علي جمعة وفتواه التكفيرية
مع تصعيد الحملة التي شنتها دكاكين الإسلام المتطرف والسياسي ضد حصولي على جائزة الدولة التقديرية، بهدف تركيع وزارة الثقافة لتسحب جائزتها بما هو ضد القانون، أو تركيعي لأتنازل عن الجائزة اعترافًا بقدرتهم على الحشد والهجوم وأنهم فوق أي قانون، أرسل موقع الجماعة السلفية (المصريون) برسالة على الإيميل إلى مفتي الجمهورية الدكتور علي جمعة، وكان نص السؤال كما سجلته الفتوى الرسمية من المفتي كالتالي: «اطلعنا على الإيميل الوارد بتاريخ ٩ / ٧/ ٢٠٠٩م المقيد برقم ١٢٦٢ لسنة ٢٠٠٩م والمتضمن: ما حكم الشرع في منح جائزة مالية ووسام رفيع لشخص تهجَّم في كتبه المنشورة والشائعة على نبي الإسلام، ووصفه بالمزور ووصف دين الإسلام بأنه دين مزوَّر، وأن الوحي والنبوة اختراع اخترعه عبد المطلب لكي يتمكن من انتزاع الهيمنة على قريش ومكة من الأمويين، وأن عبد المطلب استعان باليهود لتمرير حكاية النبوة — على حد تعبيره — فهل يجوز أن تقوم لجنة بمنح مثل هذا الشخص وسامًا تقديريًّا تكريمًا له ورفعًا من شأنه وترويجًا لكلامه وأفكاره بين البشر، وجائزة من أموال المسلمين، رغم علمها بما كتب في كتبه على النحو السابق ذكره، وهي مطبوعة ومنشورة ومتداولة، وإذا كان ذلك غير جائز فمن الذي يضمن قيمة هذه الجائزة المهدرة من المال العام؟»
وجاءت إجابة صاحب الفضيلة كالتالي: «قد أجمع المسلمون أن من سب النبي ﷺ أو طعن في دين الإسلام فهو خارج عن ملة الإسلام والمسلمين، مستوجب للمؤاخذة في الدنيا (لم يحدد طبيعة المؤاخذة أو أنه يفترضها جريمة ردة منتهية) والعذاب في الآخرة، كما نصت المادة ٩٨ من قانون العقوبات على تجريم كل من حقَّر أو ازدرى أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو أضر بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، أما بخصوص ما ذكر في واقعة السؤال، فإن هذه النصوص التي نقلها مقدم الفتوى — أيًّا كان قائلها — هي نصوص كفرية تُخرج قائلها من ملة الإسلام إذا كان مسلمًا، وتعد من الجرائم التي نصت عليها المادة سالفة الذكر من قانون العقوبات. وإذا ثبت صدور مثل هذا الكلام الدنيء والباطل والممجوج من شخص معين؛ فهو جدير بالتجريم لا بالتكريم، ويحب أن تتخذ ضده كل الإجراءات القانونية التي تكف شره عن المجتمع والناس وتجعله عبرة وأمثولة لغيره من السفهاء الذين سول الشيطان أعمالهم وزين لهم باطلهم. قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (الكهف ١٠٣-١٠٤)، واللجنة التي اختارت له الجائزة إن كانت تعلم بما قاله من المنشور في كتبه الشائعة فهي ضامنة لقيمة الجائزة التي أُخذت من أموال المسلمين والله سبحانه وتعالى أعلم.»
وفي يوم الثلاثاء ٢١ يوليو ٢٠٠٩م نشر موقع (المصريون) السؤال والفتوى بصفحته الرئيسية واضعًا صورتي إلى جوار صورة فضيلة المفتي ليحيل الفتوى المجهولة ضد مجهول ويحددها ويشخصنها بجعلها موجهة لشخصي المتواضع بالذات وبالخصوص. إضافة إلى ما تم نشره في الموقع ذاته عني اعتمادًا على تلك الفتوى.
•••
وقبل أي تعقيب أجد من واجبي كمسلم من خيار المسلمين يعلم من دينه بجهد واجتهاد ما قد يعلم فضيلة المفتي، أن أتساءل عن سر لجوء صاحب الفضيلة إلى وجه واحد من بين مائة وجه تحتمل الإيمان؟ وأي دافع قوي وعظيم دفعه ليصدر مثل هذه الفتوى بشأن شخص مجهول دون أن يتيقن بنفسه ويتحرَّى ليدقق قبل أن يفتي، أم أن أهل نافذة السلفيين (موقع المصريون) هم عنده من المنزَّهين عن الكذب والتزوير والخطأ؛ لأن ممولها هو الشيخ قرضاوي العتيد الذي لم يرد مرة على ما طرحته عليه من تساؤلات، ويحمل لشخصي المتواضع مشاعر تتناسب طردًا مع نقدي اللاذع والمرير لما يطرحه علينا من كوارث؟ أم أن مولانا المفتي قد سلم بما جاء في السؤال من مطاعن، حتى يتمكن من دخول الحلبة عن قصد ورغبة مسلحًا بألفاظ لا مسلحًا يصح أن تصدر عن مثله من قبيل: «الكلام الدنيء والباطل الممجوج والتجريم لا التكريم وعبرة وأمثولة لغيره من السفهاء» … إلخ، ثم قام يحمل الله تعالى وزر كل هذه السخائم بدس كلامه — تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا — وسط كلامه البشري ليكسب به قدسية القول وضمان طاعة الأمر المتضمن إهدار الدم بالضرورة الشرعية.
فإذا كان كل ما جاء في سؤال المستفتي غير موجود بنصه في أي كتاب من كتبي، فماذا سيكون موقف صاحب الفضيلة من المستفتي؟ إن المستفتي لا تصح عليه هنا البراءة بحسبان ناقل الكفر ليس بكافر؛ لأنه لم ينقل عني شيئًا، ولأني لست بكافر، وكل ما قاله المستفتي ومفتيه لا أعرفه ولا أعلمه؛ فهو من بنات أفكار المستفتي وحده، فهل سينطبق هنا قول المفتي عن الأخسرين عملًا على المستفتي نفسه ليصفه بما وصفني به، وهل سنسمع منه فتوى بهذا الخصوص بشأن الذي استفتاه كذبًا وخداعًا، إضافة لسب هذا المستفتي الله ورسوله (منسوبًا إليَّ)؟
من غير المفهوم عندي وعند صاحب أي عقل سليم، كيف استجاب المفتي لاستفتاء لا يخص شخص المستفتي وإنما يخص شخصًا آخر؟ فالمعلوم أن الفتوى يطلبها المسلم عندما يستشكل عليه أمر من الأمور التعبدية، عن الحلال والحرام ونسبة الزكاة المفروضة على نوع تجارته، وعن كيفية علاج تقصيره في أداء شعيرة بعينها، وكيف يقضي واجباته تجاه ربه، لكن أبدًا لا نستطيع أن نفهم شخصًا سمع عن جاره في الطرف الآخر من المدينة ما لا يعجبه، فقام يقدم الحكاية للمفتي يطلب الفتوى بشأن هذا الجار البعيد، خاصة مم عدم وجود الطرف الثالث (الجار) لا في شكل حديث موثق بالصورة لما ارتكبه من آثام ولا في تسجيل صوتي له وهو يجدف مثلًا ولا في شيء خطه بيده، فقط مجرد واحد يسأل الفتوى بشأن شخص آخر غير موجود ويحكي عنه حواديت وشائعات. هل يجوز هنا للمفتي إصدار فتوى بشأن هذا الجار معتمدًا على المستفتي الذي لا ناقة له ولا جمل في الموضوع؟
وفي حال ارتأى المفتي ضرورة التدخل فكان عليه الاستقصاء والتيقن، وهي مسألة ليست من مهام المفتي وإدارته، وإنما هي من مهام القضاء والمباحث وهيئات التحري، وكان عليه في هذه الحال رد بلاغ المستفتي (لأنه بلاغ في آخر وليس طلب فتوى فقط)، وذلك لعدم التخصص، أو إحالة الأمر كله ببلاغ للقضاء ليستقصي ويفحص ويدقق ويتحرى وجود جريمة وفق التعريفات القانونية للفعل الجرمي من عدمه.
