغريقي ولينش وفولر. لم يكن ذلك لنقصٍ في اهتمامي بالأمر. بل لأنني كنت مضغوطًا جدًّا بضرورة الانتهاء سريعًا من وضع اللمسات الأخيرة على محاكي البيئة، ودمج جميع وظائفه.
ظلَّ سيسكين يستعجلني بشدة. كان يريد أن يكون النظام جاهزًا للعرض النهائي في غضون ثلاثة أسابيع، على الرغم من أنه كان لا يزال هناك أكثر من ألف دائرة لردود الأفعال بحاجة إلى الدمج في النظام لزيادة «جمهوره المستهدَف» إلى عشرة آلاف شخص.
نظرًا لأن محاكاتنا لكل نظام اجتماعي يجب أن تمثِّل «مجتمعًا» واحدًا، كاملًا في ذاته، كان من الضروري تزويد آلاف الدوائر الرئيسية بعناصر من البيئة المادية. شملَ هذا تفاصيل مثل وسائل النقل، والمدارس، والمنازل، ونوادي البستنة، والحيوانات الأليفة، والمنظَّمات الحكومية، والشركات التجارية، والمتنزَّهات، وجميع المؤسسات الأخرى اللازمة لأي منطقة حضرية. وبالطبع تم كلُّ شيء عن طريق المحاكاة الإلكترونية، بدءًا من الانطباعات المسجَّلة على شرائط مغناطيسية، والجهد الكهربائي اللازم لاستقطاب الشبكات الرئيسية، والترميزات على حاويات التخزين.
نتجَ عن كل ذلك في النهاية مُناظِر كهرورياضي لمدينة «عادية» تجثم غير عابئة بشيءٍ في عالَمها الزائف. لم أستطع في البداية أن أصدق أنه داخل تلك الأميال من الأسلاك، وما لا يُحصى من محوِّلات الطاقة وأجهزة قياس الجهد الدقيقة، والآلاف المؤلَّفة من أجهزة الترانزستور، ومولِّدات الوظائف، وأنظمة حيازة البيانات، داخل كل هذه المكونات يقبع مجتمع بأكمله، جاهزًا للاستجابة إلى أي محفِّز لردود الأفعال يُبرمَج في مُوزِّع مدخلاته.
لم أقتنع حتى شغَّلتُ إحدى دوائر المراقبة، ورأيتُ كلَّ شيءٍ قيد التشغيل.
بعد إنهاك يوم طويل من العمل، أخذتُ قسطًا من الراحة، وقدماي مُسنَدتان إلى المكتب، منصرفًا بذهني عن التفكير في جهاز المحاكاة.
لم يكن يوجد سوى مُنعطَف واحد آخر يمكن أن يكونوا قد سلكوه، هكذا عدتُ إلى التفكير في مورتون لينش، وهانون جيه فولر، والمحارب الإغريقي، والسلحفاة، وفتاة تُدعَى جينكس كانت ذات يوم مراهقة أشبه بالجِنِّية، ثم نَضِجت، على ما يبدو بين عشية وضحاها، لتصبح امرأة شابة شديدة الجاذبية، ولكن بذاكرة سيئة للغاية.
انحنيتُ إلى الأمام وضغطتُ على أحد أزرار جهاز الاتصال الداخلي. استجابت الشاشة على الفور، لتظهر صورة رجل أشيب الشعر، تبدو على وجهه أمارات التعب.
قلتُ: «أفيري، يجب أن أتحدَّث إليك.»
«أرجوك ليس الآن يا بُنيَّ. أنا مرهق. ألا يمكن إرجاء الأمر؟»
احتفظَ أفيري كولينجسورث — الحائز على درجة الدكتوراه — بامتيازِ أن يدعوني «بُنيَّ»، على الرغم من أنه كان أحد مرءوسيَّ. لكنني لم أمانع؛ لأنني كنت ذات يوم أكُدُّ باجتهاد لحضور دروسه في علم الإلكترونيات النفسية. ونتيجةً لهذه الصلة، أصبح الآن مستشارًا نفسيًّا في شركة ريأكشنز المحدودة.
قلتُ له مؤكدًا: «الأمر ليس له أي صلة بالشركة.»
