الفصل الثاني
تراني أسوق إليك الحديث في عفوية ودون إعداد، فأنا لم أضع خطة للحديث إليك، وإنما أترك حياتي تتواكب في ترسل تمسك فيها الواقعة بالواقعة والمناسبة بالمناسبة، وما هكذا عهدت الكتب التي كتبت في السيرة الذاتية، ولكن أي بأس عليَّ وأي بأس عليك أن يكون حديثنا حديث صديق لصديق أو أخ إلى أخيه في غير تنسيق أو تبويب أو تجمل. فخذ بيدي ولنمضِ معًا على هذا الطريق، وأنا وإياك على فيض الكريم.
كان من بين الجماعة التي تنظم حفلة تأبين حافظ إبراهيم الأستاذ العظيم كامل الكيلاني، وكان في هذه الأيام قد بدأ كتابة مؤلفاته الرائعة في أدب الأطفال أو قصص الأطفال إن شئت، وهي مكتبة ليس لها مثيل في الأدب العربي أجمع، فقد استطاع الأستاذ الكيلاني أن يبسِّط الأدب العالمي ويجعل الطفل في سن باكرة يتعرف على أمهات هذا الأدب، وقد كانت أعظم هدية أتلقاها من أبي في هذه الفترة هي كتب كامل الكيلاني، وأذكر وأنا في الثامنة من عمري أن الأستاذ الكيلاني أهدى عشرة كتب من مؤلفاته إلى أبي وأعطاني أبي الكتب، ودخلت إلى غرفتي وانبطحت أرضًا، وبدأت أقرأ الكتب فما زلت بها حتى أتيت عليها وأنا في عالم سحري عجيب. أعتقد أن هذه السنوات كانت أجمل سنوات حياتي وأجمل أوقاتها هي تلك التي بدأت فيها أتعرف على الكتاب وأصاحبه صحبة دامت حتى يومنا هذا.
وقد استطعت بفضل مكتبة الكيلاني أن أنتقل إلى الأدب الكبير دون أن أشعر بأي جهد، فحين بدأت قراءته سيطرت عليَّ متعة القراءة، وانتقلت بعد ذلك إلى تيمور، ثم في غير ترتيب زمني رحت أقرأ للعمالقة مبهورًا بهالة العوالم التي تفتحت آفاقها أمام عقلي ووجداني وكياني كله وأنا أقرأ لطه حسين وهيكل والعقاد والزيات وأحمد أمين والمازني الذي كثيرًا ما جعلني أقهقه وأنا أقرؤه وحدي في غرفة مغلقة، وتعلو قهقهتي ويسمعها الذين بخارج الغرفة، والله وحده يعلم ماذا كان يظن بي الجالسون خارج الغرفة.
وأذكر في هذه الأيام أنني كنت في مدرسة المنيرة الابتدائية، وقد تضحك كثيرًا إذا علمت أنني كنت في فريق الكشافة، ورُقِّيت في هذا الفريق حتى أصبحت رئيسًا للفريق، وقبل أن أحصل على الابتدائية اشترى أبي بيتًا جديدًا في العباسية، وظللت بضعة أسابيع أستقل ترام رقم ٢٢ لأذهب من العباسية إلى المنيرة، ولكن هذا كان يكلفني أن أصحو مبكرًا عن موعد المدرسة بساعة أو أكثر، وقد عشت عمري أكره شيء إلى نفسي أن أبكر في الاستيقاظ، وما هذا إلا لأنني كنت أسهر إلى ساعات متأخرة من الليل أقرأ، وكانت القراءة تستهويني، وتبتلعني حتى ما أفيق إلى الساعة التي أنا فيها، وقد ظللت عمري كله لا أنام إلا بعد أن أقرأ، وقد أقرأ أربع ساعات متصلة أو أقل أو أكثر، ولكن لا بد أن أقرأ على أي حال، حتى في رأس البر، ولم تكن الكهرباء متاحة لي فكنت أضع على صدري بطارية جيب وأقرأ عليها حتى يخفت نورها وتصبح الكلمات غير مقروءة فأنام مرغمًا.
وهكذا انتقلت إلى مدرسة العباسية الابتدائية في منتصف العام الذي كان مفروضًا أن أتقدم فيه لنيل الشهادة الابتدائية.
والحقيقة أنني ليست لي ذكريات كثيرة في مدرسة العباسية إلا أنه كان لنا مدرس حبيب إلى نفوسنا نحن التلاميذ اسمه التاجي أفندي، ومنذ أسابيع قليلة التقيت بطبيب يحمل نفس الاسم، فإذا به ابنه الذي يبلغني أن أباه — أطال الله عمره — يتمتع بصحة جيدة والحمد لله، وكان الأستاذ التاجي هو المسئول عن فريق الكشافة وما إن علم أنني كنت رئيس الكشافة في مدرسة المنيرة حتى جعل مني رئيس الكشافة في مدرسة العباسية أيضًا.
ومن بين تلاميذ فصلي زميل لي لن أذكر اسمه حفاظًا مني على حق الزمالة، جاء في الحصة رسول إلى هذا الزميل فأبلغه بموت أبيه فرحنا جميعنا نعزيه وخرج التلميذ، وانقضى العام وتفرق فصلي.
