الفصل التاسع
وجدتُ نفسي مرةً أخرى أمام بديلَين كلاهما يفتقدُ الحُجةَ بالقدر نفسه. إما أنَّ كولينجسورث كان مخطئًا في رأيه بأنَّ شفاء جنونِ الارتياب الكاذب يَكمُن في إدراكه فحسب. أو أنَّ جينكس فولر قد اختفت بالفعل.
بعد ساعاتٍ من البحث المحموم في منزلها، أوقفتُ السيارة الطائرة في المرأب، ثم سِرتُ متحيِّرًا أسفل الظلال العابسة خارج المبنى السكني. دون أن أدرك أنني وطئتُ بقدميَّ فوق الرصيف المتحرك البطيء، سرعان ما وجدتُ نفسي مندفعًا عبر أماكن هادئة ومهجورة من أرجاء المدينة.
حاولتُ دون جدوى التكيُّف مع المعضلة. لقد وقعَت حوادثُ اختفاءٍ من قبل. وأثبتت جينكس ذلك إلى حَد كبير. وذلك المصير نفسه الذي يَصعُب تصوُّره قد أصاب مورتون لينش، ورسْم أخيل والسلحفاة، والتذكار الذي عليه اسم لينش، وامتدادًا من الطريق، وكذلك ضواحي المدينة التي يمرُّ عبرها.
في حالتَي اختفاء لينش والرسم، كان لا يزال الأمر كما لو أنهما لم يكن لهما وجود من الأساس. عاد الطريقُ وضواحي المدينة إلى الظهور. ماذا عن جينكس؟ هل ستعود، وتتركني أتساءل عما إذا كنت قد بحثتُ فعلًا في منزلها ولم أستطع العثور عليها؟ أم أنني سرعان ما سأعلم أنه لم يسمع بها أحدٌ من قبل سواي؟
في ساعات الصباح الأولى، غادرتُ الرصيف المتحرك مرتَين للاتصال بمنزل جينكس. لكن لم يُجبني أحدٌ في كل مرة.
عندما كان الرصيف المتحرك ينزلق بي عبر مناطق وسط المدينة الخالية من المارَّة، كان بإمكاني أن أشعر بالحضور المروِّع لقوة غير معروفة تُطبِق عليَّ، قوة حازمة وخبيثة كامنة وراء كل ظِل.
قبل حلول الفجر، اتصلتُ ثلاثَ مرات أخرى. وكان كلُّ اتصال عقيم يُرجِع إليَّ الشكَّ الرهيب بأنني لن أسمعَ صوتها مرةً أخرى. ولكن لماذا؟ كان اختفاءُ لينش منطقيًّا. إنه كان يتحدَّى القوة المجهولة. ولكن جينكس قد أصرَّتْ على أنَّ وفاة والدها كانت قضاءً وقدَرًا.
رغم ذلك فهي مختفية الآن.
بعد شروق الشمس بقليل، تناولتُ كوبًا من القهوة في أحد المطاعم الآليَّة، ثم غادرتُ في غير عجلة إلى شركة ريأكشنز. وجدتُ هناك مجموعةً هَلِعة من معتصمي اتحاد راصدي ردود الأفعال، رابضين فوق الرصيف الثابت، تَحميهم من الجموع الغفيرة من داعمي سيسكين الغاضبين فِرقةٌ من أفراد شرطة مكافحة الشغب.
رفعَ أحدُهم ماسورةً ليُلقي بها على راصدي ردود الأفعال. غير أنَّ أحدَ ضُباط الشرطة صوَّب نحوه مسدسَ الليزر الخاص به. فانطلقَ منه ضوءٌ قرمزي مخروطيُّ الشكل أصاب الرجلَ، فسقطَ مشلولًا شللًا مؤقتًا. ومن ثَم، تراجعَ المتظاهرون.
