رئاسة النبي والراشدين في ميزان الدولة
سبقت وقلت إن الكيان الذي أقامه النبي محمد ﷺ بالجزيرة كان كونفدرالية قبلية ولم يكن دولة، وأنه كان في سلوكه السياسي نموذجًا واضحًا لطرائق البداوة ومنطق القبيلة. هنا سأقدم نماذج سريعة من تاريخ الدعوة ليس بقصد الحصر، فكلها لا تنطق بما نفهمه عن الدولة اليوم، ولكن بقصد ضرب المثل وكيف نُعمل عقلنا في هذا التاريخ، حتى لا نتعثر ونحن نبحث عن خريطة طريق للخلاص والانعتاق للحاق بآخر قاطرة مغادرة نحو النور.
يروي ابن كثير عن سيرة محمد بن إسحاق عن أحداث عام الوفود.
وقال: محمد بن إسحاق: ولما قدمت على رسول الله ﷺ وفود العرب، قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشراف بني تميم وقالوا: يا محمد جئنا نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال ﷺ: لقد أذنت لخطيبكم فليقل. فقام عطارد وقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن هو أهله، وهو الذي جعلنا ملوكًا ووهب لنا أموالًا عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق وأكثره عددًا وأيسرهم عدة. فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخر فليعدِّد مثلما عدَّدنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا في الكلام، ولكن نخشى الإكثار فيما أعطانا إنا نُعرَف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا. ثم جلس، فقال رسول الله ﷺ لثابت بن قيس بن شماس من الخزرج: قم فأجب الرجل على خطبته.
وهكذا استعرض أشراف تميم ما يملكون من فخر بما يليق بمصادر الفخر في زمانهم، الذي يختلف بالكلية عن زماننا؛ فالناس اليوم تفاخر بما قدمت للعلم والطب والهندسة والقانون وحقوق الإنسان والنظم الاجتماعية والفنون رسمًا أو موسيقى. فلم يقدم بنو تميم في استعراض مفاخرهم شيئًا مثل الهرم أو سور الصين أو حدائق بابل، إنما تفاخروا بقيم زمنهم وبيئتهم ومكانهم فيما تفاخر به القبيلة قبيلة أخرى، كان منطقا قبليًّا لا منطق فيه، وليس منطق وفد دبلوماسي في زيارة رسمية لدولة قائمة.
المضحك الكارثي في تاريخنا الميمون، أنهم كانوا يقولون فقط، يعني من يملك فمًا أكبر وصوتًا أعلى هو الفائز، انظر ابن زرارة يفاخر بأن بني تميم هم أعز أهل المشرق، حديث من لا يدفع على كلامه جمارك، رغم علم ابن زرارة وعلم كل الحضور من كلا الطرفين أن الشرق يمتد إلى الهند والصين، ومن هناك تأتى تجاراتهم من بلاد الملوك حقًّا وصدقًا، ومع ذلك زعم أن قبيلته هي أعز أهل المشرق وأنهم ملوك هذا المشرق ببساطة مدهشة.
انظر ابن زرارة يقول: «وإنا لو نشاء لأكثرنا في الكلام» كان الفخر عند العربي بكثرة الكلام ومن لا يحسن الكلام أعجم أي حيوان لا يستطيع الكلام؛ لذلك تسمى الحيوانات عجماوات، فهم أفضل من الحيوان لأنهم يعرفون كيف يتكلمون، بينما الحيوان لا يعرف كيف يتكلم! ولا يفوت ملاحظ تركيز آيات القرآن على السمع والاستماع والاحتفاء بالبلاغة والبيان، وكيف أن الكلام هو منحة ربانية للإنسانية «وجعلنا له لسانا وشفتين.» كانت كل ثروتهم هي الكلام الذي هو كنز حضارتهم، وقال ابن زرارة فخره الكاذب دون أن يوقفه النبي ﷺ أو يقول له كذبت يا هذا، لجأ النبي إلى الأسلوب القبلي ذاته لكنه الحاسم، قال لثابت بن قيس الخزرجي أن يجيب الرجل فأنشأ يقول:
«الحمد لله الذي السموات والأرض مَنْ خَلَقَهُنَّ وقضى فيهن أمره ووسع كرسيه وعلمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله. ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خيرته رسولًا، أكرمه نسبًا وأصدقه حديثًا وأفضله حسبًا، فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله في العالمين، ثم دُعي الناس للإيمان به، فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكثر الناس أحسابًا وأحسن الناس وجوهًا وخير الصحابة فعالًا، ثم كان أول الخلق إجابة واستجابة لله نحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم» (المصدر نفسه).