ومرت أعوام ودخلت إلى كلية الحقوق وأصبح أبي وزيرًا للأوقاف من بين الوزارات التي تولاها في هذه الفترة، وفوجئت بهذا الزميل يرسل إليَّ خطاب توصية لأعين حامله إمامًا بأحد المساجد، واهتممت بالشيخ وأخذته معي في السيارة لأذهب به إلى وزارة الأوقاف، وبعد المنزل ببضعة أمتار توقفت السيارة في حاجة إلى بنزين فنزلت وناديت خادمًا من بيتنا ليأتيني من والدتي بثمن البنزين، وكان كل ما أطلبه لا يزيد على عشرة قروش، فقد كانت سيارتي صغيرة وكان البنزين يباع في هذه الأيام بوحدة الجالون، وكان الجالون أربعة لترات، وقد كانت كافية أن أسير بالسيارة يومين أو أكثر، وفي انتظار القروش العشرة نزلت من السيارة أنا والشيخ، وإذا بالشيخ يخرج من جيبه ظرفًا فيه بضعة نقود جديدة قدرت بالنظرة السريعة أنها خمسة جنيهات وقدم الشيخ النقود إليَّ، وفي لحظة وجدت الدماء تصعد إلى رأسي، وأتناول النقود وأمزقها وألقي بها إلى الأرض وما زلت ألوم نفسي على هذا الذي فعلته حتى اليوم، لا يخفف عني اللوم إلا أنني حين مزقت النقود لم أجعلها غير صالحة للاستعمال بعد ذلك.
وطردت الرجل الذي راح يلملم النقود وانصرف، ومرت السنوات وتزوجت وأقمت بشقة بالزمالك، وكنت مع زوجتي في سينما في الحفلة الأخيرة وعدت إلى منزلي الساعة الثانية عشرة مساء تقريبًا، فوجدت هذا التلميذ الذي أُبلغ بموت أبيه في فصلنا بالعباسية ودهشت لوجوده، فإذا به يبلغني أن أباه مات اليوم، وأنه لا يملك ما يدفنه به وطلب مني مبلغًا من المال لم يكن من اليسير وجوده في هذه الأيام ورحنا أنا وزوجتي نجمع ما معنا حتى أكملنا المبلغ وأعطيته له وأنا أعلم كذبه، وأغلب الأمر أنه نسي أنني شهدت علمه بموت أبيه قبل اليوم الذي قصد إليَّ فيه بأكثر من أحد عشر عامًا ولعله توهم أنني نسيت ذلك اليوم.
ولم أقل له إنني أذكر يوم وفاة أبيه، ولكنني لم أرَه بعد ذلك اليوم، ولعله رأى في عيني ما حاولت أن أخفيه عنه.
انتقلت بعد ذلك إلى مدرسة فاروق الثانوية وربما كانت أفخم مدرسة في مصر في ذلك الحين، فقد كانت حديثة الإنشاء والذي أنشأها رجل التعليم الشهير الأستاذ إسماعيل القباني على أساس أن تكون مدرسة نموذجية، وتولى هو نظارتها، ولكنني حين ذهبت إليها كان قد تركها، وكان الناظر فيها الأستاذ العظيم عبد الواحد بك خلاف، ثم تلاه الرجل العظيم الآخر نجيب هاشم الذي أصبح بعد ذلك وزيرًا للتعليم، ثم سفيرًا لمصر في الفاتيكان. ولعله من الطريف أن أروي أنه كان سفيرًا في أول مرة أزور أنا فيها روما مقر سفارته، وقبل سفري عثرت على خطاب منه إلى أبي يشكو فيه من كثرة تغيبي عن المدرسة، وعلى ظهر الخطاب رد أبي الذي كتبه لينقله سكرتيره ويرسله إلى حضرة الناظر، وكان خطاب أبي يحث نجيب بك أن ينزل بي ما يشاء من عقاب، وأن أبي من جهته سيحرص على ألا أتغيب عن المدرسة، وقد استقبلني نجيب بك في روما أحسن استقبال وقدمت له هذا الخطاب الذي لا يشرفني، وضحكنا كثيرًا مما يحويه، وقد تفضلت السيدة الكريمة باصطحابي أنا وزوجتي إلى كثير من معالم روما ونوافيرها، وكنت في ذلك الحين قد أصبحت أديبًا معروفًا وكنت حصلت قبل زيارتي لروما بعشر سنوات على جائزة الدولة التشجيعية، وهكذا كان نجيب بك سعيدًا بي سعادة أب بابنه، وقد كان محقًّا في شكواه من تغيبي فقد كنت قارئًا متهوسًا، ولم أكن أترك المدرسة لأذهب إلى أي مكان، وإنما كنت أنزل من الطابق الأعلى في بيتنا وأتسرب إلى حجرة في الطابق الأدنى وأقفل الباب وأروح أقرأ في كتب الأدب.
وكان كبير الخدم عندنا اسمه عم أحمد، وكنا نناديه بلقب عم أحمد توقيرًا له، وفوجئت يومًا وأنا في خلوة قراءتي بباب الحجرة يكاد ينخلع من شدة الخبط عليه، وفزعت إلى الباب وفتحته، فإذا بوالدتي أمامي تتميز من الغيظ، ولولا أنني كنت قد تجاوزت الطفولة إلى مطالع الشباب لانهالت عليَّ ضربًا، وأمرتني أن أذهب إلى المدرسة فورًا، فقد كانت أمي حريصة حرصًا مبالغًا فيه أن أنال الشهادة العالية لدرجة أنني كنت إذا ظهرت نتيجة العام وأنا لي ملحق في مادتين أو أكثر تمرض والدتي بضعة أيام وتمتنع عن الطعام. وكان حزن والدتي يتمثل في النوم، كانت إذا حزنت نامت، وهذا من لطف الله بها وكانت رحمها الله تستحق هذا اللطف من الله، فإني لم أعرف أمًّا رءومًا في مثل حنانها، وكانت تعين البائسين وذوي الحاجة، وتسعى لهم لدى أبي حتى يقضي حوائجهم، ولا أذكر أنها تأخرت عن قاصد لها مطلقًا.
