الفصل الأول
لم يدر بذهني يومًا أن أكتب هذه المذكرات، فأنا شخصيًّا لا أرى في حياتي ما يستحق الرواية، ولكن حدث في الأسبوع الماضي أن قصد إليَّ مذيع ليدير معي حديثًا عن حياتي استغرق حوالي الساعة — وتركت نفسي على سجيتها — ورحت أروي للميكرفون بعض ذكريات من حياتي كان بعضها يمسك برقاب بعض وتستدعي الذكرى صاحبها، ولاحظت أن المذيع يضحك في سعادة غامرة مما أروي، فلما انتهى الحديث ساءلت نفسي: وما لي لا أروي هذه الذكريات لقارئي ربما وجد فيها من المتعة ما وجده هذا المذيع.
والذي بيني وبين القارئ أمر ميسور، فهو يستطيع أن يضم دفتي الكتاب الذي بيده ويقطع صلته به وأذكر له بيت الشعر القديم:
وحسبه الله بعد ذلك فيما خسر من ثمن الكتاب، فإن وجد المتعة التي أتمناها له وأنشدها وأسعى إليها، فالحمد لله على الحالين وليمضِ في قراءة الكتاب.
وربما زاد من ترددي كتاب كتبته قبل هذا بعنوان «ذكريات لا مذكرات»، ولكني قضيت على هذا التردد بأن كتابي الأول كان يحمل صلاتي بمن عرفتهم من مشاهير وغير مشاهير.
ولكنني أعتقد أن هذا لن يكون المنحى الذي سأنحوه في كتابي هذا الذي بين يديك، أما كيف أنحو فعلم هذا عند علام الغيوب، فما خططت خطة بذاتها ولا انتهيت إلى رأي معين، وإنما سأسير وإياك عبر أيامي منذ وعيت الحياة حتى اليوم الذي بدأت فيه كتابة هذا الكتاب، وإني إن شاء الله واجد له عنوانًا، ولكنك لا بد أن تعلم أن هذا العنوان قفز إلى ذهني وأنا أكتب هذا الكتاب ولم أضعه قبل بدء الكتاب كما كان ينبغي أن أفعل، فقد خشيت أن يحول العنوان بيني وبين الترسل الذي أحب أن أتركه يحدو قلمي، ويسير به سيرًا متحررًا من كل قيد بعيدًا عن القيود جميعها.
من الطبيعي أن أبدأ بالسنوات الأولى من حياتي:
قيل لي إنني ولدت بمنزل بشارع جوهر القائد بحي المنيرة، ولكنني لم أرَ هذا البيت إلا مرورًا به، وأشارت إليه والدتي وكنت أركب معها السيارة، وقالت إنني ها هنا ولدت فما وعيت منه إلا اللمحة العابرة التي تتيحها سيارة تمضي في طريقها ولا تتوقف، أما البيت الذي نشأت فيه وأقمت فبيت كان ملكًا لأبي بشارع الملك الناصر رقم ٢٤ بحي المنيرة أيضًا، وكان البيت هو المبنى الثاني في الشارع من ناحية شارع الدواوين، وكان المبنى الأول مدرسة أهلية دخلتها وانتظمت فيها لبضعة أشهر، وقد كان المبنى المقابل لها مستشفى الملك، ولا بد أن اسمها قد تغير حين أرادت الثورة حذف الملكية من تاريخ مصر، وكان يلاصق المستشفى مدرسة الخديو إسماعيل التي لا أدري اسمها الآن هي أيضًا، فإن الثورة قررت أنه لم يكن في مصر خديو اسمه الخديو إسماعيل إلا أن يذكر مشتومًا ملعونًا، أما أن يذكر بدون تعليق فأمر لا ترضاه الثورة الاشتراكية.