وهكذا أخذ الدكتور جمعة دور المفتي ودور المباحث ودور القاضي دون محاكمة ولا أدلة ولا وجود شخص المبلغ فيه، وأصدر حكمًا مزاجيًّا فاسدًا لفقده الأصول الحقوقية والشرعية، وهو تدخل سافر في شئون الناس وضمائرهم من المستفتي والمفتي علنيًّا وتشهيريًّا وتجريسيًّا وتحريضيًّا. قد يكون من حق المسلم أن يستفتي فيما يخصه (رغم اعتراضي شخصيًّا على مسألة الفتوى برمتها)، لكن ليس من حق أحد ولو كان المفتي نفسه أن يفتش في ضمائر الناس ويصدر عليهم الأحكام، ليس من حق أحد أن يسأل المفتي أن فلانًا قد كفر فهل نقتله بالرصاص أم نذبحه ذبحًا شرعيًّا أم نقطع أطرافه من خلاف، فهذا يعني الفوضى الكاملة وانهيار السلم الاجتماعي مع إعطاء كل مواطن الحق في الاستفتاء بشأن أي مواطن يخالفه لاستصدار حكم بشأنه كالذي نحن بصدده هنا.
وإعمالًا لهذا أنا لا أسأل صاحب الفضيلة ولا أرجوه فهو بالنسبة لي ليس في موقع سلطة حيث لا توجد بالدستور أي إشارة إلى سلطة كهذه، هو عندي موظف كأي موظف في القطاع الحكومي العام ليس أكثر، لهذا لا أسأله ولا أرجوه، إنما أطالبه بصرامة لا تجامل توضيح موقفه بعبارات محددة كاشفة لا تحتمل تفسيرين، فإذا كان قد أصدر فتواه وهو يعلم إلى من تشير، خاصة مع صمته عن نشر صورتي مع صورته بالفتوى على «موقع المصريون» ورضي لي ولنفسه بهذا، رضي لي بألفاظه وسخائمه وتكفيري وتجريمي، ورضي لنفسه أن يكون قاذفًا شتَّامًا يستخدم نابي الكلام، فعليه أن يعلن عن كفري بشكل واضح مع الأدلة الدوامغ، لا أن يلقي أقوالًا فلوتة وغير مهذبة ولا منضبطة لا شرعًا ولا قانونًا ولا حتى إنسانيًّا، وليتفضل إن كان عنده أي قول بشأني أن يناظرني فيه علنًا وعلى ملأ في أي قناة يختارها، ولا عذر له في عدم القبول بهذه الدعوة لأنه قد سبق وناظرني بمجلة القاهرة مستعينًا بصديق من جماعة الإخوان إزائي منفردًا، ولعله يذكر أنه وزميله لم يخرجا مظفرين من هذه المساجلة (تم نشره بالمجلة في حينه)، وإما أن يعتذر بداية إذا أراد إظهار الأمر بحسبانه خديعة تعرض لها وأنه في فتواه كان مضحوكًا عليه ومستثمرًا من قبل الموقع القرضاوي، وسنقبل ذلك منه على مضض وكراهة طلبًا للسلام، لنفرغ لباقي أطراف زمرة التكفيريين، ويلزم بعد ذلك أن يسحب فتواه البائسة ضدي، وأن يوجِّه مثلها بذات اللفظ القارص والكلام المرهب للمستفتي المخادع والكاذب، والذي هو في هذه الحال من يهدد الأمن الاجتماعي بلسانه وبوثيقة لا تقبل تمحُّلًا بالكذب والخداع، مورطًا هيئة بكاملها في الخطأ المشين ناهيك عن نيله من وزارة الثقافة، مما يعرض وظيفة المفتي لما ينال من صدقيتها فيما تصدر من فتاوى تمس حياة المسلمين، خاصة بعد كشف فضيلته الشهير والمدوي لمعجزة بول الرسول وبصاقه ونخامته وما تحتويه من فاكسينات شافيات، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا دون تلك المزايدات، وهو ما أدى إلى صدمة للشباب المسلم في دار الإفتاء وفي صاحب الفضيلة (يعني الدار مش ناقصة مغامرات جديدة يا صاحب الفضيلة).
ومنذ متى أصبح دور دار الإفتاء هو تكفير الناس حتى ولو مع بينة وبرهان؟ إن تكفير مسلم يعني إصدار قرار بإدخاله جهنم. (ويجب استتابته ليعلن الشهادة ولو خوفًا وهلعًا، فيدخلونه الجنة علنًا بالزواجير، رغمًا عنه، لكنهم يضمرون له جهنم سرًّا! بحسبانه منافقًا لإيمانه تحت وطأة التهديد، فلماذا كل هذا العنت وكل تلك المشقة؟ لماذا لا يتركونه وقودًا لجهنم وسعادة لهم بالتشفي به لتهدأ أرواحهم وتطمئن بالعذاب الأبدي لمن يخالفهم بنيران حوارق وسلاسل وزقوم، أو ربما كان صواب السؤال هو لماذا كل هذا الشعور بالعار؟)
ومنذ متى يأخذ إنسان أيًّا كان حجمه ومنصبه دور الله فيطَّلع على الأفئدة ويشق عن القلوب، ويطلع على ما يريد الرب ليدخل الناس الجنة والنار نيابة عنه وبدون تفويض رسمي واضح من الرب بذلك؟ أم ترانا في أواخر الأيام وأن علامات اليوم الأخير قد اقتربت وظهر المسيخ الدجال بجنته وناره وعاره وعواره؟ وأين كان رأي فضيلة المفتي هذا عندما سأله صحفي أمريكي أثناء زيارته لبلاد الفرنجة وأهل الطاغوت: عن حق المسلم في ترك الإسلام إلى دين آخر، فأكد فضيلته بحزم جازم وجزم حازم ووجه صارم أن حق الإنسان في اختيار دينه أو تركه مضمون في الإسلام، بقرار إلهي جاء بالقرآن الكريم، هو من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر! وهو ما يتناقض بالكلية مع موقفه معي، أم أن مولانا عندما كان في أمريكانيًّا كان يعمل بمبدأ (دارهم ما دمت في دارهم)! وذلك من باب الكذب الشرعي والتقية الرعديدة! في حين ناقض هنا قوله ذاك بموقفه مني وبفتواه التي تعني أن مصر وكل المصريين عنده هم أقل من أن يستحقوا الحقوق التي حصل عليها بنو آدم في بلاد الإفرنج الطاغوتية.
لا شك سيلحظ أي عقل متواضع أن فتوى مولانا هنا مقارنة بفتواه هناك، تضمر الخوف والهلع من أهل الطاغوت — وهو ما لا يليق برجل ينتصر بالله فيضطر للتصريح بما لا يعتقد وبعكس ما يؤمن، كما تضمر ازدراءً خفيًّا لمصر كلها فشعبها لا يستحق ما حصل عليه البشر في بلاد غير المسلمين — وعافى الله أخاه ابن عاكف وشفاه من ضلاله الوطني، منذ طزز فينا جميعًا شعبًا ووطنًا وتاريخًا وأمةً، فإن كان رخص الأساليب يليق بالساسة مثل ابن عاكف دون مآخذ لما في السياسة من دنس دنيوي، فإن بعض القليل منة كفيل بسقوط أي رجل دين محترف عن كرسيه، هذا مع التذكير أننا لم نسمع حتى تاريخه أي فتوى تكفير للدمويين القتلة الذين دمروا سمعتنا في العالمين بينما يد العبد الفقير أطهر من كل أياديهم مجتمعة إرهابيين ودعاة فضائيات وإخوانًا وجماعات إسلامية ودعاة رسميين وغير رسميين، وهنا شرف الرجل أو عاره مهما ادعى من تقوى.
