حوار لم يكتمل مع المرحوم عبد الوهاب المسيري
رحم الله أخي الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي كان يملأ حياتنا الثقافية ثراءً وحراكًا، قد أخالف المسيري في بعض ما كتب أو قال، أو في معظمه، لكن ذلك لا يعني سوى المخالفة في الرأي، ولا يقلل من احترامي لإخلاص الرجل لفكرته ودأبه العملي وبحثه الرصين الذي أعطاه حياته، سواء أكانت نتائج هذه الأبحاث إيجابية أم سلبية حسب وجهة نظر القارئ ودرجة ثقافته وحياديته ومدى اتفاقه أو اختلافه مع المطروح.
وقد سبق لي أن التقيت هذا الباحث المجتهد خلال برنامج الاتجاه المعاكس بقناة الجزيرة للحوار حول العلمانية والاستبداد، وقد تم تقديمه بوصفه مفكِّرًا إسلاميًّا وتم تقديمي بوصفي مفكِّرًا علمانيًّا، على قبول من كلينا بهذه التعريفات، ورغم اختلافنا بالكامل، فقد خرجنا من الأستوديو يتوكأ كلانا على الآخر، مع اتفاق مبدئي على لقاء شخصي نستكمل فيه مناقشة القضية بشكل أوسع وأكثر تفصيلًا.
وبعدها بأيام فوجئت في صحيفة إسلامية إلكترونية بحوار مع الدكتور المسيري يقول فيه إنه لو كان يعلم أني الذي سيناظره على الجزيرة ما قبل هذه المناظرة. ولأن الرجل لم ينشر ذلك مكتوبًا بقلمه، فإني لم أعتد به، خاصة مع تجربتي مع الصحافيين الذين أسمح لهم بإجراء الحوارات معي فيشوهونها ويقولون على لساني ما لم أقل؛ ومن ثَم اعتبرت القول منسوبًا للدكتور المسيري وربما لم يقله قط؛ لأنه كان أعقل من قول هذا بعد مبارزة فكرية خرج منها مهزومًا، وهو ممن لا يلجئون إلى النقمة عن عدم كسب الجولة، فلا هو الإرهابي كمال حبيب ولا هو سفيه لندن هاني السباعي ولا هو التافه رفعت سيد أحمد، إنما هو باحث محترم.
ولكن المرض لم يمهل الرجل وسافر إلى سبيله الأخير بعد أن ترك لنا أعمالًا أقل ما يقال بشأنها إنها رمز تفانٍ وإخلاص الرجل لما كان يعتقده صوابًا.
ولأن الموضوع المطروح كان شديد الأهمية له ولي، وهو محل كتب وأبحاث لي وله على تناقض موقفينا، فقد رأيت أن أستكمل النقاش مع طروحاته في كتابيه الشهيرين عن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، في انتقاءات سريعة لمناقشتها من وجهة نظري كرجل علماني يفخر بعلمانيته ويزهو ويترفع، وإذا كان ثمة تعقيبات أو ردود خاصة، فإن الرجل لقي ربه لكن كلامه لم يمت، وله من المريدين والزملاء والتلاميذ من يمكنهم متابعة هذه المناقشة والقول فيها إن شاءوا.
في الجزء الأول من كتابه عن العلمانية يقول المسيري في المقدمة (ص٥): «ستحاول هذه الدراسة أن تتناول قضية العلمانية في جانبيها النظري والتطبيقي، من منظور نتصور أنه مختلف بعض الشيء عما هو سائد وشائع، فنحن نفرِّق بين ما نسميه العلمانية الجزئية التي هي فصل الدين عن الدولة، وبين العلمانية الشاملة التي هي فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة، في جانبيها العام والخاص.»
هنا نجده يقسم القيم إلى ثلاثة أنواع مختلفة، وهي القيم الإنسانية والقيم الأخلاقية والقيم الدينية، وهو تقسيم نوعي كيفي يجعل القيم الدينية شيئًا والإنسانية شيئًا والأخلاقية شيئًا ثالثًا.
