هل غير المسلم ذو خلق بالضرورة
أعراض عصابية سيكوباتية شديدة الاستعصاء، أصابت القيم الأخلاقية عند المسلمين في مقتل، وهي لون من المسلَّمات التي لا دليل على صدقها في الواقع، بل إن الواقع ينفيها ويكذِّبها، مسلَّمة تقوم على ما يشبه الاعتقاد الديني، وهو أن الإسلام تحديدًا من بين كل أديان الأرض سماوية وأرضية المعبِّر الصحيح عن القيم الأخلاقية، وأن غير المسلم هو بلا أخلاق بالضرورة، لكونه غير مسلم فقط.
مشكلة المسلم مع القيم شديدة التعقيد؛ فهو يقيم مناهجه القيمية على عقائد دينية، ولأنه يعتقد أن عقيدته وحدها هي ما تملك الأخلاق الذي يلازم تمامية المعرفة بالضرورة. لكن ذلك تحديدًا هو ما يجعله يفترض بالضرورة أن غير المسلم لا يملك معرفة سليمة، كذلك هو بالضرورة لا يملك أخلاقًا سوية حتميًّا، وكان سلب القيم الأخلاقية عن العدو وما زال سلاحًا فعَّالًا في الحرب النفسية لتجييش من يظنون أنهم الأبرار والأطهار ضد الأشرار، فيتم تنجيس وتبخيس الغير أولًا حتى يكون الضمير مرتاحًا عند قتل هذا الغير في عقيدة الجهاد، يكون قد استحق مصيره وشن الحرب عليه وقتاله وقتله.
ولهذه الأسباب تحديدًا، وعلى مثل هذه العقائد بالذات وبالتخصيص، قامت حروب الفتن الإسلامية وحروب الفتوحات التي حصدت ملايين المسلمين وغير المسلمين (حوالي مليون ونصف مليون إنسان خلال السنوات الأربع الأولى من الفتوح خارج الجزيرة في زمن كان المليون إنسان رقمًا هائلًا بحسب تعداد المجتمعات حينذاك)؛ لأن هذه الحروب قامت على اعتقاد بامتلاك المسلمين للحقيقة النهائية في فهم الدين والدنيا، ثم امتلاك كل طرف مسلم في حروب الفتن للحقيقة التامة، وأنه وحده من يملك قيمًا أخلاقية، في مقابل اعتقاد الطرف الآخر للاعتقاد ذاته في قيم أخرى مخالفة تقوم على فهم آخر للإسلام، فكانت قيمًا ذاتية تتأسس على الهوى وليس لها في الواقع معيار محدد يثمِّنها بالإيجاب أو بالسلب، من يحدد القيمة ويصنعها هو شخص صانعها وعادة ما يكون هو القوي المنتصر. هذا رغم أن العالم حينذاك كان قد اكتشف القيم الموضوعية «الإكسيولوجية» منذ فلاسفة اليونان قبل الإسلام بقرون وأزمان، وتواضع الفلاسفة على ثلاث قيم مطلقة لا يختلف حولها اثنان، لذلك هي موضوعية يفهمها الكل بكل وضوح، وهي: الحق والخير والجمال. لكن الإسلام لم يظهر لا في أثينا ولا في روما، وإنما في فيافي الحجاز، وخاطب الناس في هذه البوادي القاسية بلسانهم وفهمهم ومعارفهم وقيمهم وليس بمعارف الأعاجم وقيمهم.
كانت القيم الذاتية في الجاهلية الأولى هي الشأن الطبيعي في ثقافة العربي؛ لأنه لو طبَّق القيم الغيرية كالكرم والإحسان لمات في بواديه جوعًا، فكانت القبائل تتحرك في البوادي بحثًا عن خيرها الضنين، فتتقاتل عليها قتالًا صفريًّا لا توجد فيه موائد صلح ولا مبادرات سلام، فإما قاتلًا وإما مقتولًا، فتقتل القبيلة من تقدر عليه من القبيلة المهزومة، وتستولي على ما تملك جميعًا عيون الماء والسوائم والمتاع، وتبقي من البشر على من يمكن الاستفادة منه فقط لأن له فمًا يأكل، فيجب أن يكون لوجوده ضرورة، وعدم وجوده أفضل؛ لذلك كانت العبودية عمودًا من أعمدة المجتمع البدوي من فجر تاريخه، بينما لم تعرف مصر مثلًا نظام العبودية طوال تاريخها إلا عندما دخلها البدو اليهود زمن النبي يوسف والهكسوس، ولم يرتقِ العرب إلى التواضع على قيم كالكرم والوفاء بالوعد والصدق في القول إلا مع الاستقرار المدني لمكة، التي تحولت إلى مركز تجاري ترانزيتي، ثم أمسكت بعنان تجارة العالم إبان الحرب السبعينية بين إمبراطورتي الفرس والروم، وفرضت مصالح التجارة وضرورة سيولتها وسلامتها التي تعود بالنفع على الجميع، ضرورة توافق العرب على قيم النخوة والمروءة والأمانة والنجدة والإجارة والكرم والوفاء بالعهد، وكان ذلك تحديدًا إبان العصر الجاهلي الثاني منبع كل فضائل العرب، والذي انتهى بظهور الإسلام والعودة بالعرب إلى قيم الجاهلية الأولى حيث قيم الغزو والسلب والنهب والسبي والحرب الصفرية.
وهو الأمر الذي تعبر عنه رواية ابن عبد ربه في عقده الفريد (ج٥، ص١٣٢) عن صحابة لرسول الله جلسوا يتذاكرون الجاهلية الأخيرة مقارنين بينها وبين زمن الصحابة، قيل لبعض أصحاب رسول الله ﷺ فما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قالوا: كنا ننشد الشعر ونتحدث بأخبار جاهليتها. وقال بعضهم: وددت أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية، ألا ترى عنترة الفوارس جاهليًّا لا دين له، والحسن بن هانئ مسلمًا له دين، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع الحسن بن هانئ دينه، فقال عنترة في ذلك:
فقال الحسن بن هانئ مع إسلامه:
قامت حروب الفتن الإسلامية على اعتقاد كل فريق بصوابتيه المطلقة، فيخوض حربًا صفرية ضد الطرف الآخر، وكانت الحرب الصفرية إبادة تامة بمعنى الكلمة، وهو ما تمثل في إبادة بيوت بأسرها كما في أبشع مثال مخزٍ في تاريخنا إبادة آل بيت الرسول حتى قتلوا الأطفال الرضع، ثقافة أكلت بيت مؤسسها، وتمثلت أيضًا في حروب الفتوح حيث تمت إبادة ممالك بأسرها مثل مملكتي الغساسنة والمناذرة اللتين انتهتا من الوجود في الجغرافيا وفي التاريخ، وكانت ممالك عربية، لا فارسية، ولا رومية.
حرب العربي إما كل شيء، وإما لا شيء، من النهر إلى البحر ولو فني الجميع؛ لأنه لا يرى الآخر مطلقًا ولا حق لهذا الآخر في الحياة، فهذه مفاهيم حديثة لم تكن قد وُجدت في القرن السابع الميلادي بعد في مجتمعات البداوة، التي لم تعرف لا قوانين روما ولا فلسفة الأخلاق اليونانية ولا ديمقراطية أثينا، ولم توجد في بلادنا حتى اليوم لأننا ما زلنا نعيش في القرن السابع الميلادي بعد، بل حوَّلنا بلادنا إلى القبلية العنصرية الطائفية المتناحرة، زيادة في الإخلاص حتى نعيش المكان نفسه والزمان نفسه عند خير القرون. وبقيم ذلك الزمان، وهي القيم التي تحتاج إلى دراسة متأنية مستفيضة؛ لأنها الموجِّه لسلوك المسلم اليوم وتصرفاته، وتقف وراء تفكيره وأهدافه، لبحث مدى تأثير هذه القيم إن إيجابًا أو سلبًا، في عملية الهدم والبناء الضرورية في عملية الإصلاح المرتقبة.
تعجب اليوم في العراق — الذي عشقته كمصر وتُيمت به وبأهلي وناسي هناك — إذ أخذه أهلي وناسي (ليمزقوا نياط قلبي) إلى نفق الطائفية المظلم، فعاثوا في عراقنا فسادًا وسفكوا الدم البريء، في فتن جديدة تقوم على فتاوى جديدة ترى كل منها ذاتها الكمال كله وعداها الباطل كله، عادوا قبائل متفرقة بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يصبحون بنعمته إخوانًا.
مصر القديمة تحولت إلى بلد حضاري مستقر متماسك منذ ما يزيد على سبعة آلاف عام، ولم يكن فيها إسلام هو الحل، وأيضا لم تحدث فيها تلك الفتن بين أهلها وبعضهم، لم تحدث في مصر حرب أهلية واحدة في أزمنتها القديمة. هنا الفارق الثقافي الذي تصنعه البيئة مع الإنسان جنبًا إلى جنب، ليبرز الفارق القيمي بين قيم الاستقرار وقيم التبدِّي. كذلك كان العراق، فمن اسمه اشتق اللسان العربي معنى «العراقة»، ومع الغزو الحقيقي التتري التكفيري للعراق، آتيًا من السعودية ومصر وإيران وسوريا والجزائر واليمن، بعد سقوط الطاغية، وكل بفتواه، وكل قد حول الرأي إلى قول مقدس، فتقدست الفتوى إلى حد يباح فيها دم الذي لا يأخذ بها فهو من الكافرين، إن سنة نبي الأمة كان فيها ما إن لم نأخذ به لم نأثم، فجاءنا فقهاء آخر الزمان بفتاوى قاطعة الثبوت والدلالة قاطعة الصحة واليقين، دون أن يشيروا إلى مصدر قدسيتهم التي تعلو على صاحب الوحي جبريل وعلى رسول الله ﷺ؟! فتاوى تصل إلى قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ لأنهم يرون الحق كله معهم وحدهم.
ما الذي سيترسخ في ذهن الطفل الصغير عندما يتعلم ويحفظ الآيات القائلة: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (الماعون: ١–٣).
