فلما اشتدَّ ساعده رماني!
منذ أسابيع تناول الكاتب العلماني البارز الأستاذ حامد حمودي عباس ما أكتبه بمقال مهذب يليق بعلمانيته الراقية، يناشدني فيه الانتقال بمشروعنا إلى المستوى التالي والأعلى، وإذ أشكره على حسن ثقته واختياره لشخصي من بين كل الأقلام العلمانية المحترمة التي أقرأ لها للتصدي لهذه المهمة الكبيرة، فإني أسرعت بالرد عليه لأوضح وجهة نظري في أن الموقف الآن لا يحتمل مطلبه، بذات اللطف والأدب والاحترام الواجب بين زملاء قيمة كالعلمانية. والذين تكاثروا في العقد الأخير وكلما ظهر قلم جديد نبت لريشي العجوز المتراخي ريشة شابة جديدة تملؤني فرحًا وطربًا ورغبةً في الطيران معهم ببلادنا وأهلنا نحو النور.
أما أن يكتب كاتب أحترمه مثل الأستاذ قريط نقدًا لما أكتب، فلا ريب سيكون محل اهتمامي الأول؛ لأنه — ولا شك عندي — يريد أن يصلح لي شأنًا أغفلته، أو أن ينبهني إلى خطأ ارتكبته لأتلافاه مستقبلًا، أو يشير إلى هفوة هنا أو زلة هناك، من باب المزيد من التلاحم بإفادة بعضنا بعضًا وتقوية بعضنا بعضًا في مواجهة من لا يرحمون، الذين يعرفون كيف ينتظمون ويتضافرون ضفيرة واحدة من أجل تحقيق مآربهم، ويدارون سوءات بعضهم بعضًا المنكرة، وينكرون ويستنكرون إذا ما تسرب عن أحدهم فضائح تزكم الأنوف تتصاعد من داخل أروقتهم السرية، حيث يجتمعون وأحيانا يجامعون.
الحق أقول لكم، إني بعد ما قرأت ما كتب زميلي قريط ترددت كثيرًا في التعاطي مع ما كتب، حتى أنه ثنَّى بموضوع ثانٍ بذات الخصوص دون ردٍّ مني، وتدخل أكثر من زميل نقاشًا مع ما كتبه قريط، وسر التردد الذي أخر ردي هذا عن ردي السريع على الأستاذ حمودي، هو أني سأكون مضطرًّا مع هذا الرد للحديث عن ذاتي، وهو أسوأ موقف يمكن أن يضعني فيه أحدهم، فذاتي هي عالمي الخاص بحلوه ومره أحب أن أداريها وأنأى بها عن المجال العام؛ لأن زميلي الأستاذ قريط ركز معظم موضوعه عن سيد القمني الشخص والذات الإنسانية، دون أن يتطرق إلى موضوع بعينه يتجادل معه منطقًا ومعرفة ليشرح مكامن الخلل فيه، إذ كنت أتوقع فوائد جمة من نقده، لأني إنسان يخطئ ويصيب، ومع الظرف الصحي يمكن أن يتزايد السهو، ومع تقدم السن يتكاثر الخطأ الناتج عن كلل الذهن والبدن، لهذا أقبلت على موضوعه أبحث عن تنبيه لطيف من زميلي الشاب ليصلح الخطأ أو يشير إلى مكامن السهو، ولكني للأسف وجدت شيئًا آخر لو أردت وصفه وصفًا دقيقًا سأرتكب الزلل الفاحش. وهذا هو العامل الثاني في التردد والتأني قبل الرد، حتى لا أسمح لحمية الغضب بخلق معارك وهمية بيننا، ولا أسمح لحزني علينا بارتكاب الزلل. وهنا لا بد أن أعترف أني قد كبرت سنًّا وأن حواسي قد كلت وأنهكني المرض، وربما أثر ذلك في نوع اختياري للمنهج وسبل الوصول إلى الناس، وربما اخترت الأسلوب الأيسر المناسب لممكناتي، ولكن لا يزعجني أبدًا أن تكون من قرائي ثم يشفيك الله من هذا المرض، فأنا لا أعلم من يقرؤني ومن لا يقرؤني؛ لأن ذاتي وذات القارئ ليستا في الموضوع، كذلك أعترف أني مهما حاولت إرضاء مختلف الأذواق؛ فإنها غاية لا تدرك، ومن الطبيعي أن نختلف، ومن الطبيعي أن يتعلم مثلك من مثلي، ومن الطبيعي أن تأتي مرحلة جديدة أصبح فيها أنا القديم العتيق وأنت الجديد الحديث، وكل منا يلائم مرحلته فهو ابن فرزها، وهي سنة تطورية حادثة لا محالة؛ فالنجوم محل التشبه بها في الظهور والانتشار، هي نفسها تذبل وتخفت وتموت، ومع اطراد سرعة التطور الهائل في زماننا، فقد تسارعت أيضًا وتيرة الإحلال والتبديل وظهور الجديد قبل أوانه الذي اعتدناه من قبل، فكنَّا ننتظر عقودًا طويلة حتى يظهر طه حسين آخر أو علي عبد الرازق آخر أو كواكبي آخر، أما الآن فقد أصبح الفرز والتجنيب والتجديد والإحلال أسرع كثيرًا في وتيرته عما كان عليه قبل ثورة الاتصالات.
لذلك أنتظر من الأستاذ قريط عطاء يفوق عطائي بحكم ظروفه الآن التي تختلف بكثير عن ظرف كنَّا نقرأ فيه على لمبة غاز نمرة عشرة، ويصلنا الكتاب بعد لأي وعنت وعسر ومشقة وضيق ذات اليد، ولا شك أن هذا العطاء سيكون متفوقًا بما لا يقارن بمثلي، ليأتي الجديد ويتراجع القديم، ويفوق التلميذ أستاذه ويبز الخلف السلف، وهو كله فرح مهرجاني للعجوز مثلي، وهو يرى شبابًا قد أتى وملأ علينا دنيانا وكلهم نبتي وأولادي، ولأن ظهورهم الآن في حد ذاته دلالة قاطعة على نجاح أبناء جيلي الذي يتهيأ للرحيل ليفسح في المجال للآتي.
اختار أخي قريط أن يبدأ موضوعه بالمباغتة بما لا يتوقع، فإذ به يتحدث عن صورتي وعن رقم تليفوني في مدخل درامي لا يخلو من كاريكاتور هزلي يقول: «لم أعد أقرأ للقمني كسابق الأيام، صرت أكتفي بتأمل صورته أعلى المقال فهي تشي ببعض المرح والتجهم معًا، وقبل المغادرة أنزل إلى كعب المقال لأتفقد التعليقات وأستعرض حرس الشرف وجماهير المهللين، وبطريق العودة أتفقد رقم التليفون الذي يحرِّم المكالمات الخميس والجمعة، فهذان اليومان يذكرانني بأفلام مصرية تتخللها زغاريد وبهجة وتحضير شربات، وسيدة عرمرمة تقول: كتب الكتاب والدخلة الخميس الجاي.»
