دولة الرب
كثيرًا ما راودني سؤال شديد البساطة: لو كانت إرادة الله تبغي إقامة دولة ربَّانية على الأرض، فلماذا لم يفعل ذلك من بدء التاريخ؟ لماذا لم يقم دولة المدينة الفاضلة الكاملة التامة المانعة؟ ولماذا لم يضع لها دستورًا وقوانين أفضل مما صنع اليونان والرومان والفرس، وبما يتناسب وعظمة الرب حتى تكون دولته هي القدوة والمثال لكل البشرية. بينما ما حدث في واقع دولة الرب الأولى المزعومة (إن جاز تسمية دولة الخلافة الراشدة بذلك)، أنها طلبت المعونة المعرفية والفنية والإدارية والفلسفية والقانونية من دول الحضارات المفتوحة، التي صنعها البشر خلال تاريخ طويل من التجارب، ولم يجدوا حلًّا سوى الإبقاء على الأنظمة القديمة في تلك البلدان معمولًا بها تحت سيادة العرب المسلمين. فما حدث هو أن العرب استولوا على دول قائمة ذات مؤسسات وأنظمة شغالة منذ قرون طويلة وحكموها، ولكنهم لم ينشئوا دولًا البتة، وهو الأمر الذي فسر لي، لماذا أغفل الإسلام مسألة مهمة مثل الدولة ونظام الحكم كل هذا الإغفال رغم عظيم خطورته، ولم يدلِ بدلوه في فلسفة الحكم والسياسة، مكتفيًا بما وصل إليه البشر في أرض الله الواسعة في شئون الإدارة والسياسة بما لا يستدعي تدخلًا منه، واكتفى بتصحيح ما رآه ضروريًّا، فأضاف لما عرفه البشر من أديان إضافات جديدة مثل صيام رمضان وقدسية الكعبة والحج إليها والاعتراف بنبوة محمد ﷺ، ووحدانية الله المطلقة وغير ذلك من شئون الإيمان، وترك للبشر ما نجحوا في أدائه فلم يجدهم بحاجة لإرشاد أو نصح في طرق الزرع والري والصرف والحصد، ولا في فنون البناء والمعمار، ولا في الرياضيات ولا في الهندسة ولا في الكيمياء، ولا في شكل الدولة ولا نوع نظام الحكم، ولا فنون الإدارة وشئون السياسة، فلم يتدخل في السياسة ونظم الحكم وأساليب الحضارة، لعلمه الكامل أنها كلها مجالات تخضع للتغير والتطور والتقدم، وأنه لو قال فيها قولا لثبتت وتوقفت عن النمو بما هو ضد قانونها، وهو التغير والتطور أبدًا، علينا أن نفهم أن عدم تدخله هو شهادة تقدير عظيمة، ونيشان على صدر البشرية من ربهم بأنهم نجحوا نجاحًا سياسيًّا وحضاريًّا، وليس أدل على ذلك من صمود هرم المصريين القدامى أمام عوادي الزمان فلم يُهدَم مرة، بينما كعبة الرب هدمت وأعيد بناؤها سبع عشرة مرة حسب إحصاء كتب التاريخ الإسلامي، إضافة إلى دمارها الكامل في فتنة جهيمان العتيبي أواخر القرن الماضي.
ولا بد أن تلحق بالسؤال توابع تتساءل: هل يمكن أن نتصور أن الله كان راغبًا في إقامة دولة على الأرض، دون أن يصحب هذه الرغبة بقواعد إقامة هذه الدولة منذ فجر البشرية أو حتى مع الدعوة الإسلامية؟ أم كان لزامًا على المسلمين أن ينتظروا أربعة عشر قرنًا حتى يظهر حسن البنا والإخوان وحزب التحرير ليكتشفوا لنا تلك الرغبة الإلهية الإسلامية المخفية! وبسبيل الحفاظ على هذا السر لم يفصح الله عن رغبته تلك سواء في أعماله الكاملة أو بالتوراة أو بالزبور أو بالإنجيل أو بآخر هذه الأعمال قرآنه أو في سنة نبيه حتى باح به للإخوان في زماننا؟!
الإخوان يعلنون لنا أنهم قد جاءوا لينقذوا الأمة، وأنه لا يصلح لآخرها إلا ما صلح لأولها، ومعهم منقذون آخرون للأمة من كل لون وشكل، من حزب تحرير، إلى تكفير وهجرة، إلى فقهاء أزاهرة، إلى جماعة إسلامية، إلى جماعة سلفية، إلى جهاد إلى عدل وإحسان، إلى حماس، إلى حزب الله، إلى وعَّاظ فضائيات، إلى ابن لادن، وابن هويدي، والزرقاوي، وأبو سيَّاف، والقرضاوي، والعوا، ومقتدى الصدر، وجيش المهدي، وهم كثير، لكنهم جميعًا أقنعة مختلفة لوجه واحد فكلهم داخل الجبة نفسها والأيديولوجيا نفسها، وكل فريق يرى نفسه الإسلام الصحيح وأنه المنقذ المختار بتأويله وتفسيره لصحيح الدين، ويفجِّرون وينسفون نيابة عنا ونحن لم نخترهم ولم نبايعهم، ويحارب كل فريق منهم بإسلامه الصحيح، الفريق الآخر وإسلامه غير الصحيح، ولكنهم يجتمعون جميعًا عند مبدأ الدولة والاستيلاء على السلطة وإقامة الحكومة المسلمة.