بالنسبة إلى القيم الإنسانية منسوبة إلى الإنسان بحسبانه واضعها ومكتشفها، فهل ما نراه من القيم من نوع القيم الأخلاقية التي تحدث عنها الفلاح الفصيح في مصر القديمة، أو أفلاطون في بلاد الإغريق، فهل القيم الأخلاقية الإنسانية لا تتطابق مع القيم الدينية؟
ولو افترضنا وجود «قيم دينية» فعن قيم أي دين نتحدث، قيم البوذية أم الإسلام أم الهندوسية أم المسيحية أم اليهودية … إلخ؟
في كتابه يجمع الدكتور المسيري كل الأديان في سلة واحدة في مواجهة ما أسماه القيم الإنسانية والقيم الأخلاقية، رغم الاختلافات البينية الشاسعة بين الأديان. بالتدقيق ستجد أنه قد أصاب كبد الحقيقة لأن القيم الإنسانية التي أبدعها الإنسان وطورها حتى يومنا هذا أنكرت العبودية واستنكرتها وحرمتها، ولم تعد تقرر سبي الجواري كما كان في الدين، وإذا كان الدكتور يرفض العلمانية الشاملة لأنها تفصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة، فهل هو مع القيم الإنسانية أم مع القيم الدينية في مثل هذا الموضوع؟ كان عليه أن يعلن اختياره، هل مثلًا يقر القيمة الإنسانية في حرية الاعتقاد؟ وهل يرفض القيمة الدينية في الاتجار بالبشر وهتك عرض المغلوب؟ هلا أعلن أن نكاح ملك اليمن هو اغتصاب وعمل أصبح في أيامنا لا يتفق مع الأخلاق وقيم الإنسانية، وأن البشرية هجرته إلى غير رجعة؟
وفي الفصل الثالث من الجزء الأول يرصد المراجعات التي حدثت بشأن مصطلح العلمانية في الشرق والغرب، ثم يضيف قوله: «وهو ما يعطينا الحق في إعادة تعريفه بطريقة نرى أنها أكثر تفسيرية من التعريفات المتناقضة المتداولة الشائعة.»
المشكلة أن الدكتور المسيري كان يقدم نفسه بوصفه «المفكر الإسلامي»، وهو بهذه الصفة يعلم أنه ليس من حق المسلم التحاور مع ثقافته الدينية وثوابتنا القدسية؛ لأنها لو نوقشت ما صارت ثوابت، فإذا لم يكن من حقه التحاور الحر مع تراثه فلماذا يجهد نفسه ويجهدنا معه في البحث عن عيوب الآخرين أصحاب العلمانية الشاملة؟ وما هو العائد الذي سنستفيده من إصلاح المسيري لعلمانية ناس آخرين في بلاد غير بلادنا ولغات غير لغاتنا ومفاهيم غير مفاهيمنا؟ هل ترانا قد أكملنا نقد ما لدينا هدمًا وبناءً وتحليلًا وتركيبًا، لإظهار العيوب واستكمال القصور المسبب لتخلفنا في ذيل الأمم، حتى نجتهد في تعريف الآخر بعلمانيته التي صنعها بيديه، ناهيك عن نقدها؟!
إن القيم الدينية ليست فعلًا على خريطة العلمانية أكانت شاملة أم جزئية، وإلا ما عادت العلمانية علمانية، وإن أصحاب العلمانية الذين أنجزوها قيمة متميزة أثمرت وآتت حصادها على كل لون من العلوم والفنون والكشوف، هي قيمة نسمح للمختلف معها بنقدها دون تكفير واستتابة أيامًا ثلاثة، يأخذ بها من يريد ويرفضها من يريد وهو آمن، ودون تهديد غير المؤمنين بالعلمانية بالقتل أو تفريقهم عن زوجاتهم، ولم نسمع أن علمانيًّا أرسل تهديدًا بالقتل للمخالفين، ولا طعن أحدهم في عنقه، وإذا كان هذا هو حالنا فهل ترانا نملك الحق في أن نعيد بفكرنا وعقلنا تفسير فكر العالم المتمدن العلماني نيابة عنه؟
إن العلمانية ليست بكل هذه المشقة التي تحتاج إلى تدبيج الكتب لرفضها؛ فهي سلعة لها نتائجها العملية الواضحة أمام عيوننا مطروحة في سوق الفكرة بخيرها وبشرها، من شاء أخذ بها ومن شاء ألا يأخذ بها فلا يأخذ؛ لأنها على الأقل لم ترسل إلى حدود بلادنا جيشًا غربيًّا ينادينا: إما العلمانية وإما الجزية وإما الحرب وما يترتب عليها! والمعنى أن العلمانية كفكرة وإجراءات وقواعد ومؤسسات لها أصحابها الذين صمموها وطوروها عبر سنين من تراكم الخبرة بين الخطأ والصواب؛ لذلك هم الأدرى بمعناها وليس نحن، هم الأدرى بمكوناتها الدقيقة ونحن علينا أن نستمع لصاحبها وهو يشرحها لنا، هكذا جلسنا نستمع لأفلاطون في جمهوريته، ولآينشتاين في نسبيته، ولأحمد زويل في الفيمتو ثانية، وللمعتزلة ومبادئهم الخمسة، فليس من حق المختلف وغير المنتج أن يشرح ويفسِّر فكر الخصم المنتج، لنقده سلبيًّا من باب تصغيره وتحقيره وتبخيسه وتنجيسه حتى نجتنبه حرصًا على طهارتنا.