لم أنتهِ بعد من قصة أمي وضبطها لي متخلفًا عن المدرسة، عدت من المدرسة وذهبت إلى والدتي، وكانت — رحمها الله — قريبة الرضى، وظللت أتلطف معها حتى عرفت أن الذي أبلغها بعدم ذهابي إلى المدرسة هو عم أحمد، ومن العجيب أنني في هذه السن قدرت له ما فعل وشكرته في نفسي، فما كان يبغي إلا مصلحتي من وجهة نظره، وبحثت عنه فقيل لي إنه ذهب إلى البلد هو وأسرته الكبيرة، وكلهم من بلدتنا غزالة، ولكنه كان يقيم مع زوجته وأولاده ببيتنا بالعباسية بحجرة بالبدروم، وكانت حجرته دائمًا غاية في النظام والنظافة، فقد كان هو دائمًا حسن الهندام نظيفًا، وكذلك زوجته أم زكية التي أرضعتني على ابنها عبد العظيم، وكثيرًا ما كنت أزورها في حجرتها بالبدروم، بل كثيرًا ما كنت أتناول طعامي في هذه الحجرة.
طالت غيبة عم أحمد بالبلدة وهمس لي سائقنا الذي كان من البلد أيضًا أن عم أحمد لن يعود.
– لماذا؟
– لأنه قدر أنك ستكون غاضبًا عليه.
ودهشت من إخلاص هذا الرجل، لقد وازن بين بقائه في عمله الذي هو مورد رزقه الوحيد وبين أن يغمض عينيه عن تخلفي عن المدرسة، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم فلاحي كما يعتقد، فأبلغ والدتي بأمري وترك عمله وتوكل على الله، وقد كان لصيقًا بأبي، فقد كان خادمه الخاص، وكان يسافر معه أوروبا، ويعرف كيف يريحه ويلبي كل طلباته دون أن يطلبها، فقد قضى حياته كلها مع أبي هو وأبوه كذلك، وأقاربه جميعًا يعملون في الأرض عند أبي.
سارعت فطلبت عم أحمد في غزالة بالتليفون، وطبعًا لم يكن ببيتنا هناك، ولكني طلبت من الذي أجابني بالبيت أن يناديه لينتظر مني مكالمة … وكلمته.
– ماذا يا عم أحمد … لماذا لم تأتِ؟
فقال في صوت به آثار ضحك: أتريدني أنت أن أجيء؟
– طبعًا.
– بكرة سآتي.
وأرجو الله أن أكون قد أكرمت هذا الرجل على قدر ما شهدت من تضحيته وحبه وإخلاصه لنا.
في مدرسة فاروق بدأت رحلتي مع الملاحق، فكنت دائمًا أنتقل من السنة إلى الأخرى بملحق حتى حصلت على شهادة الثقافة، وهي تعطى لمن يتجاوز الامتحان في السنة الرابعة الثانوية، وهي السنة السابقة على شهادة التوجيهية التي أصبح اسمها الثانوية العامة.
وقد كان يوم حصولي على شهادة الثقافة يومًا مشهودًا في حياتي، كنت في ذلك اليوم أترقب ظهور مقالتي الثانية في مجلة الثقافة التي كانت تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي أعظم لجنة أدبية عرفها تاريخ مصر، فقد كانت تضم عمالقة الأدب جميعًا بلا استثناء.
ومع أنني كثيرًا ما رويت كيف نشرت أول مقالة لي في حياتي إلا أنني أعتقد أنني لن أستطيع أن أقدم إليك هذا الكتاب دون أن أذكر بداية حياتي مع الكتابة، وأنا قبل كل شيء وبعد كل شيء كاتب، وفي العام القادم أكون قد قطعت من عمري خمسين عامًا في الكتابة.
كنت طالبًا في الثقافة السنة الرابعة الثانوية في مدرسة فاروق الأول الثانوية، وكان يدرِّس لنا اللغة العربية أستاذ طيب اسمه الأستاذ ضاحي كتبت له موضوع إنشاء استعملت فيه كلمة تساءل فيما أذكر، فإذا يضع تحتها خطًّا ويقول لي: تساءل على وزن تفاعل، وتفاعل لا تكون إلا في تبادل الشيء بين شخصين فاستعمالك لها غير صحيح.
وعجبت من هذا الذي يقول، فما إن ذهبت إلى المنزل حتى هرعت إلى القاموس وما لبثت أن تبينت أن الأستاذ أخطأ خطأً فادحًا، وكان خطأ الأساتذة في ذلك الحين كبيرة من الكبائر، كتبت كلمة عنوانها تصحيح أوراق، وكان الأستاذ الشاعر العظيم العوضي الوكيل قد عرَّف أبي وعرَّفني بصديق امتدت صداقتي الوطيدة به حتى اختاره الله إلى جواره هو الأستاذ عثمان نويه. وكان والد عثمان نويه يعمل في ذلك الحين مدرسًا بمدرسة خليل أغا زميلًا للشاعر العوضي الوكيل شيخًا معمَّمًا، وكان والدي زميلًا لأحمد بك أمين الذي كان في ذلك الوقت عميدًا لكلية الآداب، وأديبًا من أدباء الصدارة في العالم العربي، وكان قبل ذلك زميلًا لوالد عثمان نويه في مدرسة القضاء الشرعي، وكان أحمد بك أمين يعتبر نفسه والدًا روحيًّا لابن زميله عثمان نويه.