كذب التميميون وبالغوا في فخرهم وزعموا أنهم خير أهل المشرق، فأجاب المسلمون بالطريقة ذاتها لكنها مصحوبة بالإنذار بإجراءات عملية لها سوابق معلومة، فكان الرد صادقًا. «نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه» ومن لا يخضع راغمًا «كان قتله علينا يسيرًا.»
ومع الفخر نلحظ كيف يمن المسلمون على الله بإسلامهم، ويفاخرون الناس بدين من عند الله وليس من عندهم وليس محل فخرنا فهو ليس منتجنا ولا إبداعنا، فنصرة الدين من عند الله وليس من عند أحد من الناس ليفاخروا بهذه النُّصرة.
كلا الفريقين بدأ حديثه بحمد الله والثناء عليه لما منحه له ليفاخر به الفريق الآخر، وكلاهما يعترف بفضل الله، إذا ما الحاسم في الموقف؟ الحاسم هو أن عندنا نبيًّا وليس عندكم نبي، وعليكم الاعتراف به أو يكون قتلكم علينا يسيرًا.
وإذا كانت المسألة هي الإيمان بالنبوة المحمدية أو القتل اليسير، فكان الأولى أن يدور النقاش والتحاور في صلب الدين والعقيدة، وعلومه وفقهه وتفاصيله وقوانينه وثقافته ومعارفه وفضائله وفضيلته على غيره من أديان، لتكون مناظرة بين الإسلام وبين الجاهلية، لبيان ما جاء به للبشرية من جديد لم يسبق أن اهتدت إليه البشرية من قبل؛ فالفخر بالدين غير جائز لأنه لكل الناس وليس لفريق على فريق.
يعود عطارد بوفده إلى بطاحه، ليعرض ما تم في اللقاء على أهله وقبيلته ووجهاء تميم، ليتخذوا قرارًا بإيفاد وفد يحمل الإجابة، وعلى رأسه هذه المرة الزبرقان شاعر تميم المبرز، الذي وقف ينشد النبي:
جاء الزبرقان أذكى من رفيقه ابن زرارة وابتدأ الموضوع من آخره؛ فهو أعلم إلى أين يمكنه توجيه النظر وتركيز الاهتمام فيحوز على آذان مستمعيه، يعلم الآن ما هي اللغة التي يلزم أن يخاطب بها الصحابة ونبيهم، خاصة أن هذه اللغة لم تتأثر بالدين الجديد؛ لذلك ظلت القاسم المشترك بين مضارب ومرابع العرب كافة، فجاء خطابه غير نثري، إنما شعريًّا، ليضفي عليه موسيقى تطرِّيه وتجعله لطيفًا سهلًا غير متشنج، تحدث عن ضرب وشن غارات وأنهم أهل لذلك، وهو أول مشترك متفق عليه بين الطرفين ويطرب له كلاهما، وليس هنا مجال للمفاوضات والحوار الفلسفي والمنظقي للنظر فيما جاء به الدين الجديد، لقد جاءت حكمة الزبرقان لترضي الصحابة بعد أن فهم المطلوب بدفع الزكاة بالإسلام أو الجزية مسبوقة بالتسليم والخضوع للمسلمين عن يد وهم صاغرون، أمَّا ما عدا ذلك من شئون العبادة؛ فهو لا يعود بفائدة على أحد، يمارسها الجميع على مختلف الديانات للرب حمدًا وشكرًا ومعونة معنوية؛ لذلك لم تكن العبادات وأصولها موجودة في مثل تلك المفاوضات، لم تطلب الأمم المفتوحة مثلًا تخفيض عدد الركعات في الصلاة، أو تعديل شكل الصيام؛ لأنها لن تشكل خسارة مادية لمؤدِّيها، ولا مكسبًا ماديًّا لفارضيها؛ لذلك كانت العبادات خارج دائرة التفاوض؛ لأن أداءها لا يشكل إذلالًا لمؤديها، بعكس الجزية التي تقدم عن يد وهم صاغرون فتمس الكرامة وتعني