•••
وإعمالا لما سلف: إما أن يتفضل فضيلة المفتي ليشير في كتبي إلى النصوص التي كفَّرني بموجبها ليصر بما فيها على كفري (وأنا على يقين أن كتائب الإسلام السياسي والأصولي والإرهابي من المذاهب كافة ستمد له يد العون المطلوبة)؛ لذلك لن أقبل منه نصوصًا غير الواردة عنده وعند المستفتي بنص الفتوى المذكورة أعلاه، ولأن هذه النصوص كانت هي مناط السؤال والفتوى، ولأن القاعدة القانونية تقول إن الإنسان لا يحاكم على التوصيف الجرمي ذاته مرتين، وإما أن يعتذر لي علنًا بذات الزخم والضجيج الإعلامي المسعور ليقر العدل ويدين المجرم ويبرِّئ البريء، وإما أن ينساق المفتي وراء فهم يعنيه ويشغله سلفًا يقف وراء تأويل لكلامي يترصدني به ليدينني، وبهذا المعنى يكون قد سقط عن كرسي الإفتاء لإسقاطه شروط بقائه فيه وهو العدل والنزاهة وعدم تدخل المشاعر عند إصدار الأحكام، وبراءة المواطن التامة حتى تثبت إدانته، مع انصراف المفتي عمدًا عن تسعة وتسعين وجهًا مبرِّئًا ولجوئه إلى وجه التكفير الأوحد، دونما بيان وبرهان يدعم فتوى مرعبة كهذه وبلا شرعية لعدم أخذها بشروط هذه الشرعية، وإن كان لديه شيء يقوله (أكرر) فليتفضل ليناظرني فيه أمام الناس، وأنا له ند كفوء شديد المراس، وأعده بمتعة عقلية مشفوعة بكل الاحترام. ومن ثَم فعليه بقول أوضح: إما أن يعتدل كما أمره ربه، وإما بيننا وبينه محاكم الأرضين هنا وفي البلاد الحرة في العالمين، حيث لا تضيع عندهم الحقوق لعدم وجود مفتين وأزاهرة في بلادهم، ويعملون بقانون العدل وحده، الذي يسري على كل الناس بمن فيهم رؤساء جمهوريات وليس مجرد مفتٍ هنا أو أزهري هناك؛ أي أني عند الاضطرار سأقاضيكم أمام الطاغوت الأعظم الذي لا تضيع عنده الحقوق يا عبد الله.
هذا إضافة إلى كوننا لم نسأل يومًا فضيلة المفتي عن موقع منصبه من دين المسلمين، وعن ورود شيء، في الكتاب أو السنة بخصوص هذا المنصب، وهل تلك الوظيفة المدفوعة بالأجر السخي والوفير والمكان الاجتماعي الرفيع، جعلته يظن بنفسه الظنون فيرى لذاته سلطان من له علاقة مباشرة بعلَّام الغيوب وما تُخفي السرائر، وهي الأجور والمناصب والبغددة التي ندفعها نحن له ضرائب من جيوبنا وقوت أولادنا، دونما نص قرآني أو حتى نبوي واضح يفرضها علينا لندفعها لمولانا ليعيش البلهنية والرفاه الخمس نجوم ونعيش نحن الفقر العشر نجوم، ثم يأتي ليجأر لوعة وأسًى مطالبًا وزارة الثقافة باستعادة قيمة الجائزة، مستكثرًا قيمتها المالية (٢٠٠ ألف جنيه مصري) على مثلي ممن هم خارج السلطة وخارج نظام الدولة الوظيفي برمته، وهي ربما لا ترقى لمصروف أسبوع واحد وربما يوم واحد تصرفه عليه الدولة من أموال فقرائها ومعدميها، الذين يبكيهم هو والمستفتي بكاءً ثرًّا ويقيمون مندبة جنائزية على الأموال المسلوبة من عرق فقراء مصر لمصلحة جائزتي، هذا مع غضنا الطرف تمامًا عن نصيبه من هدايا بشواتي وملوكي، ما كان ليعرف شكلها ولا وظيفتها لولا وظيفته.
يا صاحب الفضيلة، يا كبير، يا مسلم! رغم علمنا أنه لا مشيخة ولا أُكليروس ولا أصحاب فضيلة سادة في الإسلام، فقد فرضك نظامنا مرجعية وظيفية؛ لذلك رجعنا عليك بفتواك وفق النظام والأصول كخطوة أولى إجرائية، وليس لأنك صاحب منصب ديني ليس من ديننا، ولا لأنك صاحب سلطان؛ فهو ما لا نعترف به بداية وبداهة، فلست عندي يا دكتور جمعة سوى فرد من آحاد الناس يجوز عليك ما يجوز عليهم. فإن استثمرت ضدي ما تتوهمه سلطانًا علينا فلن يكون لسلطتك عندي أي اعتبار عند الاحتياج إلى النزال قولًا أو فعلًا.
نريد من المفتي علي جمعة قولًا واضحًا غير ملتبس وإجابات واضحات عما طلبناه هنا، وبعدها، وعلى ما سيقول حضرة المفتي أو ما لا يقول، سيترتب موقفنا، إما أن نصمت عنه في هدوء وسلام، وإما أن نسخط كما نشاء دون أن نُلام، وأن ما سيقول وما سيترتب عليه أيًّا كانت النتائج، وإلى أي مدى يمكن أن تصل محليًّا أو دوليًّا، هو حتى اللحظة الراهنة مفتوح وقابل لكل الاحتمالات؛ وإنا لمنتظرون قوله بالسرعة ذاتها التي تطوع بها لموقع «المصريون» القرضاوي، وما أبأس الأسماء الجميلة في المواقع الرخيصة ذات الفتاوى القبيحة.
(١) آلية الفتوى وتفكيك الخطاب
مع السؤال المستفتي والإجابة (الفتوى) نطبق جدل التفكيك والتحليل بحثًا عن التكنيك المتضمن فيهما والأهداف المطلوبة والتأثير الجانبي في العقول وهو المخفي وراء الكلمات الظاهرة، والملاحظة الأولى أن المستفتي والمفتي لم يأتيا على ذكر اسم الشخص المراد تكفيره، ربما حتى يمكن التنصل مستقبلًا من التبعات القانونية؛ فهي لا تتهم شخصًا بذاته وبعينه، إنما جاءت في شكل فروض افترضها الطرفان وتصورات تصوراها حسب التوصيف القانوني للواقعة. وأنه لون من الاستفتاءات والفتاوى التي كان يمارسها الفقهاء وقت الفراغ للتسلية كلون من الألغاز والأحاجي اختبارًا لإمكانات الفقيه واستعراضًا ولعبًا معرفيًّا، وتجد مثل ذلك كثيرًا في الفتاوى المشهورة كالفتاوى البجاوية والفتاوى البزازية وغيرها، ستجد حوارًا حول كم ملاك يمكنه أن يقف على رأس الدبوس؟ حوارًا آخر حول حكم من كان لقضيبه فرعان، فأولج في قبل وفي دبر في آن، هل يغتسل غسلًا واحدًا أم غسلين؟ لكن إذا كانت لعبة الألغاز والأحاجي تجوز مع عوام المفتين المحليين والقرويين؛ فإنها لا تجوز مع مفتي الديار، فتاوى مفتي الديار لا بد أن تتصدى لمشاكل عامة تتعلق بمصالح المسلمين ودينهم وديارهم، ولا تتعلق بمسألة شخصية أي بشخص بعينه؛ لذلك عمد السؤال والفتوى إلى جعلها تظهر كذلك اللون من التمارين المتخيلة لهوًا فقهيًّا، والتي تتسم بعمومية القضية وعدم تشخيصها، وهو الأمر الذي لم يعد صالحًا في زمننا؛ لأن هناك لهوًا آخر بأدوات حديثة وأجهزة فائقة التكنيك وخيالًا هوليوديًّا لم يصل إليه بعد مشايخنا بلهوهم المخفي.