نشأتُ في هذا البيت ودخلت المدرسة الملاصقة لبيتنا، وأذكر أن والدي ووالدتي كانا يطلان عليَّ من إحدى نوافذ بيتنا، وكان أبي يحرك لي منديلًا في يده حتى أتنبه إلى وجودهما بالنافذة، وأذكر أنني في اليوم الأول لذهابي إلى هذه المدرسة رفضت أن أذهب إلا إذا صحبت محمد أبو عثمان الذي كان يعمل طباخًا في بيتنا، وكان يلاعبني ويضاحكني وكنت معجبًا به كل الإعجاب، وهو ما زال على قيد الحياة أطال الله عمره، وقبل ناظر المدرسة أن يدخل محمد أبو عثمان الفصل معي، وكان في الفصل يقف بجانب الباب، فكان وقوفه هذا يرد عني الوحشة التي كانت تلم بي وأنا مع تلاميذ لا أعرفهم ولا يعرفونني.
وفي اليوم التالي كنت بالفصل أكثر أنسًا حتى لم أنتبه إلى أن محمد غادر الحجرة إلا بعد حين، وسألت عنه فوجدته بالمدرسة ما زال فعادت إليَّ الطمأنينة. أما في اليوم الثالث فقد صدر الأمر من والدي أن يصحبني محمد إلى باب المدرسة الذي كان يقع بشارع الدواوين ثم يتركني وحدي، وقد بكيت لهذا الإجراء بكاءً حارًّا، ولكنه كان أمرًا صارمًا لا رجعة فيه، ذكرياتي في هذه المدرسة تكاد تكون معدومة ولا أذكر من رفاقي بها أحدًا؛ إلا أنها كان لها الفضل أن أذهب إلى مدرسة المنيرة لرياض الأطفال وأنا غير مضطرب الفؤاد ولا هالعًا، والذي أذكره عن المدرسة الجديدة أن ناظرة المدرسة كان اسمها السيدة روفية رمضان، ولا زالت صورتها في ذاكرتي حتى اليوم، وأذكر من مدرساتها أيضًا السيدة توحيدة الدمرداش، وكانت ترعاني بحدب ورضاء، وأذكر أن أستاذة الرسم كان اسمها الأستاذة نعيمة التي جعلتني أرسم رسمًا جميلًا، الأمر الذي لم يتكرر في المدرسة الابتدائية أو الثانوية رغم أن الذي كان يدرِّس لي الرسم في المدرسة الابتدائية الأستاذ الفنان الكبير حسين بيكار، كما كان يدرِّس لي فنان الكاريكاتير العظيم الذي اشتهر باسم مفرد هو رمزي، ومع ذلك كنت دائمًا لا أجيد الرسم مطلقًا لدرجة أن والدتي وأنا أنتظر نتيجة الابتدائية كانت دائمًا تقول إنها خائفة أن أرسب في مادة الرسم، والعجيب أن حدسها أوشك أن يتحقق وحصلت في مادة الرسم في شهادة الابتدائية على أربع درجات من عشرين، وهي الحد الأدنى للمرور ولا أقول النجاح.