الخضوع والمذلة؛ لذلك كان التصدي لها متضمنا في شعر الزبقان: «وأن لنا المرباع في كل غارة، تغير بنجد أو بأرض الأعاجم» أي أنهم هم من يأخذ بالجزية (المرباع) نصيبًا من أي غارة تحدث، سواء في بلاد الحجاز أم بلاد العجم، وفي المبالغة الشعرية الكاذبة، مجرد صوت عالٍ وادعاء وهمي وفم وسيع لذلك جاء وقت عودة الزبرقان للوعي بالواقع، عندما أجابه شاعر الرسول حسان بن ثابت يتحدث عن موقف الأنصار من النبي ومن الناس فيقول:
بغض النظر عما يتضمنه شعر حسان من المن على الله ورسوله، وكيف نصروا النبي وتنازلوا له عن جزء من نصيبهم في المغانم (الفيء)؛ فإنه لا يجد غير سبيل الوضوح التام وكيف دخل الناس الدين الجديد بمرهفات الأنصار الصوارم مع الإجبار والإذلال، إنها حرب نفسية وسيلتها الكلام أو الشعر، موضحًا أن المسلمين يعلمون جيدًا أن وفد تميم الثاني قد جاء يدفعه الخوف والرعب، لكنهم ما زالوا يحاولون تفاخرًا خجلًا رده عليهم حسان وقال لهم بوضوح جارح ومهين إنهم مجرد خدم وخول للمسلمين، أو الأحرى يمكن أن تصبحوا كذلك وأن المسلمين يعلمون أنهم جاءوا يستجدون حقن دمائهم وأموالهم من أن تكون غنائم يقتسمها المسلمون؛ لذلك سخر من فخرهم الذي سيعود عليهم وبالًا، ثم أنهى الموقف بعبارته الباترة: إن كنتم حاضرين لحقن دمائكم وأموالكم فأعلنوا التبعية والتسليم.
إن لقاءً كهذا هو لقاء بدوي قبلي تمامًا لا علاقة له بالدول والمؤسسات، بقدر ما هو مرتبط بالطبيعة البدوية والسلوك البدوي والحياة الصحراوية بكل معانيها، فلم يفاخر أحد الطرفين خصمه بما يمكن أن يباهي به العالم خارج صحرائهم أو خارج نطاق المفاهيم القبلية البدوية.
انظر نهاية الاجتماع الرسمي في قول الأقرع بن حابس التميمي بعد فراغ حسان من شعره: «وأبي إن هذا لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا» (ابن كثير، التاريخ، عام الوفود). هكذا انتهت المعركة الكلامية الباردة، علم التميميون أن محمدًا مُؤتى بوحي سماوي، حتى أقسم الأقرع بأبيه إن هذا لمؤتى له، وقد استمد الأدلة على ذلك من عدة شواهد وأدلة وقرائن، أن شاعره أشعر من شاعرنا، وأن خطيبه أخطب من خطيبنا، وأن أصواتهم أعلى من أصواتنا، وهي كلها مفاهيم بدوية بحتة لا علاقة لها بما نفهمه من المنطق، فأشهر الوفد إسلامه بعد اقتناع بعلو الصوت؛ أي أنهم انتقلوا من مرحلة المباهاة والمفاخرة إلى انتكاسة لا تريد الاعتراف بالجبن عن المواجهة، بل إعلان الاقتناع بالدين الجديد الذي لم يعلموا عنه شيئًا بعد!
وإذا كانت الرئاسة التي حازها النبي لأنه كان نبيًّا فكانت له كونفدرالية في شبه دولة كخاصية من خصوصياته النبوية، فماذا نسمي شكل الحكم الذي مارسه خلفاؤه الذين يعرفهم تاريخنا بالراشدين؟ يعمد دعاة الدولة الإسلامية لدعم الخلافة الراشدة ومشروعيتها بأنها كانت بأمر من النبي في حديث منسوب إلى النبي يقول: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر …» إلخ.