قرأ عثمان نويه الكلمة الصغيرة التي كتبتها عن خطأ الأستاذ وقال سأعرضها على أحمد بك أمين.
وانتظرت عودة عثمان من زيارة أحمد بك أمين بصبر نافد، فقد كنت في السادسة عشرة من عمري، وكان نشري بمجلة الثقافة التي كانت تحتل هي وأختها الرسالة مكان الصدارة في الحياة الأدبية أمرًا يفوق كل أحلامي.
وعاد عثمان نويه، وقال إن أحمد بك رضي عن الكلمة وسينشرها، ولم أصدق ورحت أسأل عثمان عن تفاصيل ما دار بينه وبين العميد الجليل، فقال إنه قرأها … سأل: هل هي لمدرس زميلك؟
فقال عثمان في سرعة بديهة: بل هي لصديق محامٍ.
ولم يجرؤ أن يصارحه أنها لطالب في الثقافة، ونُشرت الكلمة، وكان زملائي في مدرسة فاروق يقرءُون الثقافة والرسالة ويهتمون بالأدب حتى أننا أنشأنا لأنفسنا مكتبة خاصة في الفصل يضع فيها التلاميذ كل الكتب التي يشترونها في دولاب أحضرته أنا من منزلنا، وتظل الكتب في الفصل طوال العام الدراسي، ويسترد كل تلميذ كتابه بعد أن يكون الفصل كله قد قرأه.
ولم أكن أخبرت أحدًا من زملائي شيئًا عن كلمتي التي أرسلتها للثقافة فكانت المفاجأة مذهلة وعرف الزملاء أنني صاحب الكلمة على الرغم من أنني وقعتها بتوقيع: «تلميذ قديم»، وتبادل تلاميذ المدرسة كلها وأساتذتها أيضًا قراءة الكلمة، واستدعاني نجيب بك هاشم — رحمة الله عليه — وطلب إليَّ في لطف وكياسة ألا أهين أساتذتي وأذكر أنني قلت له: ما دمت أملك قلمًا فلا يستطيع أحد أن يظلمني. ولك أن تقدر كبر هذه الكلمة من صبي يافع ما زال تلميذًا بالثانوي. ولم تنشر له إلا كلمة صغيرة بدون توقيع، وحتى يومنا هذا كلما ذكرت هذه الكلمة تأكد عندي أن الغرور لا يكون إلا مع المبتدئين، وأنه يتلاشى ويتخافت ويذوب كلما كبر المرء وبلغ مبالغ النضج.
كان من الطبيعي بعد أن نشرت الكلمة أن يصارح الأستاذ عثمان نويه أحمد بك بأن الكاتب تلميذ بالسنة الرابعة الثانوية، وطلب أحمد بك أن يلقاني وذهبت إليه، وكانت بداية تلمذة مني للأديب العملاق، وقد طلب إليَّ أن أقرأ بعض كتب التراث وسمَّى لي أسماءها، وسارعت إليها وقرأتها جميعًا ووجدت في قراءتها متعة عظيمة، أذكر منها على سبيل المثال كتاب العمدة لابن رشيق، وكتاب الكامل للمبرد وغيرهما وغيرهما، وقد جعلني هذا أقرأ كتاب الأغاني ولم أستطع أن أكمله إلا حين أهدى إليَّ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كتاب الأغاني مختصرًا ومرفوعًا منه العنعنة الذي حققه هو والأستاذ إبراهيم الإبياري، وقد قرأت هذا الكتاب أكثر من مرتين أو ثلاث.
وأعطيت أحمد بك أمين مقالة أخرى عنوانها «شعراء مغمورون»، وكتبت فيها عن الأستاذ أحمد القرعيش والأستاذ توفيق العوضي أباظة.
وما لي لا أذكر لك ما اخترته لكل من الشاعرين في هذه المقالة.
أما الأستاذ أحمد القرعيش فقد أخذت له هذه الأبيات:
أما أبيات توفيق العوضي، فقد كانت خطابًا منه إلى المستشار الأديب المحقق جمال الدين بك أباظة عم الشاعر العملاق عزيز باشا أباظة، وفي الأبيات يشكو توفيق إلى جمال بك ابن أخيه أنه أرسل إليه خطاب تحية فلم يرد عليه، تقول الأبيات:
وكان إعطائي المقالة لأحمد بك أمين مواكبًا في الزمن مع فراغي من الامتحانات واستعداد منزلنا للذهاب إلى رأس البر للمصيف، فقد كانت الحرب العالمية على أشدها وانتقل المصطافون من الإسكندرية إلى رأس البر.
وذهبنا إلى رأس البر، ومكثت أترقب ظهور المقال، وقد كنت لا أطيق أن أبحث عنها مع بائع الجرائد، بل كنت أستبق الزمن وأذهب إلى شارع النيل في رأس البر أنتظر المركب الذي كان يأتي بالصحف، وأشتري المجلة، ولكني لا أجد بها المقالة فتضيق بي الحياة، وأحسب اليوم أن انتظاري لظهور المقال كان يؤزني إذا لم أشعر به في انتظار نتيجة شهادة الثقافة، وكنت قد أخبرت أبي أنني أعطيت مقالة لأحمد بك أمين، وكان يشعر بحزني كلما ظهر عدد من مجلة الثقافة وليس به مقالتي.