قضيت في مدرسة الروضة سنتين وأذكر أنني كنت متقدمًا لأنني سبقت زملائي في تعلم اللغة العربية والحساب على يد الشاعر الأستاذ أحمد القرعيش ببلدتنا غزالة، وقد كان مدرسًا بالمدرسة الإلزامية بها، وكان أول من علمني بادئًا بالخط الأفقي والخط الرأسي، وأذكر أنه كان يشكل هذه الخطوط على الرمال، فقد كنا نجلس على أريكة خارج المبنى الذي يعمل به كُتَّاب الحسابات لزراعة أبي، وأشهد أن الأستاذ القرعيش هو أحسن أستاذ تلقيت عنه العلم، فقد كان قديرًا على تيسير المعلومات عليَّ، وكان حريصًا على تشجيعي حتى إنه كان يحمل معه أقراص النعناع الصغيرة يتحفني بواحد منها كلما أجدت الإجابة، فإذا علمت أنه كان من كبار البخلاء أدركت التضحية التي كان يقوم بها ليصل بتلميذه إلى أحسن مستوى. وقد كان الأستاذ القرعيش شاعرًا مجيدًا، وحين بلغت السنة الثانية الثانوية كنت أقرأ معه ومع قريبنا الشاعر العصامي توفيق عوضي أباظة الذي علم نفسه ولم يختلف إلى مدرسة في حياته لشدة فقره، كنا نقرأ معًا الشوقيات في بيتنا بالقرية، وكنا نبدأ القراءة بعد أن يصعد أبي إلى الدور الأعلى من المنزل في حوالي الساعة التاسعة مساءً، ونظل نقرأ على الكلوب الذي ينير بالجاز حتى يطلع علينا الصبح، ونقرأ على ضوء الشمس وكنت أنا الذي أقرأ، والشاعران يستمعان ويستجيدان ويعلقان. وللأستاذ القرعيش فضل عليَّ لا أنساه أبدًا، فقد كنت أُكثر من اللحن في قراءتي، وكان يصحح لي، وقال لي إذا كنت تريد أن تكون أديبًا فلا بد أن تقيم لسانك وإلا فلن تصبح أديبًا مطلقًا، ويا ليته عاش حتى اليوم حتى يرى مقتل اللغة العربية على أيدي أدبائها. لا علينا. خجلت من هذه الملاحظة، فحين ابتداء العام الدراسي في السنة الثالثة الثانوية أعدت قراءة النحو، وأخذت نفسي طوال السنة الثالثة الثانوية — وهي تقابل السنة الأولى الثانوية اليوم — أن أقرأ كل المواد العربية من تاريخ وجغرافيا وطبيعة وكيمياء بصوت مرتفع وأصحح لنفسي الإعراب في كل قراءتي، حتى إذا جاءت الإجازة، وبدأ ثلاثتنا قراءة الشوقيات فوجئ الشاعران بي وأنا لا أخطئ في النحو مطلقًا أو أكاد، وهكذا استقام لساني العربي، كما استقامت كتابتي والفضل في ذلك لمعلمي العظيم الأستاذ أحمد حسين القرعيش.
نعود إلى مدرسة المنيرة لرياض الأطفال التي مكثت بها كما أخبرتك سنتين، وقد وقع لي مع هذه المدرسة نادرة طريفة، فقد دعاني ناظر مدرسة لا أعرفها وأنا كاتب بالأهرام أن أعقد ندوة مع تلاميذ مدرسته ولبيتُ دعوته وذكر لي العنوان، وذهبت وفوجئتُ أنني أعرف معالم المدرسة، وإن كانت معرفة باهتة، كما يقول الشاعر عن ذكرياته أنها تلوح كباقي الوشم بظاهر اليد. وما لبثت أن تبينت أن المدرسة التي أعقد بها ندوتي هي روضة الأطفال التي كنت أتعلم بها وأصبح اسمها مدرسة المنيرة الابتدائية، وقد سعدت بهذه المصادفة كل السعادة.
دخلت بعد ذلك مدرسة المنيرة الابتدائية متقدمًا عن سني بسنة؛ لأنه كان من المفروض أن أظل سنة ثالثة بالروضة، إلا أن أبي رأى أن أقفز سنة، وهكذا لم يكن غريبًا أن أرسب في السنة الأولى الابتدائية، وأذكر أن أبي استاء كل الاستياء من رسوبي هذا، وكان له صديق قريب إليه كل القرب وهو عبد الله أفندي العربي من بلدة الخيس القريبة من بلدتنا غزالة بمركز الزقازيق، وقد فاتني أن أذكر لك أنني حين ولدت بالقاهرة رفض أبي أن يقيدني من مواليد القاهرة، وقد ولدت في ٢٨ يونيو عام ١٩٢٧م، فانتظر أبي إلى أن ذهب إلى غزالة، وقيدني بها في ١٥ يوليو ١٩٢٧م حرصًا منه أن أنتسب إلى بلدتنا غزالة التي كان يحبها كل الحب، حتى إنه كان يوقع مقالاته السياسية بتوقيع الغزالي أباظة.
