الفصل الثامن
للمرة الأولى منذ أسابيع أتحرَّر أخيرًا من شبح موت فولر. وكانت الحوادث الوهمية التي أعقبت ذلك الحادثَ الذي حدث في اليقظة بمثابة كابوس يفقد بؤرة تركيزه الواضح في ضوء الفجر النقي الصافي. لقد استعدتُ نفسي من حافة مروِّعة، بفضل أفيري كولينجسورث.
جنونُ الارتياب الكاذب. كان ذلك تفسيرًا منطقيًّا للغاية، حتى إنني تساءلتُ كيف لم يخطر ببالي أو ببال فولر أن علاقتنا الوثيقة بمحاكي البيئة الشامل و«أشخاصه الصغار» الشديدي الشبه بالأشخاص الحقيقيين؛ ستتسبَّب في مخاطر نفسية غير متوقَّعة.
بالطبع كانت لا تزال هناك بعض التعقيدات التي سيُكشَف عنها. كان يتعيَّن على دوروثي فورد، على سبيل المثال، أن تعلم أنَّ مغامرتنا في «ركن تيارات القشرة الدماغية» لم تكن تعني شيئًا بالنسبة إليَّ. ومع أنني استمتعتُ بالسباحة، إذا جاز التعبير، فلم أكن لأتخذها عادة. لا سيَّما بعد أن أظهرت تجاربُ استثارة القشرة الدماغية بوضوحٍ انشغالي بجينكس فولر.
لكن دوروثي كانت قد فهمت بالفعل. اكتشفتُ ذلك في صباح اليوم التالي عندما توقَّفتُ أمام مكتبها.
قالت مبتعدة: «بالنسبة إلى ليلة أمس يا دوج. فكما قلتُ، لكلٍّ منا وظيفته. ويجب أن أؤدي وظيفتي بإخلاص. ليس لديَّ خيارٌ آخر.»
تساءلتُ أيُّ سيفٍ ذلك الذي يضعه سيسكين فوق رقبتها. بالنسبة إليَّ، كان سيفًا ذا حَدَّين؛ التهديد بتصعيد تحقيقات الشرطة حول وفاة فولر، والتي سأكون فيها كبشَ الفداء، واتخاذه القرارَ بتخصيص جزءٍ من استخدام المحاكي لأغراض البحث الاجتماعي.
أضافت دوروثي بنبرةٍ أقل رسمية: «الآن بعد أن عرفنا موقفنا، لن يكون هناك أيُّ سوء فهم.» ثم زادت نبرتها نعومة وهي تلمس يدي. وقالت: «وما زال بإمكاننا الاستمتاع معًا يا دوج.»
لكني بقيتُ متحفِّظًا؛ لأنني لم أكن أعرف إلى أي مدًى تعمَّقتْ في أفكاري خلال جلسة تيارات القشرة الدماغية.
بعد يومَين، تفاقمَ قلقي بشأن ما يُحتمَل أن تكون قد علمَته حول نواياي وأخبرَت سيسكين به، وكان لقلقي هذا ما يبرِّره. حدثَ ذلك عندما استُدعيتُ إلى المؤسسة الداخلية.
هبطت سيارة الليموزين الطائرة فوق منصة للهبوط خارج الطابق ١٣٣ من مبنى «بابل سنترال» التابع للمؤسسة الداخلية. كان سيسكين ينتظر بنفسه عند مدخل مكتبه.
وضعَ يده على كتفي وسار بي فوق سجاجيد هشَّة كالسحاب من الستايرين. توقَّف بجوار مكتبه الضخم الذهبي الحوافِّ، وحدَّق عبر النافذة الكبيرة في المشهد بالخارج. بعيدًا في الأسفل، بدَت المدينة وكأنها لوحةٌ بعيدة وضبابية، يغشاها ضباب خفيف، ونصفها مخفي بحفناتٍ منجرفة من القطن المنفوش.
قال فجأة: «ثمة خطبٌ ما في قانوننا الخاص براصدي ردود الأفعال. أُوقفَ العملُ به مؤقتًا. لن يُتخَذ أيُّ شيءٍ حياله في الجلسة الحالية.»