المشكلة في هذه الحال ستكون في الإجابة عن السؤال: أين نقيم دولة الرب أو دولة الخلافة الجديدة؟ أم ستكون خلافة في القاهرة وأخرى في بغداد وأخرى في إندونيسيا، منها الشيعي ومنها السني ومنها الإباضي ومنها الزيدي؟ وهل ستحارب هذه الخلافات بعضها بعضا لتوحيد بلاد المسلمين لتقييم جولة الخلافات المتحدة، حتى يمكن تحقيق احتلال العالم تحت قيادة واحدة تحت راية لا إله إلا الله؟
ولو فرضنا أن واحدة من الدول المتأسلمة اليوم تمكنت وأعلنت نفسها دولة خلافة، ولتكن السودان مثلًا أو إيران، فمن الطبيعي أن المسلمين في بلدانهم كافة سيطلبون من حكوماتهم الولاء للخليفة ولو كان من سنغافورة أو ماليزيا كما قرر مهدي بن عاطف؛ وهكذا ستنشب حروب بين الشعوب المسلمة وحكامها، مع حرب أهلية ضرورية ستنشب بين أصحاب كل تلك الجماعات المتأسلمة وبعضها كخطوة توحيدية أولى، تتبعها حروب أخرى أهلية بدورها بين الملل والنحل المختلفة حتى تتوحد تحت راية الفرقة الناجية، ثم حروب خارجية إسلامية ستشنها دولة الخلافة ضد البلدان المسلمة التي سترفض إعلان البيعة والتبعية للخليفة؟ وهل يا تُرى بعد كل تلك التصفيات هل سيبايع السعوديون خليفة مصريًّا؟ أم لحل الإشكال يمكن وضع معيار يحل المشكلة، بإقامة دولة الخلافة حيث مقدسات الإسلام الجغرافية والتاريخية في الحجاز، ومن ثم لا بد في هذه الحال من صرف آل سعود لحال سبيلهم إلى موناكو أو هونولولو، واختيار حجازي قرشي خليفة كشرط يقوم على الحديث الصحيح: «الخلافة في قريش»، ولكن في حال بايع المصريون عبد الصمد القرشي مثلًا خليفة بالحجاز ليملأ حياتنا بخورًا وطيبًا وعطورًا وأعلنوا الولاء له، فهل تُراه سيرضى بخلط ميزانية السعودية بميزانية مصر عملًا بمبدأ أسنان المشط في دولة الربِّ؟
ولو افترضنا منطقًا أنه كان من غير الجائز أن يوجد نبي في الجزيرة مرسلًا من السماء، ويوجد في الوقت نفسه رئيس لبدو الجزيرة سيرأس هذا النبي، وهو أمر غير مقبول؛ لذلك فالحل هو أن يكون هذا النبي هو الرئيس في الوقت ذاته، لكن ذلك لا يأخذنا لمعنى الدولة، أو ربما نقول مع آلاف التحفظات إنها كانت دولة خاصة جدًّا ومن خصوصيات النبي وحده دون غيره من المسلمين، كانت تجمعًا قبليًّا يحتشد حول فكرة وأيديولوجيا أكثر مما هو دولة في وطن بما نفهمه عن معنى الوطن وتعريفه. خاصة أن للجزيرة طابعها البيئي الخاص فهي ليست بيئة زرع يلزمه الاستقرار الاجتماعي إلى جواره، إنما هي جماعات رعوية متحركة في معظمها، ومثل هذا المجتمع لا ينشئ دولة لعدم الحاجة إليها. والإسلام فكرة أيديولوجية ثورية ضد الأوثان وتعدد الآلهة، ولم يأتِ ثورة على دولة قائمة في وطن له حدود قومية معروفة. وكان توحيد الأرباب خطوة نحو التوحيد المجتمعي لكنها طالت زمنيًّا وهي بسبيل الانتقال من مرحلة الرعي إلى مرحلة الدولة، فدخلت طورًا طال دهرًا في مرحلة انتقال لا تنتهي من الرعي إلى الدولة الوطن، وظلت حتى اليوم كونفدرالية بدائية جمع الرعوي مع المظهر المدني، وفي كل الحالتين يظل المجتمع طفيليًّا إما على الطبيعة، وإما على الريع كما هو حاله الدائم حتى اليوم بسبب ظرفه البيئي القاهر.
لذلك قد يصح القول إن النبي ﷺ عندما وحد الأرباب بالإسلام كان يهدف لتوحيد عرب الجزيرة ولكن ليس بحسب مفهوم الدولة؛ لأنها كانت دولة خاصة جدًّا تكاد تكون من خصوصيات النبي ﷺ وحده، كما له خصوصيات أخرى دون المؤمنين، ما دام غير ممكن أن يرأسه آخر وهو النبي ﷺ؛ ومن ثَم كان الإسلام وشخص النبي ﷺ مركزًا فكريًّا روحيًّا تلتقي حوله القبائل ولم يكن دولة، خاصة أننا لو طالعنا حال النبي ﷺ كزعيم سنجده يتصرف بطريقة قومه القبلية بأسلوب شيخ القبيلة لا بأسلوب زعيم الدولة؛ لذلك لا نجد في الإسلام شيئًا عن الدولة أو عن إعدادها العسكري أو النظامي أو تكوينها الفكري وعقدها الاجتماعي ودستورها، ولا طريقة فرزها للزعماء والقادة، ولا نظامًا اقتصاديًّا إنتاجيًّا واضحًا إنما هو رعي خراجي طفيلي؛ لذلك عندما استبدت قريش من بعده بحكم الإمبراطورية كانت شرعيتها تقوم استنادًا إلى مبدأ الوراثة القبلي وليس إلى أي تأسيس سياسي مبرمج واضح. هذا بينما الدولة بمعناها الصادق فستجدها في دول المحيط؛ فالملك توت عنخ أمون مثلًا كان يحكم أرجاء مصر كلها وهو بعد صبي يلهو بألعابه؛ لأن هناك منظومة دولة تعمل وفق نظم بيروقراطية هرمية وظيفية تراتبية واضحة كالماكينة، لا علاقة لها لا بالسلطة ولا بالإمارة ولا بالدين.