إن معنى الدين في الإسلام هو الإسلام وحده، وإن الذين لا يؤمنون بهذا الدين، هم الجفاة القساة غلاظ القلوب، إنهم يدعُّون اليتيم، بل وزيادة على هذه الخشونة في الضمير هم أشرار، فهم لا يكتفون بدعِّ اليتيم، إنما لا يتداعون بينهم بالنصح والإرشاد لإطعام المسكين. إن فهم هذه الآيات منزوعة من سياقها الزمكاني التاريخي والموضوعي في أحداث الأرض زمن الدعوة، هو فهم سطحي سريع، وليس في وقت المسلم اليوم أمام المكتبة الإسلامية الهائلة كمًّا وكيفًا ما يجعله يبحث عن السياق وعن التاريخ، هو في حاجة لمختصر مفيد بسيط، يكرره الفقهاء ويصدقه العوام، وهو أن غير المسلم بلا أخلاق وبلا إنسانية، بل إنه من البديهيات لمن يعلن أنه مسلم، أنه بالضرورة وبالتلازم القسري صاحب قيم أخلاقية رفيعة، ألا ترون عبد المنعم أبو الفتوح القطب الإخواني ذائع الصيت في حوار معه على شبكة إسلام أون لاين، يقول متسائلًا مستغربًا مندهشًا مستنكرًا: «كيف يُتصوَّر أن يكون هناك أخ مسلم يدعو الناس إلى الصدق والأمانة، ثم يكون في سلوكه وأعماله صورة سيئة ضد الصدق والأمانة؟!»
ومثله الشيخ قرضاوي يحدثنا عن المجتمع فيقول: «ويقوم ذلك المجتمع على آداب وتقاليد خاصة، تجعله نسيج وحده غير مقلد لغيره ممن بعد عنه زمانًا أو بعد عنه مكانًا» (ملامح المجتمع، مكتبة وهبة، ص١٠٩). وفي كتابه (الإخوان المسلمون، مكتبة وهبة، ١٩٩٩م) يقول الشيخ قرضاوي ناقلًا عن سيده حسن البنا، واصفًا المجتمعات غير المسلمة: «من أهم الظواهر التي لازمت المدنية الإلحاد والشك في الله وإنكار الروح ونسيان الجزاء الأخروي، والإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستمتاع وإطلاق الغرائز، والأثرة في الأفراد، فكل إنسان لا يريد إلا خير نفسه، والربا والاعتراف بشرعيته واعتباره قاعدة للتعامل، وقد أنتجت هذه المظاهر المادية البحت في المجتمع الأوروبي فساد النفوس وضعف الأخلاق، والتراخي في محاربة الجرائم، فكثرت المشكلات وظهرت المبادئ الهدامة، وأثبتت المدنية الحديثة عجزها التام عن تأمين المجتمع الإنساني، وفشلت في إسعاد الناس» (ص١٣٩-١٤٠). وهو ما يكرره قرضاوي بعد ذلك كمسلَّمات في معظم كتبه؛ فهو مثلًا يقول في كتاب (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، مكتبة وهبة، ٢٠٠١م): «إن المجتمع المسلم متميز عن سائر المجتمعات بمكوناته وخصائصه؛ فهو مجتمع رباني إنساني أخلاقي متوازن، والمسلمون مطالبون بإقامة هذا المجتمع حتى يمكِّنوا فيه لدينهم ويجسِّدوا فيه شخصيتهم، ويحيوا في ظله حياة إسلامية، تقودها المفاهيم وتحملها الآداب الإسلامية، وتهيمن عليها القيم الإسلامية، وتحميها التشريعات الإسلامية، وتوجِّه اقتصادها وفنونها وسياستها التعاليم الإسلامية» (ص٧).
انظر حركات الشعوذة وأساليب الحواة الرخيصة والثلاث ورقات، إن الفقيه المسلم التقي الورع يسم غير المسلمين جميعًا بكل نقيصة أخلاقية يعدِّدها واحدة فواحدة، وذلك كي تظهر الفروق بين المجتمع المسلم والمجتمع غير المسلم، ثم يمنح المجتمع المسلم كل الصفات الإيجابية لأنه مجتمع رباني إنساني متوازن … إلخ … إلخ، ثم تكتشف فجأة أن هذه المقارنة تتم بين واقع غير المسلمين، وبين المجتمع المسلم الذي يطالبنا الشيخ بإقامته؛ فهو مجتمع غير قائم بالفعل، مقارنة بين واقع أهل الغرب، وبين وهم وحلم بمجتمع غير موجود بيننا. ناهيك عن عنوان الكتاب المخصص لبيان (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده)، الشيخ قرضاوي بعد مضي ألف وأربعمائة سنة وربع القرن ونيافة عليه، جاي النهارده يبحث لنا عن ملامح المجتمع المسلم المزمع إيجاده إن شاء الله؛ لأنه ما زال في مرحلة التمني؛ فهو «الذي ننشده»، فكم من القرون سننتظر يا ترى؟ هل هناك خلل فادح في أخلاق المسلمين كذبًا على الذات أظهر من هذا وأجلى؟ هذا الرجل من كبار أولي الأمر ولفتاواه أثرها الجليل الذي نراه اليوم في مجازر العراق وغيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين. فانظر إلى ما يعتور قوله المدهش دون أن يشعر هو ولا أتباعه بأي عوار ولا بأي دهشة!
ثم يكرر قرضاوي عاطفًا مقارنًا بين المجتمع غير المسلم والمجتمع المسلم الوهمي المتخيل، فيعطينا وصفًا لهذا المجتمع المسلم، حشده بطول كتابه وما أطول كتبه من حيث المساحة، سأحاول هنا العثور على ما أجمله فيها من عبارات بلسانه: «فهو مجتمع العدل والإحسان والبر والرحمة والصدق والأمانة والصبر والوفاء والحياء والعفاف والعزة والنجدة والسخاء والشجاعة والإباء والشرف والبذل والتضحية والمروءة والنجدة والنظافة والتجمل والقصد والاعتدال والسماحة والحلم والتضحية والتعاون والغيرة على الحرمات والاستعلاء عن الشهوات والإيثار للغير والإحسان للخلق كافة وبر الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الجار، والإخلاص له والتوبة إليه والتوكل عليه. مجتمع يحرم كل الرذائل والأخلاق الرديئة فيجعلها في مرتبة الكبائر، فيجرِّم الخمر والميسر والزنا والشذوذ الجنسي ويحرم عقوق الوالدين وإيذاء الآخرين باليد أو باللسان ويجعل من خصال النفاق الكذب والخيانة والغدر وإخلاف الوعود والفجور في الخصومة» (ص٩٠-٩١).
وهكذا حشد الشيخ كل ما تفتقت عنه قريحته من أحلام بدوية على قيم حداثية على فضائل متخيلة، للمجتمع المنشود الذي سيقيمونه عندما يتمكنون في الأرض، يمنِّي به المسلمين أماني وأحلامًا بالمدينة الفاضلة التي لم تقم على الأرض يومًا، ويتفاخر به على قيم وأخلاق الكفرة العراة الفساق الفجرة؟! فخر بما لا يملك في الواقع بدليل أنه يتمناه ويرسم له الخطط، فخر العربي الكاذب الفقير الجاهل القليل المريض العاري القائل:
شاعر آخر عبر عن قيم العروبة في العداء الصفري بقوله:
فيعطيه الواقع القبر دون العالمين.
الأخ أبو الفتوح لا يتصور من أخ مسلم غير الصدق والأمانة فقط لأنه أخ مسلم، ولو كان يقصد الإخوان وحدهم فهو يصورهم لنا مجتمعًا من الملائكة الأطهار، وهو بمقارنته بالواقع يظهر كلامه مجرد شعر فخر كاذب، فلا هو تخر له جباه الجبابرة والملوك ساجدين، ولا هو حقيقة، هو مجرد شعارات ترويجية ليس أكثر، ألا ترونهم يعلنون تحريم الربا ويتحايلون عليه ألف حيلة في بنوك إسلامية هي ربوية بالكلية وإلا سقطت وانهارت بين بورصات الأوراق العالمية. ويفعلون وهم يعلمون، «ويل للذين يحرفون الكتاب بأيديهم وهم يعلمون»، ويخادعون ربهم علنًا عيانًا بيانًا، فأي مرض عصبي وعقلي لحق بالضمير المسلم؟!
يتكلم قرضاوي وأبو الفتوح عن الشرف، لكنهما لا يعلنان انتهاء العمل بأحكام آيات انتهى زمنها، لا يعلنان انتهاء زمن هتك عرض غير المسلمين والسبي.
يتكلمان عن الحريات ويقيمان علم فقه كامل للعبودية يدرسه عيالنا في المدارس الدينية حتى اليوم.
يتكلمان عن حقوق الإنسان وهو مفهوم معاصر لم يكن في تاريخنا ولا تاريخ غيرنا في تلك الأزمان، وفي الوقت ذاته لا يعترفان بأي حقوق لغير المسلمين، فهم كفار، إنهم خارج الإنسانية؛ فالإنسانية للمسلمين وحدهم.
يتحدثان عن حق الأمن والسلام ويريان أوطان غيرهما ديار حرب، ومن الشرع في أرفع الدرجات الاعتداء على غير المسلم وقتله وسلبه ونهب وسبي عياله ونسائه حسب عقيدة الولاء والبراء، والجهاد.