حتى كان ذلك اليوم المشهود الذي بدأت به هذا الحديث إليك، في ذلك اليوم ذهبت أستحم في البحر، وطبعًا نزلت إلى البحر بدون نظارة النظر التي كنت قد بدأت لبسها قبل هذه الفترة بسنتين تقريبًا وأنا بها أرى حتى السطر الأخير من اللوحة بدرجة ٦ / ٦ وبغيرها يكون نظري ضعيفًا لا أستطيع أن أحدد الأشياء البعيدة.
وفي البحر استطاع بصري أن يرى عن بعد رجلًا مسنًّا يحتزم بقرعتين ليعيناه على البقاء طافيًّا على سطح الماء، ولا أدري لماذا اقتربت من هذا المسن، ربما لأنني منذ طفولتي أحس حنينًا لكبار السن، وربما لأنني عجبت من استعمال القرع المجفف للطفو وكانت العجلات هي المستعملة في هذا الغرض.
وفوجئت حين اقتربت أن هذا الرجل لم يكن إلا أستاذنا العظيم أحمد بك أمين الذي لقيني أجمل لقاء، وسألته عن مصير مقالتي فقال لي شيئًا لم أكن أتوقعه قط، قال إنهم لم يشاءوا أن ينشروا شيئًا عن عزيز بك أباظة، ولم يكن قد نال الباشوية بعد، وأنهم أرسلوا إليه خطابًا يستأذنونه في نشر أبيات توفيق العوضي عنه، وقد أعجبت كل الإعجاب بمنطق المجلة وبخلق المشرفين عليها، وقلت لأحمد أمين إنني أستطيع أن أرسل أبياتًا أخرى غير هذا فقال: «يكون أحسن.» وملأت نفسي الفرحة، وخرج أحمد بك من البحر وتبعته أنا ذاهبًا إلى عشتنا وأخبرت أبي بسبب تأخير نشر المقالة، وبعد الظهر من اليوم نفسه ذهبت إلى مسرح برأس البر وحجزت لنفسي تذكرة لمشاهدة عميد الفن الكوميدي في مصر والشرق نجيب الريحاني، وعند عودتي كانت الشمس لم تغرب بعد، وإنما تميل إلى الغروب وجدت عامل تلغراف يدور بين العشش تائهًا، سألته عمن يريد؟ فقال: أريد عشة دسوقي بك أباظة. قلت له: أنا ابنه. فسلمني برقية من قريبنا المرحوم الأستاذ عبد الله عوضي أباظة الذي كان مدرسًا بالثانوي، وكانت البرقية تحمل تهنئة بنجاحي في شهادة الثقافة، ومنذ ذلك اليوم وأنا أستبشر خيرًا كلما رأيت الريحاني في السينما أو في التلفزيون، ذهبت في اليوم نفسه إلى عشة أحمد بك أمين ووجدت عنده العلامة القانوني العظيم السنهوري باشا، وسلمت أحمد بك مقالة أخرى فيها أبيات لتوفيق غير هذه التي أوقفت النشر.
وهكذا كان هذا اليوم يومًا مشهودًا في حياتي كما ترى، حدث بعد ذلك أن رافقت أبي إلى بلدتنا غزالة، وكانت المقالة قد نشرت، فوجدت الأستاذ القرعيش قد نظم أبيات تحية لي سأذكر البيت الأول منها فقط؛ لأنها تؤرخ الفترة جميعها يقول في مطلع الأبيات:
•••
في غمرة حديثي عن تلك المرحلة لم أذكر أن أبي تولى الوزارة لأول مرة في ٢٦ يونيو سنة ١٩٤١م، وكنت في السنة الثالثة الثانوية، وكان توليه الوزارة قبل تاريخ مولدي بيومين، وقبل أن يتولى أبي الوزارة كان حزب الأحرار قد رشحه لرياسة مجلس النواب بينما رشحت الهيئة السعدية أحمد ماهر باشا وكان رئيس الوزارة المرحوم حسن صبري باشا، وقصة هذا الرجل مع أبي عجيبة، فقد حدث في سنة ١٩٣٨م أن أبي كان بصفته سكرتير عام حزب الأحرار يقوم بإعداد أسماء مرشحي الحزب في الانتخابات، وكان رئيس الوزراء محمد محمود باشا، ولم يشترك أبي في الوزارة، وكان هذا موضوع دهشة كبرى من الناس ألا يشترك سكرتير عام الحزب في الوزارة، ولكن محمد باشا اعتذر له اعتذارًا شديدًا، وجد أبي نفسه مضطرًّا أن يقبله لما لمحمد باشا محمود من مكانة خاصة في نفسه، وبينما أبي مشغول بإعداد الانتخابات كلمه حسن باشا صبري في التليفون وكان في ذلك الحين وزيرًا في وزارة محمد باشا، وكان مقربًا من الإنجليز، وطلب إلى أبي أن يضع أحد الأسماء مرشحة في دائرة معينة، ولكن أبي اعتذر بأن هذه الدائرة بها عضو قديم في الحزب؟ ولا يستطيع أن يتخطاه فإذا بحسن صبري يقول لأبي: أتناقشني؟!
فوضع أبي سماعة التليفون في وجهه …
وبعد ذلك ببضعة أشهر حدثت في الوزارة أزمة استدعت إخراج وزير الزراعة من وزارته، وكان مجلس الوزراء مجتمعًا حين قال محمد باشا للوزراء إنه مضطر أن يفض الاجتماع؛ لأنه على موعد مع الملك ليوقع منه مرسوم تعيين وزير الزراعة، وسأله الوزراء: مَن الوزير؟
وقال محمد باشا: إنه برلنتة (أي شخص من ألماس).