أضحكتني خفة ظل قلم أخي قريط وذكرتني بأيام زمان ومرحلة الصبا في لقطة مرحة تتضمن مؤشرات خفية لمن يجيد قراءة المسكوت عنه في ظاهر اللفظ، وهو شأن عرفناه ضمن القيمة الفنية لقلم أخي قريط رشاقةً ولطفًا، ولكنه إن كان يقصد بذلك التندر والتنقص من شخصي المتواضع؛ فإنه في مقاله لم يقدم رغم كل ما قال أسبابًا تبيح له هذا الانفلات العصابي في التندر والتنقص؛ لذلك ليسمح لي زملائي هنا أن أشرح أسباب نشر رقم التليفون، فقد أصاب جهازي فيروس اضطرني مع براعة الهاكر القاصد إعاقتي إلى استبدال الشركة كلها برقم جديد وشركة أخرى؛ وهو ما يعني انقطاع اتصالي بالمؤسسات والهيئات الإعلامية والصحف وزملاء القلم بعد أن فقدت أرقامهم بدوري، لهذا قمت بنشره على النت. أما يوما الخميس والجمعة فليس فيهما سيدات عرمرمات ولا مسلوعات، ولا زغاريد، المسألة أنى ظللت منقطعًا عن النشر بعد التهديد أكثر من سنتين حتى تمكنت من جمع ما يكفي لشراء مسكن لعيالي بعيدًا عني بعدًا كبيرًا، حتى أستطيع أن أعود إلى النشر دون خوف على عيالي من تصرف إرهابي يطال مسكني، وتوافقنا على الخميس والجمعة. نلتقي فيهما لذلك أردت الاعتذار سلفًا لمن يمكن أن يتصل في هذين اليومين فيجد تليفوني مغلقًا، هي مجرد حساسية ريفية مفرطة وخجل صعيدي من العيبة في حق ضيف ولو على التليفون. أما تحديد وقت الاتصال فهو مهم وفيه احترام لوقت العمل وعدم قطعه، وفيه احترام للمتصل كي يجد كاتبه متفرغًا كله آذان صاغية مع وقت كافٍ يعطي المتصل احترامه الواجب.
ولا يخفى عليكم أن نشر رقم التليفون أوصلني أولًا بمن يسبونني يوميًّا خلال هاتين الساعتين، وبمن يتوعدني أنه سيكسب فيَّ ثوابًا قريبا ليضمن لنفس مكانًا في الفراديس … إلخ، لكنه أوصلني أيضًا بمن هم أهل فضل ووفاء في البيت العلماني العربي، وأخص بالذكر اتصال السيدة الدكتورة وفاء سلطان وزوجها المحترم، أضاءت قلبي بشموعها مع دعوة مخلصة لقضاء وقت في ضيافتهم بحاتمية غير متكلفة ولا مصطنعة، وبحب لا يحتاج بحثًا كثيرًا للتأكد منه، هذا رغم علمها وعلمي أن طرائقنا مختلفة حتى في أعمق التفاصيل أحيانًا، لكني لا أنكر عليها دورها ولا تنكر هي عليَّ دوري، ما دمنا نسير نحو الهدف ذاته. وأعترف أن هذه السيدة ترهبني شجاعتها ويبهرني منطقها، وتلسعني لسعًا سرعة بديهتها وحضورها، وهي اختلفنا معها في الوسائل أم اتفقنا: السيدة الأولى لبني ليبرال (على نمط تعبيرات أخي قريط الرشيقة). هذا رغم علمي اليقيني أنه في البيت العلماني سيدات يبززنها علمًا ومعرفة بالتراث الإسلامي وتمكُّنًا منه، لكن لهذه السيدة طريقتها وهي التي تضيف إلى رصيدها نقاطًا تعلو بها الدرجات؛ فهي تؤدي دورًا نعجز عنه جميعًا، ربما خوفًا من المجتمع (مثلي)، أو ترفعًا وتكبرًا على تلك السجالات (مثل آخر قريط)، وفي رأيي أنها كلها طرق محترمة ما دامت تقوم على عُمُد من معرفة سليمة ومنطق محجوج، وتهدف إلى مبادئ وقيم المجتمع المدني الحر في النهاية. ولا يشغلني مدى لطف الدكتورة سلطان من عدمه، ولا يشغلني وصفها بتضخم الذات والطاوسية من عدمه؛ لأن الأمر ببساطة: هي حرة في نفسها، المهم ما يصلني منها من نتائج، ولا يشغلني أن يكون الليبرالي مؤمنًا بأي دين أم ملحدًا، المهم أن يكون كذلك حقًّا، أما أن يكون علمانيًّا كاملًا فهي خطوة غير مطلوبة من الجميع وتخضع لاختياراتهم وثقافاتهم وقدرتهم على احتمال الوقوف وحيدين في وجه الكون والقدر عرايا من الأيديولوجيا والملائكة والأرباب والشياطين، وحيث لا يوجد عزاء ولا أمل وهمي مريح باستمرار الوجود بحياة أخرى حتى لو كانت في جهنم.
أما حديث أخي قريط عن صورتي، فقد دفعني إلى دخول الموقع للبحث عن صورته، ولم أتمالك نفسي من الضحك من سلوكي ومما أفعل، لأني قرأت له عدة موضوعات ولا أذكر له صورة، فلم تشغلني يومًا صورة الأديب أو العالم أو المفكر أو الكاتب أو المخرج ولا شخصيته الذاتية، فلا أنا أعرف شكل إديسون ولا شكل ابن الهيثم، وما شغلت نفسي بالبحث عن صورة لكاتب غير اعتيادي مثل إبراهيم البليهي المفكر السعودي، الذي يمثل نموذج الكاتب المتفلسف من الوزن الثقيل، تحتاج متابعته إلى احتشاد كامل للحواس والعقل ومجموع معارف هذا العقل، يحتاج عناءً بسبب كتابته الصلدة غير الملونة ولا المزخرفة، صلبة لا ترتخي ولا تبتسم ولا تهدأ قليلًا لتناول الأنفاس، ولا يكون أمامك سوى خيار من اثنين، أن تتركه مللًا وكسلًا، أو تستمر مركِّزًا لينكشف لك عالم من الجلال الفكري الراقي. والبليهي بظروفه اختار هذا اللون الجاف غير الرطب من فنون الكتابة، وله ما يريد فواقعه قد لا يسمح بلون آخر، رغم أنه لو كان أكثر وضوحًا وأقل نخبوية، لكان فعله في واقعنا عظيمًا، لكنه اختار وله حقه فيما اختار وعلينا احترام اختياره، ولا نحاسبه عما عنده من كنوز وثراء يمكن بفض مغاليقها أن ترصف لنا فلسفة الزمن المنتظر، أزعم هذا، وإنه لخليق به.
المهم عثرت على صورة أخي نادر قريط فلم أجد شيئًا غير عادي، وليس فيه ما يبخسه أو يطهره أو ينجسه، مجرد إنسان كأي إنسان آخر، نعم أراد أن يجعلها موحية وحاملة لمعنى، فوضع ذقنه على كفه المنقبض وسبابته على خده الأيمن، مع صرامة وجدة ولا أقول جهامة، توحي بإجراء عملية تفكير عميقة. إلا أن ذلك لم يجعلني أتخذ منه موقفًا نفسيًّا تأثرًا بتفسيري للصورة التي تشي بأنه يتعالى علينا ويعلن لنا أنه مفكر، والدليل هذه الصرامة وتلك اليد تحت الخد، الدليل صورته. لا لم أرَ ذلك مطلقًا، رأيت فقط إنسانًا كأي إنسان، كل ما يميِّزه بالنسبة إليَّ هو منتجه الذي يكتبه، وكنت أحترم هذه الكتابة قبل أن أرى الصورة وبعدها. فكتابتك وليس صورتك هي من يقول للناس من أنت؟ ولكن في بعض الأحيان تلتبس الذات بالكاتب بالكتابة فتتدخل المشاعر وتظهر الجروح وتطفو النوازع وتغلب الأحكام الشخصية الوجدانية، فتقع الفلتات اللسانية، وهو ما أظنه قد وقع فيه الزميل العزيز، وقال عنه العرب: لكل جواد كبوة. ثم شرحوا سر الكبوة بمثل آخر يقول: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر. (وتكلم هنا بمعنى إذا فلت لسانه بالمخبوء في اللاوعي).