الشيخ المسلم وهو يكذِّب على نفسه وعلى المسلمين، سواء أكان مرجعية داعية للجميع مثل قرضاوي، أم عنصرًا سياسيًّا حركيًّا مثل أبي الفتوح، يتحول إلى نصَّاب من وجهة نظر القيم الأخلاقية، أليس نصَّابا من يعطي قيمة لشيء ويسلبها من مثيله؟ أليس أفَّاكًا من يعلن على رءوس الأشهاد منحه القيم لهؤلاء وسلبها من هؤلاء، بينما هو يمنح شيئًا ليس بيديه ليميِّز به بشرًا لا يستحقون عن بشر يستحقون، أترون إلى أين وصل الخبال بالعقل المسلم؟! إن من لا يملك يعطي من لا يستحق ببساطة وخفة وعلى رءوس الأشهاد جهارًا نهارًا، بالكلام والبلاغة، فنجرة بُق، مجرد كلام لا أصل من واقع له. إن من يعلن نفسه مانح القيم أو صاحبها الأصلي هو نصَّاب أشر؛ لأن القيمة الأخلاقية ليست ملكية خاصة لقوم دون قوم، وليس فيها عرب وعجم، القيمة هي جزء أصيل في الموضوع أو في الواقع، وتظهر إلى الوجود عندما يتم اكتشافها وتفعيلها في أي مكان أو زمان، بينما المسلمون يمنحون أنفسهم القيم منحًا كريمًا وسخيًّا إلى حد الابتذال؛ لأن العاطي في هذه الحال هو ربُّ المسلمين الذي خص أمته وحدها بالخير دون بقية عيال الله في الأرض جميعًا، وأعلنها خير أمة أخرجت للناس.
وهكذا هو ينفي القيم الأخلاقية الموجبة عن غير المسلمين جميعًا؛ لذلك يتحدث عن حقوق الإنسان لكنه لا يعطي المرأة في بلادنا حقوقها كالذكر من باب العدالة؛ لأن هذا الحق تحديدًا ظهر عن الغربيين وهم بلا أخلاق لأنهم غير مسلمين، وبهذه الطريقة ينفي الرقي عن قيم غير المسلمين لأنها عنده لا تخضع لمعيار الصواب والخطأ والنفع والضرر والخيرية والشرية، إنما تخضع لمعيار الحلال والحرام كمنظومة قيمية ربانية ثابتة لا تقبل تغيرًا أو تطورًا. هنا سيكون الكلام عن حقوق الإنسان كحريته في اختيار معتقده، أو حريته في نقد دين من الأديان كعمل بحثي أكاديمي، أو نقده لبقاء فقه الرق حتى اليوم في معاهدنا الدينية، سيكون ذلك كله فهما غربيًّا في بلاد يعيش أهلها «حياة بهيمية»، كما يصفهم كما التوحيد المقرر على أول ثانوي بالسعودية المباركة. ومثله بالضبط سيكون الكلام عن الحرية هو قولًا كفريًّا ضد الدين؛ لأن الدين فيه فك رقبة! فكيف سنفكها إن لم نفعل فقه الرقيق ونعمل به حين نعيد فتح البلاد لأنوارنا؟ الخلل حادث نتيجة القيم منح لأنفسنا وسلبها من غيرنا، فلا نفهمهم ولا يفهموننا، ونتحول إلى عالمين متباعدين في وقت تتوحد فيه الأرض كلها، الخلل أن المسلم لا يدرك أن الحرية كقيمة أو أي قيمة أخرى لا علاقة لها بأي دين، لأن القيم بما نفهمها من قيم اليوم الراقية لو كانت موجودة في أي دين لأمر بتحريم الرق فورًا وهو ما لم يفعله أي دين لأن منطق زمانه ونظم عصره كانا على غراره.
وما زالت لنا وقفات ربما ستطول مع القيم الأخلاقية والمسلمين.
(١) قيمة الوفاء بالعهد (صحيفة المعاقل كنموذج أول)
ما قرأت عملًا حديثًا صادرًا في مصر عن فلسفة القيم، إلا ابتدأ تصديره بالقيم الإسلامية السامية؛ وهو ما يعني أن قيم الآخرين ليست كذلك. وهو أمر متواتر حتى بين أهل الفلسفة وعلمائها المتخصصين، تجده يحيلك أولًا على قيم الإسلام بالضرورة، ليعود بعد ذلك معلِّمًا أكاديميًّا يشرح القيم الإنسانية «الإكسيولوجية»، ناسيًا أنه لم يعد هناك محل لبحث جدي، بعدما أثبت للقيم الإسلامية وحدها في تصديره، كل الإيجابيات التامة الجامعة المانعة.
تجدهم في علم الاجتماع قد صاروا كذلك، في الفيزياء (سبحان الله) وصحة القوانين العلمية (بمشيئة الله)، والجغرافيا والفلك، وباء انتشر، كتب علم النفس تتصدر باحاتها آيات وأحاديث وردت فيها كلمة النفس عرضًا. حتى الطب لم ينجُ من المصير ذاته، يبدأ صاحب المرجع الطبي مرجعه بالآيات وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، ونقابة أطباء مصر تضعها على «البادج، الأيقونة، الرمز»، وفي طب الحمية مرجع منتشر تتصدر صفحته الأولى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، ولا تفهم هنا قيمة بعد ذلك لصفحات المرجع الكبير، ما دام إذا مرضت فهو يشفين؟! أسلوب يذكرني بالحانوتية الذين يعملون بمهنة دفن الموتى، ولافتتهم المشهورة: كل نفس ذائقة الموت! ولا أي معنى لتوقيع حكومات بلادنا على مواثيق دولية تؤسس لقيم جديدة اكتشفتها الإنسانية وتوافقت عليها، قيم لم يسبق أن وجدت لا في تراثنا الإسلامي ولا في أي دين من الأديان، بل بعضها يتعارض بالكلية مع ما جاء في هذه الأديان، كما في حال حقوق الإنسان مثلًا (حقوق المرأة، حق الاعتقاد … إلخ) فإذا كانت قيم الإسلام قد جمعت فأوعبت كل القيم الإيجابية حتى نهاية الأزمان، فلماذا لا تعرض حكوماتنا قيمنا هذه على الأمم المتحدة أثناء المناقشة في الهيئة الأممية، خاصة أنه عالم حر يناقش ويستمع ويقبل ويرفض عن بينة وقرار ديمقراطي، وهو لن يرفض قيمنا إن رآها أرقى من قيمه، فقيم المواثيق الدولية شاركت فيها كل الإنسانية وقالت تجربتها وكلمتها حتى تم وجوبها وثيقة دولية، وبنيت لها نصوص قانونية لحماية هذه القيم وصونها.
أم أن حكوماتنا تعلم سلفًا أن في قيمنا ما يعتورها بمقاييس اليوم الأخلاقية؟ يبدو أن حكوماتنا توقع الاتفاقات الدولية «تقية» أي كذبًا ومداراة وخوفًا وخزيًا وعارًا، أي تعلن عكس ما تبطن، ويبدو أن تلك هي الحقيقة الصادقة الصادمة. وخير نماذج التقية الورعة، استقبال شيخ الأزهر الدكتور سيد طنطاوي للجنة الحريات الدينية، وتوقيع الدكتور فوزي الزفزاف العهد الدولي للحقوق الدينية، بإشراف د. سيد طنطاوي الشيخ الأكبر وبحضور وفد الاتفاقية، ثم إعلان الشيخ الأكبر فيما بعد أنه لا سمع بهذه الوثيقة ولا يعلم عنها شيئًا. رغم أن الحدث موثق بالصور التذكارية لحفل التوقيع بمكتب الشيخ الأكبر، ورغم احتساب الفقهاء أن قيمة الوفاء بالعهد اختراع إسلامي قح.
شيخ أكبر آخر هو مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة أجاب بالإيجاب القاطع في أمريكا عن سؤال حول حق المسلم ترك الإسلام، وبمجرد عودته قامت دار الإفتاء كلها تؤكد أن كلام المفتي تم تحريفه عن معناه كعادة الضآلين والمغضوب عليهم في التحريف، لأن الإسلام لا يسمح بخروج المسلم من دينه بالمطلق.
هذه مشاكل فضائحية تحدث علنًا دون أي تحرج، فأي حديث هذا عن القيم الأخلاقية؟ وأي قيمة في التوقيع حرجًا أو جبنًا ثم الرجوع الكاذب والمخالف؟
المشكلة تصبح أعوص مع تسليمنا أن القيم الموجبة كلها جاءت في إسلامنا؛ لأن هذا التسليم يعنى ضمنيًّا ويقينًا رفض الحداثة والقيم الحقوقية الإنسانية وقيم العلوم الغربية كلها؛ مما يعني خروجنا برغبتنا من التاريخ ومن المستقبل؛ لأن ما عندهم هناك هو الباقيات الصالحات وليست هنا. رؤيتنا تجعل كل ما حققه العالم الحر هو أدنى قيميًّا وخلقيًّا وعلميًّا، ألا ترونهم يعضون علينا الأنامل حسدًا لما نحن فيه من سعادة ونعيم مقيم؟! إنهم يحسدوننا على إسلامنا ومع ذلك يكتفون بالحسد والمؤامرات ولا يدخلون إلى سعادته ولا يختارون نعيمه وجنته وقيمه، نكاية فيه! إن الاعتقاد بكلانية القيم إيمانيًّا يعني ضمن ما يعني أن الاعتقاد برقي المجتمع الغربي هو إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة! وهو ما يترتب عليه عدم رؤية ما بيد هذه المجتمعات من وسائل رقي وتقدم والاكتفاء بالذات المريضة.
سنضطر باستمرار إلى الرجوع إلى القطب المرجعي الفقهي الشيخ قرضاوي عافاه الله مما هو فيه، وهي دعوة صادقة مخلصة، باعتباره معتمدًا من الحكومات والجماعات الإسلامية بأطيافها كافة، ومن الإخوان، ومن الأزهر، ومن قاطعي الرقاب، وهو من يركز حديثه الدائم حول الفارق الأساسي بين المسلم وغير المسلم، المتمثل في القيم الأخلاقية التي هي السمة والعلامة العظمى لرقي الإسلام وسماوتيه. ويقيِّم الشيخ هذه المسلَّمة على آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأحداث وقعت إبان الدعوة الإسلامية وبعدها، بادئا بأهم تلك القيم وهي «الوفاء بالعهد»، وأوفوا بالعهود إن العهد كان مسئولًا. ليورد النص القرآني الذي يؤكد هذه القيمة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا (البقرة: ١٧٧).