فإذا كان ما يقوله دعاة الدولة الإسلامية صحيحًا فلماذا لم يذكر أبو بكر هذا الحديث في صراع السقيفة على السلطان دعمًا لموقفه ولحسم الأمر من بدايته؟ ولماذا لم يذكر النبي أبا بكر عندما سأله المسلمون أن يوصي لهم بمن يخلفه؟ هذا ناهيك عن كون الحديث المذكور يفيد الاقتداء في شئون الاعتقاد والإيمان وتفاصيل الدين، وليس فيه ما يشير إلى رئاسة ولا إلى دولة تحتاج إلى حاكم، وتحتاج من الرعية إلى طاعة هذا الحاكم وليس الاقتداء به، لأن الاقتداء يعني أن يكون الرعية كلهم حكامًا اقتداءً بهم! إن الرسول لم يُقرَّ للمسلمين بوجود دولة للمسلمين وإلا لبيَّنها في حديث واحد من أحاديثه المؤلفة آلافًا، ولشرح لهم تفاصيل نظامها السياسي والاقتصادي والعسكري والقضائي والإداري، ولكان أمره للرعية بالطاعة مع نظام حكم واضح وليس بالاقتداء.
تعالَ قارئي لتجهد نفسك معي قليلًا مع بعض الصبر لتعذرونا على ما نعانيه في بحثنا في تراثنا الطويل العريض الغليظ، لنقرأ معًا الطبري يروي أحداث تولي أبي بكر الرئاسة: «حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة — وكان الغد — جلس أبو بكر على المنبر فحمد لله وأثنى عليه بالذي هو أهل له، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرد له حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحدكم الجهاد في سبيل الله فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.»
أول ملحوظة هي أن الدعوة في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة قد اختفت وانتقل أبو بكر مباشرة إلى الجهاد في سبيل الله، دون وجوب تعميم الدعوة على الدنيا أولًا في حمله دعاية لشرح هذا الدين القيم للناس؛ لذلك كان شعار الفاتحين لبلادنا: «الإسلام أو الجزية أو القتال» دون أن يعلم المفتوحون شيئًا عن ذلك الدين المطلوب دخولهم فيه حتى لا يذلوا بأداء الجزية أو الموت قتلًا. خاصة أن مراجعة معرفة صحابة الرسول الفاتحين لما يعلمونه عن الإسلام، ستكشف أنه لم يكن، ذلك العلم الكافي لإجراء المناظرات بين المسلمين وغيرهم لعرض الدين الجديد، نعلم أن صحابة النبي الأقربين وأهله المبشرين بالجنان لم يكونوا عارفين بكل تفاصيل الدين، ألا ترون عمر عند وفاة النبي يصيح ويهدد من يقول بموت النبي بالقتل، وأنه لم يمت وسوف يعود، ناسيًا أو جاهلًا أن هناك آيات قرآنية قد أفادت بحتمية موته كما يموت الناس. ثم نجد فاطمة الزهراء بنت النبي وعمه العباس يذهبان لأبي بكر يطالبان بميراثهما عن النبي وكانا لا يعلمان بحديث عدم التوريث الذي قاله أبو بكر «نحن الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة.» كانا لا يعلمان وأحدهما بنته الأثيرة والثاني عمه الأثير.
وهذا العباس بن عبد المطلب يأخذ بيد علي بن أبي طالب ويقول له: «ألا ترى أنك بعد ثلاث (بعد موت النبي) ستكون عبد العصا، وإني أرى رسول الله سيتوفى في وجعه هذا، وإني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب إلى رسول الله فسله فيمن يكون هذا الأمر من بعده؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإذا كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا، فقال علي والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطينا إياها الناس أبدًا، لا والله لا أسالها رسول الله أبدًا.»