إن من يواجه نظرية علمية بجديد يقدمه يجب أن يكون عالمًا في التخصص ذاته، ومن ينقد نظرية سياسية لا بد أن يملك الفلسفة؛ البديل الأفضل الذي سيعرضه على الناس، ومن يواجه الفلسفة يواجهها بفلسفة مثيلة أكثر إقناعًا، والمذهب الديني يواجه مذهبًا دينيًّا مثله، لذلك فإن مواجهة العلمانية بالدين وقيمه، يعني أنها دين مقدس وهي لست كذلك، فلا هي تملك دورًا للعبادة ولا لديها كتاب مقدس ولا حدود لها، ولا تشترط لنفسها أي خطوط حمراء ولا تفرض نفسها على أحد، تقبلها أو ترفضها سواء عندها؛ فهي شأن بشري لا يصح وضعه في مقابل ما هو رباني ثابت له كتابه وقدسيته وأوامره ونواهيه وطقوسه وله خطوطه الحمراء وحدوده التي لا يمكن تجاوزها. إن المقارنة هنا مقارنة باطلة، فالدين هو باب البشرية إلى جنة الرب أو ناره، حسب ميزانه ما بين طاعة وعصيان للتحريم والتحليل الذي تم تعريفه دينيًّا بدقة ووضوح. بينما ما نمارسه وفق العلمانية من فكر أو عمل أو نشاط فهو مما لا يدخل في ميزان الحسنات والسيئات، فكل اختراع أو فن أو اكتشاف أو نظرية فلسفية، أو إنجاز طبي أو شكل اقتصادي أو سلوك اجتماعي مدني، هو من آليات العلمانية وكله خارج نطاق الدين، لأن إجادة اكتشاف شيء نافع للبشرية بالعقل البشري لا الديني مثلما فعل باستير أو إديسون، فإن ذلك حسب الدين الإسلامي لن يدخلهما الجنة، وفشل علماء بلادنا في المساهمة بأي كشوف حضارية باعتبارهم من أعداء العلمانية لن يدخلهم النار أو لكان كل علماء الغرب الكافر مقرهم في الجنات العلى ينعمون بحضرة الرحمن الفردوسية، ولكان باستير بصحبة داروين وآينشتاين وغيرهما يُزفون الآن إلى الحور العين تستقبلهم الملائكة بالدفوف والبيارق.
إن أصحاب القيم الدينية لم يتمكن أحدهم من القضاء على مرض واحد من أمراض البشرية، رغم الطب النبوي والمعجزات الكنسية والظهورات القدسية التي نسمع عنها ولا جدوى لها في واقعنا؛ فهي كالعنقاء والقنطروس ورجل الثلج وأبي رِجل مسلوخة، بينما تمكنت قيم العلمانية الإنسانية الوضعية من القضاء على أمراض وبائية فتَّاكة كانت تطيح بكل المؤمنين من كل لون في إبادات جماعية دون رحمة، أين الطاعون اليوم؟ أو الكوليرا؟ أو السل؟ أو الزهري؟ أو السيلان؟ أو الجمرة الحمراء؟ أو السعال الديكي؟ أو الجدري؟ لذلك من الظلم البيِّن وضلال النتائج إجراء أي مقارنة بين قيم الإنسان وقيم الأديان، هو ظلم لكليهما.
ووفق هذا المعنى يمكننا القول إن الدين نفسه وقيمه يمكن ألا يكون ملزمًا للحياة المدنية العلمانية اليوم، ليس لخصام بينهما ولكن لأن الزمن قد انتقل نقلة حضارية مختلفة بالمرة، من زمن الأديان إلى زمن العلمانية. فحديث القرآن عن الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ليس ملزمًا لنا اليوم في ضوء المنجز الحضاري العلماني، فهناك الباجيرو الهمر والمرسيدس والفيراري والطائرة، وإذا استخدمناها لن نرتكب معصية لأن هذه أمور دنيانا ولا علاقة لها بالدين؛ فالدين ليس أكثر مما يدخل في ميزان الأعمال تهيئة للطريق إلى الجنة أو النار، وما عدا ذلك هو شأن عملي حضاري علماني بالكلية.
والدكتور المسيري نفسه عندما كتب مؤلفيه في العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، كان في خلفية المشهد إشارات سريعة تؤكد علمه اليقيني بما نقول هنا، كما في قوله بالمجلد الأول ص٩: «وقد كتبت هذه الدراسة بروح استكشافية، ولا يمكن أن أزعم امتلاكي اليقين الكامل، فمثل هذا اليقين مسألة إيمانية لا علاقة لها بالبحث العلمي.»