أمضيتُ الساعةَ التالية أجوبُ مكتبي ذهابًا وإيابًا. وفي النهاية، دخلتْ دوروثي فورد وتراجعتْ متفاجِئة عندما وجدتني هناك في هذا الوقت المبكر للغاية، ثم استكملتْ طريقها إلى الخزانة.
قالت وهي تخلع قبعةً صغيرة مُدبَّبة برفق دون الإخلال بتصفيفة شعرها القصير: «ليس من السهل مراقبتُك. وهذا سيئ لأنَّ «عظيم الشأن قصير القامة» يظن على الأرجح أننا متآلفان الآن وكأننا نعيش معًا.»
ضغطتْ على زر الخزانة وانغلقَ بابُها. ثم أردفَت: «حاولتُ الوصول إليك طوال الليل، لكنك لم تكن في المنزل.»
«أنا …»
«ليس عليك أن تشرح لي. لم أكن أبحث عنك لشيءٍ يخصُّني. أراد سيسكين أن يتأكَّد فحسب من أنك ستحضر في وقتٍ مبكر اليوم.»
قلتُ بفتور: «ها قد حضرتُ مبكرًا. ماذا يريد؟»
ردَّت بقولها: «إنَّه لا يُفضي إليَّ بكل شيء.» ثم توجَّهتْ مرةً أخرى إلى غرفة الاستقبال، ولكنها توقَّفتْ قليلًا. وسألتني: «دوج، هل الأمر يخصُّ ابنة فولر؟»
كنت أنظر من النافذة في تلك اللحظة، فاستدرتُ بسرعة. كان لذِكر اسم جينكس وحده بالغُ الأثر عليَّ. لقد طمأنني أنه — حتى الآن على الأقل — لم تكن جينكس تمضي إلى نفس مصير لينش. ما زالت أدلة وجودها لا يمكن طمسُها.
قبل أن أتمكَّن من الرد، اندفعَ سيسكين إلى غرفة المكتب، متجهِّمًا في وجهي، وصاح: «يبدو أنك قضيتَ الليل في تجربة تيارات القشرة الدماغية!»
ثم وقعتْ عيناه على دوروثي وانفرجتْ تعابيرُ وجهه. أجال النظرَ في كلٍّ منا جيئةً وذهابًا. رمقني بنظرةٍ فاحصة مُدقِّقة وقد رفع حاجبَيه قليلًا. أما هي، فكان ينظر إليها نظرة استحسانٍ حاذقة لا تخلو من تلميحاتٍ شهوانية، مع ربتة لطيفة على ظهرها لكفاءتها في أداءِ عملها.
هزَّتْ كتفَيها وهي تمرُّ من ورائه، ورمقتني بنظرةٍ مفادها «ها أنت ترى ما يريد».
عندما ضغطتْ على الزر فاتحةً الباب، قال لها: «هناك رجلٌ ينتظر في غرفة الاستقبال. هلَّا تُدخِلينه؟»
سألتُ: «أهو رجلٌ آخر من رجال الحزب؟»
«لا. إنه شخصٌ في مجال عملك. ستعرفه.»
كنت أعرفُه بالفعل. إنَّه ماركوس هيث. كان قصيرًا، ولكنه لم يكن في قِصَر سيسكين. كان ممتلئَ الجسم، ولكنه ليس صُلب البِنية. وكان يرتدي نظارة سميكة العدستَين أبرزت القلقَ البادي في عينَيه الرماديتَين.
قال: «مرحبًا يا هُول. لم أرَكَ منذ وقتٍ طويل، أليس كذلك؟»
بلى، بالطبع. لم أرَه منذ المشكلة التي حدثت في الجامعة. ولكن من غير المحتمل أن يكون قد قضى كلَّ السنوات العشر الماضية في السجن. ثم تذكَّرتُ أنَّه قد حُكِم عليه بالسجن لمدة عامَين فقط.
قال سيسكين: «سيكون هيث مُساعِدك. لكننا سنعطيه جميعَ الصلاحيات.»
