الفصل الثالث
ولا أنسى في اليوم التالي كنت أركب السيارة الخاصة، لا سيارة الوزارة طبعًا مع أبي، وقلت له: كيف سيواجه النحاس الجماهير بعد هذا؟ وفي ذكاء السياسي العملاق قال لي: سيقول: لقد أنقذت عرش مصر.
وما لبث النحاس أن قال هذه الأضحوكة وكأن أبي كان في عقله حين توقع أنه سيدعي هذا الادعاء، والغريب أن الجماهير الوفدية تجمعت حول مجلس الوزراء لتهنئ النحاس ووزارته القادمة بالحراب الإنجليزية، وفي أثناء تجمعها حضر إلى مجلس الوزراء السير مايلز لمبسون، وكان ضخم الجثة بصورة غير مألوفة، فقد كان طويل القامة إلى حدٍّ بعيد، كما كان بالغ السمن، والعجيبة أن الجماهير الوفدية حملته على أكتافها وهتفت باسمه ولم تشعر بالهوان وهي تحمل المندوب السامي البريطاني على أكتافها بعد أن زلزل عرش مصر، وكان الملك إلى ذلك الحين محبوبًا من الشعب حبًّا لم يحظَ به ملك، وقد استطاع بغبائه الشديد أن يبدد هذا الحب بطريقة العربيد الأبله، الذي اختاره لنفسه واعتقد اعتقادًا يقترب من اليقين أن أمه الملكة نازلي لها أثر كبير في اضطراب عقله ومسلكه جميعًا بأفعالها المخزية التي كانت ترتكبها، والتي انتهت بزواجها من أحمد حسنين باشا، مما كان له أسوأ الأثر في نفوس الناس ومن باب أدق في نفسية الملك، وما فعلته بعد ذلك أدهى وأمر.
أعلنت وزارة النحاس حل البرلمان وإجراء انتخابات، وطلب حزب الأحرار مقابلة النحاس باشا للاتفاق على الأسس التي سيدخلون عليها الانتخابات، وتحدد موعد اللقاء واختار الحزب أبي وأحمد باشا عبد الغفار ليمثلا الحزب في مفاوضاته مع النحاس باشا، وكان اللقاء طريفًا، ولذلك فإنه لم يفر من ذهني.
قال لهما النحاس باشا: الانتخابات حرة، ولكم أن تقولوا ما تشاءون، على ألا تذكروا شيئًا عن حادث ٤ فبراير، ولا تهاجموا الإنجليز نظرًا للظروف التي نمر بها، ولا تذكروا شيئًا عن زوجتي، ولكم أن تقولوا بعد ذلك ما تريدون.
ودهش أبي ولم يتكلم، وتكلم أحمد باشا عبد الغفار قائلًا في غضب: وماذا بقي أن نقوله ضد المرشح الآخر؟ أنقول له أبويا أحسن من أبوك؟ أم نقول له وشي أحلى من وشك؟
ولم يرد النحاس، وخرج أبي وأحمد باشا دون أن يتفقا مع النحاس، وعرفت بعد ذلك أن النحاس باشا حين روى هذه الواقعة للهيئة الوفدية قال: جاءني من حزب الأحرار معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة والولد أحمد عبد الغفار.
مع أن أحمد باشا كان حاملًا رتبة الباشوية عند هذا اللقاء.
وهكذا رفض حزب الأحرار والهيئة السعدية دخول الانتخابات، وانفرد حزب الوفد بهذه الانتخابات.
ولكن أبي كان حريصًا على وجوده في مجلس النواب، وفي نفس الوقت لم يستطع أن يخوض الانتخابات العامة، وهو سكرتير حزب الأحرار الدستوريين.
وهكذا ارتأى أن يدخل أخوه عبد الله بك فكري أباظة الانتخابات، وكان في ذلك الحين سكرتير عام وزارة التجارة، ومرشحًا أن يكون وكيل وزارة، وكان الدستور يقضي أنه إذا أصبح موظف عضوًا بمجلس نيابي فله مهلة ثلاثة أشهر يختار في أثنائها بين البقاء في الوظيفة وترك المجلس، أو البقاء في المجلس وترك الوظيفة.
وبعد انقضاء المدة استقال عمي عبد الله من المجلس، وتقدم أبي للترشيح بالدائرة التي خلت، ورشح الوفد ضده أحد المحامين واسمه عبد العظيم الهادي رسلان، وكانت انتخابات مريرة غاية المرارة جيَّش الوفد لها كل جيوشه من شرطة إلى قوات مسلحة إلى تزوير علني لا يتوارى ولا يخجل، وفي هذه الانتخابات كسرت ذراع فكري أباظة باشا في بلدة قريبة من الغار بلد المرشح اسمها كفر عوض الله حجازي، وكان من فجور الوفد أنه في توزيع الناخبين كان يجعل البلاد المؤيدة لأبي تدلى بأصواتها في بلاد بعيدة عنها كل البعد، بينما يحرص على أن يجعل الناخبين المؤيدين لمرشحه يدلون بأصواتهم في بلاد قريبة غاية القرب منهم، فلا يتكلفون إلا مشية هينة، أما الناخبون المؤيدون لأبي فقد كان عليهم أن يركبوا السيارات أو يتعذر عليهم الإدلاء بأصواتهم.
أما معركة كفر عوض الله التي كسرت فيها ذراع عمي فكري فقد تجمع فيها بعض أنصار المرشح الوفدي، وبأيديهم العصي الغليظة، وأرادوا أن يمنعوا ممثلي أبي من الاقتراب إلى لجنة الانتخاب، فاعتدوا عليهم بالضرب دون أن يراعوا أي معنى للخلق أو قيم الوافدين عليهم.
وتمت الانتخابات، وكان فوز أبي واضحًا، وتجمعت صناديق الانتخاب بنقطة شرطة ببلدة بردين، وهي البلدة التي سميت الدائرة كلها باسمها، وحرص شباب الأسرة أن يبيت فوق الصناديق يتزعمهم عمي عبد الله، وقد هيأ له مأمور دائرة الأمير طاهر باشا الذي يملك أبعادية في بردين مكانًا مناسبًا يبيت فيه، بينما لازم شباب الأسرة الصناديق، وحاولت الشرطة وقوات من الجيش أن يخرجوهم من النقطة، فكشفوا عن أسلحة مرخصة يحملونها.
وكلم مدير الشرقية أبي في غزالة، وكنت بجواره، وقال المدير: إننا نرجو أن تأمر بالجلاء عن نقطة بردين.
فضحك أبي وهو يقول للمدير: لا أستطيع … فإنني إن طلبت هذا المطلب من شباب أسرتي فلن يقبلوه.
وسلم المدير أمره إلى الله، وظل شباب الأسرة مع الصناديق حتى تم فرزها، وكنا واثقين أنه إذا تخلى الشباب عن الصناديق فإن الوزارة ما كانت لتخجل أن تحل مكانها صناديق أخرى لصالح مرشحها، وتم الفرز ونجح أبي نجاحًا باهرًا، وأحست الوزارة أن الشعب غير راضٍ عنها، ولكن لا يهم ما دامت باقية في دست الوزارة.