السؤال هنا يقفز قفزا يريد من أنصار الدولة الإسلامية اليوم جوابًا لا يحيرونه، إذا كان الصحابة والأقربون وأهل بيت النبي لا يعلمون كثيرًا من شئون الدين، فكيف كان حال من فتحوا بلادنا؟ وهل سيكون حكامنا الجدد في الدولة الإسلامية المرتقبة أعلم من هؤلاء جميعًا وهم رفقة النبي وأهله بوجود دولة ونظام حكم في الإسلام؟
تعالَ قارئي نتابع جولتنا لنختر عشوائيًّا ما يصادفنا حول تولي أبي بكر الخلافة، لنقرأ مثلًا ابن الأثير في الكامل، ج٢، ص٤٢٤، يقول: «كان أبو بكر يحلب للحي أغنامهم «بالأجر»، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا مناتح دارنا فسمعها فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيروا ما بي ما دخلت فيه، فكان يحلب لهم. ثم تحول إلى المدينة بعد تسعة أشهر من خلافته وقال: لا تصلح أمور الناس مع التجارة وما يصلح إلا التفرغ لهم، والنظر في شأنهم، فترك التجارة وأنفق من مال المسلمين ما يُصلحه وعياله يومًا بيوم ويحج ويعتمر، فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم، وقيل فرضوا له ما يكفيه.»
إن مثل تلك الرواية تفيد بوضوح أن النبي لم يحدد مهام وظيفة الخليفة وسلطاته وما هو عليه وما هو له، حتى يتبعها أبو بكر قناعة بأوامر النبي، إن الكونفدرالية القبلية برئاسة قريش هي نظام عربي يفهمه العرب وليس بحاجة لإعادة تعريف أو تحديد؛ لأنه مأثور قديم من فجر تاريخهم لم يتغير، كل ما تغير هو سيادة قبيلة على بقية القبائل ولكنه لم يكن البتة دولة كالدول المجاورة في بلاد فارس أو بلاد الروم.
ونلاحظ أيضًا أن المسألة كانت تتم بالتجربة والخطأ والصواب واجتهاد الشخص، فعندما قرر أبو بكر التفرغ كان للنظر في أمور الناس وليس في سياسة الدولة، كان من حقه أن يبقى بالحلب والتجارة، ولا يرتكب إثمًا؛ لأن الدين لم يقرر عليه نظامًا بعينه يدير به هذه الكونفدرالية.
لقد وحَّد الإسلام القبائل في قبيلة أكبر تقوم على عصبية الدين بديلًا لعصبية الدم، ووجَّه طاقاتهم القتالية نحو الخارج بدلًا من الداخل.
نتابع لننتقل إلى مصدر آخر هو المنتظم في التاريخ أحداث سنة ١٢ﻫ (مواصلة الفتوحات) نختار عشوائيًّا فنقرأ: «ولما صالح خالد أهل الحيرة خرج إليه صلوبا صاحب قس الناطف، فصالحه على بانقيا وبسما على ألوف في كل سنة، ثم أن خالد كتب كتابين إلى أهل فارس وهم في المدائن مختلفون لموت أردشير (ملكهم)، وكان في أحد الكتابين: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد؛ فالحمد الله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرَّق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك كان شرًّا لكم، فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوز إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة. وكان الكتاب الآخر: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس، أما بعد فالحمد لله الذي فرق كلمتكم وفل حدكم وكسر شوكتكم، فأسلموا تسلموا وإلا فأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الخمر.»
ابن الوليد يطلب منهم في أمر قاطع التبعية بالدخول الطائع في دين يجهلونه، أو أن يدفعوا الجزية أو أن يقوم بذبحهم؛ ومن ثَم لم يكن الدين في الموضوع أصلًا، فإما الدفع ويظلون على أديانهم الوثنية دون مانع، أو يتحولون إلى عبيد وجوارٍ بعد قتل المقاتلين، أو أن يتحولوا جميعًا إلى الإسلام والاشتراك في فتوحاته كمرتزقة مقدسين والنهل من نعيمه الدنيوي الواضح والفوز بنعيمه الأخروي، وهو الأمر الذي لم يحدث مرة دون إكراه؛ لأنه لا يوجد صاحب دين يترك دينه لدين آخر ببساطة، خاصة في تلك العصور البدائية.
