أوباما
آثرت الانتظار حتى تهدأ توابع الهزة التي أحدثها خطاب أوباما وتزول الدهشة وردود الفعل الأولى وازدحام وجهات النظر أخذًا وردًّا، موافقةً وتنديدًا. وقبل أي تحليل أو تفكيك لعناصر الخطاب الأوبامي، يجب ألا ننسى أن دور الرئيس الأمريكي في المنظومة الإدارية الأمريكية هو أحد الأدوار وليس كلها وربما ليس أهمها، وأنه لا يستطيع أن يخرج على قواعد التكتيك والاستراتيجية التي تساهم فيها مؤسسات وهيئات هذه المنظومة، ولا يكفي تأثيره بمفرده لتغيير قاعدة واحدة من قواعد اللعبة السياسية والإدارية، أو حتى مجرد التفكير في ذلك.
وأيضًا لا بد من الاعتراف بأن أوباما خطيب من نوع نادر، لاختياره الدقيق للغة هذا الخطاب التصالحية مع الظهور بتواضع جم، بما يلمس أوتارنا العاطفية ويدغدغ وجداننا، باستخدام آيات قرآنية بما يعني أن الرجل يفهمنا ويعرفنا حق المعرفة ويعرف طريقتنا في التفكير ويعلم سلفًا أننا أقوال دون أفعال، وعواطف يختفي معها العقل المنطقي وتضيع المصالح، رجل عرف لغونا وكيف يلغو لنا بكلام يوافق هوانا.
وكثيرًا ما تمنى صاحب هذا القلم سد الفجوة في الفهم بين المسلمين والعرب من جانب وبين الغرب من جانب آخر، خاصة بعد لقائي بعد سبتمبر ٢٠٠١م أكثر من مسئول غربي رفيع المستوى، وهي اللقاءات التي أشعرتني بمدى خطورة هذه الفجوة، فلا هم يفهموننا ولا نحن نفهمهم، كما لو كنا نوعين مختلفين من البشر سلاليًّا وعرقيًّا وعقليًّا. تمنيت أن يستطيع الغرب وخاصة الأمريكي أن يفهم أن لنا لغة خاصة في فهم الدنيا، وردود فعل من نوع خاص، وأن دلالة اللفظ عندنا لا تحتوي على دلالة اللفظ نفسها عندهم، وأن ما يحمله التعبير اللفظي من تاريخ ومحتوى معانٍ تعود بتحميل دلالاتها إلى مدى يزيد عن أربعة عشر قرنًا للوراء، وأن ذلك ما يزال حيًّا في فهمنا ولغتنا ومنطقنا البدوي البدائي العاطفي، ويختلف بالمرة عن تاريخية اللفظ نفسه ودلالته عندهم، وشرحت هذا باستفاضة في محاضرتي عام ٢٠٠٦م بمعهد هدسون بواشنطن دي سي، وهو واجهة لوزارة الخارجية الأمريكية لتقصي آراء المفكرين والعلماء والرؤساء والمتخصصين والخبراء وغيرهم في مختلف القضايا التي تشغل الرأي العام العالمي.
وتمنيت أن يحدث ذلك أيضًا من جانبنا؛ لذلك كانت سلسلة كتاباتي المتتالية لمحاولة شرح وتوضيح كيف نفكر وكيف ينبغي أن نفكر إذا أردنا لهذا الغرب أن يفهمنا ويتفاعل مع قضايانا بثقة. لنستطيع أن نخاطبه بلغة متفق على دلالتها سلفًا حتى يكون الحوار مفهومًا. وتكون لدلالة اللفظ عندي المعاني ذاتها عنده، وأن مبادئ المنطق التي يحتكم إليها هي مبادئ المنطق ذاتها التي أحتكم إليها؛ لأن مسألة الفهم هذه وتلك تعاني خللًا حادًّا بين عالم العرب والمسلمين وبين الحضارة الغربية، وهو خلل تاريخي تحدث به الركبان حتى قيل مع اليأس من التفاهم في المثل السائر «الغرب غرب والشرق شرق كحركة الشمس ليلًا ونهارًا لا يلتقيان.»
لذلك أقول إن باراك يفهمنا جيدًا لذلك لبس لنا ثوب الواعظ الشيخ باراك بن حسين آل أوباما حفظه الله ورعاه هو ومن يلوذ به، ليعلن كيف يعرف لغونا وكيف يلغو لغونا بما حمله لخطابه من دلالات نعرفها ولا نعرف غيرها، وجاءت أمنيتي بفهم الغرب لنا، بعكس الهدف المرتجى منها، فها قد جاء من يعرفنا ويفهمنا وعاش وسطنا وجيناته من جيناتنا، ويعرف كيف نفكر وما هي ردود أفعالنا، ولكن ليس من أجل خلاص شعوبنا مما هي فيه من تخلف وجهل ومرض وفساد اجتماعي معمم وحكومي علني واستبداد وقمع واستعباد، كلا الرجل ليس مشغولًا بهذا بالمرة، إنه لم يأتِ ليخلِّصنا، لكنه جاء مخلِّصًا لأمريكا من عثرتها في بلادنا ولتحييد شرنا عنها، بتكاليف أقل من تكاليف طريقة الحزب الجمهوري الأمريكي بما لا يقارن، وفي وقت تستفحل فيه الأزمة الاقتصادية العالمية.
لطفاء القوم من مشايخ الفضائيات التي تمطرنا مشايخ، تفاءل بعضهم بأصول أوباما الإسلامية وأنه ربما يقود شعبه الأمريكي إلى الإسلام لنعود هم ونحن بنعمة الله إخوانًا، وتحل المشكلة بسيادة الإسلام للعالمين كشيخ القبيلة تتبعه قبيلته، أو بما يشبه عزة الإسلام بأحد العمرين.
