قمة السقيفة كنموذجٍ ثانٍ
لعل أهم السمات الفارقة للعربي البدوي هو الاعتزاز القدسي بالنسب القبلي، حتى إنهم لم يعرفوا أن هناك علمًا أرقى ولا أهم من علم الأنساب، وكان لديهم متخصصون يرفعون النسب إلى الجد التاسع والعاشر، عارفون بأقدار الناس ما بين النسب الرفيع والنسب الوضيع. ويرتفع النسب وينخفض بحسب عدد أفراد القبيلة، والقدرة القتالية للقبيلة.
عُيينة بن حصن الفزاري مثلًا لم يكن بمقاييس الرجال أكثر من أحمق جهول، ومع ذلك حسبت له العرب ألف حساب، حتى نبي الإسلام تعامل معه على كفره وفق هذا المعنى، وكان يلقبه بالأحمق الطماع المطاع؛ لأن بإمكانه تجييش عشرة آلاف فارس في لحظة؛ ومن ثَم كان تفاوت الأنساب والتفاخر بالنسب إن صدقًا أو كذبًا مدعاة لسيادة قاعدة عدم المساواة بين الناس كمفهوم أصيل لدى العربي، الذي وضع لعدم المساواة بين الناس علمًا يصنِّفهم درجات وطبقات هو علم الأنساب.
ومن ثَم فإن عدم المساواة بين أقدار الناس أصيل في البنية التكوينية لطبيعة المجتمع البدوي، الذي يرى أن عدم المساواة هو طبيعة الأشياء ونظام الكون، وأن تراتب الخلق في منازل ورتب ودرجات قدر حتمي، ولأنه يتعلق بعدم المساواة في الرزق الذي لا حيلة فيه لإنسان؛ فهو قدر إلهي محتوم.
ونجد هذه القاعدة البدوية في التفرقة بين بني آدم أساس ومحور النقاش في سقيفة بنى ساعدة عندما تنافس الأنصار والمهاجرون حول أحقية كل منهما في رئاسة العرب بعد وفاة الرسول واكتمال الرسالة الإسلامية. وتمكن المهاجرون القرشيون من حيازة الأفضلية للرئاسة فأصبحوا من بعد هم الحاكمين وهم من كُتب التراث الإسلامي تحت ظلهم وبتوجيه منهم. وقد حازوا تلك الأفضلية بالقرابة القبلية العشائرية من نسب النبي، فهم ذوو قرابته ومن دمه ورحمه. وأفضلية أخرى إضافية هي السابقة في الإسلام، وهي قيمة غير مفهومة في معايير زماننا؛ لأن الأسبقية في الإسلام لا يجب بموازين عدل اليوم أن تفضل طرفًا على طرف تأخر إسلامه؛ لأن المعنى سيكون أنه كان مطلوبًا في العالم كله وفي لحظة واحدة أن يعلن إسلامه حينما أعلن النبي نبوته، حتى تكون هناك مساواة، وسواء بلغته الدعوة فورًا أم جاءته متأخرة. فالسابقة في الإيمان هنا لا يمكن فهمها إلا في ضوء حياة الغزو القبلي، القائمة على القدرة القتالية والانتصار بأي أسلوب ممكن، كالخطف حيث يكون الخاطف صاحب حق في المخطوف بمجرد خطفه، إن السابقة هنا تعني في المفهوم البدوي أنه قد سبق إلى الخطفة فأصبحت له، وهي قاعدة بدوية يفهمها كل البدو، ويرونها حقًّا منطقيًّا طبيعيًّا لا غبار أخلاقيًّا عليه بالمرة، ولعل قولة عمر بعد فوز أبي بكر بالخلافة: «إن خلافة أبي بكر كانت فلتة وقانا الله شرها» تعبير واضح عن تلك الفلتة أو الخطفة.
في السقيفة سنرى أول استثمار انتهازي للدين من أجل مكاسب دنيوية بحتة، وكان أول المستثمرين هم صحابة النبي المقربين، وهم من فتح الباب لاستثمار دين الله لأهداف دنيوية بحتة، وذلك بحسبانهم من قال عنهم النبي: «أصحابي كالنجوم؛ بأيهم اقتديتم، اهتديتم.» ومن ثَم كانت قدسية الصحابة رصيدًا قدسيًّا آخر، فتم إلباسهم قداسة الدين الذي تم استثماره في صراع أهل القمة في السقيفة.
