من القيم الذاتية إلى القيم الإنسانية
في البدء لم يكن الإنسان قد صار إنسانًا بعد، في البدء كانت البيئة الوحشية والطبيعة القاسية تفرض عليه صراع وجود حياة أو موتًا، وخلال هذا الصراع الطويل الذي بدأ من فجر الوجود البشري على الأرض حتى اليوم، حقق الإنسان نقلات هامة حاول فيها أن يحقق انتصاره على الطبيعة، حتى وصل إلى ترويض كثير من عناصرها وتسخيرها لخدمته ليصبح على الأرض سيدًا لها.
في صراعه الأولي الابتدائي استعان بالسحر والتعاويذ والقرابين للتعامل مع مظاهر وعناصر الطبيعة، وفي مرحلة تالية انتقل إلى فكرة التعامل المباشر مع ما تصوره قوى مُحرِّكة تقف وراء مظاهر الطبيعة، عطاءً أو شحًّا خيرًا أو دمارًا، فاستدعى للطبيعة آلهة يمكنه مخاطبتها، كانت آلهة متخصصة، فكان لكل ظاهرة طبيعية ربها، فكان للجبل إله، وللنهر إله، وللنار إله، وللخير إله، وللمطر إله، وللشر إله، وللخصب الجنسي إله يدبره، وللأنوثة إلهة، وللذكورية إله فحل، وللطفولة إلهها … إلخ.
ومع الاستقرار على الأرض بعد اكتشافه الزراعة، وتوسع هذا الاستقرار في أقاليم معبدية تنشأ حول المعبد، ثم أقاليم مدينية تقوم حول مركز الحكم، ثم توحد هذه الأقاليم في مدينة دولة مملكة، ثم في دولة كبيرة تضم عدة مدن ممالك إن سلمًا أو حربًا، حدث التحول والتطور ذاته في عالم الآلهة، التي نزعت بدورها نحو التوحد في إله واحد يحوي كل الآلهة القديمة على اختلاف تخصصاتها وحتى اختلاف فضاءاتها الجغرافية البيئية القديمة في ذاته الواحدة العلية، وظل الأمر على حاله بسيادة رجل الدين حليفًا أول للسلطة، حتى ظهور المنهج العلمي في التفكير ثم الثورة الفرنسية وصراع عصر النهضة، الذي انتهى بسيادة المنهج العلمي، الذي كان أهم ما حققه هو إعادة الحدث والظاهرة إلى سببهما الحقيقي وإدراك الإنسان للعلاقة السببية بين السبب والنتيجة، ليرضى بالسبب الأقرب الواضح المادي، حتى لو لم يكن كافيًا للتفسير التمامي، بديلًا من الرحيل إلى ما وراء هذا السبب المادي إلى ميتافيزيقا تصورية وهمية. فأمكن علاج كثير من الأمراض والتصدي لمعظمها حتى تم القضاء عليها من التاريخ، بعد اكتشاف الميكروبات والفاكسينات والمضادات الحيوية، فكان أن حل العلم الإنساني محل كل التراث القديم للبشرية، وخرج الرب وأنبياؤه وكهنته من الموضوع، وحل العلماء محل الأرباب بعد أن أثبتوا بالآيات البينات الواضحات مساندتهم الحقيقية لبني الإنسان في مواجهة الطبيعة القاسية التي ظلوا رهن نزواتها وكوارثها وحوائجها وأوبئتها طوال الأزمنة الخوالي.
وفي كل مرحلة ونقلة تطورية كانت تظهر بما تناسب المرحلة وتعبر عنها حتى وصلنا إلى زمن العولمة الإنسانية حيث توافقت البشرية على قيم تناسب زمنها وتعبر عنه.