هذا بينما كنت في تفاؤلي أرتجي أن يشارك ذلك الغرب المتقدم الحر العلمانيين العرب في البحث ووضع الخطط العلمية المدروسة على المستوى العلمي والثقافي والإعلامي والتعليمي وحده، لإحداث هذا التقارب مع ضغوط تقوم بها مؤسسات الحريات والمجتمع المدني الدولية على الحكومات المحلية كلما وقعت مخالفات في بلادنا للحقوق الإنسانية، وللنهوض التنموي بالمنطقة، للانتقال الهادئ والسلمي ببلادنا إلى مجتمع كامل المدنية، فإذا بأوباما يستخدم معرفته بنا لتكريس الأوضاع القائمة، وإعطائها شرعية استمرارها كما هي، بموافقتنا ورضانا بعدد مرات التصفيق في القاعة. هذا إذا تذكرنا أنه لم يخاطب المسلمين من دولة مسلمة خالصة الإسلام كالسعودية، ولا من دولة مسلمة ديمقراطية مثل موطنه الثاني إندونيسيا أو جارتها ماليزيا، لكنة اختار القاهرة التي يحكمها نظام شبه مدني جذوره وتوجهاته دينية دومًا وقومية أحيانًا.
لوحظ أيضًا ولع الشباب العربي والمسلم بأوباما وبخطابه، وقد فطن أوباما لذلك وأعلن الشباب همًّا أول له، مع زيارته الشبابية المرحة المتواضعة للأهرامات؛ مما أدى للولع بالنموذج الأمريكي، وهذا في حد ذاته أمر محمود أن يكون رجل ناجح مثل أوباما مثلًا أعلى لشبابنا. وهو ما سيؤدي لمحاولة التعرف على النموذج الغربي، ومن جانبه تمكن حسين أوباما من تألف قلب الشارع المسلم مع بعض المثقفين دون بعضهم، فقد اختلفوا حول هذا الخطاب وظروفه اختلافا بائنًا؛ ومن ثَم فإن أهم مكسب حققته هذه الزيارة لنا وللأمريكان هو إعادة النظر في كون أمريكا هي الطاغوت الأعظم الإمبريالي، وإعادة النظر في فرض كاد يكون إسلاميًّا ووطنيًّا، وهو كراهية أمريكا كفرض واجب دونه الخيانة والكفران.
ونموذجًا لاختلاف المثقفين رأى الدكتور «مصطفى الفقي» أن اختيار أمريكا القاهرة للخطاب هو إقرار بمكانة وحجم مصر في المنطقة للدور الحضاري والتاريخي ومكانة الأزهر بين غالبية المسلمين في العالم، وكذلك السياسة المعتدلة التي تنتهجها القاهرة، وجعلت القاهرة تحظى بشرف هذه الزيارة، وهو الرأي الذي ردده كل من التيار الإسلامي والتيار القومي، «فهمي هويدي» نموذجًا للتيار الإسلامي رأى أن خطاب أوباما ما هو إلا محاولة من النظام الأمريكي الجديد لمساندة حلفائه من دول الاعتدال في المنطقة ودعم أنظمتها، وأنه يريد الحصول على ماكياج من القاهرة للسياسة الأمريكية التي لا تتغير ثوابتها، بينما ترغب مصر في الحصول على دعم معنوي من أكبر قوة في العالم لكي تستطيع استعادة دورها وضمن ذلك الوريث القادم. ولك أن تعجب من مدى التوافق عندما نجد التيار القومي الناصري يردد المعاني نفسها، فيقول «عبد الله السناوي» إن رأيًا مثل رأى الدكتور الفقي يخلط الأوراق بين مصر التاريخية ومصر الرسمية، وأوباما اختار مصر التاريخية ليتحدث من منصتها، دون أن يخطر بباله أن الثانية سوف تحاول دبلوماسيتها وإعلامها تسويق الزيارة باعتبارها فتحًا لا مثيل له في التاريخ المصري، يؤكد شرعية النظام وسلامة اختياراته الداخلية، وأنه ليس هناك دولة تحترم نفسها تعتبر زيارة رئيس دولة أخرى مما يُضفي شرعية على نظام الحكم فيها، أو يؤكد أدوارها في محيطها؛ فالشرعية مصدرها القبول العام والأدوار التي تصنعها السياسات وليس الادعاءات.
لاحظت أن المشترك الواضح في كل ردود الفعل قيامها على خلفية من المثل الشعبي المصري «أسمع كلامك أصدقك، أشوف عمايلك أستعجب!» مع حضور هذا المثل وتكراره في معظم ردود الفعل؛ فالمشترك توافق على سؤال لا جواب عنه على الأقل هذه الأيام وربما تجيب عليه الأيام القادمة، السؤال: هل يتحول هذا الكلام إلى فعل على أرض الواقع؟
الرجل يعرفنا جيدًا ويعرف كيف نفكر؛ لذلك تابع رحلته من القاهرة إلى القارة الأوروبية ليعلي من رصيد الاهتمام بالدولة الفلسطينية المستقلة ووقف بناء المستوطنات، ليؤكد للمسلمين أنه صحب القول فورًا ببدء الحشد من أجل الفعل بضغوط دولية على إسرائيل.
•••
رد الفعل العربي كله كان قد ركز على إمكانات أوباما الضغط على إسرائيل، ووسط كل هذه الهموم القومية والدينية لم أصادف من تذكر وجوب الضغط على ماكينات فرز الإرهاب في قنواتنا الفضائية الإسلامية ومعاهدنا الدينية، لم يتكلم أحد عن الضغط لوقف العمل بأحكام إسلامية بحاجة لإعادة اجتهاد ونظر. كما في ميراث المرأة أو ولايتها على نفسها في أضعف الإيمان التي لا تملكها ولا على نفسها حسبما يدرس أزهرنا شبابنا في معاهده، ومن يزوِّجها هو وليها ولو كانت طفلة رضيعة، فإن زوَّجت نفسها بعد عقل ورشاد فهي زانية. لم أقرأ لأحد يتكلم عن ضغوط من أجل إيقاف العمل بعقيدة الولاء والبراء التي تترتب عليها أحكام هي الكراهية المطلقة للمختلف عنا وتصل إلى حد التخلص منه بقتله، وهي مشترك أصيل بين كل ما يدرسه أبناؤنا في معاهد الأزهر سواء في مواد الحديث أو الفقه أو التفسير، أو عقيدة الجهاد التي تعتبر غير المسلم مستباح الدم والعرض والمال، ولا ألمح أحدهم استجابة لليد الأمريكية الممدودة وعلى سبيل إثبات الجدية وحسن النيات إلى وجوب رفع المواد الدينية بالدستور، والتي تميز بين رعية هذا الدستور حسب معتقداتهم، ولا وجوب الضغط من أجل حقوق الإنسان التي يهددها أول ما يهددها الدستور نفسه في مادته الثانية مع قانون طوارئ أبدي.