جاهدتُ نفسي كي أُخفي ابتسامة سعادة بعدم ارتياح سيسكين. كان مجرد التهديد بحظر استطلاعات الرأي العام، باعتبارها إزعاجًا للعامة هو ما هَدَّأ من حِدَّة هجوم اتحاد راصدي ردود الأفعال ضد شركة ريأكشنز. وعقَّبتُ بقولي: «يبدو أنَّ راصدي ردود الأفعال أكثر بطشًا مما كنتَ تتخيَّل.»
«لكن هذا غير منطقي. أكَّد لي هارتسون أنه مسيطر تمامًا على اللجنة بأكملها.»
هززتُ كتفي مُستهجِنًا. وقلت: «حسنًا، ها قد فشلتْ حِيَلك. لا شيءَ يمكن أن يُوقِف مستطلعي الآراء عن إضرابهم الآن.»
ابتسمَ ابتسامةً عريضة فجأة، وقال: «لست متأكِّدًا من ذلك.» ثم سألني: «إلى أي مدًى يمكنك شرح فكرة استخدام المحاكي «سميولكرون-٣» في تشكيل مستقبل العلاقات الإنسانية في الألفية الجديدة؟»
قلتُ مرتبكًا: «لديَّ قناعاتي. لكنني لا أظن أنني مستعدٌّ لإلقاء خطاب عنها أمام العامَّة.»
«هكذا أُفضِّل أن يكونَ الأمرُ تمامًا. بتلك الطريقة سيظهر الصدقُ في كلامك.»
تحدَّث بحِدَّة عبر جهاز الاتصال الداخلي: «أَدخِليهم.»
دخلوا، وكانوا مجموعة من مصوِّري البرقيات، والمراسِلين، ومصوِّري الشبكات الإعلامية، والمعلِّقين الميدانيين. اجتمعوا حول المكتب، وطوَّقونا في نصف دائرة مُحكَمة.
رفعَ سيسكين يديه مشيرًا لهم بأن يصمتوا.
قال: «كما تعلمون، فإن شركة ريأكشنز تتعرَّض لضغوط قسرية من قِبَل اتحاد راصدي ردود الأفعال. سيَدعُون لإضرابٍ ويجلبون الفوضى الاقتصادية، هكذا أخبَرونا، ما لم نتخلَّ عن مشروعنا، ونحرم البلاد من هذه الفائدة الاجتماعية العُظمى في عصرنا.»
اعتلى كُرسيًّا وصاح بصوتٍ علا خريرَ أصواتِهم المتشكِّكة:
«حسنًا، أعرف ما تفكِّرون فيه، تعتقدون أنَّ هذه حيلة دعائية. حسنًا، إنها ليست كذلك! أنا أجاهد لإنقاذ جهاز المحاكاة الخاص بنا — جهاز المحاكاة الخاص بكم — لأنه ليس مجرد مشروع مُربِح. إنه أيضًا الأداة التي ستجلب مستقبلًا باهرًا وجديدًا للجنس البشري! سوف يأخذ البشرية إلى مستوًى أعلى بكثير من الوَحل البدائي الذي تمرَّغتْ فيه منذ فجر التاريخ!»
تركَ لهم الوقتَ لاستيعاب كلامه، ثم قال: «سأدَعُ القوة المُحرِّكة وراء محاكي البيئة الشامل يمدُّكم بالتفاصيل بنفسه، إنَّه دوجلاس هُول.»
لم تكن استراتيجية سيسكين غامضة. إذا تمكَّن من إقناع الجمهور بأنَّ معجزة المحاكاة الإلكترونية الخاصة به ستُوسِّع نطاقَ الإنجاز البشري المُذهِل، فلن تتمكَّن أيُّ قوة — بما في ذلك راصدو ردود الأفعال — من اعتراضِ طريق شركة رين.
استقبلتُ الكاميرات مضطربًا. وقلتُ: «يُوفِّر جهازُ المحاكاة فرصةً رائعة للبحث في مجال العلاقات الإنسانية. احتلَّتْ تلك الفرصة المكانةَ الأسمى في عقل الدكتور فولر.»