وقد أثمر هذا الاستخدام الانتهازي للدين ولقداسة الصحابة تقسيمًا للمجتمع المسلم إلى قسمين: قسم له شرف الحكم، وقسم آخر تم تشريفه بكونه رعية للحكام المقدسين، وعليه واجب الطاعة والمساعدة ولا حق له في الحكم، وذلك تأسيسًا على حديث أبي بكر عن النبي الذي حسم به الأمر: إن «الخلافة في قريش». وما كان ممكنًا تكذيب أبي بكر وهو الصدِّيق في هذا الحديث الذي لم يسمعه من النبي سوى أبي بكر وحده. بل وترتب على هذا الحديث أن جعل الحكم وراثيًّا في قريش وحدها دون بقية العرب، وتمت به مصادرة مدينة يثرب من أهلها الأنصار وخلوصها فيئًا للمهاجرين دون حرب ولا فتح، بقرار ديني احتفظ به أبو بكر سرًّا حتى حان أوانه فأفشى به.
الملحوظة الثانية التي لا تقل أهمية فيما دار بالسقيفة هو أن طرفي الصراع كانا يتحدثان بحسبان الرسالة المحمدية موجهة للعرب وحدهم دون الناس، في خطبة أبى بكر يستذكر مع الناس ما مضى، وكيف جاء النبي بدعوته، وكيف «عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم.» (الطبري، ١١، ١٩). فهو يوضح هنا أن الرسالة كانت موجَّهة للعرب وحدهم، ولم يرد في خطبته على طولها وتعدد محاورها ما يشير إلى غير العرب من فرس أو روم أو غيرهم من قريب أو بعيد.
المعنى ذاته تؤكده خطبة سعد بن عبادة الأنصاري، الذي قام بالسقيفة يعرض حجج الأنصار في الأحقية والأفضلية للحكم، موجِّهًا خطابه لأهله الأنصار وكيف استضافوا الدعوة وحموها وخرجوا بها خارج حدود يثرب في ظل سيوفهم ورماحهم، حتى استقامت العرب بسيوفنا لأمر الله طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داحرًا، وحتى أثخن الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب.» وهكذا تكون الرسالة قد اكتملت بسواعد الأنصار وذلك في خاتمة سعد، «وتوفَّاه الله وهو راضٍ عنكم، وبكم قرير العين.»
هنا أيضًا كان العرب هدف الرسالة التي بلغتهم تامة كاملة، وليس مقصد الرسالة حسب فهم الصحابة هنا هو العالم، وعندما كانوا يتحدثون عن الأرض كانوا لا يقصدون بها العالم، إنما أرض العرب بالذات، «حتى أثخن الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب». فالأرض المقصودة هنا هي الأرض التي دانت عربها لأسياف الأنصار.
هنا اختلاف شديد في المفاهيم ما بين دلالتها عند عربي زمن الدعوة وما بين دلالتها اليوم، وهو الأمر الذي تهدف هذه الدراسة إلى التنبيه إليه، حتى يمكن أن نقرأ نصوص ذلك الزمان بدلالات مفاهيم زمنهم لا مفاهيم زماننا اليوم.
أبو بكر يدعم موقف المهاجرين المطالب بالحكم والسلطان فيقول عنهم: «فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله ورسوله، وهم أولياؤه وعشيرته، وهم أحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا يُنكَر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة.»
ويلفت الانتباه بشدة قول الصحابي الكبير «فهم أول من عبد الله في الأرض»، فلا شك أنه كان على علم بالنبوات السابقة في بقاع الأرض حول جزيرة العرب؛ لذلك عندما يقول الأرض فإنما هو يعني أرض الجزيرة تحديدًا التي فيها كان المهاجرون أول من عبد الله حق عبادته وآمن بالله ورسوله، ويظل المفهوم من كلمة الأرض أرض العرب وحدها.
أما السبب الجوهري في أحقية المهاجرين بالرئاسة أو بالأمر فهو أنهم أولياء النبي وعشيرته وأهل نسبه القبلي؛ لذلك «هم أحقُّ الناس بهذا الأمر من بعده». المسألة إذن كانت ميراثًا قبليًّا وليست شأن الدين والإسلام، ليس فيها أسباب كالكفاءة أو مصلحة الرعية أو رأي هؤلاء الرعية، فهذا كله ليس سبيلًا إلى «الأمر» أو الرئاسة، إنما السبيل هو القرابة والعصبية والنسب، ومن ثَم تكون الأرض وإمارتها ميراثًا وليس دولة تُدار بأساليب إدارة الدول كما في بقية الدول المجاورة.