ثم يعقِّب الشيخ بأن الله ارتقى بقيمة الوفاء بالعهد إلى درجة وضعها وضع بقية العبادات المفروضة كالصلاة والزكاة.
في التاريخ الإسلامي وخاصة زمن التأسيس «زمن الدعوة» أحداث جسام متتالية، يمكن البحث فيها عن قيمة «الوفاء بالعهد»، وهي واحدة من القيم التي أولدها بين العرب العصر الجاهلي الثاني قبل الدعوة، والمتوسط بينها وبين الجاهلية الأولى، وهو العصر الذي تعود إليه مكرمات ومفاخر العرب القيمية الأخلاقية، وهو التوليد الذي وقفت وراءه مجموعة من الأسباب الموضوعية على الأرض حينذاك.
تعد قيمة «الوفاء بالعهد» أحد المظاهر المتعددة التي تتجلى من خلالها قيمة أعظم، هي قيمة «الأمانة». وكلاهما «الأمانة» وتجليها في «الوفاء بالعهد» لم تكن شيئًا معلومًا في الجاهلية الأولى التي كانت قسوة وشظفًا وتركت أثرها أخاديد وبثورًا أبدية في وجه العربي القيمي. كانت البيئة شحيحة، بيئة ندرة وجوع كافر، ومناخ أشد كفرًا؛ لذلك كان القتال حتى الفناء أو الإفناء في صراع صفري دائب على مواطن الماء والكلأ حتى ينضب، فتتحرك القبائل إلى موطن غيره في عيالة وطفيلية شديدة على الطبيعة ومنتجها الشحيح. في مثل هذه البيئة تكون معاني القيم شديدة الاختلاف عما نفهمه منها اليوم؛ لأن القيم الأخلاقية التي يجب أن تسود هي ما يضمن الحياة في بيئة لا ترحم، لذلك يكون الحديث عن الرحمة بمفاهيم أي زمان أو مكان آخر مختلفًا بالكلية عن مكان وزمان الجاهلية الأولى.
ولا يكون هناك معنى لكلمة «أمانة» وما يترتب عليها؛ فالأمانة في العربية أصلًا من الأمن والأمان، وهما لا يتوافران بالأمانة بل القوة القتالية البحتة المجردة التي تحقق الأمن.
وتحدث أحداث عالمية ذات تأثير واسع، ستؤدي سريعًا إلى تغير وجه التاريخ والجغرافيا معًا، عندما تدخل الإمبراطوريتان الرومية والكسروية حربهما السبعينية، لتطارد كل منهما الأخرى في أقاصي الأرض، عدا مكان واحد لم يرغب فيه أي منهما، هو فيافي جزيرة العرب. مما هيَّأ للجزيرة فرصة القيام بأعباء تجارة العالم بعد قطعها في البحار، من سواحل اليمن إلى سواحل الشام وبالعكس في رحلتي الشتاء والصيف. وهي التجارة التي قامت عليها قبيلة قريش محوِّلة مكة من مجرد استراحة على الطريق إلى مدينة وحاضرة ذات أسواق كبرى، وشارك كل عرب الجزيرة في القوافل التجارية بأموالهم، وحرسوا طرق التجارة حرصًا على أموالهم ومنافعهم، فكان أن نشأت قيم هي فرز زمنها وظروفه، وأصبحت «الأمانة» القيمة الأولى الواجب احترامها حفاظًا على سيولة الطريق التجاري وضمنها الوفاء بالعهد، فكتبت قريش عهود الإيلاف للقبائل والملوك برعاية الطريق، وجعل مكة لمن دخلها مكان أمن وعبادة وفرح وعربدة وسعادة وتجارة ولهو وجنس يأمن فيه الجميع من الجميع في أشهر حرم معلومات توافقوا عليها هي شهور السفر والتجارة. وتم التأكيد على الوفاء بالعهود التي كتبتها قريش مع القبائل الضاربة على الطريق لتضمن عدم اعتدائها على القوافل التجارية، نظير عهد مقابل هو دفع جعالات من دخل القوافل لهذه القبائل المتناثرة بطول الطريق التجاري، كان عهدًا تجاريًّا بحتًا، حتى القيمة مدفوعة الثمن. لذلك كان التأخير في دفع تلك الجعالات يُقابَل مباشرة بقطع الطريق حتى تفي قريش وكبار التجار بالتزاماتهم. وكان أن يرأس أحدهم قافلة فيتلاعب بأسهم الناس فيها؛ فهو ما كان يعني دمار وبوار وخراب تلك التجارة؛ لذلك حرص التجار من قواد القوافل الكبرى على حيازة لقب «الصادق الأمين»، ليأمن الناس على أموالهم وتسيل التجارة وتفيض على الجميع بنفعها.
لكن العقائد الدينية لم تتمكن من التخلص من بدائية العبادة، التي كان يتم فيها التقرب إلى الآلهة بالقرابين البشرية من الأطفال الإناث (في ظاهرة الوأد) والذكور (كما في حال عبد الله أب النبي محمد ﷺ الذي افتداه أبوه عبد المطلب من الآلهة بمائة من النياق)، حتى جاء الإسلام ونقل العرب نقلة دينية ألغت وجرمت وأنهت القربان البشري في الطفولة، وجعلته قربانًا يحدث عن قناعة عاقلة للشخص الراشد في عقيدة الجهاد.
وقد علمنا أن الإسلام قد عاد بالعرب إلى بعض الجاهلية الأولى مضطرًّا لحسابات ظروف موضوعية ستأتي بمكانها من هذا البحث، عندما عاد إلى شرعية الغزو والسلب والنهب والغنم (وكلها مصطلحات إسلامية بالكتب الأمهات في إشارتها للفعل العسكري الجهادي زمن الدعوة)، وهو ما حاصر قريشًا اقتصاديًّا وأصابها في مقتل حتى سقطت ثمرة ناضجة بيد القوة الإسلامية الطالعة، كانت الغاية بحاجة إلى تلك الوسيلة؛ لذلك جعلها الإسلام وسيلة مشروعة، بل مطلوبة بل مأجورة ومثابة أعظم الثواب، وقال النبي بوضوح شديد: «أحلت لنا الغنائم ولم تحل لأحد من قبلنا، وذلك أن الله تعالى رأى عجزنا وضعفنا فوهبها لنا.» (متفق عليه بكل الصحاح)، بل كان للنبي خُمس ما يغنم المسلمون في معاركهم وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ (قرآن كريم)، وكان القرآن شديد الدقة والوضوح في العودة إلى زمن الغزو والسلب والنهب والغنم بقول الله تعالى للمسلمين: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا.
وهو الأمر الذي يترتب عليه إعادة السؤال حول قيمة الوفاء بالعهد، وهل استمرت في الواقع الفعلي للمسلمين بعد ظهور الإسلام، أم تراجعت مع ما تراجع من قيم الجاهلية الثانية إلى قيم الجاهلية الأولى؟ نطرح هنا نماذج حدثت إبان وجود النبي ﷺ في يثرب.
(٢) نقض عهد صحيفة المعاقل (أول نقض رسمي لعقد اجتماعي وعهد سياسي مكتوب)
يقول البيهقي: «وأذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين والمنافقين، فلم يبقَ في المدينة منافق ولا يهودي إلا وهو خاضع عنقه لوقعة بدر» (الدلائل، ج٣، ص١١٧).
بعد النصر البدري المؤزر وحصول المسلمين على غنائم عظيمة خاصة السلاح استرسل الوحي يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ (الأنفال: ٦٠).
وعدو الله وعدو المسلمين معروف هو ملأ مكة، أما الآخرون الذين لا يعلمهم المسلمون، فهم ما أوضحته الأحداث التالية ابتداء بنداء النبي ﷺ لرجاله: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» (السهيلي، الروض الأنف، مج٣، ص١٦٤). في منعطف تاريخي مفصلي جاءت مفاصله في آيات تنسخ حرية الاعتقاد، لتنهي العمل بآيات من قبيل لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون: ٦)، ونسخ الصفح الجميل والصبر الأجمل، بقانون جديد حاسم هو إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ١٩) (انظر نواسخ القرآن في أي مصدر للنواسخ، متفق عليه).
وتتالى الأحداث سراعًا، فيروي الزهري عن عروة: «نزل جبريل على رسول الله ﷺ بهذه الآية: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ، فقال رسول الله ﷺ: أنا أخاف من بني قينقاع (إحدى القبائل اليهودية الثلاث بيثرب)، فسار إليهم ولواؤه بيد حمزة» (ابن سيد الناس، عيون الأثر، ج١، ص٣٥٣). وانجلت غزوة قينقاع عن طردهم من يثرب كأولى قبائل يهود يتم إجلاؤها، بعد أن استولى المسلمون على كُراعهم وأسلحتهم وأرضهم؛ مما زاد في قوة المسلمين العسكرية وراحتهم الاقتصادية.
وعندما رأت قريش نفسها محاصرة في رزقها بعد أن قطع المسلمون عليها طريق الإيلاف الشامي، أجمعت على قتال محمد وذلك في الوقعة المعروفة بوقعة أُحد التي انهزم فيها المسلمون هزيمة مريرة، أدت بالبيهقي إلى تصوير حال يثرب بعد الهزيمة بقوله: «وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل» (البيهقي، دلائل النبوة، ج٣، ص٢١٦).