ثم إنه إذا كان الإسلام دينًا واحدًا، وإذا كانت الاتجاهات السياسية تختلف إلى درجة التناقض بين المذهب السني والمذهب الشيعي، إذن فإن هذه الاتجاهات لا تنبع من الدين الواحد، وإلا لاتفق المذهبان لذلك فالصراع في هذه الحالة هو صراع سلطة دنيوي سياسي لا ديني.
هذا علمًا أن القرآن الكريم كان يعرف معنى نظام الحكم والملكية والدولة المركزية، كما في قوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة: ٢٤٧). في هذه الآيات بيان سماوي لليهود بدولة ومُلك بإرادة إلهية، فلماذا لم يقدم الله للمسلمين بيانًا كهذا واضحًا بدون التباس إن كانت الدولة هي شاغله وهمه حقًّا؟
لقد قنن الله العدالة ووضع لها الضوابط والقواعد لحفظ حقوق المحارب في سبيله، وحقوق السيد المالك في الأَمَة المشتراة من ملك اليمين، ونظَّم لهم قواعد الوطء: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (النساء: ٢٤)، وقنَّن لحماية الزوجة: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (النساء: ٣).
أفلا تكون العدالة لحماية شعوب وأمم هي الأهم إذا كان الله يريد قيام دولة دينية يحكمها القرآن بقوانينه؟ بينما قوانين القرآن تفصل وتزيد لحماية الزوجة وحق الوطء، والنكاح وليس فيها شيء عن نظام الحكم وقواعد الدولة من أي لون. لو أراد الله ذلك لقنَّن لدولته العدل والحرية كما قنَّن للتفاصيل الهينات، لكنه لم يفعل، وهو عالم بأنظمة الحكم والدول المركزية بدليل حديثه عن ملوك اليهود داود وسليمان وفرعون مصر وسبأ ونمرود ودولهم ونظم الحكم فيها، ولا نجد فيه أية إشارة إلى مملكة العرب المسلمة ولا دولتهم لأنهم كانوا قبائل متحالفة ولم يكونوا دولة قط.
والحاسم في مسألة الدولة الإسلامية ولا نجد له ردًّا عند دعاتها، وهو الساعات الأخيرة في حياة نبي الأمة ومؤسس الدين، يروي الصحابي الجليل حِبُّ النبي عبد الله بن مسعود فيقول: «نَعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة، فنظر إلينا وشدد، فدمعت عينه وقال: مرحبًا بكم، رحمكم الله، آواكم الله، حفظكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، وفقكم الله، نصركم الله، سلمكم الله، أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأؤديكم إليه، إني لكم نذير وبشير، لا تعلوا على الله في عباده؛ فإنه قال لي ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ؟ فقلنا: متى أجلك؟ قال: دنا الفراق والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى، قلنا فمن يغسلك يا نبي الله؟ قال: أهلي الأدنى بالأدنى. قلنا: فهل نكفنك يا نبي الله؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض مصر أو في حلة يمنية. قلنا: فمن يصلي عليك يا نبي الله؟ قال: إذا غسَّلتموني وكفنتموني فضعوني على سرير في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي عليَّ جليسي وخليلي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود وكثير من الملائكة بجمعها، ثم ادخلوا عليَّ فوجًا فوجًا فصلوا عليَّ وسلموا تسليمًا، ولا تؤذوني بتزكية ولا برنة ولا صيحة، وليبدأ بالصلاة رجال أهل بيتي، ثم نساؤهم، ثم أنتم بعدهم. أقرئوا أنفسكم السلام مني فإني أُشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم حتى يوم القيامة. قلنا فمن يدخلك قبرك يا نبي الله؟ قال أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم.» انتهى (الطبري، ١١، ١٩١).
ونستكمل مشهد الساعات الأخيرة من حياة النبي ﷺ ودولته تتفكك في نزعات استقلالية في اليمن وفي اليمامة، لنسمع ابن عباس يروي: «كان النبي ﷺ قد ضرب بعث أسامة، فلم يستتب الوجع رسول الله ﷺ، ولخلع مسيلمة والأسود، وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة حتى بلغه، فخرج النبي ﷺ على الناس عاصبًا رأسه من الصداع لذلك الشأن، ونشرًا لرؤيا رآها في بيت عائشة، قال: إني رأيت البارحة بما يرى النائم، أن في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأوَّلهما هذين الكذابين، صاحب اليمامة وصاحب اليمن. وقد بلغني أن قومًا يقولون في إمارة أسامة، ولعمري لئن قالوا في إمارته، لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه لخليقًا للإمارة وإنه لخليق لها فأنفذوا بعث أسامة. ثم قال: لعن الله الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد» (الطبري، ١١، ١٨٦).
وهكذا أمسى واضحًا مدى اهتمام النبي ﷺ بكل تفاصيل لحظات موته، ومدى انشغاله بأمور المسلمين وأمة الإسلام حتى الساعات الأخيرة وهو يجود بنفسه الشريف.