لهذا كله وفي ظل المناخ الذي كان لا يزال ساخنًا بعد خطاب أوباما مباشرة لم تفتني تصريحات «عصام دربالة» قيادي مجلس شورى الجماعة الإسلامية، ومطالبته حركة طالبان والقاعدة بالتعامل مع هذا الخطاب بشكل عملي حتى تغادر أمريكا المنطقة؟ (عايزين يستفردوا بينا). وأن خطوة البداية السليمة حتى يمكن هذا التعامل هي الإعلان الفوري التوقف عن استهداف أمريكا عسكريًّا، إن دربالة يعرف ما يقول، وهو ما أرى وراءه رؤية ثاقبة تنطوي على قراءة المستقبل المتوقع من هذا الخطاب التاريخي، فأمريكا ستتعامل مع الأنظمة القائمة أو مع أي بدائل حتى لو نقيضة تحل محلها، طالما الصداقة الأمريكية الإسلامية قائمة بما يحمي المصالح الأمريكية؛ وهكذا تكون ريمة — أقصد أمريكة — قد رجعت لعادتها القديمة. أما نحن شعوب هذه المنطقة فلسنا في الموضوع أصلًا، نحن الفريسة ليس أكثر. حتى الصوت العلماني ممثلًا في صديقي لورد العلمانيين العرب «طارق حجي» جاء يردد طلب الجميع بتفعيل الكلام، «وأن سمة خطاب أوباما كان التوازن في تناول كل موضوع: الإسلام، الصراع العربي الإسرائيلي، علاقة الولايات المتحدة بالعرب المسلمين، التعليم، المرأة، حقوق الإنسان، التنمية، إيران، القدس …» نعم وصدقًا كانت سمة الخطاب هي التوازن، لكنه توازن الرعب والفزع من الآتي على مستوى الشعوب، وليس على مستوى قضايا الأمة العزيزة قوميًّا ودينيًّا، فإني مطمئن أن السعي لتهدئة المشاعر وتصفية الخواطر على قضايانا العاطفية سيكون حثيثًا فعلًا، وهو ما سيرضي الشعوب الإسلامية والحكومات الإسلامية ويبقي الجميع في سمن على عسل. بدا لي صديقي طارق متفائلًا بهذا الخطاب وتمنيت أن يكون تفاؤله محل نظر من القدر، وألا يكون المخبوء في رحم الأيام موجبًا للتشاؤم، لأني شخصيًّا مصاب بالأسف على حلمنا بدولة مدنية حديثة، وأتوجس خيفة وأظن أن التوجه الأمريكي الجديد جاء قبل مجيء أوباما إلى الرئاسة بعد تجارب الصومال والأفغان والعراق بالذات، وهو الانعتاق من منطقتنا بأقل قدر من الخسائر مع ضمان المصالح الأمريكية، وجاء أوباما ليكرِّس الموقف الجديد وينفِّذه؛ وهو ما يعني أننا سنعاني أكثر من أجل الوصول إلى الحلم الليبرالي الذي يتسرب من بين أيدينا برئاسة أوباما واحتمال استمرار الخط ذاته من بعده، بعد رد فعلنا واستقبالنا لإسقاط طاغية العراق وإحقاق الحريات والحقوق في العراق وفي أفغانستان، بمذابح يذبح فيها بعضنا بعضًا، وهو ما تكرر في الديمقراطية الفلسطينية والديمقراطية السودانية، والديمقراطية الأفغانية … إلخ.
المصيبة ليس في الانسحاب العسكري فهو مطلوب لتهدئة التوتر، المصيبة في الانسحاب الكامل ونفض العالم الحر يديه منا يأسًا من إمكانية قدرة شرقنا على قبول الحداثة، وهو ما يبدو لي أنه يحدث الآن، لتركنا في فوضانا الخلاقة حتى تصفي النار بعضها بعضًا دون تدخل، فتكون بلادنا حلقة مصارعة حرة كبيرة يقتل فيها السني الشيعي، ويقتل الشيعي المسيحي، ويقتل المسيحي الأرثوذكسي المسيحي الإنجيلي، وتقتل الحكومات الجميع وقتما تشاء، حتى تصفو النار عن رماد خامد غير ضار، أو أن يخرج البعض من هذه المحرقة إنقاذًا للبقية الباقية بعقد اجتماعي مدني جديد يسمح لنا باللحاق بركب الحداثة الإنسانية الذي غادرنا فعلًا منذ عقود.
•••
ووسط هذه التحولات المتسارعة لا ننسى أن الإرهاب وإن كان إسلاميًّا، وإن كان فرزًا لموادنا الدينية ومشايخ الفضائيات؛ فإنه في بدئه القريب كان هندسة أمريكية وتمويلًا وتنفيذًا عربيًّا وإسلاميًّا بتعاون معلوم ومنشور الوثائق، تصديًا للشيوعية والمد السوفييتي. وهو ما أكده بريجنسكي بقوله لصحيفة لونوفيل أوبزرفاتور ١٩٩٨م: إن الأمريكان خططوا لاستدراج السوفييت للخيار العسكري في أفغانستان، وأنهم من أسس للصحوة الإسلامية، وأنهم هم من صنع القاعدة، وأنه ليس نادمًا على دعمه للتطرف الإسلامي الذي استقل عن سادته وأربابه وبدأ يعتدي على مصالح أمريكية هنا وهناك؛ لأن الأكثر أهمية وقتئذ كان هو إسقاط الإمبراطورية السوفييتية وإنهاء الحرب الباردة وتحرير أوروبا الشرقية، وليست طالبان والهائجون الإسلاميون إلا مجرد أعراف جانبية يمكن التخلُّص منها. إلى أن ضربت الأعراض الجانبية وهؤلاء الهمج الهائجون مانهاتن والبنتاغون في مشهد جعل كل ما شاهدناه من خيال هوليود لونًا من الصناعة الخفيفة المتواضعة بل جعلها سقيمة الخيال، إزاء خيال بن لادن الإبداعي ومهندس القاعدة الرهيب.