وترنَّحت الدولة الطالعة، فتم اتخاذ إجراءات سريعة حاسمة عنيفة متتالية لا تهدأ لإصلاح ما أفسدته أُحد، بالقضاء على رءوس المعارضة (المنافقين) فتدحرجت رءوس كبار القوم، تم اغتيالها ليلًا مثل رأس «سلام بن أبي الحقيق» المعروف بأبي رافع، «وأبي عفك عمرو بن عوف»، و«عصماء بنت مروان» عقيلة بني خطمة، و«خالد بن سفيان» سيد هذيل، و«فاطمة بنت ربيعة» زعيمة فزارة ومحل شرفها (انظر ابن حبيب في محبره ص١١٧، وابن كثير في البداية ج٤، ص٣٩ أو ١٤٢، وابن سيد الناس في عيون الأثر، ج٢، ص١٤٥، السهيلي، شرح السيرة، مج٤، ص٢٤٤-٢٤٥، والطبري في تاريخه، ج٣، في ص١٥٦) إعلانًا عن أن السيف المحمدي وإن كسرت منه الذؤابة في أُحد؛ فإنه ما زال قويًّا مقتدرًا وعنيفًا، إعلانًا عن الإصرار على استدامة الدولة الناشئة مهما كلَّف ذلك من أرواح.
ويحكي ابن كثير أحداث العام الثاني للهجرة بقوله: إنه فيها «حولت القبلة، وفُرض صيام رمضان، وزكاة النصب وزكاة الفطر، وفيها خضع المشركون من أهل يثرب واليهود، صانعوا المسلمين وأظهروا الإسلام وهم في الباطن منافقون، قال ابن جرير: وفيها كتب الرسول ﷺ صحيفة المعاقل، وكانت معلقة بسيفه.»
وابن كثير إذ يوقِّت الصحيفة بنهاية العام الثاني للهجرة؛ فهو بذلك يختلف عن رواة آخرين قالوا إنها كانت أول عمل للنبي عند وصوله إلى يثرب مهاجرًا من مكة. هذا علمًا أن ابن كثير نفسه يثير التناقض بذلك مع ما سبق له أن ذهب إليه مع الجمهرة، بأن صحيفة المعاقل قد تمت كتابتها بين أهل يثرب جميعًا وبين المسلمين المهاجرين عند وصول النبي إلى يثرب، حيث تبدو يثرب جميعًا قد عمها الإيمان، ويظهر فيها النبي سيدًا مقبولًا من الجميع عن رضا غير واضح الأسباب بمن فيهم اليهود، فكتبوا معه صحيفة المعاقل التي ترد كل أمر في يثرب إلى النبي وحده. وهو كله ما يخالف ويناقض واقع الأحداث، ذلك الواقع الذي يحيلنا على النبي وأتباعه المكِّيين مهاجرين ضعاف متخفِّين هاربين من بلادهم، ومن بين أهله بالعصب «أعمامه» إلى حمى «رحمه» أخواله اليثاربة من بني النَّجار الخزرجيين، وهو ما يحيط الصورة التي رسمتها كتب الأخبار والسير للاستقبال الهائل، وطلع البدر علينا، والطاعة الكاملة من الجميع لسيدهم الغريب المكي، بكثير من الشك وعدم المصداقية حيث المصادر ذاتها تؤكد أن معظم أهل يثرب كانوا يهودًا أو وثنيين، وإن كثيرًا ممن دخل منهم حلف المسلمين كان منافقًا أو دسيسة؛ لذلك رجع ابن كثير عما قال في بداية الفصل ليؤخر زمن صحيفة المعاقل إلى السنة الثانية للهجرة، بحيث تبدو الأحداث أكثر منطقية مع مقدماتها، فاختار الزمن الذي تحول فيه المسلمون إلى قوة قادرة على فرض هيمنتها.
ولمزيد من التدقيق نجد غزوة قينقاع لم يرد فيها أية إشارة لتعاقد المسلمين مع اليهود، ولم نقرأ فيها ما يشير إلى منابذة قينقاع للنبي بنقضه للعهود، كما حدث في الوقائع التالية مع قبيلتي النضير وقريظة، وهو ما يشير إلى أنه حتى غزوة قينقاع لم تكن هناك عهود ولم تكن صحيفة المعاقل قد وجدت بعد.
وإن هذا الاختلاف والتناقض يدفع الباحث إلى محاولة جديدة للتزمين الأوفق لصحيفة المعاقل، حيث نعتقد أن تلك الصحيفة قد كتبت ضمن مجموعة الإجراءات الحاسمة مع تراجعات محسوبة، والتي تمت بعد هزيمة المسلمين في أُحد.
معلوم أن هزيمة أحد هزت معنويات المسلمين بعنف حتى نادى المهاجرون بالعودة إلى قريش ونفض أيديهم من الموضوع كله. (البيهقي، الدلائل، ج٣، ص٢١) بينما قال صحابة آخرون من الأنصار اليثاربة: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا (آل عمران: ١٥٤) وهو ما يعني إنكارهم الوحي والدين معًا. لكن أُحُد لم تقضِ على مخزون السلاح البدري الذي تم استخدامه في حملة المسلمين الأولى على اليهود (قينقاع) وانتهت بمزيد من قوة المسلمين بعد استيلائهم على ممتلكات قينقاع، ثم في حملتهم الثانية على اليهود، وكانت على بني النضير، وتؤكد كتبنا «أنها قد حدثت بعد وقعة سبقتها هي وقعة بئر معونة» (ابن كثير، البداية، ج٤، ص٧٦)، ونحن نعلم من الكتب ذاتها أن بئر معونة قد وقعت بعد أحد بزمن، وبعد غزوة أخرى أسبق هي وقعة الرجيع التي وقَّتها الواقدي في صفر سنة أربع للهجرة. ونعلم أيضًا أن بني النضير قد نابذوا النبي في تلك الوقعة بنقضه للعهود والمواثيق؛ مما يشير إلى أن صحيفة المعاقل كانت قد عقدت قبل غزوة النضير المشهورة، حتى نفهم منابذتهم له بنقض العهود، وأنها نمت في الزمن الواقع بين غزوتي أحد والنضير، وهو ما يمكن الكشف عنه في قراءة البيهقي للحكاية إذ يقول: «اجتمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي ﷺ أن اخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرًا، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوا وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله بالكتائب فحصرهم فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه، فأبوا أن يعطوه عهدًا، فقاتلهم يومهم هذا، فعاهدوه، ثم غدا على بني قريظة بالكتائب ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه فانصرف عنهم» (دلائل النبوة، ج٣، ص١٧٩).
ومن الخبر نفهم أن يهود النضير أرادت وضع حد لمشكلة علاقتهم بالمسلمين، إما بالدخول في الإسلام بعد جدل وحوار يثبت فيه الإسلام جدارته عن اليهودية بالدليل والبرهان، أو بعدم الدخول فيه إذا لم يقتنعوا به مع إيجاد صيغة سلامية للتعايش وتهدئة للموقف المتوتر بعد قطع الرءوس من أشراف اليهود. وأن يتم ذلك بالجدل والحوار والمناظرة، لكن النبي رأى أن يتعامل معهم بمنطق آخر فجرَّد عليهم الكتائب حتى نزلت النضير على عهد مكتوب، ثم رضيت قريظة بالعهد دون قتال، ولا نعلم عهودًا تمت مع اليهود سوى صحيفة المعاقل.
وعليه فإن المعاقل قد تمت فيما نذهب إليه (عن محاولة اجتهادية لا قطعية)، ضمن سلسلة الإجراءات السريعة الحاسمة، لإصلاح ما أفسدت أحد وعلاج آثارها لرفع روح المسلمين المعنوية، وبداية اهتمام واضح بالجبهة الداخلية لتأمينها أولًا قبل معارك الغزو، وضمن هذا التأمين قدَّم النبي تنازلًا تراجعيًّا وضح في النص: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم» (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، ١٩٨٥م، ص٦١).
لكن ما حققته الصحيفة من إيجابيات هو أنها حوَّلت المسلمين من لاجئين إلى مواطنين على ذات درجة أهل يثرب، ثم إعادة الأمر كله إلى سيد المدينة الجديد الذي غدا بلا منافس يعد قطع رءوس سراة القوم وسادتهم، ولعل في تعليق الرسول ﷺ للصحيفة بسيفه رمزًا واضحًا يحمل معنى السلام القائم على القوة والاقتدار. أما أهم بنود الصحيفة فهي تلك التي تقول في مفتتحها: «هذا كتاب من محمد النبي الأمي» والمقصود نبي الأميين (جمع أمم) أي نبي الأمم أي (الجوييم) أي غير اليهود. والمفتتح يشير إلى المعاقل كفرمان صادر من سلطة النبي السيادية، فأطراف الصحيفة لم تكن متكافئة؛ فهو سلام مفروض فرضًا، أو هي بمثابة كتاب أمان من النبي، أو عقد اجتماعي مفروض، مع فرض صفة النبوة للنبي في الوثيقة الرسمية، لتعني اعترافهم بذلك راغمين ولو لم يؤمنوا، وهو ما يعني عند العربي الإذلال بإحناء الرأس لأمر لا يعتقد فيه قهرًا؛ لذلك كثيرًا ما كان الإسلام يفرق بين المسلم والمؤمن؛ فالمؤمن هو صادق اليقين بعكس من أسلم خوفًا أو رشوة بتأليف قلبه، وقد جاءت الصحيفة متجاوبة مع رغبة اليهود وبقية مشركي يثرب في الأمان بعدما اجتزَّ السيف الإسلامي رءوس سادتهم.
إن أبرز المفاصل في الصحيفة هي: «وإنكم مهما اختلفتم في شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد ﷺ» هي خطاب من سيد لمسود «إنكم»، وليست (نحن الموقعين)، والأمر الأشدُّ دلالة قانون بالصحيفة يقول: «وإن بطانة اليهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله» (ابن كثير، البداية، ج٣، ص٢٢٣-٢٢٤).
وبين الأفخاذ القبلية التي تم تعدادها كأطراف للمعاقل تم وضع المهاجرين كأبناء البلد، وكفخذ من الأفخاذ البشرية الأصيلة فيها، بل إن الصحيفة أكسبت المهاجرين ليس الوجود الشرعي فقط ولا المواطنة عوضًا عن اللجوء فقط، بل غدا الأنصار أنفسهم إزاء المهاجرين تابعين لا مجيرين ومتبوعين.