رمقتُ الرجلَ بنظرةٍ ناقدة. وسألتُه: «هل أنتَ على دراية بأحدث التطوُّرات في مجال المحاكاة الإلكترونية؟»
«أنا سابقٌ بخطوة يا هُول. لقد كنت مسئولًا عن العمل التقني في بارنفيلد.»
قال سيسكين متفاخِرًا: «لقد أحضرتُه من هناك. وهو معنا الآن.»
بارنفيلد هي المؤسسة الخاصة الوحيدة المنافِسة لشركة ريأكشنز في مجال أبحاث المحاكاة الإلكترونية.
اتكأتُ على المكتب. «هيث، هل يعرف السيدُ سيسكين كلَّ شيءٍ عنك؟»
تدخَّلَ سيسكين قائلًا: «أتقصد بخصوص ما حدث في الجامعة؟ بالطبع أعرف. بما يكفي لأدرك أنَّ هيث كان كبشَ فداء.»
ذكَّرتُه قائلًا: «لقد أُدينَ الدكتورُ هيث بارتكاب أفعال احتيالية تنطوي على إساءة استخدام أموال البحث العامة.»
قال هيث متوسِّلًا: «أنت لا تُصدِّق ذلك، أليس كذلك يا دوج؟»
«لقد اعترفت.»
وقفَ سيسكين بين كِلَينا. وقال: «أنا لست غبيًّا لأوظِّف رجلًا دون أن أتحقَّق من ماضيه بالكامل. لقد كلَّفتُ كلَّ موظفيَّ للتحقيق في الأمر. كان هيث يتستَّر على … شخص آخر.»
قلتُ معترِضًا: «هذه كذبة! لم يكن فولر يمتلك بِنسًا واحدًا عندما تركَ الجامعة.»
ظهرت أسنانُ سيسكين الصغيرة البيضاء. وهو يقول: «قلتُ إنَّ مؤهِّلات هيث قد حازتْ رضاي. ولا يلزم غير هذا.»
قال ذلك وهو يقودُ الرجلَ إلى خارج المكتب. أدركتُ في تلك اللحظة السببَ وراء هذه المناورة الأخيرة. كانت دوروثي فورد قد اختلست السمعَ عن طريق التخاطر عبر دائرة تيارات القشرة الدماغية الترادفية، وعلمتْ من ذلك نواياي في إفساد العلاقة بين سيسكين والحزب وإعاقة طموحاته السياسية.
ويَستعدُّ سيسكين الآن للاستغناء عني. ومن المتوقَّع أن يسعى هيث إلى التعلُّم قدر الإمكان. وبعدها سيستخدم سيسكين نفوذَه وسأُعتقَل بتهمة قتل فولر.
في وقتٍ متأخِّر من صباح ذلك اليوم، انطلقَ صوتُ جرس جهاز الاتصال الداخلي، وظهرَت على الشاشة صورة امرأةٍ مُسنَّة ممتلئة الوجه. كان من الواضح أنَّ دوروثي كانت قد تركت مكتبَها وحوَّلت المكالمات الواردة على الدائرة المباشرة.
قالت المرأة: «مراقِبة ردود أفعال معتمَدة رقم ١٠٤٢١-ج. أُجري استطلاعَ رأي حول …»
قاطعتُها بوقاحة مغلِقًا الخط: «سأدفعُ الغرامة.»
رنَّ الجرسُ مرة أخرى، وضغطتُ على زر جهاز الاتصال الداخلي مجددًا. وهممتُ بقولي: «قلتُ إنني … جينكس!»
حيَّتني وقد ظهرت غرفة مكتب الدكتور فولر المرتَّبة في الخلفية: «صباح الخير يا دوج. كان يجب أن أتصل. أعلم أنني تصرفتُ … بغرابة شديدة ليلةَ أمس.»