تعالوا ندقق أكثر في ما سردناه، لنجد السلطة التنفيذية كلها بيد خالد؛ فهو كان وزير الخارجية، وكان هو قائد الجيوش، فكان هو المهيمن على هذا الكيان عسكريًّا وسياسيًّا، يعقد المصالحات ويوجِّه رسائل إعلان الحرب للملوك الأجانب، دون الرجوع في أي من تلك التصرفات إلى الخليفة، فكأن هناك سلطتين قد ظهرتا بعد وفاة النبي الذي جمع كل السلطات بيده، وأصبح هناك خليفة ديني هو أبو بكر، وخليفة عسكري هو سيف الله المسلول، وكان خالد هو من يحدد مقدار الجزية ومواعيد استلامها، وتكليف من يتولى مهامها، وينظم الجيوش ويخاطب الملوك باسمه لا باسم الخليفة، وهو من يضع قواعد المعركة، ويقرر متى يمكن إبادة الأسرى كما في فتح أُليس التي ذبح فيها سبعين ألف أسير، أو متى يطلق سراحهم، وكيفية التصرف فيهم بالبيع عبيدًا أو بالفداء بالمال.
هذا شكل قبلي لشيخ في الحجاز، وشيخ آخر يقود الفتوحات دون أي أنشطة مدنية مما نفهمه من أنشطة الدولة، سواء في مجال العلم أو الزراعة أو الصناعة، فكان المجتمع يعتمد كليًّا على ريع الحرب وما تجلبه من أموال وعبيد وسبايا وحاصلات زراعية، أو مواشٍ أو منتجات صناعية لشعوب أخرى كالمنسوجات، بينما كان أبو بكر يملك ولا يحكم، فكان خازنًا لمنتجات حروب خالد وهو كله ما لا يتفق مع معنى الدولة بالقطع وباليقين، بقدر ما يتفق مع المنظومة العربية التي قامت على الغزو منذ ظهرت على الأرض.
نقلب صفحات مأثورنا بحثًا عن الدولة والحكومة لنقف عند مرحلة فاصلة، لقد سبق وتم اختيار أبي بكر خليفة، تأويلًا لأمر الرسول له بإمامة المسلمين في الصلاة في مرضه الأخير، واليوم مرض أبو بكر بدوره مرضه الأخير فكيف سيتم نقل السلطة؟ ولمن؟ وليس في المقدس بطوله وعرضه ما يحدد طريقة تبادل السلطة. نقرأ عن أبي بكر في مرض الموت «أنه عقد الخلافة من بعده لعمر، ولما أراد ذلك دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال: هو والله أفضل من رأيك فيه ولكن فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذاك لأنه يراني رقيقًا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه. ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر، فقال عثمان: أنت أخبرنا به، إن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك، ثم قال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد أبي بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها، وأول عهده بالآخرة داخلًا فيها، حين يؤمن الكافر ويوقف الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم، ثم أُغشي عليه فكتب عثمان: إني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب، فلما أفاق أبو بكر قال: اقرأ عليَّ فقرأ عليه، فكبر وقال أراك خفت أن يختلف الناس إن أفلتت نفسي في غشيتي. قال: نعم، قال: جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر، وأمره فخرج على الناس بالكتاب فبايعوه لمن فيه، وعلموا أنه عمر فدخل عليه قوم فقالوا: ما تقول لربك إذا سألك عن استخلافك عمر وأنت ترى غلظته، فقال، أجئتم تخوفوني، خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول اللهم إني قد استخلفت عليهم خير أهلك.»
العجيب في هذا الشكل من المنطق، أن الموافق والمعترض يحتجان بما يرضي الرب وما لا يرضيه، أبو بكر يرى اختيار عمر يرضي الدين والله بدليل قوله لعثمان لما كتب عمر خليفة: «جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله.» والمعترضون من الصحابة يرون أن اختيار أبي بكر لعمر هو مأثمة في حق المسلمين ويعلمون أن الرب الخالق سوف يسأله عن ذلك. الملحوظة الأهم أن أبا بكر لم يلتفت إلى المعارضة وأصر على اختياره، مؤكدًا لنفسه ولهم أنه اختار خير أهل الله ليخلفه في الحكم. المسألة هي رأي من يغلب وليس هناك أي معيار واضح للاختيار بين الموقفين.
ولما كثر اللغط أشرف أبو بكر على الناس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة وإني استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، فقالوا سمعنا وأطعنا، ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله. وأوصاه بتقوى الله.