ونظرة موضوعية بعيدًا عن أرق المشهد وتراجيديا الموقف ساعة موت النبي الجليل، سنجد عبارات ومفاهيم من قبيل مبايعة ونجدة وولاء، ونجد تحالفًا على دين محمد ﷺ، ونجد مفاهيم كلها تعبر عن حال الموقف. وترك شئونًا أخرى للمسلمين. والمحتجون بتولية أبي بكر الخلافة بكونه أمَّ الصلاة الجامعة بالنيابة عن النبي ﷺ وهو في مرضه الأخير، لم يقولوا لنا لماذا لم يأمر النبي ﷺ أبا بكر أن يؤم المصلين على جثمانه حتى تكتمل صحة التأويل. لقد أخبر الرسول ﷺ صحابته رضي الله عنهم بكل تفاصيل جنازته وكيفية الصلاة عليه ومن يدفنه، وأخبرهم بمن سيصلي عليه من ملائكة بالاسم، وأصر على بعث أسامة بن زيد على رأس الجيش لغزو الروم، ورفض رأي صحابته في حداثة سنه على غزوة كتلك وعدم خبرته، فكان ابن سبعة عشر عامًا على رأس جيش يضم بأمر من النبي أبا بكر وعمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم، ورغم ذلك لم يصدع الصحابة بالأمر؛ لأن خروج هذا الجيش مع موت النبي قد يضع الأمر بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه والهاشميين، إذ أمر النبي ببقاء عليٍّ إلى جواره وعدم خروجه مع الجيش.
وينشغل النبي بالأمة في موته حتى في منامه، ويرى أعداءه من متنبئين في هيئة سوارين نفخهما فطارا، لكنه لم يتحدث لحظة عن كيفية إدارة الأمور من بعده، وينشغل بإمارة أسامة بشدة وإصرار على خروج الجيش، ولا ينشغل بإمارة الدولة، ولم يرَ أحداث سقيفة بني ساعدة في منامه حتى يدلي لأصحابه بالنصح المانع الحاسم للفتن. ولم يتطرق بأي معنى للدولة ولا لنظام الحكم من بعده ولا تحدث في خلافته حسب المصادر السنية، ولا قال لمن يكون الأمر من بعده. أم نقول قول إبليس إنه كان لا يتوقع الموت الأكيد فخشي إن وصَّى لأحد بعده وعادت إليه العافية، أن ينازعه الأمر والسلطة، إذن لا حل سوى الاعتراف أن الإسلام دين فقط، دين كريم، لم ينشغل كدين بالسياسة ولا بنظام الحكم.
الواضح في تلك الساعات الحاسمة الأخيرة، أن نبي الإسلام كان يرى أمور الدولة والسياسة خارج صلاحياته كنبي، وأنها خارج نطاق مسئولياته وتكليفاته؛ لذلك لم يتطرق إليها حتى يكرِّس القناعة أن رسالته هي دين فقط وليس أبعد من ذلك.
وتفعيلًا لهذا لم يتدخل الإسلام في أمور الدنيا من نظم حكم وإدارة باعتبارها مما يخصُّ المجتمع المتغير المتطور الذي لا يقبل ثباتًا، وأن الدين جاء للثابت ثباتًا بدوره لا يتغير ولا يقبل تطويرًا كما في العبارات وقواعد الإيمان وفروضها وترك التحرك لنا ولظروفنا ولتحول الأزمات وتداول الأيام، لقد جاء محمد نبيًّا يدعو للتوحيد ويعد الناس لدخول جنات الرب في الآخرة، ولا شأن له بأمور الدنيا والسياسة. بل إن ذلك هو ما كان يعلمه الصحابة جميعًا عن قناعة؛ لذلك لم يسأله أحدهم أن يدلي برأيه في تلك الشئون، كان هناك إجماع من كلا الطرفين النبي والصحابة، على أن ما يلي ذلك هو شأن دنيا لا شأن دين يموت صاحب الدين دون أن يوصي بخلافته. وليس أدل على هذا أن الأنصار جميعًا لم ينتظروا حضور ساعة وفاة نبيهم، بل انصرفوا مباشرة لسقيفة بني ساعدة لبدء العمل في شئون الدنيا، ولم يدعوا أحدًا من المهاجرين لحضور هذا الاجتماع اعتقادًا منهم أنهم الأحق بوراثة الأمر من بعد النبي. بداهة وربما كان عدم خروج جيش المدينة بقيادة أسامة داعمًا لموقف المهاجرين بعد ذلك في النقاش الذي دار بالسقيفة وانتهى لمصلحة قريش.
إن سكان جزيرة العرب قبل الإسلام لم يستشعروا الحاجة لقيام دولة وحكومة؛ لأن طبيعة بيئة الرعي لا تستلزم وجود دولة، ولم يبدأ التفكير في حكومة إلا بعد تحول طرق التجارة العالمية عبر الحجاز وتشابك مصالح احتاجت إلى الحماية في شكل بدائي لحكومة بدائية هي حكومة الملأ برئاسة قُصي بن كلاب جد النبي البعيد، فأنشأ الملأ مجلس قريش القبلي وهو نظام شبه جمهوري شبه ملكي شبه ديمقراطي كله في آن، والأغرب أن يظل هذا النظام «الشبه» هو الحاكم على دولة الخلافة حتى سقوط آل عثمان الأتراك.
ولعدم وجود نظام حكم أو دستور أو قانون أو إدارة واضحة، بدأ الصراع بين الصحابة على الجاه والسلطان وليس لسبب ديني، ودخلوا الفتنة الكبرى ولم يستفيدوا من التجربة، ولم ينشئوا أي مؤسسات تراقب الحكام وترعى الحقوق بين الحاكم والمحكوم، حتى لا يتكرر ما حدث في الفتنة الأولى، ولأن الدين لم يحدد كيفية تنظيم الدولة ولا إدارتها ولا محاسبتها ولا مراقبتها، فقد تلت الفتنة فتن أخرى يأخذ بعضها برقاب بعض، لم يكتشفوا خلاله من وسيلة لتبادل السلطة سوى الاغتيال أو الذبح صبرًا أو السم أو الحرق.