هذا ناهيك عن فشل مشاريع السلام في الشرق الأوسط وهو القضية الأعز على المسلمين، إضافة إلى دعم أمريكا العلني الدائم لإسرائيل؛ مما أعطى المتطرفين المسلمين أسباب تطرفهم وشرعيتهم في الوجود في نظر الشارع المسلم، كرد بديل عن الحكومات الإسلامية مكسورة الجناح، المسكينة بنت السبيل، وأنهم يؤدون بذلك فرضًا إسلاميًّا معلومًا من فروض الكفاية هو الجهاد.
ومن ثَم بدت تلك الحركات المسلحة أنها الأمل الوحيد الباقي للدفاع عن الحقوق العربية والانتقام للمسلمين واستعادة الأرض المحتلة وإقامة دولة إسلامية منيعة، ولا سبيل لهذا الحلم سوى الإسلام كحل خلاصي وحيد بإقامة الدولة الإسلامية في أي مكان على الأرض ومنها تبدأ الفتوح، ومن يقوم بذلك إنما يجاهد في سبيل الله وكرامة المسلمين ودينهم. هذا مع تغافل رؤية المسلمين لدولة الفتوح الإسلامية الطالبانية وما جلبته من كوارث محلية وعالمية.
إن الاستخدام الانتهازي للإسلام لتحقيق مصالح ومنافع مادية دنيوية بحتة شأن عرفناه في مشايخ الصحوة الذين أساءوا إلى المشيخة الرصينة الراسخة وإلى الإسلام نفسه، قياسًا على احترام هذه المشيخة وتبجيلها قبل ظهور مشايخ الصحوة في نظر كل الناس. ويبدو أن الرئيس الأمريكي بعد أن ولد في ثقافتنا وعاش بيننا وعرف طرائقنا وفهم أقصى أمانينا ومنطقنا فهو ابن منطقتنا التي هي جذوره ونسبه، من هنا لبس مولانا باراك بن حسين آل أوباما ثياب الواعظين رعاه الله وحفظه، آمين، ولجأ إلى طرائقنا ومناهجنا في التفكير للمصالحة وتجميل الوجه الأمريكي للمسلمين؛ ومن ثَم بدأ بالسحر الإسلامي الذي ينتشي له المسلمون ليشعرهم أن إسلامهم قد غزا البيت الأبيض في فتح ميمون، وعليه فلا داعي لإعادة الفتوح والغزوات المباركة على أمريكا مرة أخرى. لقد طمأن المسلمين رغم إعلانه مسيحيته في بداية الخطاب أنه يفهمهم بل إنه منهم. الرجل يعلم جيدًا مفاهيم شعبنا مسلوب الوعي الذي يتصور أن المسيحيين يعلمون جيدًا أن الدين هو الإسلام كأصح الأديان لكنهم لا يعلنون ذلك كيدًا وغيظًا ويعضون علينا الأنامل حسدًا وكمدًا، مع الهمس اليقيني بين المسلمين أن (معظمهم مسلم بس في السر)! فلماذا لا يكون أوباما هكذا وأنه إنما يمارس قاعدة إسلامية وعقيدة راسخة هي التقية؟ وهي المبدأ الذي لخصه وشرحه المثل الشعبي المصري: «إن نزلت بلد بتعبد العجل حش برسيم وإرميله.» (يعني ضعه أمامه)، وهو ما يعني أنه ربما يمارس التقية معنا وليس معهم، بيحش البرسيم لنا وليس لأمريكا.
ولأن الرئيس الأمريكي قد اختار لخطابه هذا المستوى، فقد فتح بذلك القول لأهل الدين فيه، وفيه أكثر من طرفة وفيه أيضًا أكثر من كارثة. على سبيل المثال: لم يرَ الإيراني الدكتور محمد علي مهتدي (قناة الجزيرة) في أوباما أكثر من مسلم مرتد؛ وهو ما يعني أنه لو كان إسلامنا كمصريين صحيحًا لانتهزنا الفرصة للقبض على أوباما في القاهرة مع استتابته ثلاثة أيام في سجن الواحات أو القناطر مثلًا أو ربما في لاظوغلي ليتعرف على سلومة الأقرع، أو يفيء إلى الله ويعود عن غيه المفتون إلى رشده ويتوب، أو نطيح برأسه على ملأ من عامة المسلمين وخيار علماء الأزهر ودار الإفتاء، وليكن في ميدان التحرير مثلًا؛ لأن ذلك حق الله والأمة الشرعي، وكونه على أرضنا فهو ما يعني خضوعه لقوانيننا وهي قاعدة دولية متعارف عليها، إضافة إلى مكسب تفعيل المادة الثانية بالدستور مما يؤكد تمسكنا بالقيم الدستورية وبالإسلام في آن واحد، أم نحن قادرون وفاجرون وأسود ضوارٍ فقط مع بني مصر وأهلها من أقباط وشيعة وبهائيين وقاديانين وحقوقيين وليبراليين ولا دينيين، إلى آخر الأقليات المصرية المتناثرة.
إيراني آخر يعيش في المهجر هو أمير طاهري عرف لغز أوباما بعد بحث دقيق في التراث الشيعي، فعثر في كتاب بحار الأنوار لمحمد باقر المجلسي الصفوي على حديث للإمام علي عن علامات ظهور المهدي المنتظر، ومن تلك العلامات أن رجلًا أسود سيملك في جهة الغرب، وسيقود أقوى جيش في الأرض قبل ظهور المهدي مباشرة، والاسم باراك هو بارك؛ فهو بارك حسين أوباما، وتعني في العربية والفارسية والعبرية (مبارك الحسين)، أما (أوباما) بالفارسية فتعني (إنه معنا)، وإعمالًا لذلك فلا شك أن الرئيس أوباما هو أحد الأوتاد التي تظهر قبل المهدي نبوءة بقرب ظهوره، وأنه قريبًا سيكون معنا، فرَّج الله كربه وعجل ظهوره!