«جينكس! ماذا حدث؟ أين ذهبتِ؟ كيف …»
عقدَت ما بين حاجبَيها في حيرة. أو تُراهما في خوف؟
قلتُ سارِدًا ما حدث: «دخلتُ المنزل بعدكِ مباشرةً. لم تكوني هناك. لم أجدكِ في أي مكان!»
ابتسمتْ. وقالت: «كان عليك أن تنظر عن كَثب. كنت مُرهَقة. ارتميتُ على الأريكة، وهذا كلُّ ما حدث.»
«لكني نظرتُ هناك!»
قالت وهي تحاول أن تصرفَ النظر عن الموضوع بضحكة: «أنت مخطئٌ بالطبع.» ثم أردفت: «فيما يخص الليلة الماضية، لقد كنت قلقةً عليك، لكني الآن لست كذلك. ليس بعد أن فكَّرتَ في الأمر جيدًا. كما ترى، لقد انتظرتُ طويلًا. وعلى مدار الأيام القليلة الماضية، كنتُ في خيبة أمل كبيرة.»
تراجعتُ إلى الوراء وحدَّقتُ في الشاشة.
أضافتْ: «ما أحاولُ قولَه هو أنني أحبك حقًّا.»
ثم سألتْ بعد برهة: «هل سأراكَ الليلة؟»
فقلتُ كاذبًا: «سأظلُّ في العمل لوقتٍ متأخِّر.»
«إذن سأُقلُّك من المكتب.»
«لكن …»
«لا تُجادِل. سأنتظر هناك طوال الليل إن اضطُررتُ لذلك.»
لم أجادل. قطعتُ الاتصالَ محاوِلًا بلا جدوى أن أجد مبررًا لما حدث للتو. أرادت مني أن أصدِّق أنها كانت مستعدة في الليلة الماضية ألا تراني مرة أخرى أبدًا؛ لأنها كانت خائفةً مني. لكنها الآن مستعدةٌ أن تَقبَلني على الرغم من أنني أعطيتُها أكثر من سببٍ للقلق بشأن حالتي!
من ناحية أخرى، إن كانت قد اختفت بالفعل، فأين ذهبتْ؟ ماذا فعلتْ في تلك الساعات الاثنتي عشرة؟
علاوةً على ذلك، كان من الواضح أنها لم تكن تهرب من أي شيء. فإذا كان شيءٌ قد حلَّ بها، وفقدَ سيطرته عليها، فما كانت لتتصرف الآن وكأن شيئًا لم يحدث.
قضيتُ نصفَ ساعةٍ في عصر ذلك اليوم، أحدِّق في فنجان القهوة الباردة الموضوع أمامي في مطعم شركة رين الآلي، محاوِلًا أن أتقبَّل فكرة أنَّ اختفاء جينكس لم يكن سوى نوبةٍ أخرى من نوبات الهلوسة.
«يبدو أنكَ مستغرِقٌ في تفكير عميق.»
عندما نظرتُ إلى مصدر الصوت، رأيتُ تشاك ويتني، وأدركتُ أنه كان واقفًا بجواري منذ فترة. قلتُ متدارِكًا الأمر: «إنها المشكلات المعتادة فحسب.»
«لقد جاءني هذا الرجل المدعو هيث في قسمي. ولم أستطع الاعتراض.»
«لا تحاول أن تفعل ذلك. لأنك بذلك ستتحدَّى سيسكين. ولكن أخبرني إذا اعترضَ طريقك.»
«أنا أخبرك الآن بالفعل. أنا أستعدُّ الآن للجلوس على أريكة النظام، والخضوع إلى تجربة الاقتران التقمُّصي مع وحدة الاتصال الخاصة بنا. يريد هيث مقعدًا في الصف الأول؛ كي يتمكَّن من مشاهدتي وأنا أقوم بالأمر.»
«إذن أظن أنكَ ينبغي أن تمنحه ذلك المقعد.»