هنا لا تجد بالمرة تعبير «دولة»؛ فالعرب لا تعرف من دلالة دولة سوى التداول بتغير الأزمان، وتلك الأيام نداولها بين الناس، إنما كانوا يعرفون «الرئاسة» أي الحكم بمفاهيمنا ولكن بمصطلح «الأمر»؛ لأن الرئيس هو من يأمر فيطاع؛ فهو الآمر، وماهية منصبه هي «الأمر» ومنها الأمير؛ لذلك لم يعرف العربي معنى الدولة والحكومة كما نعرفه بدلالة أيامنا، إنما يعرف الآمر والمأمور فقط، ما يعرفه الأمر والأمير الآمر بلا منازع ولا معارض ولا شريك. الأهم وتأسيسًا على المعاني الفطرية الأصيلة عند العربي في عدم المساواة بين الناس، هو أن أبا بكر كان يرى أن الله لم يساوِ بين المهاجرين والأنصار، وأن للمهاجرين أفضليتَين واضحتَين فضلهم الله بهما على الأنصار وخص بهما المهاجرين، الأفضلية الأولى سابقتهم في الإسلام، والثانية هي قرابتهم ونسبهم القبلي للنبي، وإلا لماذا لم يختر نبيه من بين الأنصار؟ ولماذا ظهر في مكة ولم يظهر في يثرب؟ حجة بدورها قبلية تقوم على منطق فبلي عشائري قُحٍّ.
أما قوله: «لا ينازعهم ذلك إلا ظالم»؛ فهو ما يعني بوضوح فصيح أنه حتى بعد اكتمال الدين تحت سمع وبصر الصحابة، فإن من بين الصحابة من عجز عن إدراك العدل، وظهر من بينهم من هو ظالم لا يرى العدل عندما يكون ماثلًا أمام عينيه، وهذا العدل ليس هو الوفاء للأنصار بما قدموا؛ إنما هو حق قريش في الحكم، وهذا الحق له أصول قبلية راسخة. وعليه فإن دلالة مفهوم العدل زمنهم تختلف بدورها عن فهمنا لها اليوم، فحق قريش بعيون اليوم سيكون غير مفهوم بالمرة، مقابل ما قدم الأنصار للدعوة من بذل وعطاء وفداء.
في قمة السقيفة حدثت تحولات وانقلابات أدت إلى تغير خط سير التاريخ، فبعد ريادة يثرب، وبعد ما كان الأنصار وقود الانتصارات الإسلامية المتتالية، أسفر اجتماع السقيفة عن نتائج أعادت إلقاء الأمر كله بيد قريش مرة أخرى، لتستمر قائدة للعرب بشكل شرعي، بعدما كانت سيادتها زمن الجاهلية سيادة عرفية غير ملزمة ودون اعتراف قبلي علني بهذه القيادة، لقد دقَّ اجتماع السقيفة قريش وتدًا في جسد الزمن والجغرافيا لتحكم بشرعية القرابة للنبي ودينه معًا، بالانتساب إلى الدين رغم أنه حق مشاع لا يصح إليه انتساب دون انتساب، لقد تم تأميم الإسلام وتشخيصه في شخص محمد، ومن القرابة لمحمد تم وراثة الدين والدنيا معًا في منظومة واحدة يعرفها العلم الحديث باسم منظومة الاستبداد الشرقي.
والنظرة الأكثر فحصًا وتدقيقًا لا بد أن تصل إلى أن قمة السقيفة لم تغير خط سير التاريخ، إنما هي أعادت هذا الخط إلى مساره الطبيعي الذي سبق وصنعته ظروف البيئة وظروف السياسة العالمية، عندما أصبحت مكة بقيادتها القرشية أهم محطة تجارية مالية، نتيجة للحرب بين الفرس والروم، عندما لم يعد في العالم طريق آمن للتجارة سوى الطريق الصحراوي القادم من اليمن في رحلة الشتاء فيما نحو الشمال حيث عالم الإمبراطوريات في رحلة الصيف. وما كانت يثرب في ذلك إلا حلقة في السلسلة الكبرى التي تم استخدامها في انحرافة تاريخية لضرب تجارة مكة، وقيام يثرب بغزواتها الإسلامية على الطريق التجاري وحصاره اقتصاديًّا لإخضاع مكة للسيادة الإسلامية، وما حدث في السقيفة إذن هو عودة الاعتدال لخط سير التاريخ نحو نتائجه المنطقية، فكان أن أصبحت يثرب نفسها مقرًّا لأول حكومة قرشية عربية بالمعنى الواسع لفيدرالية قبلية موسعة في جزيرة العرب.