– مَن؟!
– دسوقي أباظة.
فإذا حسن صبري باشا يقول: إذا دخل دسوقي أباظة الوزارة من هذا الباب، فسأخرج من الباب الآخر؟
وهكذا لم يُعين أبي وزيرًا في وزارة محمد باشا محمود، وظلت الوزارة بغير وزير زراعة حتى استقالت.
وجاءت بعدها وزارة مستقلة يرأسها علي باشا ماهر لم يشترك فيها أحزاب.
ثم ألَّف بعد ذلك حسن صبري الوزارة، وكان طبيعيًّا ألا يشترك أبي في وزارته.
ولعل القارئ يدهش أن أبي رغم هذا الذي فعله معه حسن باشا صبري كان دائم المديح له في العلن، ولنا نحن أبناءه والمقربين إليه، فإنني لم أجد أحدًا في العالم ولا في التاريخ يفصل بين الحق وبين مشاعره الشخصية، كما كان أبي يفعل.
وبهذه المناسبة أذكر لأبي قصة جديرة بأن تُروى، كان المدرس الخاص الذي يدرس لي مادة الرياضة على صلة وثيقة بأسرة وزير وفدي كبير، وكنت خليقًا أن أذكر اسم الأستاذ لولا خشيتي أن يكشف اسمه عن شخصية الوزير الوفدي، وهو أمر لا أقبله، فإنني إن فعلته أكون بهذا قد خرجت عن النهج الذي انتهجه أبي، والذي سيتضح لك من هذه القصة، جاء أستاذ الرياضة، وطلب إلى أبي أن يحدد موعدًا ليلقاه فيه أخو الوزير الوفدي الكبير، وجاء الأخ والتقى بأبي وإذا به يقدم أوراقًا لأبي تثبت أن الوزير الوفدي يأكل أموال إخوته ويغتصبها لنفسه، وطلب الأخ إلى أبي أن ينشر هذه الوثائق في جريدة السياسة التي كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين، وإذا بأبي يقول له: يا ابني نحن لا نحارب خصومنا السياسيين بالإيقاع بينهم وبين إخوتهم وأسراتهم، فهذه الأمور لا تتصل بالسياسة الشريفة، أنا لا أعرف أخاك معرفة شخصية، ولكنني مستعد أن أدعوه إلى بيتي، وأدعوك أنت وإخوتك معه وأصفِّي ما بينكم من خلافات في جلسة أسرية، أما أن أنشر هذه الخلافات الخاصة فليس من أخلاقنا.
وانصرف أخو الوزير الوفدي ومعه أوراقه.
ونعود إلى حسن باشا صبري.
وحدث أن اختلف السعديون مع حسن باشا صبري، وتركوا الوزارة، وجاء موعد انتخابات الرئاسة لمجلس النواب، وكان رئيس المجلس أحمد باشا ماهر، وكان لا بد أن تُجرى الانتخابات حسب النص الدستوري، ورشح حزب الأحرار أبي كما قدمت، وكان نجاح أبي مرجحًا.
وفي أثناء حملته الانتخابية، وقبل موعد الانتخابات بيومين، كنا جالسين مع أبي أنا وخالي علي واثنان أو ثلاثة من الأصدقاء وكان باب المكتب مغلقًا، ففوجئنا بالباب يفتح بقوة، وتشريفاتي رئيس الوزراء واقفًا به، وكان اسمه الأستاذ ميشيل ساويرس، وكان معروفًا بأدبه الجم، وكان يعمل مع كل رؤساء الوزراء؛ لأنه لم يكن له شأن بالسياسة مطلقًا، وإنما كان خبيرًا بشئون وظيفته، صاح ميشيل ساويرس في دربة ومران: دولة رئيس الوزراء.
وقام أبي إلى بهو المنزل، وتبعناه، ورأينا حسن باشا صبري يحتضن أبي وهو يقول: أهلًا سعادة رئيسنا العظيم.
ورحب به أبي ودخلا معًا إلى حجرة الاستقبال، وأُغلقت عليهما الأبواب، وبقي معنا في المكتب ميشيل ساويرس نتحدث في أي شيء ما عدا السياسة.
وطالت الجلسة بين أبي وبين رئيس الوزراء، وأخيرًا خرجا وودَّع أبي رئيس الوزراء وشملنا الحبور، فلو لم يكن نجاح أبي مرجحًا ما زاره رئيس الوزارة لتصفو علاقته به، فقد أدرك أن الأمور لن تستقيم إلا إذا كان رئيس مجلس النواب على علاقة طيبة مع رئيس الوزراء.