المأساة الكاملة فيما يعرضه الإسلام السياسي ودولته أنه يصورها للمسلمين الحل الأوحد والمثالي لما هم فيه من تخلف وهوان، وأنها ستكون لمصلحة الدين والدنيا، مصلحة الله ومصلحة عبد الله، مصلحة الإيمان والسياسة، وهي كذبة شِريرة يتم بها استثمار دين الله في انتهازية رخيصة في أكثر الميادين انتهازية «السياسة»، حيث لا مكان في مكائد السياسة وخبثها لطيب الدين وصراحته وسلامة سراطه المستقيم وطهارة مصدره ومقاصده، وهو أمر لا يحتاج إلى كثير فهم، فمن المفترض وأنت داخل إلى الخمارة أو إلى المجاري ألا تأخذ معك المصحف حتى لا تسيء إليه وتدنسه.
إن دمج السياسي بالديني من أجل إقامة دولة ذات مرجعية دينية لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى توظيف كل ممكناتها عسكرية واقتصادية لأغراض الدعوة الدينية، وسيكون دعم الحكومة للدين ورجاله ودعاته بلا حدود؛ وهو ما يعني أنها ستتصدى عاجلًا أو آجلًا لمن هم على غير مذهبها ودينها، فلن تقف مكتوفة الأيدي إزاء غير المعترفين بها والرافضين لها وغير المؤمنين بها كنتيجة طبيعية لعدم إيمانهم بدينها أو بصدق هذا الدين؛ وهو ما يعني عدم الاعتراف بشرعيتها، فماذا سيكون الشأن مع هؤلاء؟ هل سنؤسلمهم كرهًا أم ننفيهم من الأرض أم نعتبرهم طابورًا خامسًا خائنًا يستحق الحرمان من حقوق المواطنة والمشاركة في السلطة.
وعلى مستوى الخارج فإن أول واجبات هذه الدولة هو الدعوة إلى الدين ونشره خارج الحدود حتى يخضع العالم لدين الله طائعًا أم راغمًا، وهو ما لا بد أن يؤدي إلى فتح باب الصراع الديني. وحتى يتم ذلك لا بد أولًا من إقامة دولة مسلمة واحدة تكون دولة الخلافة كمرحلة أولى قبل العالمية؛ وهو ما يعني حروبًا دينية أهلية بين المسلمين لتصفية الخلافات الجوهرية بين فرقهم في شئون الاعتقاد كما سبق وألمحنا.
وهل ستقوم دولة الخلافة سلمًا أم حربًا؟ يعني هل ستتحرك جيوش الخليفة المصري وليكن قرضاوي مثلًا متوجهة إلى بلاد الحجاز لاستعادة العاصمة الأولى للخلافة ولإتمام الوحدة الإسلامية؟ أم ستتحرك جيوش عبد الصمد القرشي كما حدث أول مرة لتنطلق جيوش الحجاز شمالًا وشرقًا وغربًا إعادة لعصر الفتوحات مثلما حاول محمد بن عبد الوهاب زمن العثمانيين، مما اضطر الخليفة العثماني للاستعانة بمصر لوأد الوهابية وتدمير الدرعية؟
وهل بالمرة ستعود الفتنة الكبرى وتوابعها من فتن لتحكم حياتنا ومستقبلنا؟ وهل سيتم استئناف الحرب التي بدأها معاوية وعليٌّ؟ أم ستكون بالحوار كالذي حدث في سقيفة بني ساعدة، لينتهي الأمر بقتل سعد بن عبادة بين الجنِّ والاعتداء على بيت فاطمة بيد عمر. أم ستكون حربًا من نوع أم المعارك الصدَّامية؟ وهل يجب أن نقرر من سنذبح ومن سندسُّ له السم ومن سنحرقه في جوف حمار كطرق لتبادل السلطة؟ أو من سنرشوه بالمال والنساء كما «الحسن» ليكفينا شره ويسكت؟ أم ستكون زرقاوية في شكل خلايا إرهابية تدمر أينما تشاء؟ وهل سيكون شعار الإسلام دين ودولة الذي يعتنقه السنة والشيعة عاملًا في توحيد المذهبين أم دمارًا لكليهما؟ ثم تراه ماذا سيكون موقف العالم المتحضر والأمم المتحدة من خلافتنا الناشئة؟ وهل سنضطر إلى طلب الانتفاع ببركات مشايخنا إزاء هذا العالم وقرارات مجلس الأمن وروادعه.
يقول لنا قرضاوي «فقيه الزمان» إن دولة الإسلام ضرورة ليس للناس ولكن لحماية الإسلام وصيانته، دون أن يستحيي لشدة ذعره على دينه، حتى إنه يظهره دينًا ضعيفًا هزيلًا عاجزًا عن الاستمرار في قلوب الناس، دون سلطة جبرية تحميه في دولة المصحف والسيف إنهم يهينون ديننا وربنا بإظهاره عاجزًا عن حماية نفسه بالعقل والحجة والمنطق والقناعة، ويحتاج إلى دولة بأسرها لحمايته ولضمان انصياع الناس له. ليقيموا لنا دولة المنافقين بدلًا من دولة الراشدين، فمن لا يقتنع إلا خوف السيف فهو منافق، وفرض الدين بمقهر الدولة يحيل الناس إلى منافقين، إن الدين الذي يصور لنفسه مخاوف من مؤامرات وهمية يكون عاجزًا عن حماية نفسه ومواجهة التطور والتغيير، فكيف له وأنَّى له أن يحمي شعبًا يؤمن به؟ ونكون في دولة الرب لا حمينا الدين ولا حمينا الناس.