نعود إلى عبد الله أفندي العربي صديق أبي الذي اكتسب لقب أفندي من أنه كان مدرسًا بالمدارس الابتدائية، وكان يدرس لشقيق أبي الأصغر عبد الله بك فكري أباظة حين كان تلميذًا بالمدرسة الابتدائية، وكان معجبًا بطريقة تدريسه.
وكانت صلة الأستاذ العربي بوالدي وثيقة غاية الوثوق حتى إنه كان يسافر معه إلى الخارج على نفقته الخاصة، فقد كان ميسور الحال، وقد لبست أول ساعة في حياتي هدية من عبد الله أفندي العربي.
حين رأى عبد الله أفندي الحزن يخيم عليَّ لرسوبي في السنة الأولى الابتدائية ورأى الاستياء الشديد من أبي لهذا الرسوب جاء إلى منزلنا قبيل المغرب في يوم من هذه الأيام ودعاني أن أخرج معه ليرفه عني، وذهبنا إلى مقهًى بالجيزة ربما يكون هو المقهى الذي تعوَّد بعض الأدباء أن يجلسوا به، وقد كنت أشاركهم في الجلوس به في بعض الأحيان، ولو أنني لست واثقًا أنه نفس المقهى فقد صحبني إليه عبد الله أفندي في أوائل الثلاثينيات وجلست مع الأدباء في الستينيات، فمن الصعب أن أؤكد إن كان المقهى هو نفسه الذي جلست به وأنا طفل، واشترى عبد الله أفندي لي وله جبنًا وسلطانية زبادي ورغيفًا لكل منا من الخبز الإفرنجي، فكانت من أمتع الأكلات التي طعمتها في حياتي. وإني أروي هذه الواقعة على بساطتها لأن عبد الله أفندي العربي قال لي في هذه الجلسة جملة لم أنسَها حتى اليوم، وكانت تمثل لي في ذلك اليوم ضوءًا ساطعًا من الأمل في ظلام اليأس الذي ران عليَّ من سقوطي في السنة الأولى الابتدائية؛ قال: يا بني لا تخف … لا بد أنك ستفلح في حياتك … فإن الخير الذي قدمه أبوك للناس لا يمكن أن يذهب هباءً … سيكرمه الله فيك إن شاء الله … لا تخف.
بعد ذلك بسنوات — ما دمنا نذكر عبد الله أفندي العربي — مرض رحمه الله نتيجة إبرة طبية كسرت في فخذه وهو يتداوى بها، وحين كنا ننتظر نتيجة الشهادة الابتدائية، وكنا قد انتقلنا إلى العباسية كان هو طريح الفراش، وفي أحد الأيام دق جرس التليفون في الساعة السابعة صباحًا ليبشرني عبد الله أفندي العربي أنني نجحت في الابتدائية، فقد صحا مع الفجر ليعرف نتيجة الشهادة التي كانت تنشر في صحف الصباح في هذه الأيام.
والعجيب أن عبد الله أفندي العربي مات في اليوم نفسه، وكأنه كان يستمهل الموت حتى يبشرني بنجاحي.
كانت مدرسة المنيرة الابتدائية من أعظم مدارس مصر، وكان ناظرنا فيها الرجل العظيم فهمي بك الكيلاني والد المذيعة المتميزة سميرة الكيلاني، وكان لها أخ يزاملنا في المدرسة اسمه سمير، وكان بها أساتذة من أحسن أساتذة المدارس أذكر منهم الأستاذ الشيباني الذي لا أنسى واقعة لي معه، يوم دخل إلى الفصل وكتب على السبورة بضعة أبيات أذكر مطلعها:
وكان اسم القصيدة «الله» جل جلاله، وألقى بالطباشيرة والتفت إلى التلاميذ وسأل من يستطيع أن يقرأ هذه الأبيات، فرفعت أصبعي، وكنت لطول قامتي أجلس في آخر الفصل، وأوليت ظهري للسبورة وألقيت أبيات القصيدة جميعها، وحين استدرت صفق لي التلاميذ ووجدت الأستاذ مذهولًا، وقال لي: ماذا أقول لك يا ابني، ماذا أقول؟ ابن الوز عوام.