وبأسلوب اللمحة السريعة، يشرح كيف كانت كتاباتي بالنسبة إليه وكيف كان شغفه بها وكيف تعلَّم منها زمنًا طويلًا، لكنه اكتشف فجأة أن انتشار كتابات القمني في الساحة العربية هو لأن الساحة خالية، انتشارها لخلو الساحة في صدفة تاريخية بحتة، يصوغها في قالب روائي شعري بقوله: «لهذا صدقت كل شيء، تيمنًا بما قاله مجنون بني عامر:
في ذلك الوقت بدا لي القمني يتصدى بمفرده لشخصيات كارزمية أزهرية مدججة باللغة والموروث، بدا لي إنسانًا كبيرًا بدفاعه عن حق الأقباط بالمواطنة والمساواة.»
إن القول بخلو الساحة فيه ظلم عظيم لآخرين مثلي كثر، لعل أخصهم عاطفة وذكرًا بالنسبة إليَّ المرحوم الدكتور فرج فودة، فإن قصد زميلي بكلامه أن يطربني وأن يداعب هواي تخفيفًا مما سيقول بعده؛ فإنه يظلم به زملاء وأساتذة كبارًا. هذا مع ما يلحق قوله من استفسار عما حدث لمجنون بني عامر فلم يعد يرى القمني كبيرًا؟ تُرى هل خان القمني قضيته وخضع للإرهاب من جانب أو الابتزاز والإغواء المادي من جانب آخر فباع نفسه لمن يدفع أكثر؟ هل تُراه كتب أو حتى سلك بما هو ضد ما يكتبه وينادي به في المعتاد؟ ما الذي يجعل المتتلمذ يتطاول على المعلم سوى سبب يتعلق بالقيم خاصة الأخلاقية منها والحقوقية؟ فإذا لم تكن تلك هي الأسباب فلا بد أن لدى الأستاذ قريط مخبوءات أخرى نفسية لا نعلمها، ولا نطالبه بالإفصاح عنها، ولكن أن يشيخ أحدنا ولا يعود يطرب بعضنا فيقوم هذا البعض بصبِّ السخائم عليه لإقصائه عن عالمهم، رغم أن المولد لسه في أوله لم ينفض بعد. فتلك والله لرابعة الأثافي.
المشكلة في صدق مبادئ بعضنا، فبدلًا من أن نكرم كبيرنا الذي شاخ ونهمس في أذنه: «لقد كبرت يا أبتاه فاسترح»، لأفهم أنه آن أوان اعتزالي مكرَّمًا منكم، ولأنكم خير معتمد في حسن تشييع جنازتي يوم رحيلي لترطبوا قلوب عيالي، لا أن ترموني بأحجار آثامكم، وأنا ما زلت كاتبًا قادرًا مقاتلًا عنيدًا في أقصى قمة نضجه وتمكنه.
أما كيف شُفي قلب أخي قريط الخالي ممن تمكنا ليعود بلقعًا هانئ البال بدون مؤرقات القمني ومزعجاته، وما يكشفه من عار وعوار يطل من نافذة تاريخنا علينا وعلى العالم طوال الوقت، كيف جاز للقمني أن يحدثنا عن مجازر سفاح تاريخي خالد الذكر مثل خالد بن الوليد في موقعة أليس، أو مجزرة يحيى العباسي في مدينة طميسة، إنه التاريخ الجارح والعار، الأستاذ قريط يطلب مني أن أنافح عن هذا التراث أكثر من منافحة أهله عنه، إن أهله هم من قالوا وهم من دونوا وهم من اتفقوا على هذه الوقائع على اختلاف فرقهم ومذاهبهم وكتاباتهم المرجعية، ويريد مني الأستاذ قريط أن يكون رأيي في خالد أو عمرو أو أي من الفاتحين أو أي من الصحابة أفضل وأحسن من رأي بعضهم في بعض، ومن رأي أنفسهم في أنفسهم بأقلام أهلهم وأتباع ملتهم.
لا يشغلني يا أستاذ قريط كم ذبح خالد أسبعين ألفًا أم سبعة أنفار، المهم أني لم أتدخل في التاريخ الإسلامي وهو يروي مفاخره، وليس عندي وسيلة تدقيق لتحديد رقمي سليم لمن ذبحهم خالد، المهم أنه ذبح واحتل وأزال حضارات وقضى على لغات وسبى واستعبد وسلب ونهب وأخذ خراجًا وجزية هو وصحبه جمعيًّا بطول زمن الخلافة المقبورة، وأنا لا آتي بما أكتب من تاريخ أمريكا اللاتينية ولا بما هو مخفي وراء بحر الظلمات؛ فالمكتبة الإسلامية في متناول الجميع وأحداث تاريخها مع البلاد المفتوحة هو تاريخ أسود قاتم حالك الظلمة لا يمكن تجميله مهما حاولنا الترفيع فهو أقبح من أي محاولة ترميم، إن موقفنا مع تاريخنا كي يكون موقفًا محترمًا وكريمًا وإنسانيًّا رفيعًا، أن نعترف بما حدث، وأن يعتذر أولو أمر المسلمين في بلاد الحجاز وكبار رجال الدين والمنظمات الإسلامية العالمية اعتذارًا لائقًا نقدمه لأنفسنا وللعالم ولأبناء الملل والنحل والأعراق الباقين في بلادنا، حتى نتصالح مع أنفسنا وأن نشف صدقًا فنشف مواطنة وحبًّا لوطننا ولبعضنا بعضًا، وأن نرفع المواد الدينية بالدستور، ونعقد عقدنا الاجتماعي أكان مصريًّا أم عربيًّا (يا ليت) على الوضوح والمكاشفة والتصالح ونسيان الماضي البغيض والبدء من جديد ليأخذ المواطن الفرد في بلادنا حقه من الكرامة الإنسانية كبقية بني آدم في البلاد المحترمة.
نعم يا أخي العزيز نادر أعراقيًّا كنت أم سوريًّا، لا أعرف، إن أول ما يجب أن يشغلني هو مصر وطني بعد أن غاب مفهوم المواطنة ولم يبقَ سوى الطائفة والمذهب والدين، وعليك أيضًا أن تبدأ بوطنك الذي مهما عرفته أنا فلن أعرفه مثلك، فإن لم ينشغل كل منا بالشأن العام بوطنه أولًا في ظرفنا الحالي لأنه لأدرى بشعابه، فإن البديل سيكون تبديدًا للطاقات ولن نصل إلى أبعد مما تصل إليه القمم العربية؛ لأن الثقافة في كلا الحالتين هي هي، فيكون الحاصل هو مجموعة أصفار نتيجتها صفر عظيم كبير. ولا يعنى هذا ألا ينشغل سيد القمني المصري بما يحدث في الساحة العراقية وأن يقدم ما يمكنه، والعبد الفقير إلى الله سيد القمني قد شارك في كل هذا، ولسوء حظ زميلي وهو يفتري عليَّ الباطل بظلم شديد. إن معظم أعمالي وبالصدفة البحتة هي أنشودة وسيمفونية عشق في دول شرقي المتوسط وبالذات العراق؛ فهي ترنيمة هوى وعشق وحب في العراق الآن والماضي، عراق المعنى والإنسان. وهو ما سيجده زميلي في كتابي الإسرائيليات وفي كتابي الأسطورة والتراث وفي كتابي قصة الخلق وفي كتابي النبي إبراهيم وغيره. تعالوا أهلي العلمانيين نقرأ معًا الإهداء الذي صدرت به كتابي الأبرز «الأسطورة والتراث»، في الطبعتين الأولى والثانية الصادرتين عن دار سينا، وصودف صدوره بعد ضرب الطيران الأمريكي لملجأ العامرية في العراق إبان حكم الطاغية.