ولأن قرضاوي يعلم أنه لا سياسة في الدين؛ فإنه يرد قائلًا: إنه ليس من المهم أن تكون في الإسلام نصوص كثيرة في السياسة؛ فالسياسة جزء من اهتمام المسلم وليس كله، فهناك صلاة، وهناك عمل دعوي، وعمل للأسرة، وعمل أكاديمي … إلخ، والسياسة ليست أمرًا مدنسًا، كيف يقولون السياسة مدنسة؟ من قال إن السياسة أمر مدنس وعندنا فقه السياسة الشرعية وكتب الأحكام السلطانية؟ صحيح لم نتبحر كما تبحرت الأشياء الأخرى، لكنها موجودة» (حلقات الدين والسياسة، الحلقة الأولى، قناة الجزيرة).
ولو سلَّمنا له بما يقول، فإن التعقيب البسيط هو أنه ما دام الإسلام لم يعطِ السياسة كثير اهتمامه، فلماذا كل هذا الاهتمام من جانب مشايخ زماننا بالسياسة، بالمخالفة لإرادة الله ودينه؟
يتابع الفقيه الملقب بالمعتدل قرضاوي تأكيده اختلاط الديني بالسياسي في قوله «الرسول، ألم يكن سياسيًّا؟ وعمر بن الخطاب وأبو بكر رضي الله عنهما والخلفاء كلهم ألم يكونوا سياسيين؟»
انظر إلى الخلط المعيب والاستهانة بعقول المسلمين، الرجل يعلم أن أي مسلم أمس أو اليوم أو غدًا سيقبل حكم الرسول ﷺ أو الراشدين، وأنهم لو اشتغلوا بالسياسة بما نفهمه منها فلا بد أن يُكسبوها طهارتهم؛ لذلك ستكون سياسة غير مدنسة، لكن اليوم لا يوجد محمد ولا عمر إنما يوجد قرضاوي وهويدي وابن لادن، فهل يضعون أنفسهم مكان أولئك؟
أما ما يشير إليه بدولة الراشدين عمر وأبي بكر … إلخ، فكانت تجميعًا للقبائل بالسيف بعد ردتها زمن أبي بكر تحت رئاسة قبيلة قريش القبيلة المنتصرة، ولم يكن دولة؛ فالدول كانت معروفة في المواطن الحضرية، معروفة الهوية والحدود والقانون ونظام الحكم، ذات موارد ثابتة واقتصاد إنتاجي، وخلال الفترة الراشدة حكم الصحابة بضميرهم الشخصي مستمدين الشرعية من علاقتهم بالنبي، فهل قرضاوي أو غيره لديه الضمير نفسه حتى نسمح له بالعودة إلى هذا النظام الذي لم يستمر لأكثر من ستة عقود، وما أن ذهبت الصحابة حتى ذهب معهم ومع ضميرهم، كانت سلطة تميزهم تقوم على كونهم مبشَّرين بالجنة، ولم تكن لديهم أية خبرة إدارية أو سياسية أو تنظيمية أو رقابية أو تشريعية، خاصة بعد انقضاء الوحي، ولو قلنا دولة الراشدين فإنما نعني دولة قامت على بركة الله وبركات المبشرين بالجنات، وهو كله غير موجود اليوم، صحابة كل منهم تولى الحكم بطريقة غير طريقة الآخرين، وكل منهم أدار الحكم بطريقة غير الآخرين، فبينما ساوى أبو بكر في العطاء فإن عثمان اختص أهل بيته الأموي من بني معيط، وبينما حجر عمر على الصحابة داخل المدينة، فإن عثمان جاء فأطلقهم منها، ورفض الثلاثة جمع القرآن وجمعه رابعهم … إلخ إلخ.
انظر إلى كذبه المقيت وهو كشيخ فقيه عارف غير جاهل ويعلم يقينًا أحداث تاريخنا الكئيب كلما دخل الدين في السياسة، الأئمة الأربعة عندما اقتربت منهم السياسة حبستهم وجلدتهم وآذتهم، وآذوها، كذلك العز بن عبد السلام، كذلك ابن تيمية كذلك ابن حنبل كذلك أبو حنيفة كذلك الشافعي كذلك مالك، اللطافة أن هذه الفقرة تحديدًا موجز لما قاله في تلك الحلقة عن علاقة الدين بالسياسة لتأكيد تسييس الدين وأن السياسة لا تبخس الدين ولا تبخسه، دون أن يرى أي خلل في النتائج.
أما المبهر حقًّا ولا يراه قرضاوي وزملاؤه أبدًا، أن الدولة التي آذت الأئمة جميعًا — ولا شك — ستؤذي مثلهم ولو كانوا زمنها وهي الدولة التي يطلبون عودتها ويدقون لها الدفوف ويرفعون البيارق.
إن دولة الخلافة التي يطلبون رجوعها هي التي سخَّرت الفقهاء وآذتهم ورشتهم وانقبضوا منها وانتقصوا فعلًا بسببها بينما قرضاوي وكل بطانته يملكون في الدولة الحديثة حماية هذه الدولة ولم تجلدهم أو تقطعهم ولم تشوِّههم بل أعطتهم راحتهم يدعون لدولتهم وما يريدون بملء حريتهم، حتى الدعوة الفصيحة للإرهاب والولاء والبراء دون ملامة.