ورغم ذلك فإن قوله كان بحاجة إلى بعض التحديد والتدقيق خاصة فيما يقصده بمسألة يقين إيمانه، فهناك أعداد من اليقين الإيماني تساوي عدد الأديان والمذاهب في العالم وهي بمئات الألوف؟
ولو كان يقصد اليقين الإيماني بالإسلام وحده فهو بدوره مذاهب متعارضة متصارعة، تختلف جميعها حول معنى اليقين الإيماني، فيقين السنة غير يقين الشيعة، غير يقين المعتزلة، غير يقين فرق الشيعة وبعضها، غير يقين فرق السنة وبعضها، ويقين حماس غير يقين أحمدي نجاد غير يقين طالبان؛ وهو ما يعني في الخلاصة أن الدين يؤدي إلى التعدد في اليقينيات، وهو ما يعني اللايقين بالمرة، بينما العلمنة هي فكر واحد واضح بيقينه الذي هو العلم والارتقاء بالإنسان حضارةً وأخلاقًا وقيمًا، وأن هذا اليقين نسبي قابل للتعديل حسب المتغيرات للأفضل دومًا. وعليه فالعلمانية بشكلها الحالي ليست نهاية المطاف أو نهاية التاريخ كما ذهب فوكوياما؛ فهي ليست قرارات سماوية بل هي إنتاج إنساني متطور دومًا نحو الأفضل سواء في المكتشفات أو الاختراعات أو الفلسفات أو الفنون أو بقية العلوم والأخلاق والآداب الاجتماعية والنظم السياسية هي كائن حي يتطور بتطور البشر وحاجتهم.
الدكتور المسيري كمفكر مسلم حداثي (إن جاز التعبير) يقول ص١٧ج١: «نحن نذهب إلى أن ثمة فصلًا حتميًّا نسبيًّا للدين والكهنوت في كل المجتمعات الإنسانية تقريبًا.» بينما العلمانية تقول باستقلال تام لا نسبية فيه، حتى يتمكن الدين من الاستقلال عن الدولة والسياسة ويقوم بدوره المنوط به بتعريف الناس الطريق إلى الجنة، وتربية الضمير الحي بالطقوس والروحانيات، وحتى يتفرغ المجتمع والدولة إلى إدارة شئونهم وفق مصالحهم وحسب الظروف المتغيرة، وهو تفرُّع وانفصال مطلوب عن الدين، للتخفيف من ارتباك العقل بين النسبي والثابت، ويعطيهم الدافع لخلق جنتهم على الأرض بالعلم، والعمل، والإنتاج، ولا بأس من دعم معنوي من رجال الدين بالدعاء للعلمانية بالنجاح في مساعيها للارتقاء بالإنسان وتحقيق أمانه وعلاجه ورفاهيته وسعادته.
ومثل هذا الفصل التام سيرفع يد المؤسسة الدينية عن مؤسسات الدولة؛ لأن كل يد تدخل إدارة الدولة وليست منها ولا من مهامها، هي يد جاهلة بالإدارة لا تبغي سوى مكاسب يحققها هذا التدخل بالتحالف مع إدارة الدولة ضد المجتمع، ويحصل كل على نصيبه من الفريسة في مجتمع استبدادي يستمد فيه السارقان مشروعيتهما منهما معًا، وهو تحالف تاريخي عرفته منطقتنا طوال تاريخها الأسود البغيض، وآن أوان فك عراه.
وكي يخلق الدكتور المسيري الاتصال النسبي إزاء الفصل الحتمي ما بين الدين ورجاله وبين المجتمع؛ فإنه يعطينا تعريفًا للدولة يجعلها بحاجة إلى وجود الدين ورجاله؛ فهو يقول (ص١٨، ج١): «الدولة هنا تعني في واقع الأمر بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية ذات الطابع الفني مثل الجوانب البيروقراطية في إدارة الدولة، أو شراء نوع معين من الأسلحة، أو مناقشة أمور فنية تتصل بالميزانية العامة وهي أمور لا يعرفها سوى الفنيين، ولذا فليست في إمكان رجال الدين مشايخ أو قساوسة.» العبارة تبدو علمانية بشكل ناصع، لكنه تحدث عن الجوانب العلمية الفنية باعتبارها هي الدولة، ولكن يبقى الأهم والذي تعمل بموجبه كل هذه الشئون الفنية وهو دستور هذه الدولة، وشكل حكمها، وأنظمتها القانونية، وفلسفتها العامة التي تحدد مصالحها العامة. وهنا يورب الباب من خلف الستارة ليمر الدين ورجاله ليجلسوا في دماغ الدولة.