(١) ماذا أبقت السقيفة للأنصار؟
في خطابه بالسقيفة يتوجَّه أبو بكر للأنصار قائلًا: «نحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو.»
هنا تبدو حكمة أبي بكر وحنكته في توجيه الاهتمام لما يحب العربي ويهوى. نحو الحروب والسبي والفيء والغنائم، مع تضمين التوجيه نحو الفتوحات طمأنة للأنصار على حفظ حقوقهم في الفيء، إنها الإشارة الهامة التي تهدِّئ الروع وتطمئن الفؤاد، ولا شيء هنا عن واجب الصحابة في نشر الدعوة الإسلامية، كل الحديث عن فيء مضمون لأصحابه (الطبري، ١١، ٢٢٠. هيكل، حياة محمد، ص٤٠٣). والعدو المقصود هنا هو غير المسلم، فمجرد وجوده هو عدوان على المسلم يجب رده، وغير المسلم العدو سيكون هو محل تفعيل الحلف القديم «أنصارنا على العدو»، وهو مصدر الفيء الذي سيكون منه نصيب «لشركائنا في الفيء.»
ولا يفوت الصدِّيق أن يقدم للأنصار التقدير والثناء فيقول لهم: «وأنتم معشر الأنصار من لا يُنكَر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم الهجرة، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تُفتاتون بمشورة، ولا تُقضى دونكم الأمور.»
في عالم العرب كانت اللغة قادرة فعالة، قوم فخرهم اللغة، فخرهم أنهم يتكلمون، ولقَّبوا غيرهم بالعجم ولقَّبوا الحيوانات بالعجماوات أي التي لا تُفصح فصاحة العرب، وهذه الفصاحة قامت بتحويل تضحيات الأنصار العظمى وإيوائهم النبي والمهاجرين ومحاربة العرب من أجله إلى منة من الله لينصر بهم دينه، فليس لهم أي فضل على الدعوة؛ لأن الحقيقة أن الفضل هو على الأنصار وليس لهم، ويكفيهم أنهم كانوا المختارين إلهيًّا للقيام بهذه المهمة وحدها؛ لذلك منَّ الله عليهم بهذا الفضل فشرَّفهم بذلك وكرمهم، ورغم هذا التكريم الإلهي فلا يزالون أمام القانون القبلي في الدرجة الدنيا فهم بعد المهاجرين؛ لذلك فالعدل يفرض الأمراء «الآمرين» من قريش، والوزراء من الأنصار.
والقارئ المدقق لتفاصيل قمة السقيفة سيرى أول الملحوظات البارزة وهي العادة العربية الجاهلية في التفاخر بالنسب وعدد أفراد القبيلة وقوتها ومنعتها ودرجة القرابة من الرسول، والتعامل مع الأمر باعتباره ميراثًا، دون أي إشارة تفيد بمعرفتهم لمبادئ الحقوق والواجبات، سواء أكانت تلك المتعلقة بالحاكم أم بالرعية، وعدم المعرفة هو التفسير الوحيد لعدم تعرض أي من الطرفين لها في المنافسة التي دارت بالسقيفة وسجلتها لنا كتب السير الإسلامية بكل دقة. أما الملحوظة النافرة الناتئة فتكاد تعمي البصر، هي أن أحد الفريقين لم يتعرض لما سيحرص عليه من أجل نشر الإسلام وتثبيته كهدف رئيسي. لقد تركوا جثمان نبيهم لأهله الهاشميين يغسِّلونه ويكفنونه ويلحِّدونه، وراحوا إلى السقيفة يتصارعون على الإمارة، ولم يحضر الدين إلا لدعم كل طرف على الآخر، أما هو في ذاته فلم يكن هدفًا واضحًا في هذا الاجتماع التاريخي الفاصل.
لذلك لم يقبل الأنصار أن يكونوا الوزراء وقريش الأمراء، فتقدموا باقتراح آخر هو: «منا أمير ومنكم أمير.» فكان ردُّ عمر بن الخطاب الحاسم الحازم: «هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولِّي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مُدلٍ بباطل، أو مُتدانف لإثم ومتورط في هُلكة.»
يقدم عمر هنا القانون العربي، سيرفض العرب أن يحكمهم أحد من خارج القرابة النبوية، وهو القانون الذي يرى أن محمدًا كان صاحب سلطان وإمارة، وأن هذا السلطان وتلك الإمارة هما ميراث لأهله وعشيرته دون غيرهم.
