الفصل الخامس
في يوم ٧ أكتوبر عام ١٩٤٤م طلبني أبي من حزب الأحرار الدستوريين وقال لي: إن وزارة النحاس أقيلت، وإن أحمد باشا ماهر يؤلِّف الوزارة الآن في لاظوغلي.
كانت الحرب قد أوشكت على الانتهاء، وعرف الملك أن الإنجليز لم يعد يعنيهم شأن النحاس أن يبقى في الوزارة أو لا يبقى، فأقال النحاس باشا. سارعت إلى الحزب فوجدت الجموع الحاشدة، وكان الحزب في عهد وزارة الوفد محاصرًا بالشرطة، وقد خشي أبي أن تعتدي الزحوف القادمة للتهنئة على القوة المحاصرة للحزب، فاستدعى رئيس القوة وأخبره بسقوط وزارة الوفد، ونصحه بأن ينسحب هو وقوته حتى لا يتعرض للصدام مع الجماهير القادمة لتهنئته، فراح رئيس القوة يشكر أبي، ويدعو له بطول العمر، وانسحب هو وقوته.
علمنا في الحزب أن مفاوضات تشكيل الوزارة تواجه صعوبات سببها أن مكرم باشا عبيد يصر أن يكون عدد وزراء حزب الكتلة مساويًا لعدد وزراء الأحرار والسعديين، وكان هذا غير طبيعي، ولم يكن ماهر باشا موافقًا على ذلك، وطال وقت التأليف ولغط الحاضرون في حزب الأحرار وتناثرت الإشاعات بأسماء المرشحين وأبي في حجرته بعيد كل البعد عما يدور بين الحاضرين بالخارج، وقد أبى ترفعًا أن يذهب إلى لاظوغلي ليشارك في تأليف الوزارة، مع أن هذا كان أمرًا طبيعيًّا، فهو سكرتير عام الحزب، والمفروض أن يشترك في تأليف الوزارة.
في هذه الليلة قمت بتجربة لا أنساها، حلا لي أن أبث إشاعة أن الملك هدد باستدعاء النحاس باشا إذا لم تؤلف الوزارة في وقت معقول. ولم تمر دقائق حتى طلبتني والدتي من البيت وسألتني هل صحيح أن الملك استدعى النحاس باشا.
أدركت منذ ذلك اليوم السرعة التي تسري بها الإشاعة وتحرف أيضًا.
ووافق حزب الأحرار والسعديين أخيرًا على مطلب مكرم باشا، وأصبحت المشكلة هي أين يجد وزراء، فرشح المحامي سيد سليم الذي لم يعرفه أحد في ذلك الحين، وقد نال رتبة الباشوية فيما بعد، كما رشح طه باشا السباعي، ولم يكن عضوًا في حزب الكتلة، وإنما انضم إليه ليدخل الوزارة، وقد كان قبل ذلك يشغل منصب وكيل وزارة.
تألفت الوزارة وأُسند إلى أبي منصب وزير المواصلات، ثم تقلب طوال خمس سنوات في المناصب الوزارية، فكان وزير أوقاف ووزير خارجية.
ولتوليه منصب وزير الخارجية قصة، ولتركه لها قصة أكثر طرافة، فقد طلب أحمد خشبة وزير الخارجية أن يتولى منصب نائب رئيس الوزراء، ولم يكن هذا المنصب معروفًا في التشكيلات الوزارية، فرُفض طلبه. واستقال، واختير أبي وزيرًا للخارجية ورشح هو رياض عبد العزيز سيف النصر المستشار وزميل دراسة أبي وزيرًا للمواصلات فتولى المنصب.
ولكن ما هي إلا بضعة أشهر حتى قبض على أخي رياض بك بتهمة الشيوعية وهو إلهام عبد العزيز سيف النصر الذي كان في مثل سني، وقد عرفته بعد ذلك بسنوات حين تزوج بابنة عباس باشا سيد أحمد والد الشيوعي المعروف محمد سيد أحمد، وخال أمينة هانم صدقي حرم عزيز أباظة باشا، وقد قُبض على إلهام في العهد الناصري وعذب تعذيبًا وصفته المحكمة التي رفع أمامها قضيته في عصر الحرية بأنه تعذيب لم تعرفه البشرية، وأغلب الأمر أن هذا التعذيب كان السبب ربما غير المباشر في موت إلهام، دون أن تعلو به السن، فهو في مثل عمري تقريبًا.
وعودة إلى أخيه الذي رفض أن يبقى في الوزارة وأخوه متهم بالشيوعية، فقدم استقالته واستطاع حزب الأحرار أن يقنع أحمد باشا خشبة بالعودة إلى الوزارة، فعاد إلى وزارة الخارجية، وعاد أبي إلى وزارة المواصلات.
في وزارة الخارجية حدثت واقعة لا بد من ذكرها، كان مرتب وزير الخارجية يضاف إليه مرتب وزير تحت بند ما يسمونه بدل تمثيل، وإذا بأبي يرفض أن يتقاضى بدل التمثيل هذا، وناهيك بمرتب وزير في ذلك الحين، ولم يكن أبي واسع الغنى بدليل أن الإصلاح الزراعي لم يأخذ منه قيراطًا واحدًا، وقال المسئولون في الوزارة لأبي: معاليك ستحرج الذين قبلك والذين بعدك.
قال: أما الذين قبلي فلا شأن لهم بما أفعل؛ لأنهم سبقوني في الوزارة، أما الذين بعدي فإذا كانوا قادرين فليفعلوا مثلما أفعل، وإذا كانوا غير قادرين فلا لوم عليهم إذا لم يفعلوا وتقاضوا بدل التمثيل، أما أنا فلن آخذ من الحكومة نقودًا مقابل الدعوات التي يحتم عليَّ منصبي أن أقيمها في بيتي، وأصر على رفضه.