لأهل السنة رأي آخر، فقد روي عن الصحابي تميم الداري وهو من بيت لحم بالخليل، أنه طلب من النبي إن فتح الله فلسطين للمسلمين أن يعطيه مسقط رأسه بيت لحم ومقام إبراهيم، وفي خلافة عمر نفذ له عمر وعد النبي، وعاش آل تميم في الخليل حتى اليوم (التمايمة). وقد حدَّث هذا الصحابي أن جفاف بحيرة طبرية وجفاف نخل بيسان يؤذنان بقرب ظهور المسيخ الدجال، ومن صفاته في الحديث النبوي أنه أجعد الشعر ويقيم في جزيرة بعرض البحر، وباراك أوباما مولود في جزيرة وهو أجعد الشعر ويستطيع الزعم أنه مسلم ومسيحي ويهودي، فأبوه مسلم، وباراك تنصر، ثم لبس القبعة اليهودية في زيارته للقدس. كذلك جاء في قدرات المسيخ الدجال أن بإمكانه أن يطأ الأرض جميعًا، وهي قدرة أي رئيس أمريكي بجيوشه، وعليه فإن باراك حسين أوباما هو المسيخ الدجال عدو المهدي المنتظر الذي سيخرج من بلاد المسلمين ليقتل المسيخ الدجال ويكسر الصليب ويذبح الخنزير، وكسر الصليب يحدث الآن كل يوم في العراق ومصر وباكستان وغيرها بحمد من الله ونعمه، وإن ذبح خنازير مصر قبل وصول أوباما مباشرة يشير إلى قرب تحقق هذا كله، وبعدها تقوم القيامة.
ولو بحثنا عن رد مشيخي بعيد عن فانتازيا الخيال الديني يقرأ الموقف برصانة، فلدينا من وقف مع الآية التي دلل بها أوباما على سماحة الإسلام مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وقال هؤلاء إن أعمدة كتب التفسير تتفق على أن أول الفساد هو الكفر بدين الإسلام؛ ومن ثَم فإن الآية التي استشهد بها أوباما ليدلك غرائز المسلمين، توجب أول ما توجب قتل أوباما وكل من لم يدخل الإسلام، خاصة بعد أن أعلن الإسلام عن نفسه وبلغ الناس كافة بحجة بليغة عليهم بأحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، ولا حجة لأحد بعد أن وصله البلاغ مصحوبًا بالدمار والخراب والدم والبينات الحارقات، فهذه رسلنا قد أبلغتهم بدينا الحنيف، وبعدها لا حجة ولا عذر لكافر بالإسلام على كفره، وهو ما أكد عليه علم مشايخ الخليج الشيخ المنيع الذي رأى في سبتمبر ٢٠٠١م بلاغًا مبينًا وواضحًا للعالم كله بوجوب الخضوع للإسلام، ولفتة إلهية من علاماته البواهر.
هذا مع ملاحظة ظللت أؤكد عليها سواء في كتاباتي أم محاضراتي وهي أنه رغم كل ما فعلت القاعدة وابن لادن؛ فإنه لا يوجد مجمع أو هيئة أو مؤسسة أو رابطة أو فرد من المؤسسة الدينية أعلن تكفير ابن لادن أو الزرقاوي وخروجه على الإسلام مهدور الدم كما يفعلون مع غلابة الوطن أمثالنا؛ لأنهم جميعًا في طواياهم لا يرون فيه سوى نموذج البطل الملحمي الإسلامي القديم ابن الوليد وابن العاص وابن القاسم والقعقاع وغيرهم، وأنه يجاهد في سبيل الله وقام بتفعيل فرض الكفاية الجهادي نيابة عن الأمة كلها وله بذلك السابقة والفضل المبين. ومع عقيدة التقية فإنهم يستهجنون مع كل مجزرة بن لادنية أو زرقاوية أو قاعدية يمنية أو صومالية أو جهادية، قتل الأبرياء والمدنيين، ويستتبعونها دومًا بأن أمريكا وإسرائيل والحكومات الإسلامية كلها تفعل الشيء نفسه، كمبرر لما تفعل القاعدة والجهاد وحماس، يستهجنون من طرف اللسان لكنهم لا يكفِّرون الذين يقتلون الأبرياء المدنيين بيد القاعدة سواء أكان الضحايا مسلمين في بلاد مسلمين أم غير مسلمين، لسبب بسيط هو أنهم هم الأساتذة الذين علَّموهم ذلك في معاهدنا الدينية في مواد تدرس وما زالت بعد التجديد والتحديث تحدِّثنا عن عقيدة الولاء والبراء وفريضة الجهاد وملك اليمين، وأصول التعامل النبيل مع الفرس والعبد والبغل والمرأة والحمار بحنان ورفق إسلامي لا شبيه له ولا نظير.
صحيفة المصري اليوم حضرت مؤتمرًا صحفيًّا مع أوباما إثر خطابه مباشرة، وعقبت بتعبير شديد الأهمية وشديد الدلالة: «فالرجل لو صدق، فسوف يتغير العالم من جامعة القاهرة!»
أما العبد الفقير إلى الله فيرى أن هناك أشياء ستتغير بالطبع، وسيتم حل المشكلة العزيزة على نفوس المسلمين فلسطين الغالية مسرى الرسول وأولى القبلتين بالسرعة الممكنة، بالتزامن مع الخروج العسكري من العراق، وهو المتوقع خلال عامين، فهذه هي هموم المواطن حتى الجائع الحافي العاري المريض لا يجد قوت يومه ويخرج في المظاهرات من أجل فلسطين والبوسنة والشيشان وبلاد تركب الأفيال، ولا يخرج ليطالب بحقه في الكرامة الإنسانية من حقوق وحريات؛ لذلك فإن من سيعاني هو تيار الحريات الحقوقي مع مزيد من العسر والتأخر في قدوم التغيير المرتقب إصلاحًا وتهذيبًا وتحديثًا، في ظل التحالف الذي يبدو أنه قد قام علنًا وجهارًا نهارًا بين أمريكا والمسلمين؛ فالخطاب كان للمسلمين بالتحديد، وأن النتيجة هي شرعية وبقاء الأنظمة والشعوب والأوضاع على ما هي عليه؛ فهي حليفة، وإن جاء نظام مختلف عن الحالي فهي حليفة، ولو جاء جمال مبارك أو علي مبارك أو حتى زكي جمعة فهي حليفة، ولو جاء الإخوان المسلمون فهي حليفة، وتبقى الشعوب خارج الموضوع لأنها الفريسة لأي مفترس حليف، ويبقى الباب بذلك مفتوحًا لمختلف الاحتمالات. وستقوم الحكومات في بلادنا: إسلامية صريحة، أو إسلامية بزي مدني كالحادث عندنا، بدور الحارس الأمين للمصالح الأمريكية، مقابل الصمت الأمريكي عن حقوق الشعوب في هذه البلاد، وتقوم أمريكا بدعم النظم الحاكمة القائمة بمنحها الشرعية والاعتراف، وعلى هذه النظم أن تساعد أوباما على إنهاء ملفات أمريكا العالقة في المنطقة وخروج عسكرها بكرامة وبخسائر بأقل قدر ممكن، مع الحفاظ على مصالحها أينما كانت.