الطريف أن الهاشميين الذين قاطعوا السقيفة والبيعة، قال زعيمهم علي بن أبي طالب فاضحًا الموقف كله: «لقد احتجُّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.» أي أن المهاجرين الأمويين احتجوا للإمارة بكونهم شجرة النبي، بينما الحجة مردودة عليهم؛ لأنه وفق هذا المنطق كان الأحق بالإمارة هو علي بن أبي طالب فهو الثمرة على تلك الشجرة. أما الأنصار فلا نالوا إمارة ولا حتى وزارة كما وعد أبو بكر.
إن قول الأنصار: «منا أمير ومنكم أمير» يعني معرفة العرب الإمارة بمعنى الرئاسة، لكن أبا بكر تخير لنفسه لقب «خليفة رسول الله» ورفض لقب الإمارة؛ لأنه أراد أن يطمئن الأنصار لعدم رغبة المهاجرين في التآمر عليهم، وأن الأوضاع كما كانت عليه لم تتغير بوفاة النبي ﷺ؛ لأن القائم مقامه هو خليفته، وإذا كان الأنصار قد ناصروا النبي ﷺ وآووه وأيدوه حتى أظهر الله أمره ونشر دينه بين العرب، فعليهم الاستمرار على العهد نفسه مع خليفته إخلاصًا للنبي ولدينه، وأن يؤدوا لخليفة النبي ما كانوا يؤدونه للنبي، هذا ناهيك عن اكتساب الخليفة قدسية النبي والدين بخلافة النبي في الدنيا والدين.
من جانب آخر كان اختيار لقب خليفة رسول الله ﷺ إعلانًا عن مسئولية هذا الخليفة عن كل المسلمين وليس المهاجرين وحدهم، وهي طمأنة إضافية للأنصار، فوأد الفتنة ومنع قيام صراع بين المهاجرين والأنصار على إمارة مرفوضة، وليتمكن بسيوف الأنصار من استعادة المناطق الانفصالية والمرتدة. ثم إن لقب الخليفة أغنى من لقب الإمارة؛ فالإمارة سلطة زمنية أو عسكرية، أما الخلافة عن النبي فهي لقب يجمع إلى جانب الزعامة الدنيوية الزعامة الروحية أيضًا.
وعندما تولى عمر رضي الله عنه وأحب اختيار لقب، فقالوا ليكن خليفة رسول الله، فقال والله إنه لشأن طويل، واختار لقب «أمير المؤمنين» بدلًا من «أمير العرب» أو «أمير الحجاز»، وهو اختيار في وقته موفق إلى حد عظيم؛ فهو ما يعني أنه ليس أميرًا لفريق دون فريق؛ فهو أمير كل المؤمنين، والمقصود بالمؤمنين هنا هم أهل الجيل الأول من الدعوة مهاجرين وأنصارًا وقوادًا وعسكريين وهم من قام الدين الجديد على سواعدهم، فكان لقب أمير المؤمنين طمأنة أنهم تحت الرعاية القصوى، وأنهم الأولى برعاية الأمير، هو أميرهم وهم المؤمنون. أمير المؤمنين يعني أنه لا يحكم على إمارة ولا على مملكة ولا على إمبراطورية ولا على دولة، إنما إمارته هي للمؤمنين وحدهم بعوائدها الجزيلة الآتية من غير المؤمنين، واتسعت رقعة البلاد المفتوحة وكان معظم سكانها من غير المؤمنين، وكان المؤمنون هم الأقلية الحاكمة؛ لذلك جاء لقب أمير المؤمنين كإعطاء عهد أمان للعرب النازحين من الجزيرة إلى البلدان المفتوحة، فأميرهم الحاكم الأعلى للإمبراطورية مسئول عن رعايتهم وعن مصالحهم دون غيرهم أينما كانوا، فهم وحدهم رعية أمير المؤمنين، وهو ما يفسر موقف الخليفة عمر عندما طلب الغوث زمن الرمادة من والي مصر عمرو بن العاص، فعرض عليه إعادة حفر قناة سيزوستريس لإيصال المعونة، لكن ذلك سيعني خراب مصر عدة سنوات، فقال عمر قولته المشهورة: اعمل فيها وعجِّل، أخرب الله مصر في عمران مدينة رسول الله، لم يكن المصريون من رعية عمر وخراب مصر في عمار مدينة رسول الله هو قيمة عليا عُمرية وقُربة إلى الله.