وجاء موعد الانتخابات، وبدأ اليوم بداية طبيعية، وقد كان لافتتاح البرلمان في ذلك العهد مراسم رائعة. كان الملك يركب عربة تجرها خيول، والعربة مفتوحة وتسير في طرقات القاهرة من عابدين إلى مجلس النواب، ويكون رئيس الوزراء بجانب الملك في هذا الموكب تحف بهما الخيول يركبها الحرس الملكي ويتقدم الموكب الموتسيكلات وتقف جموع الشعب على الصفين تصفق وتهلل، شأنها دائمًا، حتى يصل الموكب إلى دار البرلمان وتنطلق المدافع مؤذنة بوصول الموكب، ويدخل الملك إلى قاعة مجلس النواب، ويجلس بين تصفيق الأعضاء على كرسي العرش بالمجلس الذي لم يعد موجودًا الآن بالقاعة، وإنما نقل إلى متحف مجلس النواب، وبعد ذلك يبدأ رئيس الوزراء في إلقاء خطبة العرش، وكان المفروض أن الملك هو الذي يلقي خطبة العرش، ولكن لأن الدستور النيابي بدأ في عهد الملك فؤاد الذي كان لا يجيد العربية فقد استقر العرف الدستوري على أن يلقى رئيس الوزراء خطبة العرش باسم الملك فيقول: «وستعمل حكومتي»؛ لأنه يتكلم بلسان الملك لا بلسان رئيس الوزراء.
بدأ حسن باشا صبري يلقي الخطبة، ولكن فجأة يسقط حسن باشا صبري على الأرض مصابًا بأزمة قلبية لا تمهله دقائق ويلقى ربه، ويقوم الملك عن عرشه إلى حجرته بالمجلس ويعلن تأجيل افتتاح البرلمان لأول مرة في التاريخ ولآخر مرة أيضًا، فإن هذا الحدث ليس من شأنه أن يتكرر ويموت رئيس الوزراء، وهو يلقي خطاب العرش، بل أحسب أن هذا الذي وقع لم يقع في أي بلد آخر على مدى تاريخ الحياة النيابية في العالم.
وألَّف الوزارة بعد حسن صبري المرحوم حسين سري باشا، ولم يشرك في الوزارة رشوان محفوظ باشا الذي كان طامعًا فيها كل مطمع. ويغضب رشوان محفوظ فيطلب من أنصاره من نواب الصعيد ألا ينتخبوا مرشح الحزب الذي ينتمي إليه والذي كان أبي رغم صداقة رشوان باشا لأبي، فينسلخ من أنصار أبي أكثر من سبعة عشر صوتًا، ويصنع الصنيع نفسه حفني محمود شقيق محمد باشا محمود للأسباب نفسها التي أغضبت رشوان محفوظ، وكان أنصار حفني محمود حوالي عشرة نواب، وهكذا يفقد أبي قرابة خمسة وعشرين صوتًا ولم يكن محتاجًا إلا لأحد عشر صوتًا لينجح.
وهكذا شاء الله أن يسيء حسن صبري باشا إلى أبي حيًّا وميتًا، حيًّا حين رفض أن يزامله في الوزارة، وميتًا حين تسبب موته في انسلاخ ما يقرب من خمسة وعشرين صوتًا عن انتخاب أبي لرئاسة مجلس النواب.
كان محمد باشا محمود على قيد الحياة أثناء هذه الانتخابات، ولكنه كان مريضًا لا يترك غرفته، وقد زاره أبي وأبدى الرجل العظيم أسفه لتفتت كلمة الحزب وكان أكبر أسف الزعيم النبيل الذي اشتهر بهذا اللقب ما فعله أخوه حفني وما فعله قريبه رشوان محفوظ، ولكن أبي قال له ليخفف عنه سخطه على الحزب: إن الانتخابات قد جرت في غيبة الزعيم، وحين تسترد صحتك إن شاء الله ستعود وحدة الحزب وسيسترجع تماسكه.
وشاء الله أن يختار محمد باشا محمود إلى جواره، وانقسم الحزب حول الرئيس الجديد، حول من يختاره خليفة للزعيم الراحل، منهم مَن كان يؤيد مصطفى باشا عبد الرازق وعلى رأسهم أحمد باشا عبد الغفار لصلته الوثيقة بأسرة عبد الرازق وبحجة أن هذه الأسرة قد ضحت باثنين من زعمائها في سبيل الحزب.
والفريق الآخر كان يؤيد الدكتور محمد حسين هيكل باشا مرتئيًّا أنه أكثر خبرة بالحياة السياسية من مصطفى باشا الذي عرف عنه العزوف عن المجادلة أو المصاولة.
وأنت ترى كم كان كل مرشح من المرشحين يمثل قمة في الثقافة العربية وواجهة مشرقة مضيئة لمصر حتى يومنا هذا.
على أيه حال رأى الحزب أن يلجأ إلى عبد العزيز باشا فهمي يرجوه أن يقبل الرئاسة لفترة قصيرة حتى يستقر الحزب على واحد من المرشحين العلمين.
وقَبِل عبد العزيز باشا رغم ضعف صحته، وأصبح رئيسًا للحزب، وانتُخب هيكل باشا نائبًا لرئيس الحزب.
حين أصبح عبد العزيز باشا فهمي رئيسًا للحزب، فإن أول ما قاله لأبي أنه لم يقبل رئاسة الحزب إلا ليرفع الظلم الذي أوقعه الحزب على أبي مرتئيًّا أن بقاءه بعيدًا عن الوزارة طوال هذه المدة يدل على أن الحزب لا يعرف كيف يقدر رجاله، وكان عبد العزيز باشا يحب أبي غاية الحب، وأغلب الأمر أن ذلك الحب يرجع إلى تقارب أخلاق الرجلين تقاربًا لصيقًا، فقد كان كلاهما لا يخشى في الحق لومة لائم ولا يمنعه شيء عن محاربة الظلم وعن الانتصار للعدالة والشرف مهما تكلفا في سبيل ذلك من خسائر مادية كانت هذه الخسائر أم كانت أدبية، وكان عبد العزيز يضع يده على صدر أبي ويمررها عليه وهو يقول: هذا الصدر كله إخلاص، كله إخلاص. ويكررها.