ابتسم. وقال لي: «في هذه الحالة، أعتقد أنه يمكنني مساعدتك. لكن بشرط واحد. عليك أن تقابلني في حانة ليمبي. بعد تدريب اليوم أريدُ …» ثم خفضَ صوته: «… أن أُدخِّن.»
قلتُ موافقًا: «في حانة ليمبي بعد ١٥ دقيقة.»
أنا لا أخالف القوانين عادةً. غير أنه ليس لديَّ قناعة جازمة بالتعديل رقم ٣٣. أعتقد أن مجموعات ضبط النفس لديها وجهة نظر. على الأقل، فإن الرأي القائل بأن النيكوتين يضرُّ بصحة الفرد وأخلاق الأمة لم يأتِ من دون إحصاءاتٍ داعمة.
غير أنني أعتقد أن التعديل رقم ٣٣ لن يصمد. إنه لا يحظى بشعبية كما كان الحال مع التعديل رقم ١٨ قبل قرن من الزمان. ولا أرى سببًا يمنع المرء من التدخين بين الحين والآخر إذا توخَّى الحذر، حتى لا ينفث دخانه في اتجاه الحُراس المسئولين عن سلامة رئتَينا.
ولكن عندما اتفقتُ على مقابلة كولينجسورث في أحد أماكن التدخين السرية خلال ١٥ دقيقة، لم آخذ اعتصام راصدي ردود الأفعال المعتمَدين في الحسبان. لا يعني ذلك أنني وجدتُ صعوبة في تجاوز الحشود المعتصِمة أمام المبنى. أوه، لقد أحدثوا جَلَبة قوية عندما مررتُ بهم. بل إنني سمعتُ بعض التهديدات. غير أن سيسكين كان قد استخدم نفوذه واستَقدَم مجموعةً من أفراد الشرطة لتظل مرابطةً في المكان على مدار ٢٤ ساعة.
ما أخَّرني حقًّا هو حشدٌ من جامعي الآراء الذين يختارون دائمًا وقتًا متأخرًا بعد الظهيرة ليبذلوا فيه أقصى جهودهم في العمل؛ حيث يمكنهم الانقضاض على جموع الناس المغادِرة لمكاتب العمل ومتاجر وسط المدينة.
تقع حانة ليمبي على مسافة بضعة مربعاتٍ سكنية فقط من شركة ريأكشنز. ومن ثَم، سلكتُ الرصيف المتحرك المنخفض السرعة، ما جعلني فريسة سهلة لأي مستطلِع آراء يعترض طريقي. وقد اعترضوا طريقي بالفعل.
كان أولهم للمصادفة يريد أن يعرف رأيي بالتفصيل في التعديل رقم ٣٣، وما إذا كان لديَّ أي اعتراض على استخدام سجائر خالية من الدخان والنيكوتين.
وما إن غادر حتى تقدَّمتْ نحوي سيدة مُسِنة، ممسكة بدفتر ملاحظات، لتسألني عن رأيي في زيادة أسعار أُجرة رحلة ماكورثر إلى القمر. ولم يُشكِّل كوني لم أتوقَّع يومًا القيام برحلة كتلك أيَّ فارق في الأمر.
عندما انتهت من عملها، كنت قد تخطيتُ ثلاثة مربعاتٍ سكنية من حانة ليمبي، واضطُررتُ إلى المرور بمربعَين سكنيَّين آخرَين كي أصل إلى أول رصيف تحويل.
اعترضَ طريقَ عودتي راصدُ ردود أفعال معتمَد آخر. رفضَ بأدب طلب استبعادي من استطلاعه، متمسكًا دون تردد بحقوقه التي يكفلها له قانون راصدي ردود الأفعال. أخبرتُه بنفاد صبرٍ أنني لا أعتقد أن قلقاس المريخ المُعلَّب، الذي أجبرني على ابتلاع عينة منه، سيَلقى أيَّ قَدْر مبرَّر من الطلب لدى الجمهور.
كانت تمر عليَّ أوقات — وكان هذا بالتأكيد أحدها — أتطلع فيها ببعض اللهفة إلى العصر الذي ستكتسح فيه المحاكاة الإلكترونية الشوارع، وتُخلِّصنا من جميع راصدي ردود الأفعال المعتمَدين الذين يشبهون أسرابَ النحل.