توقَّفتُ قليلًا، حيث أدركتُ فجأةً شيئًا لم أدركه من قبل، وهو إذا كان بإمكان الرأي العام احتواءُ هجوم اتحاد راصدي ردود الأفعال، فربما يكون في إمكانه أيضًا ضمانُ قَصْر استخدام النظام على تحسين العلاقات الاجتماعية! سيهُبُّ الناسُ غاضبين ضد المؤسسة، عندما أُخبرهم أنَّ آلة سيسكين لن تُستخدَم إلا لتحقيق الطموحات الشخصية والسياسية!
تابعتُ في حماس. وقلت: «لدينا هنا أداة جراحية قادرة على تشريح النفس البشرية نفسها! يمكنها تحليلُ الإنسان، كل دافعٍ وكل غريزة على حِدة. يمكنها التعمُّق إلى لُب البواعث الأساسية، والمخاوف، والتطلعات. يمكنها تتبُّع كلِّ سمة تدخل في تكوين أي فرد ودراستها وتحليلها وتصنيفها وشرح كيفية التعامل معها. يمكنها شرح مصادر التحيُّز، والتعصُّب، والكراهية، والمشاعر المنحرفة والكشف عنها. من خلال دراسة الكيانات التناظرية في نظام مُحاكًى، يمكننا تصوُّر العلاقات الإنسانية بأكملها. وبتحفيز تلك الوحدات التناظرية، لن نتمكَّن من ملاحظة الكيان فحسب، ولكن أيضًا كل خطوة في تطوُّر الميول المعادية للمجتمع غير المرغوبة!»
تقدَّم سيسكين خطوةً إلى الأمام. وقال: «يمكنكم أن ترَوا أيها السادة أنَّ السيد هُول متعصِّب بعضَ الشيء لموضوعه. لكن مؤسسة سيسكين لن تقبل بأقل من ذلك.»
استأنفتُ حديثي. وقلت: «في بيئة «سميولكرون-٣» الخاضعة لشروط معينة، نتوقَّع عزلَ أنواعٍ مختلفة من وحدات رد الفعل، من الأطفال التناظريين خلال جميع الفئات العمرية. وبأسلوب منهجي، سندفعهم في اتجاهٍ ما أولًا، ثم في اتجاه آخر، مستخدِمين في ذلك جميعَ المحفِّزات المحتمَلة التي ستُخرِج منهم أفضلَ وأسوأ ما فيهم. ونتوقَّع أن نحرز تقدُّمًا في مجال دراسة السلوك البشري يفوق ما هو موجود حاليًّا بآلاف السنين.»
ما كنت أقوله لم يكن كلامي. لم يكن سوى تكرار لعباراتٍ ألقاها فولر عليَّ بحماس جامح على مَر السنين. ولم يكن يسعني إلا أن أتمنَّى أن أُعبِّر عنها بصدقٍ مماثِل لصدقِ كلماته.
قلتُ ملخِّصًا كلامي: «سيُضيء لنا المحاكي الطريقَ إلى العصر الذهبي للعلاقات الإنسانية. سيُبيِّن لنا كيف نحرِّر أرواحنا الفانية من البقية المتبقية من أصولها الحيوانية.»
تولَّى سيسكين زمامَ الحديث. وقال: «قبل أن تبدءوا في طرح أسئلتكم، أريدُ أن أوضِّح بعضَ التفاصيل الأقل رونقًا. بداية، لقد أقدَمتْ مؤسستُنا على هذا العمل بهدف تحقيق الربح. ولكنني رفضتُ هذا الحافز منذ فترةٍ طويلة. اليوم أريدُ تكريس كامل طاقة المؤسسة لأشهدَ اليوم الذي تتحقَّق فيه كلُّ هذه الأشياء الرائعة المتوقَّعة من محاكي السيد هُول.»
تركتُه يقرُّ بالأمر بنفسه. وعندما يحين الوقت، سيكون كلُّ ما عليَّ فعله هو أن أتركَ الحديثَ عن مؤامرة سيسكين والحزب يتسرَّب.