يقول الإهداء: «إلى كل امرأة كانت ترضع ابن العهد الآتي، وتقدمت بجسدها قربانًا في أقبية ملجأ العامرية، لتمد شمسنا الغاربة الباردة ببعض الدفء. وإلى كل رضيع تناثرت أشلاؤه على وجه الزمان، فذهب يفصد دمه فوق مغربنا القاتم المقبض كي يمنحه غسقًا، وإلى التاريخ يلملم هيبته هلعًا مما خضب لحيته، ليدوِّن ملحمة الملاحم وأسطورة الأساطير، عن الشعب الذي عاش في بغداد، وناس بابل الذين لم يخلق مثلهم في البلاد.»
إن محاولة أخي نادر الوقيعة بيني وبين أهلي في العراق، الذي عشت في شرايينه أبحث في تاريخه القديم، وزرته وهو تحت الحصار لأشاركه في الحصار وأتمم بحثي التاريخي الميداني لكتابي النبي موسى، هي محاولة لا أجد لها وصفًا مخففًا ولا أستطيع أن أرى فيها شيئًا حميدًا، هي محاولة رديئة لا تليق بالمفكر كبير الخصال، وهي مقارنة ظالمة يظهرني فيها مصريًّا غليظ الشوفينية مقابل العراق بالذات وبالخصوص ويعيرني باستيعاب العراق للعمالة المصرية الفقيرة لمجرد قولي إن أهلي في العراق كي يمزقوا نياط قلبي أخذوه إلى نفق الطائفية المظلم نحو الصوملة.
نعم يا أخي قلت هذا أو شبيهًا به فأنا لا أذكر كل لفظ بكل دقة، وأنت لم تذكر النصوص التي وشيت بها، لكني أيضًا قد قلت منذ خمس سنوات إن مصر قد أصبحت في القرية هي صومال وفي المدينة هي طالبان وعظَّم الله أجركم في مصر (تقال عندنا في العزاء) بعدما أصبحت مصر مجرد مستشفى مجانين كبير مفتوح ويخلو من الأطباء، فهل تراني عندما كتبت هذا كنت أكره مصر وأحط من شأنها وقدرها لمصلحة العراق أو سوريا مثلًا؟ هذا كلام تلامذة ثانوي وسقطة أخي هنا سقطة شديدة يستخدم فيها أي أسلوب لتشويه الخصم، وهو شأن لا يليق برفيق درب لأني لست خصمًا لك ولن أكون، وأظن أن الدرب المشترك بيننا يفرض علينا نبل الفعال والتعالي على الهينات والتوافه، والترفع عن صغائر النفس التي تسببها غيرة بدائية وحشية غريزية لا معنى لها؛ لأنه ليس لدينا فريسة نتقاتل عليها ولا كرسي حكم ينتظر أحدنا غدًا. لقد جعلت موضوعك ثأرًا شخصيًّا لذنب لم أرتكبه سوى خطيئة نشر صورتي ورقم تليفوني، واتباعي منهجًا مختلفًا لم يعجبك ولا أظنه هو الدافع الحقيقي وراء ما كتبت، وكما أردت أن توحي لنا به.
المهم أن أخي نادر يستطرد ليقول: «وباختصار للشيطان الرابض في التفاصيل، أود التمييز بين النقد والسجال؛ فالنقد يعني ببساطة طرح رؤية أخرى ونسق فكري يطوي ما دونه من رؤى، بما يدخره من محتوى وقيمة مضافة، أما السجال فهو ملاسنة بين ثنائيات، واعتمادًا على تلك الثنائيات فإن السجال هو أسهل أنواع الفكر ولا يدمنه إلا الكسالى. الجانب المهم في السجال هو قدرته على الاستفزاز وشحن النفوس، وهذا يعود إلى ولع الناس بالمراهنة والمضاربة تمامًا كما يحدث في مباريات كرة القدم أو مباريات فيصل القاسم.» وهو يشير هنا من طرف غير خفي إلى مشاركاتي في هذا البرنامج المبارياتي السجالي أكثر من مرة.
مرة أخرى أكرر أنني في موقف لا أُحسد عليه؛ لأني لأول مرة أجدني مضطرًّا للدخول في سجال افتعله زميلي، وهذا هو السجال فعلًا وصدقًا، وهو حول ذاتي التي نسيتها من زمان بعد أن بلعني البحث والقراءة والدرس والكتابة حتى صارت ذاتي ظلًّا باهتًا أفاجأ بوجوده أحيانًا، عندما أفاجأ أن في الدنيا متعًا لم أكن أعلم عنها شيئًا. ومع الغربة في هذه المنطقة الخالية الموحشة لن تجد ما يؤنسك ولا حتى ذاتك، لهذا كان رفضي المهذب لمشروع الزميلة الدكتورة إيناس حسني لكتابة سيرتي الذاتية، وأكرر لها هنا اعتذاري فقد حاولت وعرضت كل التيسيرات وأنها لن تكلفني أي مشقة سوى الثرثرة التي تمسك هي بمفاتيحها ومقود توجيهها؛ لأن ذاتي من وجهة نظري كأي ذات أخرى فيها الموجب والسالب، ولا قيمة لها في أي موضوع أكتبه، ناهيك عن كونها سيرة لا تسرُّ القلب بقدر ما توجع الكبد، وقليل من أصدقائي المقربين من يعرف عن هذه السيرة يسيرًا؛ ومن ثَم لن تجد في ما أكتب ما يشي عن هوى بالذات أو (مفكر بأمره). كما قال قريط ولا طاوسيه كما قال آخرون، ما أعتز به فقط وأتيه به فخرًا أني أنجزت ما أنجزت بما له وبما عليه في ظروف كان مستحيلًا أن تنتج أكثر من كاتب عرضحالجي على باب محكمة ريفية ذاهل ومريض ومتهالك.
أما أن يكون الطريق الذي اخترته مؤخرًا في مناقشة ما يطرحه علينا الإسلام السياسي يعجب البعض ولا يعجب آخرين من حيث مذاقه، فإن ذلك لا يكون ضمن حسابات أي كاتب ولا حتى الأستاذ قريط، وإلا ما كان كاتبا حرًّا. حساباتي يا زميلي هي استكمال الموضوع السلامة العلمية، وصدق المقدمات، وتقديم القرائن والبراهين للوصول إلى نتائج صالحة للعمل بها كبدائل للمطروح، مع ترابط هذه المنظومة وفق منطق واضح دقيق.