وصلتُ متأخرًا ١٥ دقيقة عن الوقت المتفَق عليه، وسرتُ عبر متجر التُّحف الذي كان بمثابة واجهة لحانة ليمبي التي كان الناس يُدخِّنون فيها سرًّا.
بالداخل، انتظرتُ حتى تتكيَّف عيناي مع الظُّلمة ذات الضباب الأزرق. عَلِقت في الهواء رائحةُ التبغ المحترق اللاذعة والعَذبة في الآن نفسه. وملأ جنباتِ الغرفة صوتٌ غامِر، فأحاطها بشعور دافئ حيث همسَت جدرانُها المكسوَّة بالمفروشات بأنَّات أغنية من زمانٍ فائت «يدخل الدخان إلى عينَيك» (سموك جيتس إن يور آيز).
وقفتُ عند طاولة الشراب أنظرُ حولي إلى الطاولات والمقصورات. لم يكن أفيري كولينجسورث قد وصل بعد. وتخيَّلتُه في مشهدٍ مُضحِك ومثير للشفقة في الآن نفسه، وهو يحاول جاهدًا تَفادي أحد مستطلِعي الآراء.
جاء ليمبي يَعرج عبر الممر الضيق بجوار طاولة الشراب. كان رجلًا قصيرًا بدينًا، يبدو دائم التوتر، يعاني رعشةً في جفنه الأيسر تُضفي عليه مظهرًا كاريكاتوريًّا.
سألني: «أتريد شرابًا أم سيجارة؟»
«القليل من كلَيهما. هل رأيتَ دكتور كولينجسورث؟»
«لم أَره اليوم. أيَّ شراب تريد؟»
«سكوتش أسترويد، ضِعف الكمية. وسيجارتَين بالمنثول.»
وصلت السيجارتان أولًا، موضوعتَين بأناقة في علبة بلاستيكية ذات غطاءٍ قلَّاب. أخرجتُ واحدةً وطَرقتُها على منضدة الشراب، ثم وضعتُها بين شفتيَّ. وعلى الفور، اقتربَ أحدُ مساعِدي ليمبي وفي يده قدَّاحة مملوءة ومتَّقدة ليُشعِل لي السيجارة.
انساب الدخانُ إلى حَلْقي بمذاقه الحارق، لكنني تمكَّنتُ من قمع رغبتي في السعال. وما هو إلا نَفَس آخر أو نَفَسان حتى زال عني ذلك الإحساسُ الذي ينتاب غير المعتادين على التدخين. وعندما اجتاحَ الدخانُ اللاذع أنفي وحَلْقي، شعرتُ بتلك النشوة والدُّوار الممتِع للنفس.
بعد قليل، ازداد شعوري بالنشوة مع تناولي رشفةً من السكوتش ذي المذاق الملطِّف. ارتشفتُه ممتنًّا، ورُحتُ أجول بناظري في أرجاء الغرفة شبه الخالية. كان الضوءُ خافتًا، وكان المدخِّنون يتحدَّثون في هدوءٍ حتى اختلطَت همساتُهم وهمهماتُهم بنغمات الموسيقى الغابرة.
كانت نغماتُ أغنيةٍ أخرى من الماضي تنسابُ عبر مكبرات الصوت، «سيجارتان في الظلام» (تو سيجاريتس إن ذا دارك). ووجدتُ نفسي أتساءل عن رأي جينكس في التعديل رقم ٣٣، وعن إحساسي لو أني استرخيتُ برفقتها في حديقةٍ علوية، أشاهدُ وهجَ سيجارةٍ وهو يُلقي بظلالٍ قرمزية على نعومة وجهها الحريري.
أكَّدتُ لنفسي للمرة المائة أنه لم يكن من المحتمَل أن تكون لها أي علاقة باختفاء رسم فولر الغامض. راجعتُ المشهدَ بتفاصيله في ذهني. لقد رأيتُ الرسم وأنا أقودها إلى الباب. وعندما عدتُ إلى المكتب، كان قد اختفى.