ثم قال بجدية: «سيكون لشركة ريأكشنز دورٌ تجاري أيضًا. ومع أنَّ الأمر لا يروق لي، فهكذا يجب أن تسير الأمور. أوه، كان بإمكاننا أنْ نسعى في الحصول على مِنَح حكومية بدلًا من ذلك. ولكن أيها السادة، عليكم أن تدركوا أنَّ هذه المؤسسة العظيمة الجديدة لا يمكن أن تَدين لأحد. يجب أن تعمل فوق كلِّ المستويات.»
سألَ أحدُ المراسِلين: «ماذا تقصد ﺑ «الدور التجاري»؟»
فأجابَ سيسكين: «أعني ببساطة أنه سيتعيَّن على الشركة استخدامُ المحاكي للحصول على القَدْر المعقول من الأموال اللازمة لتحقيق هدفها الإنساني. سوف تَقبَل شركة ريأكشنز العقودَ التجارية وعقود توقُّع السلوك. ولكنها ستكون بأعدادٍ قليلة بقدر الإمكان. بقدر ما يلزم فقط لتغطية العَجز السنوي للتشغيل، والذي سيكون كبيرًا حتى بعد المبلغ الذي سأتبرَّع به فورًا للمؤسسة وقدره ٢٥٠ مليونًا إضافيًّا.»
نال ذلك إعجاب مجموعة الصحفيين. وضيَّق الخناقَ حول عنق القزم سيسكين.
أمضينا نصفَ الساعة التالي في الإجابة عن الأسئلة. ولكن كان من الواضح أننا لم ندعْ مجالًا للشك. بعد مغادرة الصحفيين، رقصَ سيسكين كالحوريات ثم عانقني.
صاح: «لقد قدَّمتَ عرضًا جيدًا يا بُنيَّ، عرضًا عظيمًا! كما أنني لم أكن لأتمكَّن من فعل نصف ما فعلت!»
في اليوم التالي، فُتح البابُ على مصراعَيه لينهالَ سيلٌ جارف من تعقيبات الرأي العام حول تصريح سيسكين. ومن بين جميع التقارير الصحفية والبرامج التليفزيونية والأعمدة الإخبارية ومقالات الرأي، لم تكن ثمة كلمة معارضة واحدة. لم أرَ من قبل شيئًا يأسر مخيِّلة العامَّة مثل «الجهد الإنساني العظيم» الذي يبذله سيسكين.
قبل الظهيرة، مرَّر مجلسُ المدينة ومجلسُ النواب قرارات توصية. وعلى المستوى الوطني، كان إجراءٌ مماثل لمجلس الشيوخ في طريقه لأنْ يُصاغ.
بسرعة البرق، اقتُرحَ العديدُ من المنظمات الجديدة كحلفاء مع هذا «المسعى النبيل». أسفرَ اجتماعان موسَّعان عُقِدا في تلك الليلة عن تشكيل مجموعتَين منفصلتَين من المتحمسين، الذين استقروا على تسمية كلٍّ منهما باسم رفيع المستوى، كالتالي: «أنصارُ المحاكاة الإلكترونية، شركة محدودة»، و«المستقبل … بشريٌّ بالكامل». أظنُّ أنه كان يصعب على المرءِ أن يجد شخصًا لم يُصَب بُحمى المثالية هذه. أُحكمَت حلقة الخداع إلى هذه الدرجة.
عندما شعرَ اتحادُ راصدي ردود الأفعال بتزايد الدعم الجماهيري لشركة رين، قلَّلوا بحذر عددَ اعتصاماتهم إلى ١٠ اعتصاماتٍ فحسب. ولكن حتى في ذلك الحين، حُشدَت فِرقُ شرطة مكافحة الشغب لحمايتهم من جموع الغاضبين الغفيرة المتعاطفين مع سيسكين.
أما أنا، فقد كنت في قمة ابتهاجي، لخروجي من أعماق شكوكي الذاتية. لم تتلاشَ مشكلاتي الشخصية فحسب، بفضل نصيحة كولينجسورث، بل بدا أيضًا أن الانتصارَ على سيسكين والحزب بات حتميًّا.