الأهم من كل هذا أنه لا بد من افتراض حدوث وقعتين ضد بني النضير لا وقعة واحدة هي المشهورة، وقعة أولى حاصرهم فيها المسلمون وفرضوا عليهم صحيفة المعاقل، تلاها بعد ذلك الوقعة المشهورة في تاريخنا والتي تم بموجبها إجلاؤهم عن يثرب والاستيلاء على ممتلكاتهم.
وتتتالى الأحداث، فيقتل المسلمون بعض الأعراب الوثنيين من بني عامر عرضًا وخطأ، حيث كان بينهم وبين النبي عهد خضوع مقابل السلام، فقاموا يطلبون من النبي دية القتلى التزامًا بالسلام وعدم إعلان الحرب.
هنا يحكي لنا الطبري أن النبي ذهب إلى بني النضير يطلب منهم مساعدته على أداء دية القتيلين العامريين؟! يقول الطبري: «فانطلق رسول الله ﷺ إلى قباء، ثم مال إلى بني النضير مستعينًا بهم في ديتهما، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وأُسيد بن حضير، فلما أتاهم الرسول يستعينهم في دية ذينك القتيلين: قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت؛ مما استعنت بنا عليه» (الطبري، التاريخ، ج٢، ص٥٥١).
وهكذا لم تسوِّف النضير ولم تماطل، ويبدو أنها قدرت الأمر بعمق، فما زال خروج قينقاع المهين ماثلًا، وهناك صحيفة معاقل تضمن لهم قدرًا من سلام لا يرغبون غيره، مع مسلسل اغتيال رجالها المقدمين، ناهيك عن معرفتها أن المسلمين قد غدوا مقتدرين ماليًّا على أداء مثل تلك الديات بعد الاستيلاء على ممتلكات قينقاع وأموال فك أسرى بدر من المكيين؛ ومن ثَم كانت الحكمة تقتضي تلك الإجابة العاقلة بحيث لا يعطون أي فرصة لنقض صحيفة المعاقل التي لم يمضِ على عقدها سوى ستة أشهر.
ويتابع الطبري يقول: «وإن يهود النضير عندما أجابوا النبي ﷺ إلى ما طلب، قام النبي وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبث رسول الله ﷺ أصحابه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلًا مقبلًا من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلًا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله ﷺ حتى انتهوا إليه، فقالوا: يا رسول الله انتظرناك ومضيت. فقال: يهود همَّت بقتلي وأخبرنيه الله عز وجل» (الطبري، التاريخ، ج٢، ص٥٥١-٥٥٢).
ويشرح ابن إسحاق في سيرته: «فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج عائدًا إلى المدينة.»
ولم يكن هناك سوى رد واحد على خبر السماء، فقد همُّوا بارتكاب الخيانة، وأن الله قد علم ذلك، فأرسل النبي لهم: اخرجوا من بلدي؟! فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرًا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه (ابن سعد، الطبقات، مج٢، ج١، ص٤١).
كانت اليهود تعتقد أن يثرب بلدها منذ قرون مضت، فإذ بها قد أصبحت مدينة رسول الله، وزاد النكاية في اختيار حامل هذه الرسالة للنضير، كان حليف النضير الأوسي «محمد بن مسلمة»، حتى تساءلت النضير عن حلفها مع الأوس وعقدها المتين قبل دخول الأوس في الإسلام، قائلة لمحمد بن مسلمة: «يا محمد ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس، فقال محمد: تغيرت القلوب» (البيهقي، الدلائل، ج٣، ص٣٦٠). أو بقوله في الطبري: «تغير القلوب، ومحا الإسلام العهود» (التاريخ، ج٢، ص٥٥٢). فكان ردهم محمولًا إلى النبي مع محمد بن مسلمة: «إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك.» ويقول ابن كثير: «وحمى حُيي بن أخطب (زعيم النضير)، وبعثوا إلى رسول الله ﷺ أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهود» (ج٤، ص٧٧). هذا بينما فهمت القبيلة اليهودية اليثربية الثالثة والأخيرة قريظة ما يحدث؛ فالتزمت بنود صحيفة المعاقل، وهو ما يقول ابن سعد في تقرير واضح: «واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم» (نفس الموضع)، وأعلن زعيم قريظة «كعب بن أسد»: «لا ينقض العهد رجل من بني قريظة وأنا حي.» ويحكى أن رأسًا من رءوس النضير هو سلام بن شكم قال لرفيقه حيي بن أخطب: «يا حيي اقبل هذا الذي قال محمد قبل أن تقبل ما هو شر منه، قال: وما هو شر منه؟ قال: أخذ الأموال وسبي الذرية وقتل المقاتلة، فأبى حيي وأرسل إلى رسول الله ﷺ: إننا لا نريم دارنا فاصنع ما بدا لك، فكبَّر رسول الله ﷺ وكبَّر المسلمون معه وقال: حاربت يهود؛ أي أعلنت اليهود نقض الصحيفة بإعلانها الحرب على المسلمين.
وانتهى حصار النضير بأن «صالحوه على أن يحقن دماءهم وله الأموال والحلقة.» أي السلاح (الطبري، ج٢، ص٥٥٣)، ووافق النبي ﷺ، وأمر بتهجيرهم وأعطى لكل ثلاثة منهم بعيرًا واحدًا يركبونه حتى لا يمكنهم حمل المتاع. لتختم الآيات الأحداث بقولها: سَبَّحَ لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الحشر: ١–٤).
لا شك سيطرح السؤال نفسه هنا حول قيمة الوفاء بالعهد؟ ومن الذي نقض العهد حقًّا؟ ومن أطاح بهذه القيمة؟ لا شك نحن كمسلمين نؤمن ونصدق خبر السماء الذي أنبأ نبينا بأن اليهود يهمُّون بقتله، ونحن لم نسمع خبر السماء، لكننا عن يقين كامل نصدقه لأن ناقله هو خير البرية الصادق الأمين، لكن غير المسلم سيقرأ الأحداث قراءة أخرى، خاصة أن قيمة الوفاء بالعهد قيمة إنسانية لا تخص المسلمين وحدهم، فهم لن يصدقوا خبر السماء مثلنا بعد أن ختم الله على قلوبهم أكنة ولم يفتح بصيرتهم، سيقرءون الوقائع كما سردتها أمهات كتبنا الإسلامية المعتمدة، وسيعلنون مع الصحابي محمد بن مسلمة: أن الإسلام يجب العهود، بمعنى أن الإسلام يجب غيره، والتسليم له والاعتقاد في سلامته وحده، يترتب عليه نقض كل ما يخالفه، وكم حفل تاريخنا ببطولات لم تقف عند حد نقض العهود بل تمزيق عهد الأسرة تمزيقًا، يقتل فيها المسلم أخاه، بل وأباه، وكم يتغنى بمن كان مثل أبي عبيدة بن الجراح الذي دفعه إخلاصه لدينه إلى ذبح رحمه وعصبه، قتل أبيه، وقال له وهو يذبحه: «خذها في سبيل الله» (أحمد شلبي، السيرة العطرة، ط١٢، ج١، ص٣٧٥– ٣٧٧)، وهو ما أفصح عنه ردُّ المسلمين على نداء النبي بعدم قتل عمه العباس إذا لقوه في بدر الكبرى، قال أبو حذيفة بن عتبة: «أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه السيف» (ابن سيد الناس، عيون الأثر، ج١، ص٣١٠).
ليس هناك عقد في التاريخ كله أعلى درجة في القيمة من كل العهود كعهد الأسرة الذي أسس لقيام المجتمع الإنساني، لكن الإسلام جب حتى هذا العهد، فقتل الابن أباه في سبيل الله، وقتل إخوانه وعشيرته في سبيل الله. كل هذه المعاني تكتسب قيمتها من قدسية الدين لا من مشهد الوقائع على الأرض، فمشهد الوقائع ينفي عن كل تلك الأحداث أي معنى للقيم بمعناها الإيجابي الذي نفهمه منها اليوم بعد مرور أربعة عشر قرنًا تغيرت فيها المفاهيم واكتسبت القيم دلالات جديدة، لكننا كمسلمين نصدِّق ونسلِّم بضمير مستريح كامل اليقين، ونرى أن لله حكمته في ذلك والتي تخفى علينا، لكن مثل هذا المأثور سيثير في الضمير المسلم الكثير من المشاكل لو تصورناها صالحة لكل زمان ومكان؛ لأن كسر القيم الموضوعية لمصلحة الربانية، كان له هدف يتعلق بعرب الحجاز وتاريخهم وحدهم، عندما كان الإسلام يقيم لهم دولة كونفدرالية في حالة خاصة جدًّا بهم وبزمنهم وبيئتهم ونظمهم، ولا يتعلق بنا ولا بأوطاننا ولا بتاريخنا الوطني لا في مصر ولا في إفريقيا ولا في الشام ولا في فارس؛ لذلك فإن القول بالصلاحية لكل زمان ومكان لا بد أن يفضي إلى تناقض صارخ بين ما وصل إليه الإنسان اليوم من قيم وبين قيم كانت تناسب بيئتها البدوية القاسية وعاداتها الجافية، وظروفها السياسية التي استدعت بتصريح النبي للمسلمين ﺑ«المكر والخديعة»، وإلا ما قامت دولة القبائل الاتحادية الإسلامية لعرب الجزيرة ولا توحَّدت قبائلها تحت رئاسة قريش.
كانت قيمًا ضرورية لزمانها، لكنها في زماننا هذا ستكون خللًا فادحًا في القيم، ومن يستدعها مؤمنًا بقدرتها على الفعل الأخلاقي اليوم، يخرج نفسه عن الإنسانية جميعًا وما تواضعت عليه من قيم هي الأرقى موضوعيًّا. وما قطع رءوس الأبرياء أمام الكاميرات مع التكبيرات الإسلامية بيد مشايخ الجهاد الزرقاويين ببعيد، هو عودة قاصرة إلى ظاهر الدين لا محتواه، ودون معرفة صادقة بظروف الوحي التاريخية، بل ورفض لهذه التاريخية أصلًا، وهو ما شكل صورة المسلم القبيحة أمام العالمين، وهو بالتأكيد ما لا نريد لأنفسنا ولا لديننا، ولا يبقى سوى أن نؤمن ثم للصلح مع زماننا نسلم أن مثل نلك القيم إنما كانت تخص زمانها ومكانها وحدهما، وسحبها لزماننا لم يؤدِّ إلا لما نراه من خراب الضمائر، ودمار الديار، وفساد وإفساد هائل لم تعرفه بلادنا قبل صحوتنا قط، لا بارك الله فيها.