والرد السهل البسيط على هذا التعريف يحدث على أرضنا اليوم، فإن كانت الدولة مجموعة أجهزة بيروقراطية فنية، فلماذا يبكي الفلسطينيون خاصة الحمساوية على غياب الدولة؟ وهم يقومون بكل الأفعال البيروقراطية الفنية، فلديهم الوزارات والوزراء والإدارات والهيئات، وحسب الدكتور المسيري يكون الفلسطينيون قد حازوا كل حقوقهم وصارت لهم دولة طبقًا لتعريفه.
إن الدولة سلطة مستقلة ذات فلسفة وطريقة حكم تستمد شرعيتها من أصوات مجموع شعبها الذي اختار نوابه لتحقيق أمانيه، ولذلك تفتعل حماس كل هذه الحرائق وتضحي بأبناء غزة في حروب بلا معنى ولا هدف سوى إجبار العالم على الاعتراف بسيادتها على الدولة وبفلسفة هذه الدولة، ليجلسوا معها على مائدة مفاوضات فيتم الاعتراف بسلطتها فتظهر لها دولة أو إمارة إلى جوار دولة الضفة.
ومن ثَم يستطرد شارحًا (ص٩): «إن مسألة فصل الدين عن الدولة تنطبق على الآليات والإجراءات الفنية وحسب، ولا تنطبق بأي حال على القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع والدولة.» وهو كلام خلاصته تحويل الدولة إلى موظف يعمل لدى السلطة الدينية، وبدلًا من أن يصل إلى ما يسميه علمانية جزئية، يضل طريقه إلى سلطة دينية هي سلطة السلطات المطلقة، ولا يبقى سوى الفتوى مرجعًا قانونيًّا والداعية سيدًا مطلق النفوذ.
إن ما أُصر عليه باستبعاد الدين من المجال العام كله ليس لمجرد المعاندة، وإنما لكي يتفرغ الدين والعلمانية كل منهما لتحقيق المراد منه لخير الناس، كل بأسلوبه وكل بطريقته، هذا عبر الروح، والآخر عبر العلم والعقل المادي، وإذا اتفقا على أن أهدافهما إسعاد البشرية، فإن الهدف إذا كان صادقًا فلن يجعل أحد الطرفين يختلق المعارك والصراع ضد الطرف الآخر.
إن دخول الدين بمطلقاته إلى ساحة السياسة يخلطه بالرغبات البشرية في السيطرة والهيمنة والانفراد بالإدارة، ويكون الدين بذلك مجرد مطية ودابة تُمتَطى لأهداف ما أبعدها عن الدين؛ لأنها لا تبغي مصلحة عباد الله بقدر ما تهدف إلى سلطان فئة أو طائفة واستئثارها بكل شيء تحت مظلة الرعوية الربانية. إن كان أهل الدين يريدون طهارته ونظافته فعليهم أن يمارسوا به نشاطًا نهوضيًّا تقدميًّا تحضريًّا، والعمل دومًا على الصلح بين فرق المجتمع بعيدًا عن الصدام الذي يصل إلى سفك دماء الأبرياء لاختلاف على فهم فكرة، وعليهم دعوة الناس للعلم الحديث يمارسون واجبهم الإنساني في تعلمه والإضافة إليه لنشارك الناجحين في نجاحهم، فيكون نجاحنا نجاحين، ووفرتننا وفرتين، وتحضرنا تحضرين، أحدهما مصدره ديني والآخر علماني، وكما نسمع الأئمة في المساجد يدعون للسادة والمتنفذين على الرعية، بالتوفيق لما فيه مصلحة الرعية، يجب أن نسمع منهم دعاءً مماثلًا بنجاح العلمانية في بلادنا لما فيه مصلحة الرعية وتجنيب طوائف المجتمع التصادم وسفك الدم؛ لأن القول بطائفة تعلو بقية طوائف المجتمع بحد ذاته هو ضد الوطن، وضد أمن المجتمع، وضد المصلحة العامة، وخيانة كاملة للوطن؛ لأنه سيؤدي إلى حروب أهلية من أجل الرغبة في السيطرة والانفراد بالهيمنة لرجال دين علاقتهم المفترضة بالسماء وليس بالأرض وزخرفها. إن مجتمعنا سيسعد عندما يجد رجال الدين يساهمون في تخفيف معاناة الجياع وآلام المرضى والمنكوبين، والسعي إلى توفير المسكن والملبس للناس في الوطن دون النظر إلى هوياتهم الدينية، لا أن يتم تحصيل التبرعات والزكاة ونذور المساجد لتحويلها للإرهاب في البوسنة وكشمير والأفغان والشيشان وغزة والعراق.