ولكن إذا لم تكن متورطة في الأمر بطريقةٍ ما، فلماذا أنكرت معرفتَها بمورتون لينش؟
تجرَّعتُ ما تبقَّى من السكوتش، وطلبتُ كأسًا أخرى، ودخَّنتُ سيجارتي لبعض الوقت. كم كان الأمر سيصبح بسيطًا إذا تمكَّنتُ من إقناع نفسي بأنني لم أرَ مورتون لينش، وأنه لم يكن موجودًا على الإطلاق! في تلك الحالة، ما كانت وفاة فولر لتُحدِق بها الشكوك، وستكون جينكس مُحِقة في إنكار معرفتها به. غير أن ذلك لن يُقدِّم تفسيرًا واضحًا لاختفاء الرسم.
جلسَ شخصٌ على المقعد المجاور لي، ووضعَ يده الممتلئة برفق على كتفي. «اللعنة على المتطفلين!»
رفعتُ نظري لأجده أفيري كولينجسورث. وسألتُه: «هل نالوا منك أنت أيضًا؟»
فأجابني: «أربعة منهم. أحدُهم أجرى معي استطلاعًا حول العادات الشخصية لأعضاء نقابة الأطباء. كنت أفضِّل أن يُقتلَع لي سِن على أن أقابله.»
أخرج ليمبي غليون كولينجسورث، كان تجويفه مملوءًا بمزيج الحانة الخاص، وطلب له شراب الويسكي الصافي.
قلتُ متمعِّنًا بينما يُشعِل غليونَه: «أفيري، أودُّ أن أناقشَ معك لغزًا في رسمٍ ما. إليك ما في هذا الرسم. إنه يُصوِّر محاربًا إغريقيًّا في يده حَربة، ينظر عن يمينه ويتقدَّم خطوة. وأمامه سلحفاة تتحرك في الاتجاه نفسه. أولًا: بماذا يوحي لك هذا الرسم؟ ثانيًا: هل رأيتَ شيئًا مُشابهًا مؤخرًا؟»
«لا. أنا … مهلًا، ما هذا الرسم؟ كان من الممكن أن أكون الآن في منزلي آخذ حمامًا.»
«لقد تركَ الدكتور فولر هذا الرسم لي. لنفترضْ أولًا أنَّ له مغزًى معينًا. وكل ما هنالك أنني لا أستطيع فَهْم معناه.»
«إنه شيءٌ غريب، إذا كنت تريد رأيي.»
«حسنًا، إنه شيءٌ غريب. ولكن هل له أي دلالة؟»
تأمَّله مليًّا وهو ينفث غليونه مُستغرِقًا في التفكير. ثم قال: «ربما.»
وردًّا على صمته المتواصل، سألتُه: «حسنًا، ماذا؟»
«زينو.»
«زينو؟»
«مفارقة زينو. أخيل والسلحفاة.»
طقطقتُ أصابعي وقلتُ في نفسي: «بالطبع!» لا يتمكَّن أخيل في سباقه مع السلحفاة من اللحاق بها مطلقًا؛ لأنه في كل مرة يقطع فيها نصفَ المسافة بينهما، تكون السلحفاة قد تقدَّمت عنه بمسافةٍ مكافِئة.
سألتُ متحمِّسًا: «أتظن أنَّ هذه المفارقة تنطبقُ بأي حالٍ على مجال عملنا؟»
هزَّ كتفَيه في النهاية. وقال: «لا توجد لديَّ الآن إجابة حاضرة. ولكني على أي حالٍ غير مسئول إلا عن الجزء الخاص بالبرمجة النفسية في العملية. ولا أستطيع التحدُّث بشكلٍ رسمي عن المراحل الأخرى.»
«إنَّ خُلاصة المفارقة، على ما أتذكَّر، هو الافتراض بأنَّ الحركةَ مجردُ وهم.»
«بالضبط.»
«لكن هذا لا ينطبق على أي شيءٍ لدينا، على حدِّ علمي.» من الواضح أن مفارقة زينو لم تكن هي ما يعنيه فولر في رسمه.
مدَدتُ يدي إلى كأسي، لكن أفيري أَوقفَ ذراعي. وقال: «لن أعوِّل بجدية على أي شيءٍ فعله فولر خلال الأسابيع القليلة الماضية. كان يتصرَّف بغرابةٍ شديدةٍ كما تعلم.»