إن السائل معلوم لدى الناس كناشط إسلامي سياسي سلفي معروف هو الأستاذ جمال سلطان وموقعه «المصريون»، ومعروف أنه معارض إسلامي شديد التطرف، ويكتب وينشر كصحفي مشتغل بالشأن الإسلامي السياسي، ويسعى لإقامة دولة الخلافة الإسلامية التمامية، فكيف به وهذا شأنه، مع قدرته الاحترافية واطلاعه على تفاصيل دينه؛ يسأل سؤالًا كهذا؟ وهل لا يعلم الرجل المحترف حُكم الشرع الذي طبه في سؤاله؟ هل كان عاجزًا عن إبداء الرأي في مسألة واضحة كشمس ظهيرة صيف؟ أم تراه أراد من سؤاله أن يسلك السلوك النموذجي المطلوب من المسلم الصالح الطيب. وأن يقدم القدوة والمثل للمسلم المسلوب العقل العاجز عن التفكير الذي لا يقدم على شأن مهما صغر شأنه إلا بعد أن يرجع لمشايخه، فهل أراد الأستاذ سلطان أن يقدم صورة النموذج المطلوب للمسلم، فذهب ليسأل مفتي الجمهورية بكل شأنه وشنشانه في شأن بدهي لا يحتاج إعمالًا لعقل أو تفكير ولا يجهل به حتى المسلم الأمي؟! إن العقل البسيط يقول إن التهجم على مواطن عادي بالقذف والسب هو أمر يعاقب عليه القانون الوضعي والأخلاقي والعرفي والديني، فكيف بمن سب النبي والله والدين؟! إن من لا يمكنه إدراك الإجابة هو شخص يقدم نفسه كإنسان فاقد للإدراك والأهلية وأبسط مبادئ، التعقل، سؤاله فضيحة لنموذج المسلم المثالي المطلوب، لكن الأستاذ النموذج لا يرى ذلك لأنه مشغول بتكريس قيمة الطاعة العمياء وإسكات العقل. فيقدم نفسه للمسلمين نموذجًا ومثلًا للمسلم المطلوب، الجاهل الأمي بأبسط المعارف، الذي يطلب من شيخه الكبير أن يتولى تعريفه بحكم الشرع فيمن سب النبي والله والدين، كما لو أن علماء السلف جميعًا لم يعرفوا بهذه المسألة، ومكثوا طوال تلك القرون حتى يظهر الشيخ جمال سلطان ليلفت نظر المسلمين إلى هذه المسألة المستعصية ويستفتي أهل العلم عما يجهله! إن السائل يريد من تفاهة سؤاله أن يعلن على المسلمين أنهم ممنوعون من إصدار أحكام من أنفسهم حتى في التوافه، وأنهم ممنوعون من إعمال العقل مهما بلغت مكانتهم، المتخصص في الشأن الإسلامي والمتبحر فيه، يسأل في التوافه الهينات نموذجًا للعامة المسلمة لإعدام الشخصية وإيقاف عمل العقل.
لقد أراد السائل أن يجعل نفسه قدوة للمسلمين في جمود العقل وشلل ملكة التفكير، وأن عليهم أن يحذوا حذوه ليستفتوا في البسائط والهيئات التوافه، لتعويد العقل المسلم عدم العمل أو اتخاذ أي قرار دون الرجوع للزعامات الدينية التي ستفكر له لأنها هي التي تعلم وحدها العلم الرباني وما عرفه الأسلاف الصالحون منذ أكثر من ألف عام مضت، ألا ترون المفتي ذاته يضرب نفسه بنفسه مثلًا في الاتباع فلا يجيب السائل بجديد إنما بما سبق وأجمع عليه علماء الأمة؟
إن لجوء المستفتي بسؤاله إلى كبير دار الإفتاء في تفاهة كتلك هي مهزلة، والإجابة عنه هي أم المهازل، تفاهة لو سألت فيها طفلًا لأجاب بدلًا من المفتي، هو كمن يرسل لأحمد زويل يسأله عن حاصل جمع ٥ + ٥، سيكون سائلًا أهطل، ويستهزئ بقيمة زويل ويراه أهلًا للصغائر ليجره من يده إلى منحدر التفاهة والسخافة، وكله في سبيل استصدار فرمان بحكم مقرر سلفًا، مع إهدار كل قيم العدالة دفعة واحدة؛ مما يساعد على مزيد من سقوط هيبة دار تحكم بالهوى والكيف والمزاج.
يبدو منطلق السائل هو الغيرة على الدين ورغبة في معرفة ما يجهله بشأن مُعتدٍ على هذا الدين، فذهب لزميل له أكفأ منه يسأله: هذا رغم المفترض في الغيور على الدين أن يتعالى على التوافه والصغار، وأن يكون هذا التعالي صفة دار الإفتاء بالأولى بحسبان هذا الترفع يجعلها تجسد أبسط قيمة في أي دين (الارتفاع فوق الثارات الشخصية والتوافه الهينات).
فإذا كانت المسألة المعقدة التي عرضها السؤال تفترض عدم وجود الإجابة عنها في فقهنا، فهذا اتهام رخيص لفقهنا بتقصيره في تعريف المسلمين بحكم من سب الله والرسول والدين، رغم أن السؤال يبدو للجميع كمن يسأل المفتي عن الجهة التي تشرق منها الشمس.
وفي واقعة السؤال هناك حادثة قد وقعت، وجائزة قد منحت، وشخص قد نالها، وهو ما جاءت الفتوى به كامل العناصر عدا اسم هذا الشخص الذي هو الموضوع الرئيس، شيء أشبه بلعب الأطفال، ويذكرنا بمن سأل فقيهًا أين تكون قبلتنا عندما نصعد إلى القمر؟ ناسيًا أن المتخلفين لا يصعدون إنما يهبطون. إن التسلي بالفروض المستحيلة في ألعاب فقهية جائز لتمضية وقت الفراغ في سمر شرعي فيتخيل أحد المشايخ قضية افتراضية صعبة، ثم يأتي الشيخ الثاني فيتخيل حلًّا لهذه القضية، لكنها أبدًا لا تجوز إذا أصاب هذا اللهو أبرياء من الناس أو أصاب البلاد بالضرر. وهو ما أزعم أنه المقصد الأساسي للسائل والمجيب معا، يقصدان إصابة أبرياء بالضرر ولو مع تهديد السلم الوطني بالفتن، وهو ما سنقدم الأدلة عليه في شكل تساؤلات.
•••
هل المسألة موضوع الفتوى هي المسألة الوحيدة في ديننا التي غمض على السائل فهمها حتى يقيم بسببها الدنيا ولا يقعدها على مدى ثلاثة أشهر متتالية، ملزمًا نفسه ومفتيه بتوضيح هذا الشأن العظيم لأمة المسلمين بزفة غطت الأرضين السبع؟ وهل اطمأن السائل والمسئول إلى أن كل أركان الإسلام معروفة ومستوفاة ومطبقة حتى يذهبا إلى هذه الصغيرة يقيما منها هولًا عظيمًا، بمشاركة غير حميدة من مشايخ الفضائيات وخطباء المساجد بطول مصر وعرضها، ناهيك عن المشاركات الخارجية من الأخوية العربية الداعمة من الخليج للمحيط ومن الأخوة الإسلامية من أمريكا إلى الصين في هذه الزفة الكارثة.