وأن يقول لي ناقد؛ لقد تعبت يا رجل في عملك وأخلصت الجهد لكن عيوبه كذا وأخطاءه كذا، لأفضل عندي ألف مرة ممن أسميتهم المهللين المادحين، فكل كلام يؤخذ منه ويرد عليه، فلا أنا ولا أنت نقول كلامًا مقدسًا، لكن ما يجب أن نعترف به أن دور كل منا الأهم هو جلب الزبائن إلى محل العلمنة أو هو ما أعتقد أنه دوري، فلماذا لا تفترض أني بعد أن تمكَّنت بطريقتي السابقة من جذب زبائن أصبحوا موجودين في الساحة منهم كُتَّاب قامات، وأني قد قمت بدوري خير قيام حتى بزغ من بينهم بارعون مثلك. وإني اليوم ووفق آليات تفكيري وقراءتي للواقع في بلادي وتقديري قررت اجتذاب نوع آخر الزبائن غير نوعك، فهل بذلك أكون قد مرقت من علمانيتي أو تجاسرت على أصول البحث العلمي فقدمت شهادات مجروحة مثلًا، أم يجب علينا جميعًا أن نحتسب ذوقك وتقييمك هو الأمثل الواجب الاتباع؟ أم تراني حرًّا في اختيار خطابي ولمن أتوجه به حسب خططي الخاصة لجذب المزيد من المواطنين إلى ساحة العلمنة والمواطنة، أم تراني لأني لم أعد أطربك يجب أن أنسحب من ساحة الكتابة وألملم أوراقي وأقلامي، وهل ظهورك يا زميل مشروط باختفائي؟
أما تأكيد أخي قريط المستمر أن ما يكتبه القمني هو من سجال العقول الكسالى لهو برهان كافٍ على أنه لم يقرأ بإمعان، الكسول هنا كان عقل قريط وليس عقلي، قريط يريد كتابة على ذوقه وإن ما عجبتوش يا ليلة دقي! لقد أصدر حكمه الظالم ضدي وهو بقوله هو لم يعد يقرؤني، فيا للإجحاف في إصدار الأحكام المجروحة سلفا! نعم يا عزيزي لجأت مؤخرًا إلى أسلوب يشبه السجال وما هو بسجال، بل هو في المقام الأول توثيق للمطروح علينا من كبار كتاب ومفلسفي التيار الإسلامي الحديث، باختيار دقيق متحرٍّ للأسماء الكبيرة، عن سبق إصرار وترصد ومتابعة، ثم قمت أناقش ما يطرحونه علينا لتفكيك بنيته مع تقديم البدائل الأكثر عائدية، لأن وضع الموضوع في شكل سجال هو كما قلت أنت كصفة سلبية فيه، إنه قادر على الاستفزاز والشحن لولع الناس بالمراهنة وكرة القدم، بينما لجأت أنا إلى هذا قصدًا للأسباب ذاتها التي ذكرتها أنت لتسفيه السجال، للشحن والاستفزاز ولولع الناس بالمباريات، لأني قررت استثمار ذلك إيجابيًّا بعد طول تأمل وفرز بين الخيارات بعد نجاح الفكرة تلفزيونيًّا. فلا أنا أريد أن أكون فارس أحلام زميلي، ولا فيلسوفه الرصين مقطب الجبين، ولا منظِّرًا لحل خلاصي وفق نظرية تامة التكامل تبقى خالدة أبد الدهور، ولا أنا الفريد زمانه كي نكلفه ما تريد كما لو كنت جني مصباح علاء الدين السحري، ولست أستاذًا لأحد بقدر ما أنا تلميذ لكل من أقرأ لهم، وأتبع في عملي خطة طويلة النفس تتغير طرائقها بتغير المراحل، فبينما كتبت منذ زمان كتابي الملحمي «حروب دولة الرسول»، فإني في جديدي أنكر أن تكون في الإسلام دولة بالمرة، ترى هل هذا هو التناقض الذي يقصده صديقي؟ لا أعتقده أقل ذكاء من إدراك حقيقة ما أفعل وإلا تبقى مصيبة ولا يكون ثمة داعٍ لهذا الحوار كله!
زميلي الكريم، إني أتبع في عملي كل ما أعتقد أنه وسيلة للوصول إلى أصحاب المصلحة فيه، من مناهج علم الاجتماع إلى مناهج فلسفة الأديان إلى ماركسية المادية التاريخية إلى تطورية هربرت سبنسر، ليس مهمًّا هنا مركب الوصول لتحقيق ما أريد لأولادي وبلدي في الأيام المقبلة، بغض النظر عما تفترضه من هيبة المفكر وتقنية عمله ليقنع الأكاديمي الرصين ببحث ونص محكم، وهذا أيضًا ما فعلته وأخذ مكانه اللائق بين الأبحاث العلمية المحكمة المحترمة في المكتبة العربية الراقية بالطبع وليس السلفية أو التجارية، كما لا شك تعلم يا أخي أن خطابًا يوجَّه للناس هو غير خطاب يناقش شروط استكمال الأكاديمية. كل الوسائل الممكنة هي متاحات لنا نقتنصها حتى لو كانت حلقة تلفزيونية مع شخص مثل هاني السباعي في مباريات فيصل القاسم.
إنه حقي في الاختيار وحقي في ارتكاب الخطأ، وأنت تصادر عليه دون أي حق واضح تملكه لتفعل ذلك! هذه سبلي اخترتها فلماذا تبخسها مع صاحبها؟! أليست مساهمة واحدة من مساهماتي الموضوعية التي لم تعجبك وتعرضت لها هي أفضل ألف مرة من موضوعك هذا الذي كتبته وأدى إلى هذا الاشتباك السجالي حقًّا؟ وهل حدث أن طلبت لكلامي العصمة ولنفسي السيادة بين بني لييرال؟
إن طرقي هي اختياراتي ولا أزعم لها إطلاقية الصواب ولا السمو ولا وجوب التمجيد والتهليل بقدر ما هي محاولات للاستمرار على قدر ممكناتي الصحية والظرفية، فلماذا حملة التشويه ما دمنا أنا وأنت نؤمن بتعدد الطرق للوصول إلى الهدف الواحد؛ وإذا هو يرى أني لم أقدم رؤية بما تدخر من قيمة مضافة، فما الذي كنت أفعله إذن في كل هذه الكتابات؟ الحكاية ببساطة أن زميلي لم يقرأ فكيف سيجد ما يدخره الموضوع من محتوى وقيمة مضافة؟
وماذا عن الهمز واللمز من مشاركاتي في مباريات فيصل القاسم؟ ما المانع أن ينزل أحدنا من برجه الليبرالي وصارم وجهه وعمق تفكيره بوضع اليد تحت الذقن ليطارح الناس العاديين مشكلة عميقة المحتوى عبر التلفزيون أو المحاضرة؟ أليست الحجة الموجهة ضد العلمانيين هي فشلهم في الوصول إلى الشارع؟ هل ترى بإمكانك شرح موقف العلمانية من الدين في مناظرة مع قطب إخواني (الدكتور مجدي قرقر) في ندوة عامة في حي شعبي كلاسيكي بالتمام مثل حي باب الشعرية، وإضافة إلى ذلك أن تخرج بالناس يتساءلون عن الطريق إلى العلمانية؟ لقد فعلها أخوك المتواضع بحسبانها فرصة والأجدى أن نقتنص أي فرصة تعرض علينا للوصول إلى هذا الشارع مع الحصار الرسمي لنا؟
أم أن هالة المفكر وكبرياءه المقدسة لا يصح أن تنجرح في مبارزة علنية فيصبح شعبويًّا مهرجانيًّا؟ وهل مشروط للمفكر كي يكون مفكرًا أن يوغل في الألغاز والغموض والترفع عن تلك الصغائر؟ والله يا أخي حتى الحلقة العبثية مع هاني السباعي حققت مكاسب وعائدية عظيمة بكل المقاييس، فقد أظهرت مدى عيائهم الفكري وإرهابهم العلني وسفههم لدرجة الانحطاط والوطي، رغم أنها كانت كمينًا من الجزيرة، بعد أن سبق وخرجت منتصرًا من حلقة كمال حبيب وحلقة عبد الوهاب المسيري؛ لأن انتصار العلماني يظل وجعًا يؤرق الجزيرة حتى تهزمه علنًا أو تنال من مهابته أو لو استطاعت فإنها تعرضه للمهانة.