بالأمس القريب (وما أسرع متغيرات خطى التاريخ في زماننا) كان إعلان أمريكا بغزوها للعراق، أنها خطوة البداية لإصلاح المنطقة وجرها جرًّا إلى الحداثة للقضاء على الثقافة المفرزة للإرهاب بالديمقراطية وإسقاط النظم الاستبدادية التي أفرزت الإرهاب الديني. بلسان بوش الابن ورايس وباول ورامسفيلد وكل الفرقة الراحلة، وحينذاك التقيت بعض الدبلوماسيين الغربيين بناء على طلبهم وبمعرفة الأمن المصري، ضمن لقاءاتهم الأخرى لاستيضاح وجهات النظر، وقد حذرت حينها من أخذ خطوة عسكرية تجاه العراق؛ لأن الحرب على الإرهاب يجب أن تبدأ على المستوى الثقافي وليس العسكري.
لا أنسى وزيرًا مفوضًا لدولة كبرى راهنني — أدبيًّا ومعنويًّا فقط — على أن مجرد إسقاط طاغية بغداد وإطلاق الحريات في العراق؛ فإنه كفيل بتحويله إلى واحة للديمقراطية وقاطرة ستقطر وراءها المنطقة كلها، بالضبط كالمسيحي المؤمن الذي يتصور أنه بمجرد أن يعرض آيات الإنجيل على إنسان، فإن ذلك كفيل وحده بإقناعه بالمسيحية ليعتنقها، بالضبط كالمسلم الذي يتصور أنه لو قرأ القرآن على إنسان لرأيته خاشعًا كالجبل الذي يتصدَّع من خشية الله، يومئذ وخلال الشهور الأول لغزو العراق بدت رؤية السيد الوزير هي الواقعة وكسب الرهان الأدبي بصدق توقعاته وسافر إلى بلاده، وبعدها بشهور حدثت تحولات كان يجب معها أن يكون كاسب الرهان هو أنا وليس هو؛ لأن الحريات إن لم تتأسس أولًا على ثقافة حريات وعقد اجتماعي ينافح عنه أهله، فإن الحرية تتحول إلى فوضى طائفية وعنصرية، وهو ما حدث في العراق الجميل، وهو الدرس الذي خرجت به أمريكا من المنطقة، فتراها كيف استفادت منه؟
هنا علينا أن نرهف السمع جيدًا إلى أوباما وهو يقول بقولين لا يلتقيان، القول الأول هو:
«ينبغي ألا تستخدم الدول العربية الصراع بين العرب وإسرائيل لإلهاء الشعوب عن مشاكلها الأولى.» يعنى خدوا بالكم يا حكَّام العرب أننا فاهمين لعبتكم من زمان بإلهاء الشعوب عن حقوقها بالقضايا القومية والدينية، هو قول موجَّه للحكومات يفصح عن كون العملاق الأمريكي ليس أهطل، بل إنه يعرف أساليب حكوماتنا كذلك يعرف شعوبنا معرفة دقيقة وكيف يمكن صرفها عن مصالحها وحقها في حياة كريمة، بسلبها عقلها ووعيها اعتمادًا على غرائز دينية وقومية يتم شحنها طوال الوقت، لصرف النظر عن قضايا الداخل إلى الإسلام الذي يهان في الدانمارك أو في البوسنة أو الشيشان أو غزة أو أي بلادستان، المهم صرف النظر إلى منور أي جيران قريبين أو بعيدين، لبحث عيوبهم والمآخذ عليهم والهتاف والتظاهر ضدهم والانشغال بهم عما يحدث في الداخل.
وقول كقول أوباما هنا يفترض أن يؤدي إلى اطمئنان التيار العلماني؛ لأنه لو تم حل المشاكل الأساسية العاطفية الدينية القومية مثل فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، سيعطي ذلك الشعوب الفرصة للانتباه للداخل لبحث عن حلول لمشاكلها مع حكوماتها.
•••
هنا يأتي القول الثاني الذي لا يلتقي مع قوله الأول، وقد جاء إجابة عن سؤال أوباما في المؤتمر الصحفي «س: إذن كيف ترون مسألة نشر وترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة والشرق الأوسط؟ ج: أنا أؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان والخطاب الاجتماعي العالمي، لكن يجب أن نعلم أن هناك شعوبًا مختلفة، وأشخاصها مختلفون، وأفكارًا مختلفة، وعادات مختلفة، وتقاليد مختلفة بشأن هذه المسألة. وبالتالي عليَّ أن أؤكد من أعماق قلبي وروحي ضرورة احترام الآخر والتعايش معًا، وأنني لا يمكنني فرض معتقداتي على الآخر، ولا يمكنني أن أستغل أغلبيتي للعمل ضدك، ولا أستطيع أن أفرض معتقداتي الدينية وأقول لأحد عليك أن تتبع معتقداتي نفسها. وقضية حقوق الإنسان والديمقراطية مهمة جدًّا للإسلام؛ لأنه يمكنه أن يعالجها، فأنا أعلم أنه ليس كل المجتمعات الدينية متشابهة في تنفيذها السياسي، فالشريعة مثلًا يمكنها أن تحمل تفسيرًا متشددًا أو حديثًا تجاه قانون وضعي. أنا لا أتخذ ولا أفرض قرارًا يتعلق بهذا الأمر على أي دولة أو مجموعة من الناس، ولكنني لا أوافق على أن مبدأ يلزم الآخرين باعتقاد ما، فنحن في الولايات المتحدة نرى أن في ذلك مناهضة للحقوق، ويتنافر مع روح الديمقراطية ويجلب الصراع في النهاية؛ مما يجعل خلق هذا الحوار مهمًّا داخل الإسلام.»