سألت في حيرةٍ من أمري: «هل تريدني أن أُطلِعه على كيفية عمل النظام؟»
«لا تتطوَّع بإخباره أيَّ شيء. لكني لا أرى كيف يمكننا أن نتجنَّب الإجابة عن أسئلته.
لماذا ستُجري فحصًا تقمُّصيًّا مع أشتون؟»
«أريدُ أن أرى ما إذا كان لا يزال يشعر بالمرارة.»
بعد ١٠ دقائق كنت قد عدتُ إلى مكتبي. نظرتُ إلى النشَّافة محدِّقًا شاردَ الذهن، وتناولتُ قلمًا وتركتُ يدي تتحرك من تلقاء نفسها ناسخةً رسم أخيل والسلحفاة.
تركتُ القلمَ في النهاية ينزلق من بين أصابعي، وتفحَّصتُ الرسم العشوائي الناتج عن جهودي التي تفتقر إلى الموهبة الفنية. كان من الجليِّ للغاية أنَّ الاسم «زينو» كان المقصود منه الإشارة إلى «سي نو».
لا سيَّما بعد محو كاو نو قبل أن أتمكَّن من الوصول إليه مباشرةً.
مثَّلتْ مفارقةُ زينو في الأساس وجهةَ النظر القائلة بأن كلَّ الحركات مجرد وهم. ولم يستغرق الأمر مني وقتًا طويلًا لأُدركَ أنَّ هذا صحيح، في نظام افتراضي من المحاكاة الإلكترونية.
أيُحتمَل أن يتضمَّن الرسم معنًى آخر غير معلوم؟ كان هناك أخيل، على بُعد مائة قدم من السلحفاة، كلاهما في وضع حركة. ولكن بمرور الوقت، جرى المحاربُ الإغريقي مسافةَ تلك الأقدام المائة، وتقدَّمت السلحفاة، لنَقُل، مسافةَ عشر أقدام. وبينما جرى أخيلُ بدوره تلك الأقدام العشر، كانت منافِسته قد تقدَّمت مسافةَ قدم أخرى. ويُنجز العدَّاءُ مسافةَ تلك القدم ليجدَ أن السلحفاة قد تقدَّمت في تلك الأثناء مسافة عُشر قدم، وهكذا، إلى ما لا نهاية.
ومن ثَم، لا يتمكَّن أخيل إطلاقًا من التفوق على السلحفاة.
هل كان رسم فولر يعني التضاؤل إلى ما لا نهاية؟ ثم تذكَّرتُ شيئًا كان فولر قد قاله قبل شهور:
«ألن يكون الأمرُ مثيرًا للاهتمام لو أنَّ إحدى وحدات الهوية قررتْ فجأة أن تَشرَع في بناء نظام محاكاة بيئية؟»
تأرجحَ البابُ الجانبي منفتحًا، ثم توقَّفَ مُصدِرًا صوتَ ارتطام. استدرتُ لأرى مَن دفَعَه بهذه القوة.
وقفَ ويتني مُتحفِّزًا على عتبة الباب، لاهثًا ينظر للخلف في يأس إلى الردهة.
صرختُ: «تشاك! ماذا حدث؟»
جفلَ عندما سمعَ صوتي وانكمشَ في الجدار. ثم بدا أنه يحاول استجماع نفسه بصعوبة، حيث أبطأ من أنفاسه وثبَّت عينَيه.
قال وهو ينسلُّ نحو باب غرفة الاستقبال: «لا شيء يا سيد هُول.»
لكن ويتني لم ينادِني قطُّ ﺑ «السيد هُول».
تقدَّمتُ نحوه واشتعلتْ عيناه بالرعب وهو يندفعُ إلى الباب. اندفعتُ أنا الآخر فسبقتُه إليه.
لعنني وانقضَّ عليَّ، لكني خفضتُ جسمي. ثم أمسكتُ بمعصمه ولففتُ ذراعه خلف ظهره.
صرخ ثائرًا: «اتركني!»