قالوا لي إن مناظري سيكون الغنوشي، قلت ند كفوء، بعد وصولي إلى الدوحة قالوا الغنوشي اعتذر لأسباب أمنية واللي جاي حسن الترابي، قلت ند كفوء، قبل الحلقة بدقائق قالوا الترابي اعتذر ولم يجدوا سوى هاني السباعي سفيه لندن الأشهر، وفطنت للكمين متأخرًا والحلقة على الهواء بعد دقائق، فإما أن أنسحب ويعلن فيصل انسحابي بينما هو مجهز سلفًا مناظرًا ينتظر، وتكون الهزيمة منكرة للعلمانيين بعد وصولي إلى الدوحة بالفعل، أو أن أقبل، وساعتئذ تذكرت المرحومة أمي الحاجة صفية وهي تحذرني: «خد بالك يا سيد يا ابني، إذا عايز تبهدل راجل محترم سلط مره شرشوحه». وعلمت أني في الموقف الذي حذرتني منه أمي، في انتظاري على الهواء الآن مره شرشوحه. ولكني قررت الاستمرار وكان النصر حظنا المؤزر بالآيات البينات بانكشافهم إرهابًا علنيًّا وسفهًا مقززًا لفريق يزعم التدين المفترض فيه أن يكون عفَّ اللسان قويم الخلق بشوش الوجه حسن اللفظ. ولم أعتقد أن كل ما قاله قد نال من شخصي كمفكر محترم لأن الفارق كان بائنًا. وإذا كانت ذاتي قد سبت أو سفهت بسفاهات الإرهابي اللندني السباعي فمالها وما أكتب؟ ذاتي لا اعتبار لها هنا مع نجاح المناظرة كرصيد في الخطوات نحو الهدف.
وهكذا تراني يا أخي أخطو خطواتي وأختار طرقي دون اعتبار بالمرة للذات لأنها عندي خارج الموضوع، وقد أخذت هذه الذات بالقسوة والشدة دون رحمة في أبحاثي وأعمالي، وقررت استمرار العيش في مصر رغم قسوة المجتمع الذي أكتب له ومن أجله، ربما أنت رأيت ذاتي ذات يوم شيئًا مهمًّا وانبهرت بها فإذا بك أمام إنسان عادي بكل ما له وما عليه، ستكون بهذا المعنى مشكلتك لا مشكلتي، أنت تريد أبطالًا حتى الموت أو قديسين كاملي الطهارة، أو أربابًا أكاديميين، وهي كلها بتعبيرك كائنات افتراضية غير موجودة في الواقع إلا لمامًا، وكونك اكتشفت خطأك وطلع القمني مش اللي هوه، ولا هو أستاذ ولا هم يحزنون، فلماذا كل هذه الحملة؟ لماذا لم تكتفِ بإلقاء كتبي من أقرب نافذة في جوارك لتهدأ نفسًا وترتاح بالًا وينتهي الأمر؟
أما أنا فقد فعلت ذلك مع نفسي وذاتي مبكرًا، لهذا أعتبر نفسي دومًا مجرد جندي نفر في الجيش العلماني بدون أي رتب، وأفخر بذلك وحده وأكتفي؛ لأن الجيش العلماني يعني الحقوقيين يعني مع الحريات، يعني مع الكرامة، يعني أن أكون فردًا منهم فهو الشرف العظيم.
زملاؤك وزملائي راسلوني لأكتب لكتب من تأليفهم تقديمات يريدون بها تشريفًا، ولهم الشكر والتقدير كله لأنهم هم أهل الشرف، لكني رأيت أن من يكتبون التقديمات يرتكبون في حق المؤلف لونًا من الجرم، فهم يركبون جهد المؤلف ويضعون أسماءهم على الغلاف دون جهد موازٍ لجهد المؤلف، لمجرد ركوب الكتَّاب ووضع الاسم والذات عليه دون مجهود لائق. أرسل لي كمثال الزميلان العزيزان الأستاذ سعيد الكحل وهو صاحب قلم محترم، وأيضًا الأستاذ عادل جندي وهو صاحب قلم رفيع، وعندما قرأت العملين وجدتهما ذوَي قيمة عالية وصاحبَيهما قامتَين محترمتَين؛ لذلك رفضت أن أكون أيقونة كتاب لتجميله وهو لا يحتاج تجميلًا من أحد. لو كانت ذاتي شاغلي لجلست أكتب مقدمات لعشرات الكُتَّاب من باب توسيع الانتشار والرزق أيضًا، لكن ذاتي والحمد لله سبق لها أن مرت بطور التضخم زمنًا مضى، ثم غادرته إلى غير رجعة، وأحتسبها اليوم من هنات مرحلة الصبا والشعور المبكر بالتميز بالتفكر والتباهي به بين الأقران.
ونظرًا لطبيعة كتاباتي وما تعلمونه عنها؛ فهي تخص بلادنا ومشاكلها لذلك لم أسعَ للترجمة ربما أحصل على جائزة دولية لائقة، رغم استحقاقي؛ لعدم معرفتي بسبل وطرق النشر الأجنبي، وأَحْمَدُ قَدَري الذي جعل مطالبي الحياتية شديدة البساطة؛ مما أعطاني قدرًا هائلًا من الاستغناء، كما أني لن أحصل في بلد مسلم أو عربي على جائزة تقدير، لأنكم تعلمون ترتيب الولاءات ومقاصات المصالح في جوائز بلادنا، ناهيك عن تكفيري العلني الذي سيعطي كل تلك المؤسسات العذر في عدم منحي جائزتها. وصدقني أخي قريط تمنيت الحصول على واحدة من تلك الجوائز ليس لأنها تحمل تقديرًا أدبيًّا سليمًا، بل لمردودها المادي الفلوسي البحت الذي أنا بأشد الحاجة إليه. فإن لم أحصل على تقدير منهم فعلى الأقل يكون التقدير من زملائي في العلمانية، التقدير الأدبي وحده لأنهم والحمد لله كلهم عالم فقري مثل حلاتي؛ لذلك لا أخفيك سرًّا إعجابي الشديد بكون العلمانيين العرب يعتبرونني «أيقونة بني ليبرال» كما ذكرت في مقالك، تكفيني تلك جائزة رفيعة المستوى عالية القيمة نزيهة الحكم والقرار.
ولا يكتفي الأستاذ قريط بذلك، بل يصعِّد من حدة حملته ويشدِّد من هجومه بدون سبب واضح لأي سبب، مجرد كلام فلوت، يقول: «القمني كما أراه الآن تحول من مفكر إلى مفكر بأمره، ومن صاحب مشروع إلى سجال بدون موضوع، يبدأ صولاته وجولاته من مقولات: حاكمية الله، والخلافة، وشعار الإسلام هو الحل، وما يتغرغر به الإسلاميون، ذريعة للهجوم على كائن افتراضي؛ لأن تلك المقولات تحمل بذور فنائها بداخلها، ولا تستحق جدلًا من حيث المبدأ.»