وإذا كان المسيري بحكم حصيلته المعرفية قد طالب بعلمانية جزئية غير شاملة، فإن بقية التيار الإسلامي يكفِّر العلمانيين علنًا وبالفم الملآن، رغم أن العلمانيين هم الذين أخلصوا إلى ربهم فقاموا يكتشفون قوانينه في الكون، وتوظيفها من أجل كرامة الإنسان الذي كرمه ربه؛ فالمخلصون لهذا الرب هم علماء العلمانية، يكفِّرونهم رغم أنهم وظفوا قوانين الله، ولم يوظفوا قوانين الشيطان في الكراهية والقتل والذبح والتكفير والتنفير، والقتل على الهوية واختلاف المذهب أو الرأي. في لقاء من نوع آخر قابلت فيه على قناة الجزيرة سفيه لندن «هاني السباعي» صاحب مركز المقريزي للإرهاب الدولي، وفي ذات البرنامج والقناة، كان كل هم سفيه لندن هو تسفيه العلمانية وإثبات فشلها في حل مشاكل الإنسانية وأنها في بلادها يتراجعون عنها الآن، بعدما شاهدوا من أمجاد أسود الإسلام الميامين، في مانهاتن ومحطات مترو لندن ومدريد وغيرها من أمجاد فوق الحصر.
وهو نفس ما قاله المسيري ولكن الفراق بائن؛ لأن المسيري قال ما قال لاستبعاد العلمانية الشاملة بأكاديمية مهذبة في جزئه الثاني، والسبب الرئيسي عنده هو استبعادها — كما يرى — للقيم جميعًا عدا قيم السوق وحدها، مما يؤدي إلى تشيئ البشر، وتحويل الإنسان إلى مجرد سلعة في سوق العلمانية المادية.
وهو كلام مردود؛ لأنه إذا فشلت العلمانية في حل بعض مشاكل الإنسانية كالمشكلة الاقتصادية الحالية، أو مشكلة عدم الحصول على مصل لفيروس متطور جديد، فإن ذلك لا يجيز لغير المنجز ولا غير المنتج، الطفيلي العاجز، أن يتهمها بالفشل والمقصود بإعلان فشل العلمانية هو التمهيد للمشروع الإسلامي، رغم وجود المشروع الإسلامي في المشروع المسيحي والمشروع اليهودي، وبقية المشاريع الدينية في المشارق والمغارب، ولم ينجح واحد منها في حل مشكلة واحدة من مشاكل الإنسانية. إن العلمانية إن فشلت هنا أو هناك فلديها دائمًا الأمل في تجاوز الفشل، بعمل دءوب قائم في المختبرات والبحوث الاجتماعية على قدم وساق. ويصح أن يكون دور رجال الدين هو تصيد عثرات العلمانية، بل يجب عليهم إذا كانوا يبغون مصالح البلاد والعباد أن يدعموا العلمانية وتشجيعها على النجاح، لا العودة إلى النصوص لاكتشاف هذا النجاح في تراثنا، وأن يعلِّم رجل الدين العامة ويحثوهم على احترام العمل والعلم وتقديس العمل والعلم والعلماء، وقدسية القانون والوقت والملكية العامة … إلخ.
إن العلمانية أدت إلى منتجات علمية يعمل عليها بشر، وتكون مهمة رجال الدين هو ضمير هؤلاء البشر كي لا يخرب الآلة العلمانية، ويعطل الإنتاج، وكي يخلص في الأداء ويتفانى في الجودة لا أن يترك العامل المؤمن سيمافور السكة الحديد ويذهب للصلاة ويموت المئات ويأخذ هو الثواب، إذا أراد الدين أن يعيش وسط هذا المتغير الهائل فعليه أن يتجه لوظيفته التي جاء من أجلها: ضمير الناس ودعم أخلاق العلمانية وقيمها.
وبمنطق الدين ذاته لا يمكن تصور إنجازات العلمانية في الغرب وما أدت إليه من تحضر وتقدم ووفرة ونمو ورقي، قد تم دون موافقة الرب ومباركته؛ لأن كل هذه النجاحات المبهرة لا يمكن دينيًّا تصورها تأتي رغم إرادة الرب وعدم رضاه. وإن من يُدرك انضباط هذا الكون بقوانين الرب هم أهل العلمانية وأبناؤها من علماء، فطنوا إلى أن الرب قد خلق الكون وخلق له قوانينه، وأن على البشر الذين يخلصون للرب ويحبون مخلوقاته أن يكتشفوا قوانينه ليستحقوا الخلافة عنه في الأرض، ولماذا لا يرضى الرب وهو يرى نتائج العلمانية علمًا ورفاهيةً وشفاءً ووفرةً بين أيدي عياله في الأرض دون تفرقة، فحققت العلمانية المساواة الربانية والرحمة الربانية على الأرض منذ فجر الأديان حتى وصول العلمانية، باكتشاف فاكسينات الأمراض، وباكتشاف الحب الرباني باختراع الأدوات والأجهزة لتسهيل حياة عياله على الأرض، وباكتشاف العدالة الربانية بتسهيل وصول هذه المنتجات لكل الناس دون تفريق بسبب اللون أو الجنس أو العنصر أو الدين. فلم يحرم الرب أحدهم رغبته في المعرفة والتحضر لأنه ليس مسلمًا؛ لأن الرب بمنطق الدين ذاته ومن وجوب كمالاته ألا يشوبه النقص، والعنصرية والتخريب لبعض مخلوقاته دون آخرين هو النقص ذاته، والرب مُنزَّه بكماله عن هذه الوصمة. لهذا أثبت الرب عدالته ومساواته ورحمته في الأرض فأعان من أراد المساهمة أيًّا كان دينه، وساعده على توظيف بحوثه العلمانية لإسعاد البشرية وهي قمة الخلق في تراتب مخلوقات الرب.