وعودة نحو البدء وبصحبة سؤال القيم لن تجد هذا البدء سوى ما يمكن تسميته قيمًا ذاتية، وهي في معظمها غرائزية تتعلق بالحفاظ على النوع وعلى الحياة. ولكن مع اللحظة التي أبدع فيها الإنسان شيئًا لم يكن موجودًا في واقعه، ظهرت لأول مرة فيها من نوع جديد لم تكن معلومة من قبل، بعد أن توافق الناس على تقييم هذا الجديد وإعطائه قيمة وتثمينًا، ثم وضعوا له القوانين التي تحمي هذه القيمة، والمؤسسات التي تضع القانون وتلك التي تسهر على تنفيذه. وانتقل الإنسان من العيالة على الطبيعة وقيمها الغريزية الحيوانية ليكتشف مع الفلاسفة مباحث القيم وعلم الأخلاق، وهي مرحلة تالية للدين؛ لذلك لم يعرف الدين هذه القيم. وظهرت لنا اليوم قيم ما خطرت في بال الأقدمين، كالقيم المصاحبة لعلم هندسة الوراثة وما يحكمها من قوانين، وقيم لها علاقة باكتشاف الطاقة النووية وقوانين تشغيلها وشروط دفن نفاياتها. لكن هذا لم يعنِ انتقال البشرية كلها إلى قيم زماننا، فما زال في زمننا في الصحارى وأواسط الغابات والأحراش الإنسان ذو القيم الغرائزية البدائية العنيفة إلى اليوم.
ما يمكن إضافته هنا التنبيه إلى أن هذا النفع قد يكون توهمًا وليس حقيقة، كالاعتقاد في فعل السحر أو أن أدعية تأتي بالمراد، أو أن التعاويذ تمنع غير المرغوب فيه، أو أن الصلاة تُسقِط المطر أو أن رجم إبليس له أية قيمة، خاصة أنه رغم طول مدة الرجم على مر العصور؛ فإنه بحسب أهل الدين لم يرتدع عن إغوائه للمؤمنين.
وكي يتمكن الإنسان من إصدار حكم قيمة فلا بد أولًا أن يملك حريته بإطلاق؛ لأنها هي ما تمكِّنه من إصدار حكمه القيمي، بينما لو كان واقعًا تحت سيطرة خارجية تُسيِّر إراداته، فإن حكم القيمة لن يكون معبرًا عن رأيه بل عن رأي المُتسلط المسيطر، سواء أكان هذا المتسلط حاكمًا أم رجل دين أم المجتمع ذاته؛ لذلك فشرط أحكام القيم السليمة الأول هو الحرية المطلقة في اختيارها.
ومن شروط تمام حكم القيمة أن يكون هناك تماس مباشر بين الإنسان والشيء، أو الفعل محل التقييم؛ لأنه الطرف الثاني في المعادلة، وهو الطرف الموضوعي الخالي من العقل والعاجز عن الإفصاح عن قيمته، ويكون محل حكم الطرف الأول «الإنسان» عليه بحكم قيمة، بعد أن يكتشفها العقل الإنساني فيه.
المسألة أيضًا ليست بهذا القدر من البساطة لأن هذا العقل كي يتصل بالموضوع، فإن هناك موصلات ومدخلات يمر منها الموضوع إلى العقل الذي سيصدر حكم القيمة، بالطبع أول المدخلات هو الحواسُّ الخمس، وهي تخضع لمؤثِّرات عديدة أهمها مدى جودة هذه المدخلات أو الموصلات، فبعضها ضعيف وبعضها معيوب، وبعضها محاط بتعليمات مجتمعية أو دينية تعوق التوصيل السليم فتؤثر سلبًا أو إيجابًا في الموضوع وهو يتحول من صورة وشكل في الواقع إلى معلومة عقلية، وأثناء هذا التحول تتدخل المؤثرات فتنتقل شيئًا قد يخالف الموجود في الواقع الماثل قليلًا أو كثيرًا.