إن من يقيمون كل هذا الصخب بهذا الشأن الهيِّن لا شك أنهم قد استوفوا كل شروط الدين الأهم والأجدى، وأنه قد تم تطبيق كل أركان الإسلام ولم يبقَ سوى استعادة مال الجائزة لخزانة أموال المسلمين من سيد القمني؟ وقد أكد السائل والمسئول أن المال المأخوذ للجائزة هو مال المسلمين؛ وهو ما يعني أنهم يعتبرون الأموال العامة في مصر هي أموال المسلمين وحدهم؛ وهو ما يعني أن تكون وزارة المالية هي بيت مال المسلمين المنهوب لمصلحة الجائزة، وما دام المفتي وهو رأس كبير في جهاز الحكم، ورأس أكبر في المؤسسة الدينية، ويعتبر أن مال الدولة هو مال بيت المسلمين، فهل تراه قد أدى الزكاة لهذا البيت كركن إسلامي لا يصح إسلام المسلم دونه، ودونه الردة والقتل والقتال وأسر الرجال وسبي الذرية واستنكاح النساء وسمل العيون والذبح صبرًا والتنكيس في الآبار؟ فإن كان قد دفع زكاته فعليه أن يبرز لنا إيصال الإيداع الذي يفيد باستلام بيت مال المسلمين لزكاته الشخصية، ليثبت لنا أن غيرته على الإسلام حقيقية وليست غيرة تجارية ونفعية وسلطوية، ولنطمئن إلى صحيح إسلامه وسلامة يقينه، وحتى يكون له المبرر في طلب رد قيمة الجائزة لبيت مال المسلمين، هذا مع التساؤل: كيف يتحدث مولانا عن بيت مال المسلمين ولا يرى فداحة الجرم الشرعي الفظيع ممثلًا في ذمي خازنًا لبيت مال المسلمين، صامًّا أذنيه عن الخليفة عمر عندما عين أحد الولاة ذميًّا ليجري له الحسابات لأنه شخص أمين، صرخ عمر: ثكلتك أمك، والله لا أدنيهم إذ أبعدهم الله ولا أرفعهم إذ أذلهم الله، فكيف بمولانا يسكت عن هذه الفظائع مع تعطيل الركن الركين في أركان الإسلام. ثم يزأر هصورًا من أجل جائزة لمفكر؟ هكذا ترون الشأن كله لونًا من المسخرة المقرفة والمقززة، فكيف بإمامنا الأعظم الذي يفتي للأمة وقد أسقط أهم وأكبر أركان إيمانه؟ هل يحق له أن يفتش في إيمان الآخرين، بل ويجرؤ على نفيهم من حظيرة الإيمان؟! هل لدى القارئ تعريف آخر غير المسخرة بكل تفاصيل معانيها؟
أما الأخطر فهو أن صاحب الفضيلة قد سكت حتى الآن ولم يطلب يومًا منذ تم تنصيبه تقنينًا واضحًا لأداء الزكاة، هذا الركن الإسلامي العظيم، وذلك بالفرض والإكراه اقتداء بسيدهم أبي بكر (أنا لا سيد لي سوى الله وحده)، فإن كان السائل والمسئول يعلمان أن دولتنا دولة مدنية فلهما إسقاط هذه المطالب ونحن معهما، ويجوز حينئذ أن يتولى أي مواطن أرفع المناصب ما دام أهلًا لها، أما عندما يعتبران مال هذه الدولة للمسلمين فقط فلا تصبح الدولة هنا دولة مدنية، وتصبح وزارة المالية هي بيت مال المسلمين، ففي هذه الحال لا بد من تفعيل القواعد البكرية بشن القتال على مانعي الزكاة والذبح والحرق، على الأقل لإعادة الحقوق المسلوبة من المسلمين للمسلمين، بعد أن توقف نكاح السبايا والإماء واستعباد الذرية، واختفى من بلادنا سوق العبيد بقوانين أممية عالمية صادرة عن هيئة كفرية، وهو الحلال الذي حرموا منه بقوانين ليست من ديننا ولا من شرعنا، وبذلك نراهما قد أسقطا ركنًا إسلاميًّا دونه الكفر، وحرموا المسلمين حقوقًا أفاءها الله عليهم حلالًا أحل من لبن الأم، وتركوا بيت مال المسلمين بيد خازن ذمي، أم أن مال الدولة المدنية يصبح بيت مال المسلمين فقط عندما يأخذ منه سيد القمني جائزة على أبحاث علمية تصيب وتخطئ وليست محل كفر أو إيمان؟ أبحاث معيارها الصح والخطأ وليس الحلال والحرام، ولا دخل لأبحاثه بالدين في حد ذاته.
ما أفهمه كباحث يعيش في دولة حديثة مدنية أن الجائزة هي من مال وطني قومي، يتم الصرف منه لمصالح المواطنين مسلمين أو مسيحيين أو بهائيين من أي لون أو ملة، وأنه ليس مالًا خاصًّا بالمسلمين وحدهم. بينما يصر السائل والمسئول على كونه مال المسلمين، وهما يعلمان ما يرتبط على هذا الفهم من موجبات شرعية وهو ما يشككنا فيهما وفي صدق إيمانهما، حتى نكاد نرى إسلام البعض منهم إسلام جاه ووجاهة اجتماعية ومناصب رفيعة وكراسٍ عالية منفوخة، ألا ترون فضيلة المفتي يفضل كرسيه ووظيفته على إقامة حدود الله كتحصيل الزكاة، مع عدم إعلانه الحرب على الممتنعين عن أداء حقوق الله بحسبانها ردة جماعية وليست فكرة لباحث! وهو الأوضح والعلني والمسكوت عنه، هو الأشنع على المذاهب كلها باتفاق، وعن جواره يجلس الخازن الذمي وزيرًا مبجلًا موقرًا من المسلمين؛ ومن ثَم عليهم بعد عزل الذمي عن بيت مالنا، إعادة زماننا الذهبي بجواريه وعبيده، بشن الحرب على مانعي الزكاة حتى يمكن سبيهم واستعبادهم، وتطبيق شرع الله بالعقوبات البدنية كالقطع والسمل والذبح صبرًا، إن مفتي الديار يجلس ساكتًا في ديار لا تطبق الدين، لكنه ينفر نفرة لله وللأمة ضد شخص واحد لا يعرف اسمه ولا ما كتبه، إذن هو يريد الوظيفة وليس الله ولا الدين، ثم يجرؤ على تكفير رجل من خيار المسلمين؟
يا عينك يا مولانا!
يا جبايرك يا مفتي الديار!
كان جديرًا بالسائل والمسئول اللذين يبكيان مال المسلمين، أن يقيما مندبة على الصدقات والتبرعات والزكاة التي يدفعها الصالحون سرًّا وطوعًا وحبًّا في أداء حقوق الله، فلا نعلم كيف تذهب لتفخيخ السيارات وقتل الأبرياء وتشويه سمعة الإسلام وتجريسنا عالميًّا بمخازٍ ضد الإنسانية، لا أن يبكيا جائزة لباحث لتفوقه العلمي الذي يسهم به لنهضة وطنه وأهله في هذا الوطن.
إنهم يشترون للإسلام بمال المسلمين مذمة الإرهاب بمليارات تصرف للتخطيط والتدريب وشراء الأسلحة والخبراء والتخفي والانتقال عبر البلدان وشراء سيارات التفخيخ وإعالة أسر الانتحاريين … إلخ. إن جائزتي كانت من مال ضرائب مختلف شرائح الشعب المصري مسلمين ومسيحيين وبهائيين وقاديانيين وشيعة وسنة ولا دينيين، من المال الطاهر الذي لا يزكي نفسه بتزيين الطريق إلى الله بدماء الأبرياء، إنما يجمع ضرائب تصرف لمصلحة الوطن والمواطنين.