وصدق زميلي في قوله وأصاب كبد الحقيقة، فنهج التفكير الإسلامي (والديني عمومًا من وجهة نظري) يحمل بذور فنائه بداخله، لكنه لم يصب بالمرة بقوله إن معركتي مع هذا الفكر هي معركة مع كائن افتراضي، حتى شككت أنه لا يعيش معنا في بلادنا وأنه ممن يكتبون من أوروبا أو أمريكا، وأنه غادر بلادنا من زمان؛ لأنه إذا كان ذلك كذلك فلا شك أن مسلمي الشارع المصري والباكستاني والسعودي والجزائري والصومالي واليمني والعراقي بإعلامهم بتعليمهم بصحوتهم بسلوكهم في الشارع بخياراتهم السياسية كلهم كائن افتراضي لأن كلهم كذلك وكلهم يؤمن بذلك، عدا بعض النخب الليبرالية هنا وهناك ممن لا تأثير لهم في الشارع في أي موطن من تلك المواطن، وأصحاب ملل ونحل أخرى يلوذون بما يؤمِّنهم على حياتهم فقط وليس حتى كرامتهم في بلادنا المسعورة.
نعم هي تحمل بذور فنائها، وإن التقدم الإنساني لا يتقهقر، لكنه أيضًا يسير لولبيًّا بمعنى أنه يكبو أحيانًا، لكنه دومًا في ارتقاء، وأن العلم في سبيله يكتسح حارثًا الطريق أمام ما يصاحبه من قيم ومبادئ، ستسود في النهاية، كل هذا يا أخي نعلمه من كتب المعلومات الابتدائية والقراءة الرشيدة، وبالإشارة إلى لولبية الصعود والنكوص يأتي دور الشعوب والفرد في التاريخ وشعوب مثلنا بمناهجنا في التفكير بقيمنا بسلوكنا هي حجر عثرة دائم في طريق تقدم الإنسانية، وتقدمها هي نفسها؛ ومن ثَم يأتي دور المفكر للتسريع في عملية الفرز والتجنيب والإحلال والتبديل ووضع الخيارات الملائمة لجعل الانتقالات المجتمعية تتم بأقل قدر من الخسائر والمشاكل وبأكثر ما يمكن من السلامية لهدم القديم وإحلال الجديد، وهذا يا أخي ما أقوم به، وأتمنى عليك أن تساهم فيه بشيء كبير مستقبلًا فأنت أهل له لو توقفت أنت عن استسهال السجال.
ثم يعمد الأستاذ قريط إلى موضوع قديم من موضوعاتي يرتبط بظرفه الوقتي حينذاك على الأرض في العراق، فيقول: «لكن كلمات القمني بدأت تقتصر على الجدل الصاخب دون رؤية نقدية بديلة، وفي الآونة الأخيرة بدأ يستأنس بظلال القوة والسلطة ويستأسد على الضعفاء، وأصبح لا يرى مشروعًا إلا بقمع الإسلاميين، لهذا السبب أصبحت كتاباته تضج بالمتناقضات الفاضحة؛ فهو يشيد بنموذج الولي الفقيه السيستاني ويعتبره غانديًّا مسالمًا نابذًا للعنف، وهذا يتناغم مع طبيعة الرضا الأمريكي الذي أصبح بوصلته، والسؤال: هل يقبل بولي فقيه أزهري؟ أم أن العراق أصبح حائط نص نصيص واطئ؟»
أي قوة يقصدها وأي سلطة أستأنس بظلالها وأستأسد بها؟ أنا رجل بلا حول ولا قوة، وإذا كان يقصد سلطة الحكومة المصرية! كان الأجدى أعمل ذلك بدري ومن زمان، وأعيش الزفة وآخذ لي وزارة وأفتح لي حساب في سويسرا وتبقى الدنيا بمبي واللقمة طرية والعيشة هنية. ألا ترى ما يرفل فيه مشايخنا من متع؟ وهل ترانا أقصر قامات عن كتابة متأسلمة وأفضل مما يكتبون بفارق عظيم في المستوى؟ عايزني آجي أعملها في أخريات أيامي؟ لقد صدقت هذه الحكومة ذات يوم ليس لأنها تستحق التصديق، ولكن اعتمادًا على تصديقي للضغط الأمريكي الذي يمكن أن يسرِّع بعملية العلمنة، وصدقت حكاية ترشيح الرئيس والمادة مش عارف كام من الدستور، وكتبت لأول مرة ولآخر مرة مديحًا للخطوة مصحوبًا بشروط وقواعد اللعبة حتى تكون سليمة لأكتشف خلال أسابيع مدى سذاجتي؛ لذلك لم يرَ أحد هذه المقالة مرة أخرى وأخفيتها لينساها الناس. وعدا هذه الكبوة الناشئة عن سذاجتي الشديدة أحيانًا، بحكم ريفيتي وميلي لتصديق المأمول من ورائه خيرًا، وغير هذا المقال البائس لا تجد موقفي من الحكومة سوى موقف الليبرالي المحترم الحر من نظام استبداد نخر فساد السوس جنباته بكل شخوصه، لا أستثني أحدًا، ولكن أن يكون البديل عن هذا النظام خراب العمار وخوض البلاد في بحر من الدماء، فلا شك أن هذا سيكون مرفوضًا بالمرة، وعندما يكون البديل عن سيادة القانون مقاصات مصالح تُجرى بين عناصر الحكومة وبعض التيارات الدينية لتقسيم الفريسة؛ مما يهدد بمخاطر تفكك الدولة نحو صوملة كاملة، فهنا علينا أن نختار بين الخراب والدمار الكامل بلا عودة، وبين أن ندعو النظام القائم لالتزام القانون وتفعيله ولو على أصحاب مشروع الخراب البديل، وبهذا لا أستأسد بالحكومة فهي ليست أسدًا بقدر ما هي مجموعة من الهايينز الرمامين يأكلوننا ونحن موتى، عصابات فاسدة رخوة هشة تستخدم وسطاء الدين المنتفعين المحترفين وسيلة لشرعيتها وتمرير فسادها، لقد قامت هذه الحكومات اليولياوية منذ ١٩٥٢م حتى الآن بأكبر عملية إجرام في حق الإنسانية عندما تمكنت من إبادة الوعي التعددي المصري الباقي منذ ١٩١٩م حتى أصبح بإمكانها تسيير الشارع بشيخ نصاب بتعريفة (يعني بفلس)، ولا أستبعد على مثل هذه الحكومة أن تضحي بشعبها وأنا أراها تترك الشارع منفلتًا سداحًا مداحًا يعمل وفق آليات أجهزة الإعلام وما تبثه من قيم منحطة، بلا ضابط ولا رابط إلا مشهد النقاب والحجاب واللحى وخراب الضمائر المعمم والعلني السافر في حالة لم تشهدها مصر من دمار للبلاد والاقتصاد والقيم والوعي والتعليم منذ زمن الهكسوس.
أما الإشارة إلى سلامية السيستاني فقد كانت في ظرفها على الأرض وفي وقتها هي نعم الحكمة ونعم المصداقية والرأي السديد، وكان أي قول بخلاف ذلك تأجيجًا لمزيد من النيران التي كان يصبها السنة الزرقاوية على شيعة العراق وبقية ملله ونحله. ولكن السيد السيستاني نفسه لم يسلم من نقدي المر والقاسي على المستوى النظري لفتاواه ومواقفه وآرائه الدينية.
ثم من قال إن العلمانية تعنى العداء للدين أو للطائفة أو للعبادات أو حتى لرجال الدين ما داموا لا يفتئتون على المصلحة العامة للمجتمع ويلتزمون دورهم المحدد لهم دون خروج على قواعد وشروط العقد المدني الاجتماعي العام. إني هنا ألم أكن نصيرًا لوجود سلطة دينية في العراق ورافضًا لها في مصر لأن المقارنة ظالمة والظرفين يختلفان بالكلية، وخير من يعلم ذلك زميلي قريط، وإن لم يعلم ذلك فإن أقل ما يوصف به مع التأدب أنه نوع من الخبث الريفي المضحك بغرض تشويه الخصم بأي طريق ممكن، وهو ما لا يحدث بين أولياء المبادئ المحترمة، خاصة إذا كان هذا المبدأ هو العلمانية التي أراها شرفي وسبب ارتقائي وفيها بيتي وعائلتي وناسي وجذور كرامتي ومحتوى ومستقبل أولادي ووطني.