الموصلات أيضًا تتداخل معها الغرائز والحاجات والمشاعر ألمًا أو لذةً، والقيمة الاقتصادية وتعاليم الدين والمجتمع كالعادات والتقاليد، ولكل مؤثر هنا دور في عملية تحويل الموضوع إلى معلومة ذهنية، كل حسب اختصاصه، فإن كان المؤثر الغريزي هو الأعلى لن يلتفت الرجل إلى عقل المرأة قدر التفاته إلى دوائر فخذيها؛ ومن ثَم يصطبغ الموضوع غير الغريزي في الواقع، بصبغة غريزية عند تحوله إلى معلومة ذهنية، صبغة لم تكن موجودة في الواقع الماثل. كذلك إذا كان المؤثر دينيًّا هو الأقوى فسيقودني إلى ضعف المؤثرات الأخرى في عملية النقل، فيأتي الحكم مصبوغًا بحرام وحلال خاص بدين صاحبه، ولا علاقة له بما هو في الواقع من حيث هو خطأ أم صواب، صحيح أم باطل، نافع أم ضار، وفي حال تعادل المؤثرات فإن حكم القيمة سيأتي حكمًا مُجودًا مدعمًا بالثقافة العامة والمصالح المشتركة للمجتمع والتربية السليمة، يأتي حكمًا يراعي كل المؤثرات فيظهر القيمة الحقيقية للموضوع، وينقل الموضوع كما هو بذاته في الواقع ليصبح فكرة ذهنية مطابقة لما هو في الواقع بكل دلالاته ومعانيه.
ولأن فقهاء المسلمين لا بد أن يعرفوا في كل شأن، ويدلوا بدلوهم في كل بئر؛ لأنهم أحاطوا بالمعارف كلها عبر المقدس التام الشامل المانع؛ فإنهم لا يجدون أي بأس من القول بشيء اسمه «القيم الدينية»، المشكلة في المزايدين من رجال العلم في بلادنا الذين يريدون إثبات طاعتهم لأصحاب القداسة، انظر مثلًا أستاذ الفلسفة الدكتور توفيق الطويل في كتابه أسس الفلسفة، إذ يؤسس لشيء عجيب بقوله: «هناك من يرى أن وظيفة القيم الدينية هي المحافظة على القيم الإكسيولوجية الثلاث: الحق والخير والجمال، أكثر من وضعها قيمة رابعة تضاف إليها» (ص٣٧٨). وأستاذ الفلسفة يريد أن يقول بقيم دينية ويعطيها وظيفة غير موجودة في الواقع، فوظيفتها المحافظة على القيم الإكسيولوجية، والمعنى المتضمن أنه لا تعارض بينها، لكن المتضمن أيضًا أن الإكسيولوجية كانت هي الأسبق في الوجود، وأن القيم الدينية جاءت لاحقة لها، وكي تكون لها مهمة ولو مخترعة لمجاملة سدنة الدين، يعطيها مهمة المحافظة على القيم الإكسيولوجية، والأنبياء لم يقولوا لنا سوى عبادات ومعاملات وأوامر ونواهٍ.
ما نقوله هو محاولة الإجابة عن السؤال الساذج هنا هو: أنه إذا كانت هناك قيم دينية فما هو مصدرها؟ وما هو نوعها؟ يعني هل هي قيم ذاتية تعبر عن الذات الإلهية ورغباتها أم أنها موضوعية ضمن طبيعة الأشياء وفي هذه الحال لا تكون دينية؟ لأن الله عندما خلق الأشياء خلق معها قيمها، وفي هذه الحال تصبح قيمًا موضوعية في واقع الأشياء، أم خلق الأشياء ثم تذكر أنه قد سها عن وضع قيم لها، فأرسل لها ملحقًا توضيحيًّا بقيم دينية مع الأنبياء والرسل؟
وإذا كانت القيمة هي معيارًا نزن به ونفاضل بين الأشياء أو الأفعال؛ فالفعل كله إذن بشري ولم يكن الدين طرفًا منه، لكن إذا كانوا يقصدون القيم الذاتية فهي بالمئات وضمنها الدين كعنصر من عناصرها وليس هو كلها، فهناك مؤثرات أخرى في القيم الذاتية كعامل الوراثة والبيئة وشكل المجتمع ونظامه السياسي ونظمه الاقتصادية وعاداته وتقاليده ناهيك عن الغرائز والحب والكراهية … إلخ … إلخ.
