الإخوان الوهابية
عندما طرح سؤال الحضارة نفسه علينا بعدما آلت إليه دول الإسلام من تخلف هائل أمام تقدم غربي أكثر هولًا، عقد المسلمون المقارنة بين رجال المسلمين في عصرهم الذهبي وبين واقعهم المتردي اليوم، وأجابت مصر عن السؤال بالانفتاح على الحضارة وتأسيس دولة حديثة على يد محمد علي، وأصبحت في زمن قياسي منارة حضارة ومدنية وتدين سمح، فكانت تصدر إلى جوار عبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل وفقهاء الدين، أدبًا وفنونًا وأفكارًا، فصدَّرت العقاد وقاسم أمين وطه حسين وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده وأم كلثوم وعبد الحليم وعمالقة السينما والمسرح والفن التشكيلي، وزهت بزرعها وصنعها وفاضت على غيرها من خيرها دون منٍّ ولا أذى، خاصة على الحجازيين نظرًا لشظف عيشهم حينذاك وحتى زمن قريب، وأحقيتهم الشرعية للصدقة والزكاة ناهيك عن كونهم حراس الأرض المقدسة.
هناك على الجانب الآخر من البحر الأحمر جاءت إجابة أخرى عن سؤال الحضارة، إجابة لم تنشغل بالفرد المواطن؛ لأن العقل الواقف وراءه عقل لا يعرف الأرض والوطن والاستقرار وإقامة الحضارات، وإنما عقل ينشغل بسيادة الأمة وكرامة الدين، عقل بدوي أقصى ما يمكنه عمله إلى جوار القتال والغزو هو الرعي والتجارة، فجاءت الإجابة انتكاسة إلى الوراء تبحث عن خير القرون لتلتزم بتفاصيل سننه، ليتدخل الله تدخلًا سحريًّا إعجازيًّا لنصر خير أمة أخرجت للناس، كانت غاية محمد بن عبد الوهاب (١٧٠٣–١٧٩١م) إصلاح الإسلام كي يرضى الله عن أمته المختارة فيسبغ عليها الازدهار والانتصارات وعودة الفتوحات، وذلك بالعودة إلى الإسلام الصحيح وتطبيق أحكامه وحدوده وإقامة شعائره الظاهرة والباطنة بكل دقة. وأطلق ابن عبد الوهاب على نفسه وعلى أتباعه لقب «الإخوان».
ومن غرائب تاريخنا أن مصر وهي في نهضتها كانت تحارب الاستعمار الإنجليزي، بينما كانت الوهابية بعد حلفها السياسي مع أولاد سعود والإنجليز، تقوم بثورة على الخلافة، فمن جزيرة العرب خرجت الخلافة وصناعها، ومن جزيرة العرب خرج من يهدمون الخلافة بالتحالف مع الإنجليز.
وفجأة تحولت الوهابية عندما أصبحت حركة سياسية مالكة مسيطرة حليفة للعرش، نحو التشدد والتصلب الديني في كذب على الذات يقسم الدنيا بعقيدة الولاء والبراء إلى عالمين، عالم إيمان وعالم شرك، بينما كانت تحالف من تطلق عليهم بلاد الشرك من الإنجليز وما حكايات لورنس ببعيدة. ومن بعدها ومع انهيار الإمبراطورية البريطانية والاستعمار القديم، ظلت السعودية حليفة للأمريكان حتى يومنا هذا، بينما كانت مصر الآخذة بحضارة الغرب تتحول عنها إلى النظام العسكري، وتعلن حربها على هذا الغرب ممثلًا في إسرائيل وأمريكا. مما أدخلها في هزائم ونكسات متتالية، وبثمن دماء أبنائها ارتفع سعر البترول في بلاد ابن عبد الوهاب، حتى أصبحت السعودية واحة غناء في معجزة اقتصادية غير مسبوقة، بينما كانت مصر في انحدار يتلوه انحدار، وخسائر إثر خسائر.
ومع سقوط الخلافة رسميًّا ظهرت في مصر بعد سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة جماعة تحمل الاسم ذاته للجماعة الموجودة بالحجاز، وتحمل أهدافها المعلنة ذاتها؛ مما يشير إلى تحالف غير مرئي من البداية، قرر فيه بعض المصريين وهم يرون المعجزة السعودية أن يقيموا شريعة الله حسب ما فعل إخوان السعودية، حتى يتدخل بنعمته ويفعل هنا على الضفة الغريبة ما فعل هناك على الضفة الشرقية، وليس ذلك على الله ببعيد.
وأعلن الإخوان المصريون إعلان الإخوان الحجازيين، وهو فشل جميع الأنظمة (عدا النظام السعودي بالطبع وحده لأنه يطبق الشريعة، ولأنه يملك جغرافية وتاريخ الإسلام، ولأنه حليف ابن عبد الوهاب) وإعلان فشل جميع الأيديولوجيات، وأن الإسلام وحده هو الحل، وفيه كل الحلول الإعجازية لكل المشاكل الأزلية والويلات التي جنتها علينا الأنظمة الرأسمالية والشيوعية، (انظر حسن البنا مجموعة الرسائل ص١٧٦، ١٩١، ٣١٢) وأعلن حسن البنا إعلان الإخوان الحجازية ذاته وهو: «أن القرآن يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصايا النبيلة» (المصدر نفسه، ص١٢٧).
ومع وصول سيد قطب إلى ساحة الفكر الإخواني، التقى التقاءً تلاحميًّا مع إخوان الحجاز، فأدخل هو والمودودي الحركة منعطفًا جديدًا يستلهم مضامين الفكر الوهابي تحديدًا، والمتشدد الكاره المتسلطن دنيا وآخرة وحده دون غيره من المسلمين أو غير المسلمين. وصار مرجع كليهما فتاوى ابن تيمية وابن قيم الجوزية، مع اتفاق على مصطلحات إخوانية مصرية حجازية من قبيل: جاهلية المجتمعات وحاكمية سيد قطب، وأن الحرب القادمة ستكون بين المادية المتمثلة في الأرض كلها وبين الإسلام (الظلال، ج، ص٨) لقد كانوا يجهزون قبل ١١ سبتمبر ٢٠٠١م بسنوات طوال!
ونتيجة لما وصلت إليه الدولة المصرية من طراوة ورخاوة ومزايدة وفساد، فقد نخر السوس الإخواني أهم أجهزة توجيه الرأي العام فيها، حتى تحول الشارع المصري إلى شارع وهابي، وأصبح عدد الإرهابيين في العالم بعد السعودية هم من المصريين. وعلى مستوى الإنجاز العلمي والفني، فإن مصر تأتي بعد السعودية في تصدير الفكر الوهابي ثقافيًّا، وإعلام مصر يكاد لا يختلف سوى فتيل عن التلفزيون الحجازي (وفتيل هذا هو: أخبار الأسرة المالكة هناك وأخبار الأسرة الحاكمة هنا).
أصبحت مصر والحجاز بنعمة الله إخوانًا، ويخدعنا التاريخ مرة أخرى، لنجد السعوديين قد تركوا لنا السنة وأكل الثريد باليمنى، ودعاء دخول الغائط، ليلحقوا بفنادق الخمس نجوم حيث يطهون الطواويس والغزلان والكافيار، وينعمون بالجاكوزي والحمَّامات الفاخرة التي لا ينفع معها دعاء دخول الغائط، حتى ولو ذوقيًّا.
لقد عادت مصر إمارة إسلامية تتحرك حسب المزاج الحجازي حتى في سياساتها الخارجية، وتابعًا غير كريم لخلافة غير شرعية.