اتضحَ كلُّ شيءٍ فجأة.
همستُ: «أنتَ فيل أشتون!»
جثا على ركبتَيه وقال: «نعم. كِدتُ أنجح. يا إلهي، كِدتُ أنجح!»
حرَّر نفسه ورجعَ إليَّ مجددًا، وبدأ يضربني ويُمسك بي. ضربتُه بكل ما أوتيتُ من قوة. ثم حملتُه من الأرض وألقيتُ بجسمه المُنهَك فوق الأريكة.
عند المكتب، ضغطتُ على زر قسم العين السحرية في جهاز الاتصال الداخلي.
ظهر أحدُ مُساعدي ويتني على الشاشة، وكانت الأريكة وخوذة الاقتران المستخدَمتان لتوِّهما ظاهرتَين في الخلفية.
«هل من خطبٍ هناك؟»
سكتَ قليلًا مفكِّرًا. «لا يا سيدي. لِم؟»
«هل السيد ويتني هناك؟» رمقتُ تشاك — تشاك الحقيقي — الذي كان لا يزال فاقدًا للوعي فوق الأريكة.
«لا. لكنه أنهى للتوِّ اقترانًا مع أشتون.»
«كيف تصرَّفَ عندما عاد؟»
«طبيعي، على ما أظن.» ثم أضاف: «مهلًا، لم يسجِّل تقريره!»
«هل حدث شيءٌ آخر خارج عن المألوف؟»
نظرَ إليَّ في حيرة. «لقد واجهنا مشكلةً بسيطة مع هيث. فقد حاولَ الإدلاء برأيه في لوحة جهاز التعديل.»
فَرددتُ عليه قائلًا: «لقد تدخَّل في الأمر أكثر مما ينبغي. فقد تلاعبَ بقوة الإشارة ومستوى التحكم في الكَسب، وتسبَّبَ في حدوث انتقالٍ مُتبادَل. إنَّ أشتون في مكتبي. وويتني عالقٌ هناك في جهاز المحاكاة. أَحضِر اثنَين من الفنيين وتعالَ إلى هنا، بسرعة!»
وقفتُ أمام أشتون متفحِّصًا قَسَمات وجه ويتني المُنهَكة على أملٍ محموم أن تنجح عمليةُ إعادة الانتقال. لقد حدثَ اختلالٌ كارثي في بِنيات جهاز التعديل في خلايا الدماغ لدى ويتني. فقد حُذفَت الأنماط التي طُبعَت في ذهنه على مدار حياته، وأُعيدَ تكوينها ضمن حاويات وأشرطة الذاكرة الخاصة بالدوائر الذاتية لوحدة الاتصال. وفي غضون ذلك، اندفعَت جميعُ البيانات المخزَّنة من دوائر أشتون لتدخل إلى خلايا دماغ ويتني.
لا يمكن لشيءٍ أن يُرجِع تشاك سوى عكس هذه العملية بنجاح.
استفاق أشتون وفتح عينَيه اللتَين كانتا فعليًّا عينَي ويتني.
قال مُجهشًا بالبكاء: «كِدتُ أنجح، كِدتُ آخذ الخطوة الأولى.»
ثم نهض مترنِّحًا. وقال: «لا يمكنكَ إعادتي إلى هناك!»
أمسكتُ بكتفَيه وأَجلستُه. ثم قلت: «سيكون كلُّ شيءٍ على ما يُرام يا فيل. سنتخلَّص من نظام وحدة الاتصال. سنُعيد توجيهَك. لن تدرك حتى أن عالَمك ليس حقيقيًّا.»
صرخَ: «أوه، يا إلهي! لا أريدُ ذلك! لا أريدُ أن أفقدَ المعرفة! ولكني لا أريدُ أن أعلم أيضًا!»
دَفعتُه إلى الأريكة. ولكنه هبَّ واقفًا مرةً أخرى.