والقيم الذاتية غير القيم العامة التي تضع معيارًا لها هو نفع أو ضرر الجماعة كلها، فالملك الذي لا يحب أكل الملوخية لا يحق له إصدار قرار بتحريمها على شعبه، ومن تعف نفسه شرب الخمر أو أكل الدم أو لحم الخنزير فلا يفرضها على غيره؛ فهي شئون ذاتية تتعلق بالذوق الخاص جدًّا ولا تلزم الآخرين بها، في شهر رمضان مثلًا يقيم الغني التقي مائدة الرحمن، بينما جاره الأغنى والتقي بدوره لا يقيمها، مثل هذه الحرية في الأداء تعني أن المسألة وجهات نظر وليست مُتفقًا عليها، هذه التي يسمونها قيمًا دينية لا معنى لها بعدم إلزام الناس جميعًا بها، حتى الفروض والشعائر الدينية كالحج هي قيم ذاتية شخصية يعود نفعها على صاحبها وحده؛ لذلك لا تجد حكومات إسلامية أي حرج في وضع قيود على الحج لعدم سحب الأموال الوطنية إلى بنوك السعودية، رغم أن الحج يلزم كل من استطاع إليه سبيلًا. حتى إنه أحيانًا يكون لكل جماعة قيم خاصة بها، بل ولكل طائفة، بل ولكل أسرة، بينما القيم العامة هي قيم إنسانية تلزم المجتمعات الإنسانية في أي مكان، مثل عدم تشغيل الأطفال، أو محاربة المخدرات البيضاء باتفاق عالمي لتأكيد ضررها الذي سيمس الجنس البشري كله أو حقوق الإنسان، أو عقوبة جرائم الحرب … إلخ.
مشكلة سادتنا الفقهاء مع القيم الإنسانية ليواجهوا بها القيم الدينية مشكلة غير مفهومة؛ فالقيم الإنسانية لا تُلغي القيم الذاتية، أن تشرب القهوة سادة أو مع سكر زيادة أو تتزوج أو تعيش عازبًا، هذه مسائل شخصية، لا تتدخل فيها القيم الإنسانية بالإثبات أو بالرفض. واستدعاء قيم زمن الدعوة الإسلامية لا يعني أنها كانت قيمًا دينية، بقدر ما كانت مغرقة في ذاتيتها وبدائيتها وغرائزيتها، بحكم زمنها وطبيعة بيئتها القاسية، كانوا يؤمنون أن الناس رتبًا وقبائل وأنسابًا ومنازل؛ لذلك لم يعرفوا قيمة عرفتها مجتمعات أخرى وأزمنة أخرى، هي قيمة المساواة في الحقوق والواجبات، بل لم تخطر لهم على بال رغم ما يرفعون من شعار أسنان المشط؛ لأنها أسنان مشط واحد هو التقوى في الإسلام، وغير ذلك لا يدخل ضمنها. في ذلك الزمان ستجد حتى بلاد الحضارات تؤمن بقيم شديدة الذاتية، حتى ما وصل إليه اليونان والرومان من رقي في عقدهم الاجتماعي الديمقراطي؛ فإنها كانت «الديمقراطية» قيمة ذاتية لمجتمعهم فقط، ولا يصدرونها كقيمة إنسانية عالمية إلى بقية الشعوب، وكان الرومان يرون أن الشعوب غير المحكومة بدستور وقانون هي شعوب دون رتبة الإنسان ولقبوهم بالبرابرة. بينما في زماننا فإن الأمم المتحدة تسعى إلى تعميم الديمقراطية على شعوب الأرض، وهو كله ما يؤدي إلى الاعتراف بأنه ليست هناك قيم دينية أزلية ثابتة صالحة لكل زمان ومكان؛ لذلك تكثر الحروب الأهلية وينتشر التخلف وتتكاثر المشاكل، حيثما نجد المجتمعات التي ما زالت تعمل وفق القيم الذاتية. فعندما يحرِّم مجتمعٌ الموسيقى والغناء والنحت وهي كلها قيم إنسانية؛ فإنه يَحْرِم نفسه ارتقاء الروح والإحساس بقيمة الجمال؛ لذلك يكون تحريم التذوق الفني ارتدادًا عن الإنسانية؛ لأن الإنسان هو الفنان الوحيد بين الكائنات الحية الذي يبدع الفنون ويتذوقها ويعطيها قيمة، إن مثل هذا التحريم يعود بالمجتمع ليس إلى زمن القيم الذاتية الصحراوية فقط، بل يعيده إلى الحيوانية؛ فالإنسان هو الوحيد الذي يستطيع أن يرسم، فلم نسمع عن جمل يرسم أو عن بغل يغني، رغم أنهما لنركبهما وللزينة، وعندما يرفض الإنسان الزينة والفن ويكتفي بالركوب يصبح هو وما يركبه من الفصيلة ذاتها.