مسلَّحًا في اعتزاز بدليل عودتي إلى حالتي الطبيعية الذي بات معروفًا للجميع، تواصلتُ مع جينكس عبر الهاتف المرئي عصرَ اليوم التالي، لأدعوها لتناول العشاء معي. ومع أنها لم تبدُ منبهرة بعض الشيء بالمسار الإنساني الذي رسمه سيسكين لشركة ريأكشنز، قبلتْ دعوتي في الحال. غير أنني شعرتُ بالانزعاج لِما بدا عليها من التردد.
عقدتُ العَزم على ضمان بداية جيدة لِما طرأ من تغيير، فدعوتُها إلى مطعم جونز لِيت سيكيستيز بأجوائه العَبِقة الزكية، ذلك المطعم المميَّز والفاخر الذي وصفَته الإعلانات بأنه: «لم يطرأ عليه تغييرٌ منذ أكثر من جيلَين».
فاحت رائحة الطعام الذكية المنبعثة من المطبخ المجاور حتى جذبَت انتباه جينكس أخيرًا (وهو طعامٌ طبيعي، وليس اصطناعيًّا). وبينما كنا ننتظر الطعام، تجاوبتْ جينكس تدريجيًّا مع التُّحف المتناغمة التي كانت تملأ أرجاء المكان، من كراسي وطاولات بالكاد تصلح للاستخدام، وقد بدت الطاولات بمظهر غريب بأغطيتها «القماشية»، علاوةً على المصابيح المتوهِّجة، وفرقة للوتريات كانت تعزف بعزم، على ما أظن، مختاراتها من «موسيقى الروك آند رول».
كانت النادلة التي أتت لأخذ طلباتنا ثم عادَت لاحقًا بها هي مَن مثَّلتْ قمة المفارقة التاريخية، التي جعلت جينكس تُعجَب كثيرًا بالمكان.
صاحت وأمامها سلطتها المُحضَّرة من خضراوات خضراء حقيقية: «أظن أن هذه فكرة مدهشة!»
فقلتُ: «جيد. إذن لا يوجد سببٌ يمنعنا من العودة إلى هنا مرة أخرى.»
«لا. لا أظن أن ثمة سببًا يمنعنا من ذلك.»
هل لاحظتُ مسحة من التحفُّظ؟ هل كانت لا تزال مُحترِزة مني؟
أخذتُ يدها. «هل سمعتِ من قبل عن جنون الارتياب الكاذب؟»
قطبت جبينَها في حيرة، فسلبَته بعضًا من نعومته.
تابعتُ: «أنا أيضًا لم أسمع به حتى تحدَّثتُ إلى كولينجسورث. وقد أوضحَ لي أن ما كنت أشعر به لم يكن سوى الآثار النفسية للعمل على جهاز المحاكاة. ما أحاول قوله يا جينكس هو أنني لم أكن في اتِّزاني منذ يومَين. لكنني عُدتُ إلى طبيعتي الآن.»
كانت قَسَماتُ وجهها جامدة ومشدوهة بعضَ الشيء، على الرغم من يقظتها … ناعمة، ولطيفة، وجميلة، ولكنها في الوقت نفسه باردة ومنعزلة.
قالت ببساطة: «يسعدني أن كلَّ شيءٍ على ما يُرام.»
بطريقة أو بأخرى، لم تكن الأمور تسير كما خطَّطتُ لها تمامًا.
التزمنا الصمتَ طوال فترة تناولنا للطبق الرئيسي تقريبًا. ثم قررتُ أخيرًا عدم الاستسلام لترددي بعد الآن.
انحنيتُ عبر الطاولة. وحدَّثتُها قائلًا: «قال كولينجسورث إنَّ أيًّا ما كان يضايقني لا يعدو كونه مؤقتًا.»
«أنا متأكِّدة أنه محقٌّ في ذلك»، لكن كلماتها كانت فاترة وثقيلة.
حاولتُ أن أُمسكَ يدها. لكنها سحبتها بكياسة بعيدًا عني.
قلتُ مثبَّطًا: «أتتذكَّرين تلك الليلة التي تجوَّلنا فيها بالسيارة الطائرة؟ سألتِني عما أسعى إليه في هذه الحياة.»
أومأتْ إيجابًا، ولكن بضجر.
قلتُ مشتكِيًا: «لم يسِر ذلك في الطريق الذي ظننتُه سيسلكه.»