في ظني أن هذه الفقرة بالمؤتمر الصحفي هي الأهم في كل ما قال أوباما في القاهرة؛ فهي تلقي بالكرة في ملعبنا تنتظر ردنا، فيها لغز علاقة المسلمين بالغرب وحداثته، وفيها حل اللغز. فقد ننساق وراء تدليه غرائزنا ونحتسب خطابه في القاهرة تشجيعًا لحكوماتنا ولشعوبنا معها على الاستمرار كما هي دون بحث أي أخطاء من جانبنا لنصلحها، مع عدم الاعتراف بأي خطأ حاضرًا أو ماضيًا، بل ربما تقديس الخطأ والاستمرار فيه على عادتنا التاريخية المتواترة وتظل الأوضاع على ما هي عليه، لكن الفقرة ذاتها على استعداد للتعامل مع نظام ديمقراطي حقوقي أيضًا لكن دون أي تدخل أمريكي لفرض هذا النظام بعكس ما قال بوش الابن من قبل، وهنا المعادلة الصعبة التي تترك الليبراليين العرب عراة أمام ترسانة مدججة بشارع مسلوب الوعي وبماضٍ تليد وحكومات قامعة ومأثور عنيد هو الأعزُّ على قلوب الشعوب، التي تدعو من مساجدها أهم دعاء لها: «اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا»، وما عدا ذلك من مصائب فليس من المشاكل الملحة، وتصبح المشاكل التي تشغل العلمانيين ليست من نوع المشاكل التي تشغل بال رجل الشارع المسلم.
قال أوباما إن الإسلام دين تسامج ومساواة، وإنه يدافع عن حقوق الإسلام الحقيقية وليس الصورة النمطية المسيئة للإسلام، وركز على مشتركات بين الأديان هي مبادئ العدل والتقدم والتسامح وكرامة كل بني البشر، وإنه في كل دين مبدأ: عامل الآخرين كما تحب أن يعاملك الآخرون، وأن الإيمان بالآخرين هو ما دفعه للمجيء إلى القاهرة لمخاطبة المسلمين.
الفقرة السالفة لها أهميتها لتجميل خطابه هو أمام أهل الغرب بدورهم، الذين قرَّعوه على هذه الزيارة وذلك الخطاب في وسط استبدادي، أما بقية الخطاب فهو تجميل لأمريكا في نظر المسلمين بالتسلل عبر ما هو عزيز علينا ومخاطبتنا على قدر عقولنا، بدأ بالسلام عليكم (تصفيق حاد في القاعة) وشرح أنه رغم مسيحيته فهو من أب مسلم، وأنه تعرف على الإسلام في المواطن الثلاثة التي عاش فيها، وقال إنه سيتبع في كلامه نصح القرآن الكريم: اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا (تصفيق حاد في القاعة)، وإنه أمر بإغلاق سجن غوانتنامو (تصفيق حاد. عقبال عندنا قادر يا كريم)، وأكد أن حربه موجَّهة ضد القاعدة فقط، وهي عنده كما هي بالضبط في خطابنا الديني والرسمي المخاتل، هي مجموعة من شواذ المسلمين من قلة منحرفة فهم حسب قوله: «مجرد حفنة شاذة من المسلمين وتصرفاتهم لا تتماشى مع حقوق البشر وتعاليم الإسلام بدليل آية من قتل نفسًا بغير نفس.» (تصفيق حاد)، وأن أمريكا لن تكون في حرب مع الإسلام (تصفيق حاد)، وأن المحاكم الأمريكية أعطت المرأة المسلمة حق الحجاب وعاقبت من ينكره عليها (تصفيق حاد)، وحتى يبدو مثلنا يردد ببغائياتنا التاريخية التي هي محفوظاتنا الأثيرة، وشعاراتنا الغالية، قام يردد مقولاتنا الخوالد مثل أن الأزهر قد حمل مشعل التنوير والحضارة للعالم (؟!) وأن المسلمين هم من اخترع البوصلة وعلم الجبر والملاحة (؟!) والطباعة (لا أدري من أعطاه هذه المعلومة الخاطئة لأن الطباعة جاءتنا مع نابليون وكفَّرها مشايخ من الأزهر كبدعة شيطانية)، إضافة إلى شعرنا في الفخر والهجاء والشحاتة والتسول بألاطة (وما زلنا)، وخطنا العربي اللهلوبة بين كل كتابات وخطوط الدنيا.
لا شك أن رد الفعل بالتصفيق الحاد مع بعض أقواله، أو بالوجوم التام مع أقوال أخرى، هو معيار لقياس رد الفعل، فحديثه عن الهولوكوست والعنف الفلسطيني الذي سيؤدي إلى طريق مسدود، ووجوب اعتراف حماس بحق إسرائيل في الوجود، كلها مما قوبل بالصمت والوجوم التام، وهو ردنا الأول على بعض خطابه فيما لا نحب ولا نشتهي.
أما قوله إن الوضع الفلسطيني لا يُحتَمل، وإن أمريكا لن تدير ظهرها للفلسطينيين، فقد قوبل بالتصفيق الحاد بالشدة الاستحسانية ذاتها لتصفيقهم للآيات القرآنية العشر التي تلاها.
•••
إذن ردنا الأول في القاعة هو أننا نحن كما نحن على قواعدنا ثابتون دون تغيير، وأننا لن نناقش ولن نحاول حتى مجرد إعادة النظر في قضايا مهمة ومحسومة لدينا لأننا الحق التام وغيرنا الباطل التام.
أما الرد العملي فقد جاء سريعًا من الأزهر رائد الحضارة وحامل مشعل للخطاب الأوبامي الموقف من المصريين البهائيين، وبالتالي هو موقف من الخطاب الأوبامي، بالعودة إلى بيان الحريات والتنوير (؟!) بإعلانه ثاني يوم للخطاب الأوبامي الموقف من المصريين البهائيين، وبالتالي هو موقف من الخطاب الأوبامي، بالعودة إلى بيان شيخ الأزهر الأسبق جاد الحق وإعادة توزيعه للإعلان عن موقف الأزهر اليوم من البهائيين، ومضمونه نصًّا: «إن البهائية ليس لها صلة بالأديان السماوية، بل هي دين مخترع جديد ظهر أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وحظي برعاية ومباركة الاحتلال الإنجليزي، ويهدف إلى تفتيت وحدة المسلمين، وإنكار فرائض الإسلام.» وقبله بأيام جاءت مطالبة أعضاء مجلس الشعب (حزب الحكومة الوطني والإسلاميين) بإصدار قانون يجرِّم الفكر البهائي ويحاكم المروجين له، مع وصف البهائيين بالخطر الداهم على الأمن القومي المصري، لافتين إلى ميل البهائيين إلى الصهيونية لاعتقادهم بضرورة إلغاء فريضة الجهاد في الإسلام، ومن جهته حذر الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس اللجنة الدينية في مجلس الشعب من شيوع الرذيلة في ضوء انتشار الفكر البهائي بين الشباب المصري! (صحيفة اليوم السابع).