ولو عدنا إلى زمن الراشدين مثلًا لنكتشف شكل القيم فيه، لوجدنا أن كل شخص له قيمة وله معيار خاص للقيمة، وتنتصر قيمته ومعياره بقدر مكانته وقوته في المجتمع، هي قيم رُتبة السنانير، عندما اختلف عمر الخليفة مع عمَّاله على الأمصار حوَّل المغانم والفيوء المنهوبة من البلاد المفتوحة، لم يختلفا حول جواز مهاجمة الشعوب وسلبها خيراتها كقيمة خيرة أو شريرة، إنما اختلفا حول نصيب كل منهما من هذه الفيوء، دون حتى قواعد واضحة لتفعيل التقسيم العادل، كانت المسألة أنت وشطارتك، فإن تمكن الخليفة فإنه يشاطر ابن العاص أموال المصريين، وإن أمكنه ناصف خالد بن الوليد أموال العراقيين، وقاعدة الغزو نفسها والسلب والنهب للآمنين لم تكن قيمة سلبية ولا مشينة، بل هي قيمة إيجابية تدل على السطوة وفروض السيطرة؛ فالقيمة عند البدوي تنبع منه، وهو من يحددها حسب مصلحته. اختلفوا حول الأنصبة وليس في حلال أو حرام؛ لأنه حسب القاعدة الدينية حلال بلال زلال، كذلك لا حديث عن المنهوب المجني عليه هنا؛ لأنه غير شريك في الإنسانية، هو من العجماوات وليس له ما للعرب من حقوق، هو من يعمل ويدفع وهم من يقبضون لقدرتهم على القبض وعلى الإنفاق، وكله في سبيل الله.
يهولنك حجم الجرأة على الحق عند من يزعمون أنهم الحق، انظر معي الفقيه قرضاوي وهو يؤكد على وجود القيم الإنسانية كأساس في منظومة الدين الإسلامي، فيتحدث في كتابه «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده» فيقول: «ويقوم ذلك المجتمع على آداب وتقاليد خاصة تجعله نسيج وحده غير مقلد لغيره ممن بعد عنه زمانًا أو بعد مكانًا، مجتمع يقوم على القيم الإنسانية الرفيعة التي تقوم على احترام كرامة الإنسان وحريته وحرماته وحقوقه وصيانة دمه وعرضه وماله وعقله ونسله بوصفه إنسًا، ونركز هنا على مجموعة من القيم الإنسانية وهي العلم والعمل والحرية والشورى والإخاء» (مكتبة وهبة، ص١٠٩).
أولًا لا تفهم سر النزوع الغريب إلى تأكيد أن المسلمين لون خاص من البشر بلا شبيه ولا نظير، ولماذا يجب ألا يقلد هذا المجتمع غيره ممن بعد عنهم مكانًا أو زمانًا؟ إن هذه القاعدة من البداية تشير إلى لا إنسانية المعيار نفسه، فهو يميز بشرًا عن بشر ويرفض الاهتداء بما قد يصل إليه البشر الآخرون من فوائد للإنسانية، إنها أصل وأُس القيم الذاتية البدائية التي ترى ذاتها أم كل القيم ومعيار كل الأشياء.
المهم أن قرضاوي في كتابه سيركز على القيم الإنسانية الرفيعة في الإسلام وهي احترام قيمة الإنسان.
فهلا أشار لنا قرضاوي أو أي قرضاوي آخر أين نجد تلك القيمة في تاريخ الفتوحات الإسلامية التي فتحت العالم لأنوار الإسلام؟ وفي أي حادثة؟ وأحداثها كثيرة وهائلة ومهولة ومرعبة ولا مثيل لها في تاريخ القسوة حتى لو قارناها بجنكيز خان وهولاكو.