«ربما كان لديه سببٌ وراء ذلك.»
«لا يوجد سببٌ يفسِّر كلَّ تلك الغرابة.»
«هلَّا تذكر لي مثالًا؟»
زمَّ شفتيه. وقال: «كنت ألعب معه الشطرنج قبل الحادث بليلتَين. وقد ظلَّ يشرب طَوال الليل. والغريب في الأمر أنه رغم ذلك لم يَسكَر.»
«لا بد إذن أنه كان مشغولًا بشيء ما؟»
«لم أتمكَّن من تحديد شيءٍ بعينه، لكنني لاحظتُ أنه لم يكن على طبيعته بالتأكيد. وقد ظلَّ يتحدَّث بحماس عن الغاية الفلسفية.»
«هل كان حديثه حول البحث في مجال العلاقات الإنسانية وتحسينها؟»
«أوه لا، ليس شيئًا من هذا القبيل. ولكن … حسنًا، لأَصدُقك القول، لقد تخيَّل أن عمله مع شركة ريأكشنز كان على وشك أن يؤتي ثماره من خلال ما أسماه «اكتشافًا أساسيًّا».»
«أيُّ نوعٍ من الاكتشافات؟»
«لم يقُل.»
كان هذا تأكيدًا لظنوني نوعًا ما. فقد تحدَّث لينش أيضًا عن «سِر» فولر؛ أي: المعلومات التي كان ينوي الاحتفاظ بها لي. في ذلك الحين، كنت على يقين أن لينش قد جاء بالفعل إلى حفل سيسكين، وأنني تحدَّثتُ إليه في الحديقة العلوية.
أشعلتُ سيجارتي الثانية.
«لمَ أنت مهتم للغاية بكل هذا يا دوج؟»
«لأنني لا أعتقد أن موت فولر كان حادثًا.»
وبعد برهة قال بجدية: «اسمع يا بُنيَّ. أنا على علم بكل عناصر الخلاف بين سيسكين وفولر، بدءًا من تخصيص وقت البحث الاجتماعي وكل تلك الأمور. ولكن لا أظنُّك تعني بذلك أن سيسكين يائسٌ لدرجة أن يُجرِي تصفية جسدية …»
«لم أقُل ذلك.»
«بالطبع لم تقُل ذلك. ومن الأفضل ألَّا تقوله، أبدًا. سيسكين رجل له نفوذ ومحب للانتقام.»
وضعتُ كأسي الفارغة على الطاولة. وقلت: «من ناحية أخرى، كان بإمكان فولر أن يجد طريقه معصوبَ العينَين وسط أسلاك مولِّدات الوظائف المتشابكة كالأحشاء. إنه آخِر شخصٍ يمكن أن يصطدم بسلك عالي الجهد.»
«هذا صحيح عن فولر في حالته الطبيعية، ولكن فولر صار غريب الأطوار. ليس فولر الذي عرفتُه في الأسابيع القليلة الماضية.»
تناولَ كولينجسورث شرابَه أخيرًا. ثم طرقَ بكأسه على طاولة الشراب وأعادَ إشعال غليونه. بدَت ملامحه أقل حِدَّة في الضوء المنبعث من تجويف الغليون. وقال معقِّبًا: «أظن أنني أستطيع أن أُخمِّن ماهيةَ اكتشافِ فولر الأساسي.»
أصابني التوتر. وسألتُه مستوضحًا: «أحقًّا تستطيع؟»
«بالطبع. أراهنُ أنه له علاقة كبيرة بموقفه تجاه وحدات رد الفعل الذاتية في جهاز المحاكاة الذي صمَّمه. إن كنتَ تَذكُر، فقد كان يشير إليها عادةً باعتبارها «أناسًا حقيقيين».»
«لكنه كان يمزح ليس غير.»
«أكان يمزح حقًّا؟ أتذكَّر أنني سمعتُه يقول: «تبًّا! لن نضع أيًّا من مستطلعي الآراء التناظُريِّين في هذا النظام!»»