صاحَ: «هنا في الأعلى، إنني على وشك الوصول إلى الواقع الحقيقي! يجب أنْ تتركني أمضي قُدمًا وأجد العالَم الحقيقي!»
سألتُه محاوِلًا تلطيفَ الأمر: «ماذا تقصد؟» لو لم أوجِّهه برفقٍ في هذه التجربة، لأصابَه الجنونُ التام، ولوجبَ حذفُه من جهاز المحاكاة.
ضحكَ ضحكًا هستيريًّا. وقال: «أنت أحمق تمامًا! أنت أسوأ مني. أنا أعرفُ الحقيقة. بينما أنت لا تعرفُها!»
هَززتُه. وصِحتُ فيه قائلًا: «اخرج منه يا أشتون!»
«كلَّا، أنت مَن يجب أن يخرج مما هو فيه! أنت مَن يجب أن يستيقظ من حُلمه الصغير اللطيف بالحياة الحقيقية! لقد كذبتُ عليكَ. لم أتحدَّث مع كاو نو قبل حذفه من النظام. ولكنني لم أقل شيئًا لأنني خَشيتُ أن يُجَن جنونُك وتدمِّر جهازَ المحاكاة.»
شعرتُ بالتوتر. وسألتُه: «ما الذي قاله نو؟»
«أنت لا تدري كيف اكتشفَ نو أنَّ عالَمه لم يكن سوى عالَم زائف، أليس كذلك؟» كان أشتون يضحك ضحكة المنتصِر المتعصِّب وهو يقول ذلك. ثم أضافَ: «لم يكن السببُ أنَّ أستاذك الدكتور فولر قد أخبره بالأمر. أوه، ليس على هذا النحو المباشر. بل كلُّ ما في الأمر أنه زرع البيانات في عقل كاو نو الباطن، حيث أمَلَ أن تجدها. لكنَّ البيانات لم يقف بها الحدُّ عند حاويات ذاكرة نو الثانوية. لقد تسرَّبت. ومن ثَم، نقلَ نو المعلومات إلى عالَمه.»
سألتُه وأنا أهزُّه مجدَّدًا: «أي معلومات؟»
«إنَّ عالَمك أنت أيضًا غير موجود! إنَّه ليس سوى مجموعة من المتغيِّرات المحمَّلة على شكل شحناتٍ في نظامٍ للمحاكاة؛ فهي لا تعدو كونها انعكاسًا لعملية محاكاة على مستوًى أعلى!»
نَشَج وضحك، بينما وقفتُ أنا هناك مشلولًا.
قال مهتاجًا: «لا شيءَ! لا شيءَ! نحن لا شيءَ، أنا وأنت! ما نحن سوى انتصارات لإبداعٍ إلكتروني، طيفان من أطياف المحاكاة الإلكترونية!»
ثم نهضَ واقفًا على قدمَيه من جديد. وقال: «لا تُعِد إرسالي إلى هناك بالأسفل! لنَعمل معًا. ربما نتوغل في النهاية في الأعماق السحيقة للواقع المطلق والحقيقة المطلقة! لقد أحرزتُ تقدُّمًا بالفعل، أليس كذلك؟»
ضَربتُه مرةً أخرى. ليس بسبب خروجه عن السيطرة. ولكن فقط بسبب السخرية الحقيرة في كلامه. ونظرًا لأنَّ عينَيَّ كانتا قد سئمتا عدم قدرتهما على الرؤية عبر هيئة تشاك ويتني الثابتة على السجادة، صاح صوتُ المنطق داخلي في هدوءٍ بأنَّ ما يقوله صحيح.
كان كلُّ شيءٍ كما وصفه أشتون تمامًا.
أنا، وكلُّ شيءٍ من حولي، كلُّ نفحة من هواء، كلُّ جُزيءٍ في الكون، كلُّ شيءٍ ليس سوى واقع مُزيَّف. بيئة محاكاة صمَّمها عالَم أوسع نطاقًا من الوجود المطلَق.