هل من احترام قيمة الإنسان جلده وتقطيعه وسمل عيونه وتقطيع أوصاله من خلاف والذبح صبرًا؟ وأي إنسانية الحقوق التي تفترض التساوي إزاء القاعدة القرآنية «الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى»؟ هل من احترام قيمة الإنسان بعد ذبحه في المعركة ركوب نسائه في ساحة الوغى بحق حلال أحل من لبن الأم، مع سبي أطفاله وبيعهم في سوق النخاسة أو استعمالهم جنسيًّا ولا غضاضة؟ وهل من ضرورات نشر الدين ورضا رب الإسلام ركوب نساء المهزوم؟
وهل من احترام قيمة الإنسان: أن يدرس أبناؤنا في معاهدنا الدينية حتى اليوم فقهًا كاملًا على المذاهب الأربعة مدونًا في مئات الصفحات ليشرح لهم فقه الرقيق في الدية وفي الميراث والبيع والشراء والمباضعة والمناكحة والمخارجة، إلى آخر أبوابه الطوال.
أين هنا «كرامة الإنسان وحريته وحرماته وحقوقه وصيانة دمه وعرضه وماله وعقله ونسله بوصفه إنسانًا»؟ وكيف أمكن تفعيلها إزاء الرسالة الفاتحة تدق أبواب البلدان بالرعب «الإسلام أو الجزية أو القتل»؟! الآيات تقول: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (الفتح: ٢٩) هنا قيم ذاتية بالتمام والكمال، ويصبح القول بقيم إنسانية إفكًا افتراه قرضاوي ويعينه عليه آخرون؛ لأن كرامة الإنسان وحريته وحرماته وحقوقه وصيانة دمه وعرضه بوصفه إنسانًا، قيم إنسانية حققتها البشرية بعد صراعات تاريخية طويلة ضد القيم الذاتية التي تقوم على مبدأ القهر والغلبة، ولم تنضج إلا مع الثورة الفرنسية واستمرت معاركها ومكاسبها حتى اليوم، وما زالت تتأسس قيم جديدة مع حاجات الإنسانية وتطورها لحماية هذا التطور من الانتكاس إلى الخلف.
ولا يميز مجتمع عن مجتمع بكونه يحرم السرقة والقتل ويدين الكذب والخيانة ويرفض الغش بألوانه؛ فهي كلها قواعد متعارف عليها في مختلف المجتمعات والديانات.
إن أي دين من الأديان لم يكن قد حضر بعد تحقق الرقي البشري إلى مستوى القيم الإنسانية؛ لذلك فإن أي دين وضمنه الدين الإسلامي يحول قيم الأخلاق إلى تجارة؛ فالحسنة بعشر أمثالها، بعد أن يفرغها من مضمونها الراقي للفعل الخيِّر دون انتظار مردود، فيربطها بنظام من المكافآت والعقوبات، فيلغي بذلك دور الضمير والحس الإنساني الأخلاقي الراقي ليحولهم لأتباع عميان لتعاليم وأوامر ونواهٍ، ليس لأنها تستحق الاتباع ولا لأنها تحقق فوائد عامة للمجتمع أو للإنسانية، ولكن لأنها أوامر إلهية فقط!
إن القيم الإنسانية تقصد خير الإنسان في أي مكان بغض النظر عن لونه أو دينه أو لغته أو جنسه، وغيرها هو قيم ذاتية محلية طائفية تقصد مصلحة طائفة بعينها أو فئة أو جماعة أو ملة أو مذهب، وهي بهذا المعنى تظل قيمًا أنانية لا تعبأ بالآخرين، ولا تهتم ولا ترى ما يلحق بهم من أضرار ما دام النفع يعود على الطائفة أو الجماعة؛ لذلك لن تجد أي شعور بالألم أو الندم للأحداث التي روتها لنا حروب الفتوحات، بقدر ما تشعر بالزهو والفخار والمجد والسؤدد والبطولات المبهرة.