وهو كله ما جاء بعد مطالبة البهائيين بحقهم كمواطنين بتسجيل ديانتهم بالبطاقة الشخصية وانتهى الموضوع إلى شرطة بدلة الديانة، ثم هياج قرية الشارونية وحرقها منازل البهائيين وطردهم منها، مع ظهور صحفي مثقف (أو يفترض أنه هكذا) في التلفاز يطالب بقتلهم علنًا، ولا تفهم كيف استمر صحفيًّا بعدها، لماذا لم يثنِ على قوله بالفعل، ويروح يقتله كام بهائي فيضمن الجنة والنكاح الأبدي، أم أنه غير واثق بالنتائج؟ أم أن دوره يقتصر على إصدار الأحكام لطلب من ينفذ؟ وكله تحريض على ارتكاب أشنع الجرائم، ولا يجد من يعاقبه.
إذن هذا هو ردنا في مجلس الشعب في الحزب الوطني في الإخوان في الصحافة في التلفزيون (دون تعميم)، والأزهر (مع التعميم) بعد ذلك ظهير، ردنا هو استمرار الجهاد وقتل الذين يدعون إلى إيقافه وحرقهم إن أمكن كما حدث مع البهائيين، والجهاد يعني استمرار المسلمين في حالة حرب مع العالم كله حتى يسلم أو يدفع الجزية عن يد وهو صاغر! فالدعوة للسلام كفر حتى لو كانت للسلام الوطني داخل الوطن بين مواطنيه عناصر وأديانًا، وأننا لن نتعامل مع الآخرين كما نحب أن يعاملونا كما قال أوباما، فهذا هو الكفر عينه لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأن أوباما يهرف بما لا يعرف، فلا عندنا تسامح ولا كرامة لكل بني البشر، إذا كانت كرامة مواطنين مصريين مهدورة بلا كرامة وبلا تسامح لأنهم يخالفون المسلمين العقيدة. فلدينا تصنيف في توزيع الكرامة حسب الدين والمذهب والطبقة القبلية والجنس، لذلك فقول أوباما إنه يفهم صورة الإسلام الحقيقية هو افتئات على الإسلام الحقيقي، فكيف يكون ما قاله هو الإسلام الحقيقي مقابل ما قال مجلس شعبنا الموقر وأزهرنا وتلفازنا الملتحي وشارعنا الإسلامي الذي يحرق ويسلخ وهو مطمئن لسلامة دينه وصدق إيمانه؟
بهذا الشكل سيقف دعاة العلمنة والمدنية الدستورية والحقوق الليبرالية عراة من أي غطاء، أمريكا ستتعامل مع أوضاعنا كما هي، أو إن تغيرت للأسوأ أو للأفضل أوباما يعرفنا لذلك أعلن ترك الحبل لنا على الغارب دون تدخل لترك الفوضى الخلاقة تحرق بذريعة عدم فرض الديمقراطية الحقوقية لأن هذا الفرض ضد قيمها ومبادئها؛ وهو ما يعني أيضًا أننا سنستغيث بلا مغيث، في ظرف حرج ومنعطف تاريخي سنخرج معه خارج دائرة البشرية كلها، والغوث المعني هنا هو الغوث المعنوي وضغوط المجتمع المدني الدولي وكل قوى الضغط الداعم والمؤرق الذي لا يهدأ ولا يتواطأ، وهو ما يبدو أنه ابتعد بعد أن بدا لنا قريبًا مع ضرب منهاتن، ابتعد مرة أخرى بحسابات المصالح الأمريكية الجديدة بغض النظر عن مصير شعوبنا، وأنه على العلمانيين العرب أن يعيدوا تقييم المواقف، من أجل توحد وتضافر بعضهم على خريطة المنطقة بحيث لا يتم تجاهلهم بحسبانهم نخبًا تمثل جزرًا منعزلةً عن بعضها، وكلهم والحمد لله أو معظمهم أسماء كبيرة تتسم بالطهارة ونظافة الذمة فيمن أعرفهم على الأقل، ويمكنهم أن يكونوا ذوي أثر فاعل في الساحة بحيث لا تبقى فارغة إلا من خيارين أحلاهما مر: الاستبداد السياسي المستمر أو الاستبداد الديني المرتقب، بخيار ثالث هو المواطنة أولًا، والإصرار على رفع المواد الدينية من الدستور، وخانة الديانة من البطاقة الشخصية، والتعايش السلمي بين المواطنين وفق عقد اجتماعي تحدوه المصلحة العامة وليس مصلحة أتباع دين من الأديان أو مذهب من المذاهب، وألا يخرج الدين من الكنيسة أو المسجد إلى المجال العام صونًا له من العبث البشري، ولتفعيل دوره في تربية ضمير المواطن وتعليمه كيف يدخل الجنة، وليس أبعد من هذا ولا مليمتر واحد، من أجل وطن أفضل للأجيال المقبلة، مع الوجود الليبرالي الواضح دون أي تراجعات، الوجود المستمر والفاعل على الساحة عبر كل السبل السلمية الممكنة، لإثبات هذا الحضور.
وبعدُ، أتمنى أن يخيب هذا التحليل برمته، وأن يكون إحدى هناتي وسقطاتي التشاؤمية، وأن تكون القوادم خيرًا من السوالف، على ألا نكتفي بالقعود حتى يأتينا الفرج مع مخلص منتظر أو ديكتاتور مستنير، وسواء أكان، هذا المنتظر هو أوباما أم المهدي أم المسيخ أم المسيح أم غودو؛ لأن «غودو» هو مسرح العبث، هو مجرد وهمٍ وأمانٍ غير متحققة؛ لذلك لن يأتي مهما طال الانتظار.