وكنت أزور عبد العزيز باشا فهمي في رفقة صديق عمري عبد الفتاح الشناوي فكان يقول: «مفيش زي أبوك في كل السياسيين دول، مفيش زي أبوك.»
وأهداني مرة كتابه عن الحروف اللاتينية فكتب الإهداء: «لسيدي ثروت بك أباظة»، وكدت أدوخ من هول الكلمة الصادرة عن هذا الجبل الشامخ من العلم والسياسة والقانون والوطنية، وكنت ذاهبًا في ذلك اليوم إلى عمي عزيز باشا أباظة، وكانت معي تجارب روايته العباسة، فلم أترك حقيبتي في السيارة، وإنما صحبتها معي، وقلت لعمي عزيز: تصور أن عبد العزيز باشا فهمي كتب لي إهداءً يقول فيه كذا!
ولم يصدق عزيز باشا، وقال لي: الفضاء واسع.
وهي عبارة تقال حين يسمع الإنسان شيئًا يتصور أنه «فشر»، ففتحت حقيبتي وأنا أقول: ولماذا؟ لا واسع ولا ضيق، هاك الكتاب.
وقرأ عزيز باشا الإهداء وبدا عليه الذهول الذي أصابني.
نعود إلى عبد العزيز باشا فهمي وأبي والوزارة، فوجئ أبي بعبد العزيز باشا فهمي يقول له: الرجل حسين سري يعتمد على حزب الأحرار وحده في المجلس ولا يمثل الحزب إلا خمسة وزراء فقط.
وبجرأة عبد العزيز باشا فهمي المعروفة قابل حسين سري، وأصر أن يمثل الأحرار الدستوريين في الوزارة سبعة وزراء، وتم التعديل فعلًا في ٢٦ يونيو سنة ١٩٤١م، ودخل أبي وزيرًا للشئون الاجتماعية ورشوان محفوظ وزيرًا للزراعة.
واستُقبل تعيين أبي وزيرًا برنة فرح كبرى في الشرقية وفي مصر جميعها، وأذكر أن مصورًا فوتوغرافيًّا كان في شارع من أهم شوارع القاهرة وضع صورة أبي ورشوان باشا في معرض صوره الذي يطل على الشارع وكتب تحتها بخط أنيق: الوزيران الجديدان.
بقيت هذه الوزارة في الحكم قرابة شهر، وكانت الشرقية تقيم حفل تكريم لأبي بمناسبة توليه الوزارة، وكان اليوم المحدد لهذا التكريم هو اليوم الذي استقالت فيه الوزارة، وكان سبب الاستقالة أن سري باشا كان قد أزال الخلافات التي كانت بينه وبين الحزب السعدي، وتم الاتفاق بينهما على أن يشارك الحزب السعدي في الوزارة ويمثله فيها خمسة وزراء، فكان طبيعيًّا أن تستقيل الوزارة ويعاد تشكيلها وينقص عدد الوزراء من حزب الأحرار الدستوريين إلى خمسة وزراء بدلًا من سبعة، وكان طبيعيًّا ألا أذهب أنا أيضًا إلى الزقازيق لحضور الحفلة فقد كنت يومها لا أدري إن كان المكرَّم أبي سيظل في الوزارة أم سيخرج منها.
وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم دق جرس التليفون في منزلنا وكان أبي نائمًا في القيلولة، فما كان — رحمه الله — يعنيه أن يبقى في الوزارة أم لا يبقى، فقد كانت شخصيته أكبر من أي منصب، رفعت سماعة التليفون وجاء في الصوت على الطرف الآخر: منزل معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة.
– نعم.
– معالي الوزير موجود؟
– مَن يريده؟
– مجلس الوزراء؟
فلم أشأ أن أخبره أن أبي نائمًا وإنما تجرأت وقلت للمتحدث: نعم موجود.
وتجرأت مرة أخرى وأدخلت التليفون إلى أبي في قيلولته، وكان المتحدث يستدعي أبي للذهاب إلى مجلس الوزراء في الساعة السادسة، ووعد أبي بالحضور، وطلب مني أن أتركه ليكمل قيلولته، وكأن شيئًا لم يحدث، كم كان عظيمًا لا يهزه عاصف من فرح أو غيره.
وعاد أبي إلى الوزارة في وزارة الشئون الاجتماعية، وخرج اثنان من وزراء حزب الأحرار الدستوريين، من بينهما رشوان باشا محفوظ الذي عُيِّن قبل شهر من الوزارة الجديدة، وكانت هذه آخر مرة يشترك فيها في الوزارة.
وبقيت هذه الوزارة في الحكم حتى ٤ فبراير سنة ١٩٤٢م الشهيرة حين حاصر الإنجليز القصر الملكي، وطالبوا بتعيين النحاس باشا رئيسًا للوزارة أو يعزلوا الملك فاروق، وكان ما كان من اجتماع زعماء الأحزاب ورؤساء الوزارات السابقين بقصر عابدين، وعرض المجتمعون على النحاس باشا أن يؤلف وزارته مؤتلفة من الأحزاب ليواجه الحالة الخطيرة التي تمر بها البلاد، فرفض هذا العرض بكل إصرار، وصاح أحمد ماهر باشا في وجه النحاس بكلمته الشهيرة: إنك تأتي إلى الحكم على أسنة الحراب الإنجليزية. فلم يأبه النحاس بهذا، وخضع الملك لتهديد الإنجليز وأصدر مرسومه بتأليف الوزارة.