هنا لا نجد شيئًا واضحًا خاصة ما تعلق بالناس، فمن هؤلاء الناس الذين أشرف عليهم أبو بكر؟ ومن الذين قالوا سمعنا ومن الذين قالوا أطعنا؟ وإذا كانت هذه طريقة جديدة في تبادل السلطة، فكيف سيتم هذا التبادل في حال حضور عمر الوفاة؟ الملحوظة الثانية أن أبا بكر يقول للناس: «قد استخلفت عليكم عمر.» ويقول لعمر لقد استخلفتك على أصحاب رسول الله، ولم يرد على لسانه ذكر لشيء اسمه دولة المسلمين، وهم يعلمون بالتأكيد بنظام الدولة باحتكاكهم التجاري بدول المحيط، فعمر لم يكن خليفة على دولة إسلامية لكنه خليفة رسول الله على أصحابه، ولم يوصه أبو بكر بحسن إدارة الحكم والدولة، إنما أوصاه بتقوى الله وهو ما يعني مراعاة العدالة في التقاضي بين الناس، وهي المهمة الأولى والأساسية لشيخ القبيلة، فكان الحاكم هو القاضي، ومعلوم أن عهدًا طويلًا مر بقبائل بني إسرائيل عاشوا النظام ذاته بشيخ القبيلة القاضي منذ خروجهم من مصر وعلى مدى ٤٨٠ سنة، حتى قرروا التحول للنظام الملكي فكان أول ملوكهم شاول ثم داود وسليمان، بينما ظل مفهوم شيخ القبيلة القاضي البدوي هو النموذج حتى زمن الراشدين بالحجاز.
المهم أن أول عمل قام به الخليفة عمر عند توليه الرئاسة هو عزل خالد بن الوليد «وأول ما تكلم به عزل خالد وقال: لا يلي لي عملًا أبدًا، وكتب إلى أبي عبيدة إن أكذب خالد نفسه فهو الأمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه، فانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله. فذكر ذلك لخالد فاستشار أخته فاطمة فقالت: والله لا يحبك عمر أبدًا، وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك، فقبَّل رأسها وقال: صدقت، فأبى أن يكذب نفسه، فأمر أبو عبيدة، فنزع عمامة خالد وقاسمه ماله.»
لم يستطع المسلمون منع أبي بكر من تعيين عمر مع غلظته، بينما تمكن عمر نفسه من عزل غليظ فظ آخر كان هو السلطة التنفيذية الكاملة زمن أبي بكر، هو خالد بن الوليد. هذا إذن شأن قبائل لا شأن دولة لا رأي للناس والرأي لشيخ القبيلة، وقول فاطمة لأخيها خالد: «والله لا يحبك عمر أبدًا.» إنما يعني سيادة القيم الذاتية القبلية المعبرة عن المزاج والعواطف، وغياب القيم الموضوعية وقوانين إدارة الدولة التي لا علاقة لها بحب أو كراهية أو مزاج، وذلك لعدم وجود دولة أساسًا، ففي الدولة يخضع الجميع لدستور الدولة الذي يحميه القضاء بالقوانين، كمراقب يحدد الحقوق والواجبات للجميع حكامًا ومحكومين، فاكتفى الراشدون في إدارة شئون الناس بعادات القبيلة باعتبار أن القائم هو اتحاد قبائل، وتأسيسًا على أن نظام الحكم في هذا الاتحاد غير منبثق من الدين؛ لأن الدين واحد وما ينبثق عنه يظل واحدًا، بينما تباينت سياسة الخلفاء من خليفة إلى آخر. وهل كان قرار عمر مقاسمة خالد أمواله استردادًا لأموال نهبها خالد من البلاد المفتوحة وغلها لنفسه أم كان عقوبة لخالد؟ وهل لو كان خالد مَرضيًّا عنه من عمر كما كان زمن أبي بكر هل كان سيتنازل بسهولة ويسر عن نصف ماله حتى لو غلولًا؟ ولماذا لم يطلب أبو بكر هذا الغلول رغم علم الجميع؟ هي إذن قبيلة كبيرة يديرها مزاج كبرائها ولم تكن دولة قط.