أتابع النقض الثاني لصحيفة المعاقل التي عقدها النبي محمد ﷺ لكل أطراف المدينة وفرقها، ولم تعش شهورًا، حتى تم تقضها، النقض الأول بغزوة النضير وإجلائهم عن مدينة يثرب فتوجَّه بعضهم نحو فلسطين، وتوجَّه بعضهم الآخر بقيادة زعيمهم حيي بن أخطب نحو واحة خيبر شمالي الحجاز على مبعدة حوالي ٤٠٠كم من يثرب، ضيوفًا على أهل ملِّتهم هناك، ثم النقض الثاني الذي انتهى بمجزرة قريظة وهو مناط البحث هنا.
في حديثه عن القيم في الإسلام يذكِّرنا الشيخ قرضاوي المرجع الفقهي الأشهر بالآيات الكريمة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (المؤمنون: ١–١١).
ويعقِّب بأن ذلك يعني أن الله قد جعل من قيمة الوفاء بالعهد قيمة ترقى في تلازمها مع أداء العبادات، فيكون المسلم متعبدًا لربه عندما يراعي هذه القيمة (ملامح المجتمع المسلم، مكتبة وهبة، ص٩٢–١٠٩).
معلوم في كتبنا التراثية أنه رغم النزاع الذي نشب بين قبيلة النضير اليهودية والمسلمين وانتهى بإجلاء النضير، فإن قبيلة قريظة اليهودية رفضت مد أي عون لشقيقتها النضير، وأصرت على الحفاظ على عهد صحيفة المعاقل، منعا لأي سبب قد يجر عليها ما هي في غنًى عنه.
وقد حظي «حيي بن أخطب» سيد النضير بسهم وافر من الذكر في تاريخنا؛ لأنه هو من قام بحشد العرب وتحزيب الأحزاب ضد المسلمين، وجمعهم في حلف ضد يثرب لكسر شوكة المسلمين، ثأرًا لقبيلتي قينقاع والنضير، فأخذ سادة العرب اليهود مثل سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع وهوذة بن قيس الوائلي وأبي عمار الوائلي، وانحدر بهم إلى مكة ليدرك ثأره من محمد ﷺ، واستجابت قريش وأحلافها العرب لوضع حد لما حدث لتجارتهم وأمنهم على يد المسلمين، مع رغبة أكيدة في الثأر لقتلاها، في حلف عظيم توجَّهت جيوشه نحو يثرب بغرض توجيه ضربة قاتلة ونهائية تجهز على الوجود الإسلامي في الجزيرة. جيوش جمعت فرسان كنانة وأهل تهامة وأشاوس غطفان وأشداء نجد الذين وتروا في زعامتهم المغدورة، (ولم ينسَ الفزاريون مقتلة عقيلتهم أم قرفة تمزيقًا بين بعيرين على يد زيد بن حارثة، والتي تصورها أفلامنا السينمائية بالعكس، فتجعل من مسلمة فقيرة هي من تم تمزيقها بالبعيرين المتعاكسين على يد الأشرار الكفار، وهو ما يستدعي السؤال حول قيمة الصدق في مشايخ الإسلام، مع صمت كل الفقهاء والشرَّاح والوعاظ عن هذه الكذبة الكبرى) لكن زعيم غطفان الجديد عُيينة بن حصن الفزاري ما شغله ثأر أم قرفة قدر ما شغله العائد المادي، فمنحه يهود خيبر ثمر بلادهم لمدة عام كامل، «فلما سمع بهم رسول الله ﷺ ضرب الخندق حول المدينة، وكان الذي أشار على رسول الله ﷺ ضرب الخندق سلمان الفارسي، قال: يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا» (الطبري، التاريخ، ج٢، ص٥٥٦).
سبق وأخذ النبي في أحد بمشورة شباب المسلمين المتحمسين فخرج إلى عدو أكثر عددًا وعدة فهُزم المسلمون شر هزيمة؛ لذلك قرر في الخندق أن يأخذ بنصيحة عبد الله بن أبي سلول التي سبق وقالها له في أحد كخبير عسكري، ولم يؤخذ بها حينئذ. قال عبد الله بن أبي سلول: «يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا وأصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم. ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإذا رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا» (السهيلي، الروض الأنف، ج٣، ص١٤٩).
ومع ذلك فإن كتبنا التراثية لا تني تصف ابن سلول بكبير المنافقين، وذلك لأنه كان صوتًا معارضًا أحيانًا فقط. لكن عندما تعلق الأمر ببلده أحسن النصح مخلصًا. إلا أن ما يلفت النظر بشدة أن قريظة لم تقف على الحياد بل أخلصت لعهدها، فأمدت جيش المسلمين بآلات الحفر ونقل الأتربة «فاستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة ومساحي وكرازين ومكاتل» (الحلبي، السيرة، ج٢، ص٦٣).
وبينما وصل جيش الأحلاف إلى عشرة آلاف مقاتل، لم تتمكن يثرب بأقصى إمكانات الحشد من جمع سوى ثلاثة آلاف بين كبير وصغير وشاب وحدث، واشتد الحصار على المسلمين فنبَّأهم الرسول بفتح مدائن كسرى تبشيرًا لهم ورفعًا لروحهم المعنوية، لكن معارضًا آخر لا يمكن احتسابه من المنافقين لأنه من أهل بدر الذين غفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، هو معتب بن قشير (انظر: ابن هشام، السيرة بشرح السهيلي بالروض الأنف، ج٣، ص٦١) الذي قال: «ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل! ويخبركم أنه ينظر من يثرب إلى الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟» (ابن الأثير، الكامل، ج٢، ص١٧٩). أو في قول آخر: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط» (ابن هشام، الروض الأنف، ج٣، ص٢٦١).
حتى حفر الخندق أثبتت قريظة وعيها الدقيق بموقفها الشديد الحساسية، خاصة بعدما أصبحت بيوتها وحصونها جزءًا من الخندق؛ فالخندق يحيط بالمدينة وينتهي عند جبل سلع من طرف كحصن طبيعي يكفيه بعض الرماة، ثم يصل حتى حصن قريظة على حافة المدينة بمواجهة الأحزاب مباشرة؛ لذلك كانت قريظة نقطة ضعف يثرب الوحيدة التي أدركها جميع الأطراف: المسلمون وقريظة والأحزاب، كان يكفي أن تفتح قريظة باب حصنها لتمر عبره الأحزاب لينتهي الأمر كأن لم يكن.
وعى الحلف نقطة الضعف، فذهب حُيي بن أخطب الزعيم النضري المطرود إلى أبواب قريظة، فأبى أن يفتح له سيد قريظة كعب بن أسد القرظي، فظل يخاطبه ويذكره وينصحه ويخوِّفه من المسلمين وكيف جاءه بفرصة قد لا تتكرر للتحرر من سلطان المسلمين، حتى فتح له فدخل، «فلم يزل حُيي بكعب يفتله في الذروة وفي الغارب حتى سمع له، على أن أعطاه عهدًا من الله وميثاقًا، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدًا، أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان عليه، فيما بينه وبين رسول الله ﷺ» (الطبري، التاريخ، ج٢، ص٥٧١. انظر أيضًا: ابن هشام في السهيلي، ج٣، ص٢٦١. وابن الأثير في الكامل، ج٢، ص١٨٠).
هكذا اطمأنت قُريظة للحلفاء من الأحزاب واستقوت بهم؛ مما يؤكد ما سبق وذهبنا إليه في الدراسات السابقة عن عهد صحيفة المعاقل، وأنها قد تمت كتابتها تحت السلطان المحمدي وبدعم من القوة الإسلامية؛ لذلك ما أن اطمأنت قريظة إلى مساندة جيش الأحزاب، حتى بدأت تفرض شروط استمرار صحيفة المعاقل من عدمه.
وبلغ الأمر المسلمين المحاصرين المجهدين الفزِعين مما يحدث في حصون قريظة، فأرسل النبي وفدًا من الصحابة لبني قريظة، فاشترطت قريظة لاستمرار الالتزام بالصحيفة وفي مدد المسلمين إعادة بني النضير إلى المدينة مرة أخرى، فتشاتموا وعادوا ليخبروا النبي، وأمسى واضحًا حجم الخطر الآتي.
وعاد المسلمون للتدبر ليصلوا إلى نتيجة، أنه إذا كانت نقطة ضعف يثرب هي قريظة، فإن نقطة ضعف الأحزاب هي الأحمق الطماع المطاع (بوصف النبي له) عُيينة بن حصن الفزاري زعيم غطفان، الذي يمكن تحويل موقفه بمزيد من الإغراءات المادية.
وتم التفاوض سرًّا مع زعيم عطفان على انسحاب الطماع برجاله مقابل ثلث ثمار المدينة، لكن عيينة طلب النصف على ألا يكتفي بالانسحاب بجيوشه، بل والإيقاع بين الأحزاب بالفتنة، يرسل من يوقع الشك بين الأحزاب وبعضها، وتمت الموافقة. وعندما أخبر النبي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة بعد انصراف وفد غطفان، احتجا وقالا: إنا نرى ألا نعطيهم إلا السيف، ليرد النبي: «فأنت وذاك»، فيتناول ابن معاذ صحيفة التعاقد ويمحوها قائلًا: «فليجهدوا علينا» (ابن سعد، الطبقات، مج٢، ج١، ص٥٣).