وفي حال مواجهة قرضاوي بقصور مضمون دولته الشديد، لا يرى مانعًا من الاستفادة من الأمم الأخرى بما ينقص دولتنا الإسلامية، وذلك مثل قوله: «ما عندناش نظام انتخابات، نأخذه من الغربيين فلا مانع أبدًا» (الحلقة الثانية من الدين والسياسة، الجزيرة).
فإذا أخذنا عن الغرب نظام الانتخابات ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، وأخذنا عنهم نظام الدولة ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، وأخذنا عنهم نظام البنوك ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، ونظام البورصة ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، ونظام الدوائر الحكومية والوزارات ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، وما دام كل شيء غير موجود عندنا، فلماذا يتربع مشايخنا على أكتافنا؟ لماذا أنتم هنا يا سادة؟ هل لتشيروا لنا لا مانع أن نأخذ هذا ولا نأخذ ذاك؟ أنتم موجودون فقط كالأغوات المفلسين ولا تسمحون لا لشرب من هذا الإناء بل من ذلك الإناء؟ لتمنعوا وتسمحوا فقط دون إنجاز حقيقي واحد.
قرضاوي مثل فقهه زئبقي الحركة والمواقف، فها هو يقول في الحلقة الأولى ذاتها: «إن الإسلام السياسي، وتسييس الدين، وتدنيس السياسة، تسميات جاء بها المستغربون والعلمانيون، وقد قال سيدنا أبو بكر لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله، هل هناك سياسي مع الرسول؟ كان هو الإمام في الصلاة والقاضي في الخصومات والقائد الأعلى في المعارك والإمام للدولة، نبينا هو الذي جمع بين الدين والسياسة والدولة، والخلفاء الراشدون هكذا كانوا، والعلماء عرَّفوا الخلافة فقالوا هي نيابة عن رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وبعضهم قال في إقامة الدين، يعني أكثر من حراسة مش مجرد حراسة، فهكذا الخلافة وهكذا ظل الخلفاء منذ أبي بكر إلى آخر خلفاء بني عثمان حتى أُلغيت الخلافة سنة ١٩٢٤م. ظل المسلمون ثلاثة عشر قرنًا يعرفون أن الدين والدولة والسياسة، شيء واحد. وبعدها جاءت هذه (؟!) ففصلت الدين عن الدولة، أتاتورك … ولا بد من إعادة الأمر إلى نصابه بالربط بين الدين والدولة، أو بين الدعوة والدولة وبين العبادة والمعاملة، لا يوجد في القرآن فصل للدين عن الدولة ولا في السنة ولا في الفقه الإسلامي ولا في التاريخ الإسلامي طوال ثلاثة عشر قرنًا.»
هذا اسمه خطاب الحرباء؛ لأنه إذا كان رئيس الدولة في الإسلام «هو الحاكم وهو الإمام في الصلاة وهو القاضي في الخصومات وهو القائد الأعلى في المعارك وهو الإمام للدولة»، إذن هي دولة الاستبداد الكامل بيد رجل واحد، وكي نقبل استبداد هذا الرجل فنستقبله إن كان نبيا يأتيه الوحي بما يضمن مصالح العباد، دولتهم يلزم لإقامتها ظهور نبي جديد حتى نسلم له بكل هذا، إضافة إلى أن المسلمين لم يظلوا ثلاثة عشر قرنًا والدين والدولة والسياسة شيئًا واحدًا؛ لأنه منذ عهد معاوية تم فصل الإمامة الدينية عن الإمارة الدنيوية، عندما ترك إمامة الصلاة لمن يقوم عليها وتفرغ هو لشئون إدارة الدنيا.
إن قرضاوي يعلن بملء الفم أن المسلمين مكلفون دينيًّا بإقامة دولة إسلامية، وهي كما سبق وأشرنا بعد اختلاف الأزمان دعوة إلى فتن داخلية وحروب أهلية إسلامية. فستدعو إيران لدولة الملالي وسيدعو السعوديون للمذهب الوهابي، وستدعو تركيا للأحقية كآخر خلافة، وسيدعو السنة للخلافة الأموية، ونعود إلى عصر الفتن وسفك الدم المسلم بيد المسلم حتى يخلو الأمر لمستبد أوحد، ليبدأ بسفك دم أبناء الشعوب الأخرى. هي دعوة للصراع الدموي والحرب الأهلية ثم العالمية وليست دعوة للارتقاء والتحضر، دعوة إلى ذبح علني للوطن ورشوة للحسن وقتل للحسين وجلد ابن حنبل مرة أخرى، ودون الخروج بعدها من دائرة الفتن.
وحتى يلقي في روع المسلمين أن البخس والتبخيس يجب أن يلحق بالدولة بمعناها الحديث، مقابل دولة الإسلام الكاملة المنزهة عن الخطأ، يقول قرضاوي: «العالم الإسلامي جرب العلمانية عقودًا طويلة من السنين، فلم تطعمه من جوع ولم تأمِّنه من خوف ولم تحقق له نصرًا ولا رخاءً ولا حياة طيبة» (الحلقة الثانية، ١٢ / ٢ / ٢٠٠٦م).
الرجل يشير إلى دول الاستبداد العسكري القومجي العربجي بكونها كانت تجربتنا العلمانية التي انتهت بنا للخراب والهزائم. إنها الوجه الآخر لحداثة مشايخنا الزائفة، علمانية زائفة بائسة لم تملك أي مقوم حقوقي أو شرعي يعطيها صفة العلمانية، التي أول ما تقوم عليه هو المواطنة والحرية الفردانية والحريات الحقوقية الدستورية.