إن معركتهم من أجل بيت مال المسلمين تذكِّرنا بأحداث تسوءنا، فبينما سيد القمني لم يسرق من هذا البيت حتى يهبوا له هذه الهبة المُضرية، فإن هذا البيت قد تقاتل عليه الصحابة رضي الله عنهم، فلم يكتبوا كلامًا لا يرضي ذوق مولانا، إنما قتلوا خليفتهم سيدهم عثمان رضي الله عنه، وكان على رأس المتآمرين والقتلة سيدهم محمد بن أبي بكر رضي الله عنه، لعدم عدله رضي الله عن في توزيع الغنائم والفيوء، ومن أجل هذا البيت والسلطان أمر سيدهم معاوية رضي الله عنه بقتل الحسن الحفيد النبوي عليه السلام بالسم، كما أمر أيضًا بقتل سيدهم محمد بن أبي بكر رضي الله عنه ثم حرقوه في جوف حمار ميت، كذلك قام سيدهم يزيد بن معاوية رضي الله عنه بقتل الحفيد النبوي الثاني الحسين عليه السلام والقضاء على البذرة النبوية المطهرة، وقبلهم حاربت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ثم فتنة سيدهم ابن الزبير رضي الله عنه وحرق الكعبة المشرفة، ووقعة الحرة المخزية التي حبلت فيها ألف عذراء من بنات الصحابة رضي الله عنهم بقرار وفعل صحابة آخرين رضي الله عنهم أجمعين، وكل هذه الويلات كما نعرف جميعًا في صحاح تواريخنا كانت من أجل السلطة ومال بيت المال المنهوب من السادة الكبار، ولا يصح هنا القول إن أيامهم كان كل منهم يحارب الآخر في سبيل الله؛ لأنه ما يعني أن الطرف الآخر كافر، بينما كلاهما (القاتل والمقتول) صحابة كرام رضي الله عنهم أجمعين.
زمن الخليفة عمر رضي الله عنه تمت سرقة بيت المال من الخُزَّان أنفسهم وكلهم صحابة رضي الله عنهم، ومن ثبت عليه ذلك كان الخليفة عمر رضي الله عنه يعاقبه بمصادرة نصف ما أخذ (يشاطره إياه)، وممن شاطرهم الخليفة: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأبو هريرة رضي الله عنه والحارث بن كعب رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه، متهمًا إياهم بأنهم «يجمعون العار ويأكلون الحرام ويورثون النار» بسرقتهم مال الله، يقول أبو هريرة: «ولما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه سرقت مال الله.»
فالمفتي والمستفتي لا يريان هذه العظائم، بل يأمراننا بتقديس كل من رأى الرسول ولو لحظة لأنه صحابي ولذلك هم أسيادنا! ويقفون مع جائزة العبد الفقير إلى الله منادين بالويل والثبور وعظائم الأمور، أم تراهما يخوضان كل هذه المعركة اقتداء بالخليفة عمر رضي الله عنه ليتمكنا من مشاطرتي الجائزة وأخذ نصفها مني؟ سيكون هذا جائزًا لو كنت سارقًا، لكني للأسف لم أسرق فلا تجوز لهما المشاطرة حسب قوانين شرعنا، فعلى مستوى الشريعة الإسلامية لا يجوز لهما مجرد طلب رد قيمة الجائزة ولو كانت من بيت مال المسلمين.
إن خُزَّان بيت المسلمين الكرام هم من سرقوه، وضبطوا متلبسين وقبلوا غرم المشاطرة والعزل اعترافا عمليًّا منهم بارتكاب الجرم، وأنا سادتي لم أسرق أحدًا، ولو كان زمن الخليفة عمر توجد معرفة بضرورة تشكيل اللجان الفاحصة لأعمال الولاة، مثل اللجنة التي فحصت أعمالي، لما تمكن الخازن من السرقة؛ لذلك فأي سرقة وفساد في أيامنا هو أقل مما كان يحدث في زمننا الذهبي الماضي بما لا يقارن، لوجود آليات المراقبة والمحاسبة، ناهيك عن الفضح الإعلامي بكل صنوفه، وإذا ما أراد السائل والمسئول استرداد جائزتي فلنسمع منهم فتوى أولى تأسيسية بشأن الخزنة التاريخيين لبيت مال المسلمين، وحكمهم بشأن الدم المسفوك طوال تاريخنا الأسود اقتتالًا على حيازة بيت مال المسلمين، حتى نصدق تحريهم للعدل أساس الدين والملك.
•••
لا شك أن المفتي الدكتور علي جمعة بكل ما لديه من علم بالدين كمرجعية عليا في شئون هذا الدين، يعلم ما نعلمه من بسائط هذا الدين، فنحن نعلم أن نظام القضاء الإسلامي يقوم على ركن أساسي تفسد بدونه أي قضية ويمتنع مع عدم وجوده إصدار أي أحكام، وهذا الركن الركين هو نظام الشهود، حتى أنه وضع لهذا النظام شروطًا واضحة لم تترك شاردة ولا واردة سواء في صفات الشهود أو علمهم أو عددهم أو سلامة حواسهم وذلك لضمان تحقيق العدالة. فالشهادة هي الركن الركين في تشريعنا، صيام مليار مسلم مرهون بشهادة اثنين من المسلمين، إن الله بجلال علمه الكلي يعمل في حساب يوم البعث بنظام الشهود لتأكيد هذا الركن العظيم في القضاء الإسلامي، يوم الحساب لو راودتك نفسك الكذب تشهد عليك أعضاء جسدك، الشكوى لو كانت في دوار العمدة في ريفنا الصعيدي وليس في دار الإفتاء بجلال قدرها، لطلب العمدة الشهود والأدلة.
وفي الموضوع الذي نظره المفتي يوجد عدد كبير من الشهود هم أعضاء اللجنة الفاحصة بوزارة الثقافة من خيرة أبناء الأمة المصرية، والتي صوتت لمصلحة منحي الجائزة، وأقرت استحقاق صاحبها للتقدير من جانب الدولة كباحث علمي حر لا منتمٍ، فهل استمع صاحب الفضيلة إلى هؤلاء الشهود وناقشهم احترامًا منه لشروط الشريعة الإسلامية؟ كلا، لم يفعل! فهل طلب المفتي الكتب موضوع التكفير ليطلع على ما فيها من وثائق قبل أن يصدر حكمه؟ كلا، لم يفعل! هل سبق أن عرف مجتمع أحكامًا تصدر بدون جسم جريمة وبدون أدلة وبدون شهود، كلا لم يحدث! أحكامًا تؤدي إلى الفتن المجتمعية وتهدد السلم الوطني، ناهيك عن تدميرها لسمعة مسلم حسن الإسلام، والتعرض له ولأهله بالأذى والقسوة من المجتمع، في محاكمة تقوم فقط على الثقة المتبادلة بين الشاكي وبين القاضي؟ كلا لم يفعل مجتمع إنساني هذا. كلا لم يعهد تاريخ الإنسانية كله بحث مصائر الناس بالفتاوى، حتى الشعوب البدائية كانت تصدر قراراتها بشكل جماعي بمجلس النخبة أو القبيلة أو الصفوة، بعد بحث الموضوع من جوانبه كافة وسماع جميع وجهات النظر، حتى زمن الجاهلية كان لديهم الملأ ودار الندوة، إن دار الإفتاء بريادة علي جمعة عادت بنا إلى ما قبل الزمن الجاهلي بأزمان. إن الإنسانية لم تعهد الفرمانات الصارمة المدمرة إلا مع شخصيات تأخذ في تاريخ البشرية أسوأ المواقع لما أدت إليه من ويلات وحروب وكوارث من هولاكو إلى هتلر إلى صدام حسين، إلى مولانا!
أم أن صاحب الفضيلة لم يطلب الاستماع إلى الشهود لاحتسابه أن الستين عضوًا باللجنة المانحة لا تتوافر فيهم شروط الشهود العدول؟ ولا يفوتنا هنا تشكيكه في معرفة اللجنة بما في كتبي بقوله: «إن كانت تعلم»! وهو ما يعني أنها في ضميره واعتقاده قد لا تعلم ومع ذلك تعطي جوائز، يعني أنها لجنة فاصوليا، يعني اللجنة عند مولانا شيليني وأشيلك (وعدم الرجوع لشهادتهم اتهام ضمني)، وهو منزلق خطر، خاصة إذا ما اطلع فضيلته على أسماء أعضاء تلك اللجنة وقاماتهم قبل أن يتهمهم لربما تريث في فتواه.