وأعطاني الدرجة النهائية.
أذكر أن هذا كان في السنة الثانية الابتدائية، وقد كنت متفوقًا في هذه السنة تفوقًا لم تشهده حياتي الدراسية قط، لدرجة أنني في أحد امتحانات الفترة كان ترتيبي الخامس، وأعتقد أن هذا التفوق كان نتيجة لرسوبي في السنة الأولى.
ومن المدرسين الذين أذكرهم في مدرسة المنيرة الأستاذ محمد البابلي والد الممثلة الرائعة سهير البابلي، وكان هناك أيضًا حبشي أفندي الذي أعتقد أن كل زملائي في مدرسة المنيرة يذكرونه معي، وكان دائمًا يسأل التلاميذ مين باباتك بس، فيجيب التلميذ حبشي أفندي بس، وفي مرة قال لي: يلعن أبوك. وكان متعودًا أن يقولها للتلاميذ ولا يعلقون. أما أنا فاستهولت الأمر ونقلته إلى أبي، وأعتقد أنه كان في ذلك الحين وكيلًا لمجلس النواب، وكان من عظماء مصر بشخصيته وبتاريخه الشاهق في ثورة ١٩١٩م، ولم يكن محتاجًا إلى منصب، فقد كان الجميع يحترمونه ويقدرونه لذاته لا لمنصبه.
وذهب إلى الناظر فهمي بك الكيلاني، وقال ربما يكون ثروت قد أخطأ، فما ذنبي أنا، واستدعى الكيلاني بك حبشي أفندي، وسأله: هل لعنت أبا ثروت؟ فقال: نعم. وقبل أن يغضب أبي استمهله حبشي أفندي ثم نظر إليَّ: مين باباتك بس.
– قلت حبشي أفندي بس.
ونظر إلى أبي: سعادتك لا شأن لك بالموضوع أنا أشتم نفسي.
ولم يملك أبي إلا أن يضحك وينصرف.
وقبل أن أبتعد عن القصيدة التي ألقيتها فور كتابتها أذكر أن أبي كان يجتمع في كل يوم بمكتبه بالمنزل بجماعة لا أعرف منهم أحدًا، وفهمت أنهم كانوا يعدون لإقامة حفلة تأبين في ذكرى شاعر النيل حافظ إبراهيم، وحدث أن فتحت الغرفة بمظنة أن أبي وحده، ولكني وجدت معه هذه الجماعة، فاستدرت لأخرج، ولكن أبي ناداني وطلب إليَّ أن ألقي بينهم شيئًا من محفوظاتي، فألقيت الأبيات التي عنوانها الله سبحانه وتعالى والتي مطلعها:
فإذا بواحد من الجالسين يصيح: رفع الله رأسك كما رفعت رأسي … أنا صاحب هذه الأبيات.
وعرفت أن الشاعر هو محمد الهراوي، وقد كان صاحب شهرة هائلة في هذا النوع من السهل الممتنع الذي كان يحفظه تلاميذ المدارس في ذلك الحين.
وما دمت قد ذكرت هذه الاجتماعات فلا بد أن أذكر ما نتج عن تجمعها فقد أقيمت حفلة تأبين ضخمة في دار الأوبرا المصرية، وقد شهدت هذا الحفل، ولا أنسى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الذي كان بين المتحدثين، وقد كان معروفًا عنه وعن أستاذنا العملاق عباس العقاد أنهما كانا من أشد المهاجمين لأمير الشعراء شوقي ولشاعر النيل حافظ إبراهيم.
وأذكر أن الأستاذ المازني العظيم تقدم إلى مقدمة المسرح وقال ما معناه: «أشهد الله والحق أننا هاجمنا شوقي وحافظ لنهدمهما ونقف على أنقاضهما، فلم ننل إلا من الحق ومن أنفسنا.»