بينما كان رجل غطفان الداهية نعيم بن مسعود ينفذ ما سمعه النبي وخطته للإيقاع بين الأحزاب، أو في مختصر مفيد قوله ﷺ لابن مسعود: «خذِّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» (ابن هشام في السهيلي، ج٣، ص٢٦٥). فنقض المسلمون الصحابة عهدًا وقعه النبي دون علم الطرف الثاني من العهد! بينما كان الطرف الثاني ينفذ جانبه من العهد.
بينما كان ابن مسعود يشكك قريظة في الأحزاب، طلبت قريظة من الأحزاب رجالًا من كبار أشرافها ضمانًا لهم يدخلون حصنهم معهم كما دخل حيي بن أخطب، بينما كان قد أخبر الأحزاب قبلها أن قريظة تتآمر بهم وستطلب منهم رجالًا كبارًا من زعماء الأحزاب تسلمهم لمحمد ليقتلهم.
وفي ليلة شاتية قاسية مرعدة مبرقة وقع الخصام بين قريظة والأحزاب؛ مما دفع أبا سفيان للنداء بعودة الجيوش بعد نفاد مخزون الزاد والماء واشتداد العاصفة. وهكذا أمكن لابن هشام القول: «وخذل الله بينهم» وليس نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني. (السيرة في السهيلي، ج٣، ص٢٦٥-٢٦٦).
وصدق الله وعده لنبيه بانشمار الأحزاب راجعين إلى بلادهم، ناهيك عن النتيجة الأهم والأخطر وهي تحرير يثرب تمامًا من العنصر اليهودي، بعد أن همت قريظة بالخيانة، فقد زحف الجيش الإسلامي وحاصر قريظة، فأرسلت لمحمد أن يرسل لها أبا لبابة بن المنذر الأوسي، «قالوا: يا أبا لبابة: ماذا ترى؟ وبماذا تأمرنا؟ فإنه لا طاقة لنا بالقتال»، وجاء رد أبي لبابة بإشارة من إصبعه مرورًا على عنقه (يريهم أنه الذبح) (ابن كثير، البداية، ج٤، ص١٢١).
يروي الطبري: «فقام إليه الرجال وأجهش إليه النساء، والصبيان يبكون في وجهه، فرقَّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد، قال: نعم، ثم أشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح» (التاريخ، ج٢، ص٥٨٤). «وقد كان حيي بن أخطب النضري قد دخل على بني قريظة في حصونهم بعد أن رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان قد عاهده عليه» (نفسه ص٥٨٣). فأي قيمة للوفاء بالعهد يعدل احترامها تقديم النفس للموت عن النكوص عن القيمة؟! «ثم استزلوا فحبسهم رسول الله، ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق» (نفسه، ص٥٨٨) (أي أمر بحفر حفر بالسوق، وذلك قبل صدور أي حكم بشأنهم).
قامت الأوس تتشفع عند النبي لحلفائها القرظيين كما سبق وتشفعت الخزرج للنضير فخرجوا بحياتهم تاركين أموالهم وعقارهم ومتاعهم، فرد عليهم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم. قالوا: بلى، قال: فذاك سعد بن معاذ» (نفسه، ص٥٨٦). وحكم سعد على حلفائه اليهود القرظيين الذين أصبحوا (سابقين)، بحكم شديد القسوة؛ قال: «إني أحكم فيهم بأن يقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، فقال رسول الله لسعد: حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» (نفسه، ص٥٥٨–٥٨٧).
ومن ثَم كشف الطبري سر الخنادق بسوق المدينة حيث أمر النبي بذبح القرظيين وكل من أنبت شعر عانته منهم من صبية صغار على تلك الخنادق، «فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج إليه أرسالًا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، المكثر لهم يقول كانوا نحو الثمانمائة إلى التسعمائة، أُتي بعدو الله حيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله ﷺ قال له: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك أبدًا، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، ملحمة قد كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه» (نفسه، ص٥٨٨: ٥٩٣). وبقي من بينهم ذلك الذي سنعرفه بعد ذلك كصحابي «عطبة القرظي» الذي نجا من المجزرة لأنهم عندما كشفوا عن عانته وجدوها لم تنبت شعرًا بعد.
ويحدد لنا البيهقي موقع تلك المذبحة الهائلة: «قُتلوا عند دار أبي جهل التي بالبلاط، ولم تكن يومئذ بلاطًا، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق» (دلائل النبوة، ج٤، ص٢٠)؛ وهو وما يعني أن الخنادق قد امتلأت بالدم ثم فاضت منها حتى أقصى السوق. ليختم القرآن الكريم الملحمة في موجز بليغ يقول: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (الأحزاب: ٢٥–٢٧).
كادت قريظة أن تهمَّ بنقض صحيفة المعاقل، التي كتبت قهرًا وشوكة، فكان عقابها عملية إفناء كاملة. أليست العقوبة أشد بما لا يقارن بالجرم؟ في معيار القيم سيكون هذا الإفناء جريمة في حق الإنسانية بمقاييس اليوم وقيم اليوم وتكون الكارثة أعظم فداحة لو اعتبرنا ذلك دينًا وقيمة سماوية، مع ملاحظة كيف نقض السعدان ابن معاذ وابن عبادة العهد مع غطفان بشديد البساطة، وكيف نقض سعد بن معاذ عهده مع حليفته وحليفة الأوس قريظة بإصداره حكمًا مرعبًا شديد الوطأة وبلا شبيه في تاريخ الجزيرة بذات الهدوء والبساطة، إخلاصًا لإسلامه ولنبيه، وهو ما تلحظه أيضًا في موقف أبي لبابة الأوسي، مع ملاحظة أخرى في الموقف المبهر في وفاء حيي بن أخطب بعهده لصديقه كعب بن أسعد القرظي بالدخول معه إلى حصنه، وهو يعلم أن مصيره الموت لا محالة.
على مقياس القيم كما نفهمها لا بد أن يحتسب ما حدث خروجًا على كل القيم الإنسانية، من أجل قيم تحتسب دينية بينما كانت سياسية وعسكرية لها ظرفها التاريخي، ورغم أن ما حدث كان مجزرة بكل المعاني، إلا أن التاريخ يمتلئ بالمجازر، والأهم كان في النتائج، وقد حققت مجزرة قريظة بعد ذلك دورها في إرهاب الجزيرة كلها بعدما تسامعت بخبرها مما سرَّع عملية الخضوع الطوعي لسيادة المسلمين، كان سعد بن معاذ يرنو إلى المستقبل وهو يصدر حكمه المخيف والمرهب لكل جنبات الجزيرة مدوِّيًا رجع صداه هلعًا أينما سمع.
إن قيمة الوفاء بالعهد مع ظروف قريظة تفقد معناها القيمي، كما سبق وفقدته مع ظروف النضير، وإذا ما استند مسلم اليوم إلى قيمة الوفاء بالعهد فلأنها قيمة عظيمة في ذاتها، وليست لأنها مقررًا إسلاميًّا؛ لأنها في واقع الحال لم تكن كذلك، والإصرار على نسبة كل شأن رفيع وصلت إليه الإنسانية إلى الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا وربع القرن فيه ظلم لواقعنا وظلم للإسلام في آن واحد. إن القيم هي ما يتوافق عليه الضمير العام في زمن ومكان بذاته ومجتمع بخصوصيته وقد تسمو فيتوافق عليها الضمير العالمي كله، أما الدين فهو أوامر ونواهٍ لا علاقة لها بمفهوم القيم؛ فالقيمة تفترض حرية الاختيار بين بدائل مع فرز بينها وتجنيب لاختيار القيمة الأفضل، بينما الدين فروض وشعائر يحسن احترامها بتركها لزمانها وليست محل اختيار أو مفاضلة.
والحرب فعل سياسي، والسياسة لا تحترم سوى المصالح، وأعلن النبي ﷺ ذلك بوضوح؛ فهي عملية خداع للآخر، ليس في السياسة عهود دائمة ولا قيم إلا إذا وافقت المصلحة، ولا بأس بنقض القيم في شئون السياسة والحرب، لكن إن نقضناها لأن ديننا أباح هذا النقض، وجعل ما حدث بشأن هذه القيمة في تاريخنا دينًا كما قال قرضاوي نتعبد بها؛ فهو ما يعني الخروج على معنى القيم جميعًا وتدريب النفس والروح على كسر القيم وتبرير ذلك الكسر بالخداع الشرعي المشروع.
هذا ما كان من الأحداث على واقع الأرض في زمن الدعوة، وهذا ما كان من تعقيبنا الذي لا يكذب ولا يتجمل، لكن يعترف بحقيقة الأحداث بهدوء ليتركها لزمانها دون تفعيلها في زماننا، أما قرضاوي فقد عقَّب على الغزوة بقوله: «النبي سامح في الأحيان وقال لقريش اذهبوا فأنتم الطلقاء، لكنه لم يقل ذلك لبني قريظة، قبل كده سامحهم فجاؤا وتألَّبوا عليه وألَّبوا العرب عليه، فلم يكن لهم كلمة». لكنه لا يذكر لنا كيف: (قبل كده سامحهم) ومتى وفي أي حادثة؟ ويرى قرضاوي أنهم: لأنهم «لم يكن لهم كلمة» فقد حقت عليهم العقوبة بالإبادة الشاملة. لكن أخلاقيًّا أو حتى عسكريًّا، لماذا؟ يقول قرضاوي لا فُضَّ فوه وذُبح كارهوه: «أحيانا يكون العفو مطلوبًا، وأحيانًا يجرِّئ الظلمة على ظلمهم، والبغاة على بغيهم» (موقع القرضاوي في ٢٩ / ٢ / ٢٠٠٨م).
وهو ما يعني إمكانية تكرار الدرس بغض النظر عن قيمة القرضاوي العظمى في الوفاء بالعهد؛ لأن العفو قد يؤدي إلى اجتراء المعفو عنهم على العافي، وأحيانًا يجرِّئ البغاة على تكرار بغيهم، ولأنه (أحيانًا) ولأنه (قد)، فقد وجب الذبح الشرعي.