قلتُ شارحًا: «لقد صمَّم النظامَ بحيث لا نُضطر إلى استخدام وحدات البحث لاستطلاع الآراء في الآلة لدينا. وقد رَضي بنظام مختلف؛ من محفِّزاتٍ سمعية وبصرية، مثل لوحات الإعلانات، والإعلانات التي تُوزَّع باليد، والبث التلفزيوني المبتكَر. ونأخذ عينات ردود الأفعال من خلال النظر سريعًا في دوائر التقمُّص والمراقبة.»
سألني: «لماذا لا يوجد مستطلعو آراء في عالَم فولر الافتراضي؟»
«لأنه في الواقع أكثر كفاءة من دونهم. وسنتمكَّن من الحصول على معلوماتٍ أدقَّ حول السلوك الاجتماعي دون أن نتكبَّد العناءَ المزعج بأخذ عيناتِ الرأي شفهيًّا.»
«ذلك من الناحية النظرية. ولكن كم مرة سمعت فولر يقول: «لن أدع أيًّا من المتطفِّلين اللُّعناء يزعجون أُناسي الصغار»؟»
لقد كان محقًّا. وقد رأيتُ أنا أيضًا أن فولر قد بالغَ فيما تصوَّره من ذكاءٍ في وحدات الهُوية التي كان يُبرمِجها داخل محاكيه، ولم يكن لديه ما يبرِّر ذلك.
بسطَ كولينجسورث يدَيه وابتسم. ثم قال: «أعتقدُ أنَّ «الاكتشاف الأساسي» لفولر أنَّ وحدات رد الفعل لم تكن مجرد دوائر كهربائية ذكية في مجمعٍ للمحاكاة الإلكترونية، بل كانت شخصياتٍ حقيقية حيَّة ومفكِّرة. وأنا على يقين أنه كان يرى أنَّ لهم وجودًا حقيقيًّا. ربما في عالَم ذاتوي، ولكنه لم يشكَّ قطُّ في أن حياتهم السابقة كانت اصطناعية؛ أي إنه لم يظن أنَّ عالَمهم لم يكن عالَمًا حقيقيًّا متماسكًا وراسخًا وماديًّا.»
«ألا تؤمن بشيءٍ من قبيل …»
عكستْ عيناه اللتان بدا عليهما الابتهاجُ الوميضَ المتقطِّع لقدَّاحة سجائر مشتعلة بجانبه. وقال: «يا بُنيَّ، أنا مجرد عالِم نفس، سلوكي النزعة. تتَّبع فلسفتي هذا النهج عن كَثب. في حين أنك وفولر وجميع علماء المحاكاة الإلكترونية الآخرين تنتمون لسلالة غريبة. عندما تشرع في المزج بين علم النفس وعلم الإلكترونيات، وتضيف إلى ذلك جرعة غير مقيَّدة من الارتباطات الشرطية للاحتمالات، فمن المؤكَّد أنك ستحصل على قناعاتٍ شديدة الغرابة من هذه الفوضى. من الصعب أن تملأ آلة ما بأشخاصٍ دون التفكير أولًا في الطبيعة الأساسية للآلات والأشخاص.»
كان النقاشُ يأخذنا بعيدًا. حاولتُ إعادته إلى مساره. فقلت: «أنا لا أتفق مع افتراضك حول «الاكتشاف الأساسي» لفولر. وذلك لأنني أعتقد أنَّ اكتشافه هو نفسه ما أراد لينش أن يخبرني به.»
«لينش؟ مَن هو؟»
جفلتُ. ثم ابتسمتُ عندما أدركتُ أنه حتمًا قد سمع جينكس فولر تقولُ إنها لم تسمع قطُّ عن لينش. لا بد أنه يحاول المزاح معي بطريقته الخاصة.
تابعتُ قائلًا: «لو لم أكن حقًّا قد صدَّقتُ رواية لينش حول «سِر» فولر، لمَا ذهبتُ إلى الشرطة.»
«لينش؟ الشرطة؟ عمَّ تتحدَّث؟»
بدأتُ أشكُّ في كونه يتحدَّث بجدية. فقلت له: «أفيري، لستُ في مزاجٍ يسمح بالمزاح. إنني أتحدَّث عن مورتون لينش!»