الفرق البسيط بيننا وبينهم، أنهم سعوا فبارك الله سعيهم، أما نحن فنكتفي بأداء الفروض ودعاء الرب أن يقوم بنفسه بكل شيء دون أي جهد من جانبنا، لأننا هنا قاعدون، وربك سيفرجها من عنده ما بين غمضة عين وانتباهتها، إذا أخلصنا سبغ الوضوء والصلاة وأدينا الفروض.
يقول د. المسيري (ص١١٨، ج٢): «يدور الإيمان الديني الحق حول الإيمان بأن ثمة إلهًا خالقًا للكون هو مركز العالم (الإنسان والطبيعة) وهو مركز مفارق له، وهذا الإله خلق العالم بغرض وهدف، ولم يهجره وإنما يشمله دائمًا برعايته وحكمته، ولا يترك مسار التاريخ يتحرك بدون عطفه ورعايته، وهذا الإله هو مصدر تماسك العالم ووحدته وهو (وكل ما يوحي إلينا به من نظم معرفية وأخلاقية وجمالية) المرجعية النهائية المتجاوزة. ووجود الخالق المفارق يؤدي إلى ظهور ثنائيات أساسية وهي ثنائية الخالق والمخلوق، التي يتردد صداها في الكون على هيئة ثنائيات مختلفة، أهمها ثنائية الإنسان والطبيعة التي تعني أن الإنسان مختلف عن الطبيعة متجاوز لها، فكأن ثنائية الخالق والمخلوق الناجمة عن وجود الإله المفارق هي ضمانة للوجود الإنساني.»
الدكتور يحدثنا عن العلمانية بأبعد الألفاظ عن العلمانية؛ فهو يحدثنا عن الحكمة الإلهية والرعاية الربانية والرحمة السماوية بحسبانها المؤسسة الإدارية للكون، ومثل هذه المصطلحات ليست خاصة بالإسلام وحده، بل بدأت مع البدايات الأولى لاكتشاف الإنسان ما حوله وتفسيره بأساطير وأديان الأولين، ورغم معرفة هذه المصطلحات من فجر البشرية فإنها لم تصلح شيئًا ولم تقدم شيئًا سوى العزاء بسلوان وهمي؛ مما عطل الإنسانية طويلًا عن التفكير العلمي ومحاولة اكتشاف قوانين الله في كونه. ولم تتبدل الصياغات والمصطلحات فقط بل تبدلت المعاني والمفاهيم. ولم يعد التفكير العلماني يعرف خطاب العاطفة والأشعار الوجدانية واللطائف السماوية والبلاغة اللغوية، ولأن الزمن قد انتقل نقلة تطورية هائلة، فإن الكهنة والسدنة الذين لا يعرفون معنى كلمة قانون علمي ولا ما هو المنهج العلمي، وأثبتوا حتى اليوم عجزهم عن هذا الفهم، فلا شك مع سيطرتهم إعلاميًّا وتعليميًّا أنهم سبب بقائنا عند القرن السابع الميلادي، وسبب تخلفنا عن اللحاق بقاطرة الحداثة. لقد جالست يومًا كبيرًا منهم يُعدُّ بين الأقلية التي لها علاقة بعلوم الدنيا، وطلب مني أن أشرح له نسبية آينشتاين، وصبرت وصابرت وجهدت وجاهدت (لأنه كان صديقا لأبي) حتى أعياني حقًّا وليس مجازًا؛ لذلك لو ألحقنا رجل الدين بأفضل جامعات العالم فلن يدرك معنى حديثنا عن الحريات وحقوق الإنسان لأنها قيم ترتبط بسلة علوم كاملة اسمها العلمانية، ويلزم الشيخ أن يكون قد راكم قدرًا من العلم يسمح له بالتعاطي معها؛ لذلك غير مطلوب منه هذا الجهد ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
تراهم يحدثونك عن توراة موسى ولا يعلمون عنها شيئًا وهي في متناول الجميع، وزبور داود (مزامير) وهي متيسِّرة بالكتاب المقدس لمن أراد أن يقرأها ليعرفوا عم يتحدثون، والأنكى أن يحدثوك عن الفرق بين اليوم الإلهي واليوم البشري وكيف مركز الله كعبته على اليابسة وكيف انشق البحر وكيف ولدت الصخرة ناقة الله، وكيفية النفاذ من أقطار الأرض إلى السموات تمشيًا مع هبوط الإنسان على القمر. وكله حديث الجاهل جهلًا مُطبقًا، الذي يخلط الأساطير بالخرافات بالدين بالعلم، وكله عند العرب صابون؛ لذلك لا نكلِّفهم بما ينوء به كاهلهم، كل المطلوب منهم أن يكتفوا بتخصصهم في صناعة ضمير يؤدي بالناس إلى سبيل الرشاد نحو الجنة واتقاء السعير.