إن ما فعله المفتي لم يسبقه إليه آخر في تاريخنا، فقد قدَّم رأيه دون أي براهين واعتبره محجوجًا وأعلى في أداء القدرة والقوة من أي رأي آخر، حتى لو كان رأي ستين عالمًا متخصصًا، أصدر قراره فرمانًا لم يحقق ولم يدرس ولم يستمع إلى الشهود ولم يعتمد على نصوص موثقة وبدون أدلة، المفتي سمع، فقال. استمع للادعاء ولم يستمع للمتهم ولا للشهود ولا طلب جسم الجريمة وبدون أي دليل أو قرينة، هادمًا كل أركان القضية بفرمان عثمانلي.
يقول المفتي في فتواه: «واللجنة التي اختارت له الجائزة إن كانت تعلم بما قاله من المنشور في كتبه الشائعة فهي ضامن لقيمة الجائزة التي أُخذت من أموال المسلمين.» المفتي هنا متشكك في علم اللجنة المانحة بالتهمة موضوع الفتوى، ولم يبيِّن المفتي موقفه من هذه النقطة هل هو مماثل لموقف اللجنة؛ أي موقف ظني متشكك في دوره لا عالم ولا عارف إن كانت هناك تهمة من عدمه؟ إن صياغة صاحب الفضيلة للعبارة نعني أنه هو واللجنة التي يتهمها سواء بسواء في اللاعلم واللامعرفة، ورغم عدم العلم الذي يفترضه في اللجنة فقد أصدرت قرارها وهي لا تعرف، إذن هي تجامل، وبناء على عدم معرفة اللجنة وإصدارها القرار مجاملة؛ فإنه يمكن للمفتي أن يقدم على إصدار قرار يجرم دون أن يشغل نفسة بمعرفة المسألة، هي تجامل، وهو يجرم، واحدة بواحدة، المفتي أصدر حكمه وهو غير واثق، بناء على احتسابه أن اللجنة بدورها غير واثقة، وأنها بالكامل مسألة مزاحية؛ وهكذا يصبح الحاج خميس شيخ الحارة في بلدنا الجالس على مصطبة من الطين اللبن أكثر عدلًا من الحاج جمعة صاحب الجاه والرفاه والمناصب العليا. هذا بينما واقع ما حدث هو أن اللجنة المانحة تتشكل بنيتها من علماء وأدباء ومفكرين وباحثين قرءوا الأعمال للعديد من المفكرين، وبعد الدرس والفحص اتخذت قرارها لتختار من بين مرشحين كُثر، الأفضل بين الفضلاء، ولو لم أكن جديرًا بها لكان أول الشاكين هم من المرشحين الآخرين الذين لم ينالوها وهم كثر، وهم بدورهم من الجديرين بها، وهم المتضررون من فوزي وليس موقع المصريين ولا المفتي ولا الإخوان.
ومقارنة قرار اللجنة بحكم المفتي يطرد فورًا حكم مولانا من طاولة البحث، حيث مولانا لا يعرف ولم يقرأ ولم يستمع إلى شهود، هو إذن عُملة فاسدة.
غني عن التنبيه هنا أن تدخل رجال الدين في البحث العلمي وتقييمه يعني تفجيرًا تحتيًّا لأسس هذا البحث، وللقيم التي يقوم عليها هذا النوع من التفكير المنهجي، والتي كادت تخلو من بلادنا بسبب سيطرة رجل الدين. فالإفتاء يعيش في وادي الحلال والحرام والطمث والحيض وزواج الإنس من الجن والفيل والصيحة والبراق والنملة وبول الناقة، وهو وادٍ يختلف بالكلية عن وادي التفكير العلمي ومناهجه وطرائقه وشروطه الصارمة بحكم واحد فقط هو الصواب أو الخطأ، وبين الواديين برزخ يفصل بين زمنين مختلفين بالكلية، برزخ فاصل يمتد إلى أكثر من ثلاثة قرون زمنًا، فهما زمنان متجاوران زمن ما قبل المنهج العلمي وزمن ما بعد هذا المنهج، كالمتوازيين لكنهما لا يلتقيان أبدًا مهما امتدا.
•••
ما لا يغيب على المدقق في السؤال والفتوى، الأهداف البعيدة المخفية بين السطور بحيث تفعل فعلها وتقوم بتأثيرها في العقل المسلم عبر التسلل إليه والسكون داخله دون إعلان، وإن وزارة الثقافة كي لا ترتكب مثل هذا الزلل مرة أخرى فعليها الرجوع أولًا إلى أهل الدين لأخذ رأي رجاله في البحوث العلمية والأعمال الأدبية والفنية.
يريد السائل أن يجعل رجل الدين هو المرجعية الوحيدة والعليا للأمة المصرية أفرادًا وجماعات ووزارات (بالنظر إلى موقفه من وزارة الثقافة)، يريد توحيد السلطات جميعًا في يد واحده تلبس مسوح المقدس إذا افتدينا بها اهتدينا، ليقرر رجل الدين ما يجب وما لا يجب، ما نكتب وما لا نكتب، بفرمانات غير قابلة للمناقشة، حتى لو كانت الموضوعات مجال الفرمان هي علمية بامتياز وتخصصًا وجدارة، موثقة تعتمد المناهج العلمية الكبرى التي اكتشفتها البشرية في آخر منجزاتها، ورغم ذلك فهذه الموضوعات لا تعطي نفسها عصمة الصواب المطلق، إنما هي بطبيعتها تخلق اختلاف الرأي حولها جدلًا ونقاشًا قبولًا ورفضًا، بعكس فرمانات رجل الدين المقدسة التي لا تحتمل رأيين. فرمانات لا تسمح لنا بحق أن نفكر، وحق أن نخطئ لنتعلم من الخطأ؛ لأن الخطأ غير مسموح به فهو خروج على الأمة وخيانة لها لمصلحة المتربصين بالإسلام؛ فالدين لا يعرف إلا الحلال والحرام، الطاهر والنجس، الإيمان والكفر، الهدى والضلال، بعكس العلم الذي لا يعرف غير البراهين والأدلة والصواب والخطأ وحدهما.
ونلحظ بشدة قوله عن مدى جواز أن تقوم (لجنة)، دون تعريف بالألف واللام، قاصدًا مفهوم اللجان نفسه وتعميمه على كل اللجان التي تتخذ فيها القرارات بمشاركة ومناقشة ودرس، فليس هؤلاء هم المخولين بمنح الأوسمة التقديرية لأنهم لا يعملون وفق الحلال والحرام؛ لذلك فالفتوى تحتوي ضمنًا على تحريم عمل اللجان عامة وإحلال الفتوى محلها.
المخفيات المسكوت عنها تفصح عن نفسها فالسؤال يتحدث عن هجوم على الإسلام في كتب (بدون تعريف) مطبوعة ومنشورة ومتداولة، ليوعز بالخطر الكامن في الكتب عمومًا، والذي يقتضى مرورها أولا على المشايخ ليتم التصريح بطبعها ونشرها من عدمه.
إن أي تأمل بسيط في كل هذه الهجمة الشرسة سيكتشف أن الأمر لا علاقة له ببحث علمي أصاب أو أخطأ، أو جاءت استنتاجاته وأداؤه وأدواته غير مرضية للبعض ومنهم السائل والمجيب، أو على أسوأ الظروف غير صائبة وهو حال العلم البشري الذي يحتمل الصواب والخطأ دومًا، القضية هي انتهاز الفرصة بهذه الجائزة، وتجريمها لإسكات العقول المفكرة والراغبة في تفعيل وعي الأمة المصرية ونحرها إن أمكن، الهدف الأكبر والأبرز هو حظر البحث العلمي بكل أشكاله وألوانه ومناهجه. والسائل من بدء رسالته المستفتية، يرجو المفتي أن يكون رقيبًا على أعمال اللجان العلمية، وأن يكون رقيبًا على ميزانية الدولة وأوجه صرف الدخل القومي، وهو حشد للسلطات بيد رجل الدين لم يسبق أن في حدث في تاريخنا من قبل ولا حتى زمن الراشدين، حدث مع النبي ﷺ وحده فقط أتراهم يرون أنفسهم أكفاءً له وأندادًا؟!