يشغلني هنا قول هام للأستاذ راضي عاقل وهو يعقِّب على القيم الأخلاقية والأديان، سأجتزئ بعضًا مما قال وهو لا يغني عن العودة إلى مدونته المحترمة لما فيها من تفاصيل هامة وكثيرة، يقول الأستاذ عاقل: «هناك مسلَّمة أن الإسلام مرادف للأخلاق وأن من لا دين له هو بالضرورة لا أخلاق له، بينما الدين عمومًا والإسلام خصوصًا هو نقيض للأخلاق، ويساهم بشكل فعَّال في تشويه نفسية المؤمنين، به قُتل حسهم الأخلاقي؛ فهو لا يسرق، ولا ينام مع أمه، ولا يقتل، فقط لأن كتابه قال له ذلك، وطمعًا في الحور اللواتي يرجعن عذارى بعد كل نكاح، وخوفًا من الشواء الأبدي وتبديل الجلود المتكرر بعد النضح، وليس لأي مبدأ أخلاقي من أي نوع من الأنواع، فلو لم يكن هناك عقاب ولا ثواب فسيقومون بكل ذلك، فأين هي الأخلاق؟
إن الدهماء والغوغاء واللصوص هم من يحتاجون للعقوبات لضبط تصرفاتهم، ولكن القوانين البشرية تستطيع ردعهم دون الحاجة للآلهة، إن الإسلام قانون عقوبات ومكافآت دنيوية وآخرية، فأين الأخلاق في الرشوة والترهيب؟ وأكد على أن عقل الإنسان قاصر لا يمكنه التمييز بين ما ينفعه وما يضره ويجب بالتالي أن يتبع توجيهات الإله الذي خلقه، وبالتالي فهو أعلم منه بما ينفعه وما يضره، وأصبح الناس في خدمة الأخلاق عوضًا عن الوضع الطبيعي الذي هو أن الأخلاق وُجدت لخدمة الناس.» انتهى.
إن فقهاء المسلمين يرفعون شعارات لا علاقة لها لا بالإسلام ولا بأي دين آخر، يذكروننا أيام كانت ألمانيا الشرقية الشيوعية كاملة الاستبداد تسمي نفسها رسميًّا ودوليًّا ألمانيا الديمقراطية؟ ينسبون قيم غيرهم لأنفسهم ولا يكتفون بذلك بل يسلبونها عن أصحابها الذين اكتشفوها بعد تاريخ طويل من الصراع لإرسائها قواعد إنسانية راقية. بينما قيم فقهائنا تطلب تكفير أصحاب تلك القيم الإنسانية وقتلهم وسبي نسائهم وهتك أعراضهم والاستيلاء على أموالهم، يسلبون الآخر قيمه ويكفِّرونه ثم يركبونه، لكن لو قدر أن نفذت تلك القواعد الإسلامية على المسلمين فإنهم يعتبرونها مسبة عار عليهم، هي للتطبيق على غيرهم فقط، فعندما استباح صاحب الزنج وثواره وطء السبايا من المسلمات القرشيات ثارت النخوة العربية كلها لإخماد ثورة الزنج، وعندما استباح إبراهيم باشا الدرعية لم ينسَها السعوديون لمصر حتى يومنا هذا.
مشايخنا يصيبون مجتمعنا كله بالكساح العقلي والضمور المعرفي والخلل في الضمير عندما يعطون المسلمين القيمة ويسلبونها عن غيرهم، فهم المؤمنون وغيرهم هو الكافر لذلك هم الصواب وغيرهم الخطأ، هم أهل الجنة وغيرهم أهل الجحيم، تحويل المجتمع بقرار فردي للجهاد، احتلال الغير لبلادنا قبيح، واحتلالنا لبلاد الغير نشر للنور وتفضُّل عليه وتكرُّم.
وترى المأساة كاملة عندما تجد مشجعي القيم الإسلامية لا يريدون فرضها علينا وحدنا، إنما هم يريدون عولمتها، يريدون فرض قيم ذاتية صحراوية مضى عليها أربعة عشر قرنًا على دنيا اليوم أجمع، على اختلاف البيئات والهويات والمستويات. فإذا كانت تلك رغبة إلهية لما كلَّف بها الفقهاء ولأرسل الرب أنبياءه على التساوي والتماثل لكل مناطق العالم وبمجتمعاته باعتبارهم جميعًا من خلقه، لكن ما حدث هو العكس، فإن الله في «كتبه المقدسة الثلاثة» أكد أن توحيد القيمة الدينية كونيًّا هو أمر مستحيل، حتى أنه بعد أن أزال كل مخالف لهذه القيمة من على وجه البسيطة بإبادة جماعية بطوفان نوح، فإن ذلك لم يؤدِّ إلى هذا التوحيد، وعاد البشر بعد الطوفان يصنعون قيمهم المختلفة مره أخرى.