كان الناس، كل الناس في قديم الزمان قبل ظهور عصر العلم والعلمانية كمنهج تفكير وحياة يعتقدون جازمين أن الكون يعمل ويتحرك ويفعل ويتفاعل عن طريق إرادة خاصة به، فكان لظواهره شخصية وعقل وروح كباقي المخلوقات الحية، ونتيجة هذه القناعة كان الإنسان البدائي يتصور أن بإمكانه التأثير في إرادة الظاهرة الطبيعية والتأثير فيها لتتصرف وتعمل على غير إرادتها، بل بموجب رغبته هو وإرادته التي يريدها، فاخترع التعاويذ والسحر والأحجبة والتلاوات والصلوات والأدعية لتلك الإرادات المخفية العديدة في آلهة عديدة تكمن وراءها.
ومع التطور نحو التوحيد ارتأى أنه من الأسهل إدماج كل تلك القوى في قوة واحدة يتم احتسابها هي أعظم من كل القوى الأخرى وأنها القاهرة الوحيدة المريدة في هذا الكون، وبالتالي يمكن التعامل مع شخص واحد هو الأعظم، هو رب الكون وخالقه، هو الأسهل والأقل مشقة وتكلفة، وحتى لا تتضارب الإرادات مما يكلف تقدمات وقرابين لآلهة عديدة متصارعة، ناهيك عن الصراع الذي حدث بين تلك الآلهة لجذب الزبائن من غير أتباعهم مما فتح الباب لحروب دينية دموية، فكانت الحروب تتم بالنيابة عن قوى وهمية، لكن مع مكاسب أرضية عينية وسيادية مؤكدة لحامل راية الدين المنتصر، ووقودها كان الناس البسطاء الذين لم ينالوا من خير هذه الحروب بقدر ما نالوا من بأسها وشرها.
ونتيجة تصور وجود إرادة لظواهر الطبيعة يشرح المثال الإسلامي الموقف من إمكانية دوران الشمس مثلًا في الاتجاه المعاكس، وهو ما حدا بإبراهيم أن يتحدى النمرود بأن ربه يأتي بالشمس من المشرق، فهل بإمكان النمرود أن يأتي بها من المغرب. الشمس هنا لها إرادة وفهم وتستمع إلى الأمور وتفرز سيدها لتطيعه وتعرف الغريب فلا تطيعه، أو بنص الآيات: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة: ٢٥٨).
واستمرت هذه القناعة في بلادنا حتى بعد ظهور العلم الحديث، فما زلنا نطلب الغيث بالصلاة، والغوث بالدعاء، والعلاج ببول الجمل والطب النبوي، بينما النبي نفسه إنما كان يتطبب بطب زمانه، ولم يقل إنه طب نبوي ولا سماوي. إن كل دعواتنا وصلواتنا لن تأتي بتغيير في اتجاه الرياح المحملة بالسحب والمطر إلى الحجاز حيث خير أمة أخرجت للناس، ولن تؤدي لسقوط أمريكا ولا لدمار إسرائيل.
ذلك يشعر رجال الدين بالخطر على مكانتهم من التقدم العلمي؛ لذلك حاربوا في أوروبا حربًا لا هوادة فيها حتى تمكَّنت العلمنة من فرض مناهجها وعلومها وطرقها، وهو ما يحدث في بلادنا اليوم، نحن نقف عند النقطة الحرجة في عشية الليلة التي كان فيها روسو وفولتير ومونتسكيو يخطون طرق الإصلاح. أما العلمانية نفسها فهي لا تعادي أحدًا، ولا يشغلها التصدي لدين من الأديان إلا إذا تجاوز حدوده إلى المجال العام، وهدفها سعادة البشرية وسلامها، وأمنها ورقيها، بإلجاء الدين إلى مكانه الطبيعي داخل معابده لا يجاوزها ولا يؤدي غير وظيفته المنوطة به فقط «ضمير الناس».