تنجلي الأهداف متسلسلة؛ فالواضح أن المستفتي لا يطلب بسؤاله المعرفة، هو يعلم أن هناك من سبَّ النبي والإسلام في حياة النبي، هو لا يطلب علمًا، فالإجابة واضحة للأعمى، لكنه يطلب هياجًا شعبويًّا بتصوير دين الإسلام ضعيفًا مهزولًا يتطاول عليه سيد القمني وغيره ليهت له المسلمون غيرة ونصرة.
واتباع السائل والمسئول تكتيك عدم ذكر اسم المتهم، إنما يهدف إلى التعميم على هذه الحالة وعلى كل الحالات المشابهة، من أفكار أو طرائق تفكير جديدة أو مختلفة عما اعتادوه؛ لأنه لو تم التشخيص والتسمية لكان الجرم أهون، أما عدم التعميم المقصود يجعل الفتوى عامة تخويفًا وإنذارًا له ولغيره ولمن صوَّت لجائزته ولمن يفكر في ذلك مستقبلًا. وكي تتم إحالة أي شأن إلى رجل الدين تتم إدانة نظم التصويت باللجان وورش البحث، من يلجأ يجب أن يلجأ إلى المفتي، إلى رجل الدين؛ أي أن المسألة ليست قاصرة على سيد القمني، إنما انطلاقًا منه لقيام سلطة رجال الدين التامة وإسكات أي صوت مخالف؛ ومن ثَم إلغاء البحث العلمي تمامًا، لجعل رجل الدين المرجعية العليا للأمة المصرية. السائل والمجيب يرسمان خطة ما يجب أن يكون. إذا كان حكم من يسب الدين معلومًا بدقة فإنه لا يكون للاستفتاء هدف معرفي، إنما أهداف ضمنية في تمثيلية ساذجة هزلية لتعويد العقل المسلم وتدريبه على العودة إلى رجل الدين، وعدم استخدام هذا العقل حتى في البسائط الهيئات المتوافية، وتكريس التبعية واستجلاب التحريض والسب والتكفير من جهة رسمية حكومية، وليس جهة سماوية؛ فالختم ختم النسر وليس ختم السماء، ختم يعبر عن سلطة دنيوية تلبس زيًّا سماويًّا، فتكون هي الدكتاتورية المثلى والنموذج التمامي للفاشية، فلا حكومة دولة مدنية تحكم ولا الرب بنفسه هو من سيحكم، إنما شخص من لون السائل والمسئول.
يبقى هدف أخير ضمن الأهداف المتضمنة بين السائل والمسئول، ألا وهو الضغط مقدمًا وسلفًا على قرار القضاء فيما هو مرفوع من قضايا بشأني، إحراجًا للقاضي وسد المنافذ أمامه؛ لأنه إذا كان رأي ربنا موجودًا في القضية فماذا سيقول القاضي أمام حكم الشرع؟
هنا سأحيل القاضي على كتاب الله تعالى ليرى كيف أن المنصب الفتوى والورع والخشوع ليس علامة الطهارة والصدق المطلق، أحيله على قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (الغاشية: ٢–٤)، وأنه قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (المائدة: ٢)، وربما إن استزاد أحلته على أحاديث النبي ﷺ: «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام»؛ لذلك كان تساؤل المسلمين حول حديث النبي: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» عن كيفية نصرته ظالمًا، قال ﷺ: «تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره.» وهي كلها نصوص مقدسة يعلمها المفتي والمستفتي، ورغم ذلك لم يحجز المفتي أخاه الظالم عن ظلمه، بل مشى معه ليعينه وهو يعلم! ليتعاونا على الإثم والعدوان!
القانون المدني في هذه الحال يمكن أن يدين ما فعل المستفتي والمفتي معًا في خرقهما لكل قوانين العدل في الدنيا كلها؛ لذلك أقترح على السائل والمسئول ألا ينتظرا إدانة المحكمة المدنية لكليهما، خاصة أني لن آلو جهدًا في السعي لحبس معظم أطراف الهبة التكفيرية، وقد تطوعت بمال هذه الجائزة جميعه في سبيل هذه المُنى ومن أجل تلك البهجة وذلك السرور، ليذوقوا نتائج بعض عبثهم؛ لذلك أقدم لهما النصح مخلصًا أن يقدما نفسيهما للمسلمين كمسلمين صادقين قولًا وفعلًا، ويظهرا أنهما أفضل إيمانًا من سيد القمني ومن لجنة وزارة الثقافة وأي لجان أخرى، تعاليا أدلكما على طريق النجاة، فأذكركما أن الغامدية أصرت على الاعتراف بمخالفتها للشرع وطلبت القصاص حتى رجمت، وحتى قال النبي ﷺ عنها: «لقد تابت توبة لو وزعت على الناس لوسعتهم جميعًا.» فهل السائل والمسئول من الملائكة؟ ألم يرتكبا أي جرم ناهيك عن جرم هذه الفتوى الكارثية، لماذا لا يتقدم السائل (الذي سخَّر موقعه لسب سيد القمني وتكفيره وتدعيره لمدة تزيد عن الثلاثة أشهر) إلى الحاكم ليكسب نيشان الغامدية ويقول إنه سب مسلمًا حسن الإسلام هو القمني ظلمًا وزورًا، وأنه يطلب توقيع العقوبة على نفسه، أو ليستخرج من حياته مأثمة واحدة ليكون كالغامدية، لنروي بعدها رواية جمال سلطان الغامدي إلى جوار رواية الغامدية المُؤسِّسة، وحتى يكون في تاريخنا أكثر من غامدية واحدة مفردة، ليشرف الإسلام بغامدي جديد بعد أن غاب الغامديون من تاريخنا الإسلامي أربعة عشر قرنًا، وكذلك أن يذهب فضيلة المفتي إلى رئيس الجمهورية ليعترف ببعض آثامه البشرية ويطلب التشهير به ومعاقبته وتجريسه على ملأ كما فعل ماعز، أم أن كل رجال الدين من الأطهار ليس فيهم غامدي ولا ماعز عبر القرون السوالف؟ هل رأينا غامديًّا واحدًا بين الجماعة الإسلامية التي قتلت الأبرياء بالرسوخ في الدين وعادت للمراجعات بالرسوخ في الدين، معترفين بخطئهم في الفهم الأول الدموي ودون أن يعيدوا للقتلى حياتهم بالفهم الثاني؟ لماذا لم يفعل أحدهم فعل ماعز أو الغامدية؟ أم أن الأحكام عند المشايخ تجب فقط على غيرهم من الرعية ولا تنطبق عليهم لأنهم السادة المسلمون وحدهم؟ إن العدل هو أن يبدأ السائل والمسئول بنفسيهما لنتأكد أن إيمانهما ليس إيمان مستوى معيشي رفيع أو نفع دنيوي أو كرسي منصب، وإنما إيمان يؤمن به القلب ويصدقه العمل والفعل وليس الخطابة الرنانة والكراسي الفخمية ودنانير الفضائيات وبيزنس كل ألوان الإسلام السياسي. فهلا سمعنا قريبًا من رجل دين مخلص لإيمانه يطلب من الحاكم أن يقطع يده، أو يجلده أو يرجمه؟! أم أن جميع رجال الدين هم من المعصومين من الخطأ والذنوب وبقية المسلمين هم من الخطَّائين؛ لذلك يملكون حق الدوس على رقاب الناس يسبون هذا ويلعنون ذاك ويطردون آخر من رحمة الله، وكأن جنات عدن قد أصبحت عزبة خاصة بهم يملكون وحدهم مفاتيحها، أبدا والله لا نصدقكم، ولا تقبل أحكامكم على عباد الله، ولا نصدق غيرتكم على إسلامنا، حتى نرى من بينكم غامديًّا جديدًا، أو لتكتفوا بمغانمكم، وتصمتوا وتخرسوا وتخرجوا من دماغ الأمة، حتى تصح وتتعافى وتلحق بأشقائها في الإنسانية، حيث نور العلم والحقوق وإشعاع الحضارة القاتل لجراثيم التخلف وعفن المقبورين.