وضمن هذا الخبث الريفي يظهرني عميلًا حكوميًّا حيث يقول: «بنفس الوقت ينقض على سعد الدين إبراهيم مقرعًا إياه بتهمة الأسلمة السياسية.» مرة أخرى الرجل لم يقرأ دفاعاتي التي استغرقت ثلث كتابي شكرًا لابن لادن عن حقوق الدكتور سعد الدين إبراهيم وموقفي من حكومتنا المعتوهة غير الرشيدة، وبالطبع هو أيضًا لا يعلم أن سعدًا صديقي حتى هذه اللحظة.
وإني قبل أن أنشر نقدي له التقيته وسط نخبة من المفكرين في منزل الدكتور حسن الصواف وبحضور الدكتور صلاح الدين حافظ والدكتور أسامة الغزالي حرب والفنان التشكيلي وجيه وهبة وغيرهم من أعلامنا، وقلت له هذا النقد بحضورهم، وأخبرته سلفًا أني سوف أنشره. ونشرت نقدي لكني لم أفعل فعل قريط فالشخص بمنأى عندي عن النقد، فما يشغلني هو ما يكتب ويؤثر به في الواقع؛ لذلك أدنت سعدًا بقلم سعد وما خطت يراعه، وليس بخطاب متعالٍ يتوهم ذاته ذاتًا قادرة على الفرز وحدها وقراءة ما تضمر النوايا وإصدار الأحكام على الزملاء كخطاب عمنا قريط ضد شخصي الضعيف المتواضع، وبعد نشري نقدي لسعد تمت دعوتي من قبل مركز سعد (ابن خلدون) للمحاضرة، وحضرت وحاضرت ونشرت مجلة المجتمع المدني المحاضرة والمداخلات، ومؤخرًا كتبت مشاركًا في المجلة ذاتها وبناء على رسالة منها واثقة بحميد مواقفي، بكلمة محترمة تليق بدور سعد كأستاذ وشيخ ليبرالي كبير، بمناسبة بلوغه سن السبعين، أطال الله في عمره، أدعوه فيها للعودة إلى مصر بعد أن أجدبت مدنيتنا ببعده عنها، وعبر الاتفاق والاختلاف لم يحدث أن بخست سعدًا أو اتهمته بما ليس فيه ولا سخرت منه أو من شخصه أو من كتابته ولا قللت من شأنه كأستاذ مؤسس لفكرة المجتمع المدني في بلادنا؛ لأن كل ذلك ليس من شيم ومكارم العلمانية من نبالة وفروسية.
ذكَّرني أخي قريط بحدثين لا أنساهما، أحدهما مقال كتبه صحفي منكور موتور بالأسلمة، وكيف أن الله منَّ عليه أن يرى داعي الفرعونية الدكتور النصراني لويس عوض طريح فراش المرض الأخير بالمستشفى، يرطن ويخرف ولا يدري ما يقول حتى إنه لم يدرِ ببوله يتسرب على بنطاله، حتى انتهى بحمد الله والثناء عليه لنقمته السماوية على لويس عوض، ومضت الأيام ولا يذكر أحدنا هذا الصحفي ولا من هو، ومن بقي هو لويس عوض.
والثاني يخص كاتبًا علمانيًّا صادق العلمانية هو حسين أحمد أمين الذي تعلَّمت من كتاباته كما تعلَّمت من كتابات سعد الدين، جاء يوم قرر أن يكتب فيه ذكرياته مع أبيه أستاذنا وتاج رأسنا «أحمد أمين»، وهو واحد من أبرز كُتَّاب عصر النهضة في القرن الماضي، ومعارف أبيه هم من الأسماء اللوامع لذلك الزمان، والذين هم أساتذة لنا جميعًا نفخر بهم ونعتز ونتيه فخرًا، فإذ به يذكر أسرارًا. تسيء إليهم ومواقف تشينهم، فكان قراري الشخصي هجر قراءة حسين، ولاحظت أن ذلك كان موقف بقية القراء دون اتفاق مسبق، حتى خفت نجمه أو تلاشى من الساحة، لكن ذلك لا يسلبه حق سبقه أستاذًا علمانيًّا؛ لأن لدى القارئ حسه الذي يدفعه لاتخاذ المواقف مما نكتب ويحاكم الكاتب بالمقاطعة أو بالمتابعة وفق منظومته القيمية التي لا يأكل فيها الصغار لحم إخوانهم الكبار أو آبائهم وأساتذتهم أكانوا أحياءً أم أمواتًا، فكرهوه وكرهتموه.
أختم هنا بفقرة أخي نادر التي ختم بها موضوعه، إذ يقول وكله ثقة: «لا أنكر أني تمتعت يومًا بلمحات تنويرية سطرها القمني في متون كتبه، فجمال الكتاب يفتح الشهية للمزيد، رغم الملل والشعور بالتخمة، لكن لغة سجال القمني ليست أكاديمية كثيفة دالة، تُرضي المثقف اللماح، ولا ميسَّرة أنيقة تبهر الذواق، إنها للآسف لغة عربية متثائبة تتحرك ببطء، على إيقاع سيارات وسط البلد في القاهرة، وتنفث عوادمها في وجوه الناس، ولا تصل إلى مبتغاها إلا بشقِّ الأنفس.»
إذن لماذا لا تكتب أنت يا أخي ما ليس كذلك، ولماذا لا تقدم لنا مشروعًا كمشروعي الذي أشرت إليه في البداية ثم انتهيت به إلى لمحات تنويرية سطَّرها القمني، أم أن ظهور مشروعك مشروط بانسحابي بعدما شخت ولم أعد أطربك.
أخي نادر قريط، لن أنسحب من الساحة بعد أن انسحبتُ منها من قبل مكرهًا تحت وطأة الخوف على أولادي؛ فالتجربة كانت شديدة المرارة، وسأظل أكتب حتى يصيبني الخرف، وساعتئذ سأجد من ينبهني إلى التوقف حرصًا على تاريخي العلمي من أمثالك، أو حتى تفاجئني موتة ربي أو موتة اغتيالية، وساعتئذ أتمنى عليك ألا تعود لأكل لحمي ميتًا كما نهشته حيًّا، وأكرر الطلب من أشقائي العلمانيين أن يؤبِّنوني ويودِّعوني بعزاء يليق بي حين أغادركم، لتتمموا وتستكملوا ما بدأناه، تأبينًا يداوي فقد عيالي لأبيهم حيًّا وميتًا بعد أن خطفته منهم حالة قدرية وظروف وطن ليكون عبد مكتبه، لا يرونه إلا يومين أسبوعيًّا لمدة ساعات قصيرة في هذين اليومين، وأحيانًا يُلغى اللقاء بسبب العمل، وترطيبًا لقلوبهم بعد معاناة طويلة ليس لهم يد فيها سوى كوني أباهم، وأخيرًا وليس آخرًا يبدو لي أني بحاجة إلى بعض الراحة الجسدية والذهنية؛ لذلك أستسمحكم عذرًا في إجازة أرجو ألا تطول. أتمنى خلالها أن يسعد قلبي بالمزيد من كتاباتكم ونضالكم من أجل مواطن كريم يعيش في وطن عزيز يا أهلي وناسي في كل بلد عربي من بني ليبرال.