عادة ما يطربنا مشايخنا بأسلوب عمر بن الخطاب في إدارة السلطة التي بيديه، فيحكي تاريخ أبي الفدا أحداث سنة ست عشر زمن خلافة عمر فيقول: «قدم جبلة بن الأيهم ودخل في زي حسن وبين يديه جنائب مقادة ولبس أصحابه الديباج. ثم خرج عمر إلى الحج هذه السنة فحج معه جبلة، وبينما جبلة طائفًا إذ وطئ رجل من فزارة إزاره، فلطمه جبلة فهشَّم أنفه، فأقبل الفزاري إلى عمر وشكاه، فأحضره عمر وقال له: افتدِ نفسك وإلا أمرته أن يلطمك، فقال جبلة كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال عمر: إن الإسلام جمعكما وسوَّى بين الملك والسوقة في الحد، قال جبلة: كنت أظن أني بالإسلام أعز مني في الجاهلية، قال عمر: دع عنك هذا، قال جبلة: إذًا أتنصَّر، قال عمر: إن تنصَّرت ضربت عنقك، قال أنظرني ليلتي هذه، فأنظره، فلما جاء الليل سار جبلة بخيله ورجاله إلى الشام، ثم صار إلى القسطنطينية وتبعه خمسمائة رجل من قومه فتنصَّروا عن آخرهم، وفرح هرقل بهم وأكرمهم.»
إن هذه الرواية المكررة هي إحدى وسائل الدعاية للدولة الإسلامية العادلة التي لا تفرق بين الملوك والسوقة، وأن العربي البدوي الذي يدخل في هذا الدين الجديد يستطيع أن يحصل على حقوقه كاملة، بما يحفظ عزته وكرامته بل ويرتفع بها لتطاول الملوك، كما توضح أيضًا أن الخروج على الإسلام بعد دخوله يقابل بالقتل، حتى لو كان هذا المرتد من الملوك فأي عزة وأي كرامة وأي عدالة؟!
مثل هذا الحكي الإعلاني يعتمد الترغيب والترهيب ولا علاقة له بالاقتناع بالدين من عدمه، ودخول الإسلام والخروج منه لا يعتمد على الفكر والتفكير والحوار والجدل بالتي هي أحسن، والبحث عن فضائل الإسلام مقارنة بغيره من أديان، هي المصالح فقط وتحقيق الرغائب سبب الدخول أو الخروج، ليس عن قناعة وإيمان من عدمه فلو كان جبلة بن الأيهم قد دخل الإسلام عن قناعة ومعرفة بمبادئه، ما كان ليخرج نتيجة لطارئ كهذا، الأخطر أنه عندما ارتد ارتد معه خمسمائة من أتباعه، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن دخول الإسلام لم يكن عن قناعة؛ لذلك يسر عليهم تركه وتمسك جبلة ورجاله بكرامتهم دون تمسكهم بدينهم، ولا شك أن التساؤل الساذج البسيط: أين كانت الدولة هنا؟ وكيف يخرج رجل برجاله إلى بلاد العدو طوال هذه المسافة الهائلة؟ وأين كان جيش الدولة ومخابراتها وأمنها لمنع ذلك؟
لقد تسببت الطريقة العمرية في الحكم بارتداد خمسمائة مسلم بدون مبرر مكافئ لهذه الخسارة، وكانت نتيجة العدالة العمرية أن الفزاري لم يأخذ حقه الذي أراده له عمر، مضافًا إلى ذلك ارتداد جبلة ورجاله! فلا أخذ الفزاري حقه ولا ظل جبلة ورجاله مسلمين، إن جعل القصاص من لطمة أعلى وأفضل من نشر الإسلام هو ليس من السياسة ولا حتى من الكياسة، فتقديم جزء من الدين (القصاص) على الدين نفسه هو صد عن هذا الدين.
كان بإمكان عمر أن يعوض الفزاري عن اللطمة من بيت المال دون أن تتحقق هذه الخسائر، لكنها سياسة الفرد شيخ القبيلة الذي قد لا يلتفت إلى حلول أخرى يمكن أن ينبهه لها شركاؤه في الحكومة من وزراء ومتنفذين، كما هو الحال في بقية دول الدنيا؛ لأنها ببساطة لم تكن دولة.