جلستْ مكانها تحدِّق بي، والتردد يعبث بوجهها الذي يبدو عليه الانزعاج بوضوح.
سألتُها في حيرة: «ألم تخبريني أنكِ لم تكُفِّي قط عن التفكير فيَّ؟»
«أوه يا دوج، دعنا لا نتحدَّث عن ذلك. ليس الآن.»
«لماذا ليس الآن؟»
لم تُجب.
ظننتُها في البداية تهرب من شيءٍ كبير وغامض. ثم خُيِّل لي أن لا شيءَ يخيفها سواي. والآن لا أعرفُ فيما أعتقد.
أشارتْ إلى أنفها الذي بدا لامعًا على ما يُظَنُّ، واستأذنتْ متجهةً إلى نهاية الرواق، فكانت أنيقةً في إيقاع حركاتها، وجذبتْ نظراتِ الإعجاب طَوال الوقت.
ثم قبضتُ يدي وانحنيتُ للأمام. بقيتُ جالسًا مكاني لدقائق طويلة، أرتجفُ وأحاولُ إبعاد نفسي عن حافة هاوية مظلمة. تمايلَ المكانُ وخفَتَ، ومرَّ برأسي ألفُ نهر من لهب.
«دوج، هل أنت بخير؟»
أعادني صوتُ جينكس القَلِق، ولمسة يدها على كتفي إلى واقعي.
قلت كاذبًا: «لا شيءَ، مجرد صداع.»
ولكن عندما ساعدتُها على ارتداء معطفها، تساءلتُ عن ضمان كولينجسورث في كون النوبات التي كانت تأتيني مجرد حالة نفسية جسدية. ربما كان هناك أثرٌ ممتدٌّ عليَّ يُتوقَّع استمراره لفترة من الوقت، حتى بعد التخلص من بقية أعراض المشكلة.
لم يَزِدني اضطرابي إلا صمتًا ساد بيني وبين جينكس، عندما كنت أساعدها على ارتداء معطفها للعودة إلى المنزل. أمام باب منزلها، أمسكتُ بذراعها وجذبتُها نحوي. ولكنها أشاحت بوجهها بعيدًا. كان الأمر كما لو أنها قد كرَّسَت الأمسية بأكملها لهدفٍ وحيد، وهو ثَنْيي عن التقرُّب إليها.
رجعتُ عائدًا إلى الباب.
ثم، إمعانًا فيما اعترى سلوكها من تناقض، سألت بصوتٍ خافت يفتقر إلى الثقة: «سأراكَ مرة أخرى، أليس كذلك يا دوج؟»
ولكن عندما التفتُّ أخيرًا، كانت قد دخلت منزلها بالفعل.
لم أستطع ترك الأمسية تنتهي بهذه الملاحظة التي افتقدت أدنى درجات العقلانية. كان ثمة شيء وحيد يمكن فعله، وهو أن أرجع إليها وأن أُصرَّ على أن تعطيني مبررًا لبُعدها عني على هذا النحو.
تقدَّمتُ للأمام بخطواتٍ سريعة، ومددتُ يدي للضغط على جرس الباب. لم أكد ألمس الجرسَ حتى تأرجحَ البابُ منفتحًا. كنت قد نسيتُ أنَّ الدكتور فولر قد جعله يفتح بسعتي الحيوية.
وقفتُ عند عتبة الباب. وناديتُ: «جينكس.»
لكني لم أسمع جوابًا.
سِرتُ عبر غرفة المعيشة وغرفة الطعام ودلفتُ إلى المكتب. وقلتُ مجددًا: «جينكس؟»
تفقَّدتُ الغرفَ الأخرى، ثم تفقَّدتُ المنزلَ بأكمله مرة أخرى، ناظرًا خلف الأبواب، وفي الخزانات، وأسفل الأسِرَّة.
«جينكس! جينكس!»
هرعتُ إلى الباب الخلفي، وتحسَّستُ وحدة مؤازرته. كانت باردة. لم تُفتَح خلال نصف الساعة الماضي على أقل تقدير.
لكن جينكس كانت قد اختفت. بدا الأمرُ كما لو أنني تخيَّلتُ أنني رأيتُها تدخل المنزل.