وكنت في هذه السن الباكرة أصحب أبي في كل تنقلاته، وقد جعلني هذا التنقل أتعوَّد مجالسة الكبار وأحترمهم دون أن أرهبهم، وأذكر أن محمد باشا محمود الزعيم النبيل كان يأتي أحيانًا لزيارة أبي قبل أن يكمل أبي لبس ملابسه فيأمرني أبي أن أنزل إلى صاحب المقام الرفيع محمد باشا محمود، وأجلس إليه حتى يكمل هو ملبسه.
وكان الباشا يهش لي ويأنس إليَّ حتى ينزل أبي وأترك الكبيرين وأنصرف إلى ملعبي.
وكان أبي يصحبني وأنا في هذه السن إلى مجلس النواب لأشهد الجلسات من شرفة الزوار، وأذكر أن رئيس المجلس في ذلك الحين كان توفيق باشا رفعت، وكان رجلًا رقيق الجسم ضخم الشاربين ووقعت عينه عليَّ في شرفة الزوار، ويبدو أنه تعجَّب من وجود طفل في مثل سني في هذا المكان، فشهدته يشير إلى الساعي الخاص بالرئاسة ويهمس في أذنه، فإذا بهذا الساعي يصعد ويسألني: من أنت؟ وقلت له وشهدته يعود إلى الباشا ويهمس في أذنه، ويهز الباشا رأسه موافقًا.
وحين دخلت كلية الحقوق وجدت الغالبية الكاثرة من الطلبة لم يشهدوا جلسة واحدة لمجلس النواب أو الشيوخ، بل إن أغلبهم لم يذهب إلى البرلمان في حياته ولا مرة واحدة، كان أبي يحرص على أن أكون معه أغلب الوقت دون إخوتي، أما إخوتي فهم شامل الذي نال الدكتوراة من تولوز بفرنسا، ثم ارتقى في الوظائف بالشركات حتى وصل إلى رئيس مجلس إدارة شركة الأقطان بالإسكندرية، كما كان عضوًا بمجلس الشعب في انتخابات ١٩٧٦م، وكم أسعدني أن أمر معه في الدائرة، فكان الناخبون يقولون لي في وجهي: نحن لا ننتخب أخاك ولا ننتخبك، وإنما ننتخب أباك، وكان قد مر على وفاة أبي قرابة ربع قرن، فقد توفي في يناير ١٩٥٢م، ولا شك أن أغلب الذين كانوا يقولون لي هذا من أبناء من عرفوه أو من أحفادهم، وكان ربع القرن هذا الذي يفصل بين وفاة أبي وبين الانتخابات فترة كلها هجوم على الباشاوات والسياسيين الذين يمثل أبي فيهم صورة جلية الملامح، ولهذا لم يكن غريبًا أن أقول يومًا للدكتور ثروت عكاشة وهو وزير للثقافة والإعلام نحن إقطاعيون ولو أن الثورة لم تأخذ منا مليمًا واحدًا ولا سهمًا من أرض، فنحن لسنا أغنياء، ولكننا إقطاعيون بحب الناس لنا، وبحبنا للناس، وهو إقطاع لم تستطع الثورة ولن تستطيع أن تمسه أو تنقص منه.
وشامل يصغرني بسنتين وبضعة أشهر، فهو من مواليد أبريل ١٩٣٠م وأنا لا أذكر أحداث اليوم الذي وُلد فيه، وإنما نشأت وأنا أجده، وشامل شاعر متمكن وإن كان قليل النشر، وقد نظم الشعر في سن باكرة مع أنه نال بكالوريوس التجارة ويعتبر اليوم من أكبر خبراء الاقتصاد في شئون القطن، وقد نال الدكتوارة في الإصلاح الزراعي، وهو أخي الوحيد وله ابنة (هدى) الحاصلة على ماجستير في الآداب ومدرسة بكلية الآداب، وإبراهيم الحاصل على ليسانس الآداب، ولي بعد ذلك أختان أكبرهما زينات، وأذكر يوم ميلادها ذكرًا هشًّا فقد ولدت بغزالة، وأذكر أن البيت كان هائجًا وقيل لي إن ذلك الهياج كان بسبب حالة الولادة، وقد تزوجت زينات ابن عمنا طوسون أباظة الذي تربى في المدارس الإنجليزية، وهذا ما يجعلنا نمازحه ونعتبره خواجة وقد أنجب الزوجان ابنًا هو أبو بكر ونال بكالوريوس التجارة، ويعمل بالبنوك، وابنة أسمياها دلبار على اسم جدتي لوالدي، وقد نالت بكالوريوس الطب ولم تعمل بها، وإنما تزوجت وتقيم مع زوجها في أمريكا، وقد نشأت زينات متعلقة بالأطفال منذ صغرها، وإن فيها حنانًا لو وُزِّع على الكرة الأرضية لملأها رحمة ومحبة.