هَز رأسه بعناد. وقال: «لا أعرفُ هذا الرجل.»
قلتُ وقد كدتُ أصرخ: «لينش! مسئول الأمن في شركة رين!»
أشرتُ إلى كأس برونزية بَهيجة الشكل خلف طاولة الشراب. وقلتُ: «ذلك هو لينش! الرجل الموضوع اسمه على تلك الكأس بعد هزيمتك أمامه في بطولة ألواح المقذوفات العام الماضي!»
أشارَ كولينجسورث بيده عبر طاولة الشراب، فجاءه ليمبي. ومن ثَم سأله: «أيمكنك أن تخبر السيد هُول مَن كان رئيس الأمن الداخلي في المُنشَأة على مدى السنوات الخمس الماضية؟»
أشارَ ليمبي بإبهامه نحو رجل في منتصف العمر مُكفهِرِّ الوجه يجلس على المقعد الأخير. ثم قال: «جو جادسِن.»
«والآن يا ليمبي، ناوِل السيد هُول هذه الكأس.»
قرأتُ النقش: «أفيري كولينجسورث، يونيو ٢٠٣٣.»
ترنَّحَت الغرفةُ ودارت بي، وبدا أن رائحة التبغ اللاذعة تندفع عاصفةً وتُغلِّفني كالضباب. تلاشت الموسيقى، وآخِر ما أَتذكَّره كان محاولتي أن أتمالكَ نفسي بالتشبُّث بطاولة الشراب.
لكن لا بد أنني لم أفقد الوعي تمامًا. فما أتذكَّره بعد ذلك أنني اصطدمتُ بشخصٍ على الرصيف الثابت بجوار سير المارَّة الأبطأ سرعةً. استفقتُ واتكأتُ على مبنًى على بُعد عدة بنايات من مكان التدخين السري.
لا بدَّ أنها كانت نوبة أخرى، ولكنني فيما يبدو ظللتُ خلالها مالكًا زمامَ نفسي. ربما حتى لم يلحظ أفيري أنَّ شيئًا لم يكن على ما يُرام. وها أنا أستعيدُ وعيي فجأة، شعرتُ أنني مُشوَّش ومُضطرِب، ورحتُ أُحدِّق عميقًا في سماء الشفق.
فكَّرتُ في أمر لينش وأنا أشعر بالعجز، في اسمه على الكأس، وفي رسم فولر. هل اختفى كلُّ هذا حقًّا؟ أم تُراها كلها تهيُّؤاتٍ من نَسج خيالي؟ لماذا بدا النظام والمنطق يتداعيان فجأةً من حولي؟
عبرتُ منصة تحويل الرصيف المتحرك متحيِّرًا من أمري، وتوجَّهتُ نحو الجانب الآخر من الطريق. كانت حركة المرور خفيفة، ولم تكن هناك سياراتٌ طائرة على وشك الهبوط على أقرب منطقة هبوط مركزية. بالأحرى لم أجد أيًّا منها حتى اقتربتُ مسافة ٢٠ قدمًا من الجزيرة.
ثم جاءت سيارةٌ طائرة تنقضُّ خارجةً من الغبار المتجمِّع، تعوي بصافرة الطوارئ. يبدو أنها كانت خارجةً عن السيطرة؛ فقد اهتزَّت بعنفٍ، حيث انزلقت خارجةً تمامًا عن مسار شعاع توجيه الهبوط، واتجهت نحوي مباشرةً.
هُرعتُ إلى الرصيف المتحرك العالي السرعة. كادت حركة السير المفاجئة ترمي بي مرةً أخرى أسفل السيارة الهابطة. لكنني تمسكتُ وتمالكتُ زمام نفسي في النهاية لأعتدل في جِلستي وأنظر خلفي.
أسندَت السيارةُ الطائرة نفسَها آليًّا باندفاعٍ هوائي للطوارئ أوقفَ زخمَها أخيرًا على بُعد بوصةٍ واحدةٍ من الطريق.
لو لم أكن قد خرجتُ عن المسار، لكانت الريشات الداخلية قد مزَّقَتني إرْبًا إرْبًا، ولم تترك مني شيئًا يمكن الاستدلال به على هُويتي.