ما علينا، دعونا نتصور الرجل صادقًا لكن كان يجب عليه أن يستمر قائلًا: «وهكذا كان حال المسلمين من فجر الخلافة حتى سقوطها، وكانت عامل تخلف عظيم لم ينقذنا منه إلا بداية عصر الاستعمار والتنوير والتحضر منذ نابليون ومحمد علي وأتاتورك.» هذا إذا أراد أن يكون صادقًا حقًّا.
وفي كتابه «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف» يقول: «إن إقامة الدولة المسلمة التي تحكم بشريعة الله وتجمع المسلمين على الإسلام وتوحدهم تحت رايته فريضة على الأمة الإسلامية يجب أن نسعى إليها. وعلى الدعاة إلى الإسلام أن يعملوا كل ما يستطيعون للوصول إليها، وأن يهيئوا الرأي العام المحلي والعالمي لتقبل فكرتهم وقيام دولتهم» (ص٢٢٢، ٢٢٣).
وفي الحلقة الثانية من الدين والسياسة يقول: «إن عمل الدولة الإسلامية أنها تحمي العقيدة والإيمان والأخلاق وتُقوِّم نزعات الكفر والضلال وتثبت العقيدة وتشيعها.» ألم نقل إنها دعوة إلى حرب أهلية ثم عالمية؟!
الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي لا يرى أن حقوقه الدينية التي أعطاها له ربه قد تم سلبها منه بقرارات عالمية ودولية، فما عاد قادرًا على ممارسة حقوقه الشرعية في التمتع بملك اليمين بعد انتهاء عبودية الإنسان لأخيه الإنسان بقرارات دولية ملزمة، قرضاوي حقوقه مسلوبة أمام أعيننا، لا يتمتع بخدمة العبيد رغم أمواله التي تنوء بحمل مفاتيحها العصبة، ولا يستطيع أن يقيم بهذه الأموال جناحا للحريم بقصر من قصوره، كل البشرية اكتسبت حقوقها وهو لا يستطيع حتى أن يعلن هذه الحقوق بصراحة ووضوح في مواجهة العالم، ثم يقول إنه هو من سيأتي للمسلمين بحقوقهم في دولة منتظرة! إن من أعطى قرضاي حقَّ التمتع بملك اليمين هو ربَّ الأرباب وملك الملوك ومع ذلك يستحيي من ممارسة حقوقه الربانية ولا يستطيع أن يمارسها، وها يجيب لنا حقوقنا؟!
يتحدث عن الأخلاق والإسلام بينما تباين الزمان وسعة الشقة بين ظرف الجزيرة في ق٧م وبين ظرف بلادنا اليوم، يجعل مثل هذا الحديث كذبًا في كذب فهو يطالبنا بأخلاق الإسلام، وأخلاق الإسلام فيها عبودية اغتصاب لملك اليمين، وهذا في أيامنا هو أم الكبائر، لماذا إذن يقولها من الأصل؟ ام أنه فعلًا كذب في كذب لا ينتج سوى المرض النفسي المستعصي لدى الأمة كلها. كذب الذات على ذاتها ثم تصديق الكذب لتصبح بديهية. تقال هكذا انفلاتًا من أي ضوابط.
إن الأخلاق التي ستقيمها دولة قرضاوي هل ستسمح بتدمير المال العام كوسائل النقل العام أو قتل المدنيين كما أفتى بنفسه لأمراء الجماعات الإرهابية في العراق ولندن وأمريكا وشرم الشيخ، إن منطق الأخلاق بمفهوم اليوم لا يلتقي ومنطق أخلاق زمن مضت عليه عشرات القرون؛ لأن قيم الأخلاق تتغير بتغير المكان والزمان. مثله مثل زواج الصغيرة ورضاع الكبير … إلخ، كلها قيم زمانها لا قيم زماننا.
في موضوع آخر هو «مدنية الدولة الإسلامية ٩ / ١ / ٢٠٠٧م»، يقول قرضاوي: «الدولة في الفكر الشعبي بحكمها الإلهام الإلهي لا الفقيه الذي ليس له عصمة، الفقيه يحاول تطبيق الشريعة لكنه هو نفسه ليس معصومًا.» ثم يعرض لرأيه السنِّي في الدولة الإسلامية فيقول في الحلقة ذاتها: «نحن نقبل جوهر الديمقراطية؛ لأنه قد تكون في الديمقراطية أشياء لا تُقبل إسلاميًّا مثل الحرية الشخصية المطلقة وحرية الفسوق»، لا نملك هنا إلا أن نسأله عن تعريف الفسوق، وتعريف هتك العرض الذي هو حق المقاتل المسلم في السبايا، وحق الاعتداء الجنسي بالاغتصاب على الإماء المشتراة.
إن الحرية لا توجد أصلًا إلا عندما يسقط قانون الاستعباد وتُلغى مواده، الحرية هي إسقاط صك العبودية عن المرأة وعن حق الاعتقاد بصك جديد علني كما فعل إبراهام لنكولن، وليس التحدث عن دولة الحرية والمساواة بينما قانونها يشرع العبودية ووطء ملك اليمين، وعدم إسقاط هذه التشاريع يعني أنهم سيسترجعوننا بها يوم يحكمون عبيدًا لهم وإماء يركبونها. وسيتم استرجاع العبد الفار والموالي وأهل الذمة؛ لأن لديه تشاريع وصك ملكية فنحن لسنا سوى مصدر للريع، نحن من يدفع الخراج والجزية بقانون مقدس.
سادتي أهل الدولة الإسلامية، إن مجرد فتح موضوع دولة إسلامية أو خلافة يسحب الولاء فورًا عن الولاء للوطن؛ فالولاء لخليفة منتظر، هو خيانة كاملة علنية فصيحة فضيحة للوطن.