وأختي الصغرى هي كوثر، وأذكر مولدها في حلوان، وكنت في التاسعة من عمري، وأذكر في يوم مولدها أن أبي كان جالسًا في حجرته وحلا له أن يعلمني بعض كلمات في الإنجليزية فكتب عشر كلمات، وقال احفظ هذه الكلمات، فأخذت الورقة ونظرت فيها لحظة وأعطيتها له، فدهش وقال في غيظٍ: اسمع أنت لم تكن ترى الورقة، فإن كنت حفظت في هذه اللحظة الوجيزة كل الكلمات فسأعطيك عشرة قروش، وإن أخطأت في كلمة واحدة سأضربك.
وأبي لم يكن ضربني حتى ذلك اليوم إلا مرة واحدة يوم أخبرته المربية العجوز أنني أذهب إلى المدرسة دون أن أغسل وجهي، ولهذا وقع تهديده من نفسي موقعًا مخيفًا، ولكن الله ستر وأخذت القروش العشرة.
وكوثر أختي كانت تعتبرني المربي الأول لها، فقد كنت أخالطها أكثر مما تخالط أبي، ولهذا كانت في طفولتها تخشاني ولكن ما لبثت هذه الخشية أن زالت مع الزمن وحل مكانها الحب الذي يكون بين أخ وأخته لا يرنق صفاءه شيء، وقد تزوجت كوثر من الطبيب الشهير أحمد عبد العزيز إسماعيل نجل الطبيب العملاق الأشهر عبد العزيز باشا إسماعيل، وقد أنجبا بنتين هما سناء، وهي حاصلة على الدكتوراة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وتدرس بها، وهي متزوجة من المهندس شريف نجل المستشار العظيم الخريبي بك، وأختها وفاء حاصلة على الماجستير من نفس الكلية وزوجها د. محمد الخولي طبيب أطفال وابن الطبيب الشهير الدكتور الخولي، كما أنجبت أختي وزوجها ابنهما الوحيد عبد العزيز وهو مهندس.
تلك هي أسرتي، وقد شهد أبي زواج زينات وزواج كوثر، وقد صحبها زوجها إلى أمريكا بعد الزواج مباشرة ليكمل دراسته بها، ولم يشهد أبي زواج شامل فقد تم بعد وفاته، ولو كان شهده لفرح به وباركه كل المباركة، فقد اختار شامل شريكة حياته ابنة محمود فهمي النقراشي باشا الذي كان صديقًا لأبي في مطالع شبابهما، ثم افترق الصديقان فترة حين نشأ حزب الأحرار الدستوريين عام ١٩٢٢م وكان أبي من منشئيه وأصبح أبي حرًّا دستوريًّا، وظل النقراشي باشا في الوفد حتى خرج عليه هو وأحمد ماهر باشا عام ١٩٣٨م ليكونا حزب الهيئة السعدية، وقد ألف النقراشي باشا الوزارة، وكان أبي وزيرًا فيها معه، ونال الباشوية فيها وعادت الصداقة تربط بينهما من جديد كأنهما ما تفرقا، وظلا صديقين حميمين إلى أن استشهد النقراشي باشا على يد أحد مجرمي الإخوان المسلمين.