الفصل السادس
حصلت على شهادة الثانوية العامة، وكان اسمها في عهدنا التوجيهية في عام ١٩٤٦م، وكان أبي يومذاك وزيرًا للأوقاف في وزارة صدقي باشا التي قامت بمفاوضات صدقي-بيفن، ولم يشترك الوفد في المفاوضات واستطاع أن يثير المظاهرات الصاخبة في الجامعة قبل أن تبدأ المفاوضة، ومع أن صدقي باشا حصل من ستانجيت القائد الإنجليزي على تصريح من جانب واحد أن تنسحب جنود الاحتلال من القاهرة وجميع عواصم مصر لتقيم في ثكنات لها بالقنال، إلا أن هذا لم يخفف من حدة المظاهرات في الجامعة، ولم يشترك السعديون مع صدقي باشا في الوزارة فكان يعتمد على الأحرار الدستوريين وحدهم في الفترة الأولى من حكمه. وقد انضم شباب السعديين إلى الوفديين في الجامعة، ولعله ينبغي أن أذكر جلسة مجلس النواب التي فاز فيها صدقي باشا بالثقة رغم أن السعديين لم يشتركوا معه في الوزارة، وكان عددهم يزيد على الأحرار ببضعه مقاعد.
في هذه الجلسة هاجم السعديون صدقي باشا هجومًا ضاريًا، فقد حل محل رئيسهم النقراشي باشا الذي أصبح رئيسًا للوزارة بعد مقتل الزعيم العظيم أحمد ماهر باشا برصاصة خائنة وادعى القاتل أنه قتله؛ لأنه كان يريد أن يدخل الحرب مع الإنجليز، وكانت حجة ماهر باشا أن الحرب كانت موشكة على الانتهاء واشتراك مصر فيها لن يكلفها شيئًا ولكنه سيتيح لها أن تكون عضوًا في هيئة الأمم وتعرض قضيتها على العالم، ولكنه قُتل، ودخلت مصر الحرب شريكة مع الحلفاء في عهد النقراشي باشا الذي خلف ماهر باشا في رئاسة الوزارة.
ولنرجع إلى جلسة مجلس النواب. هاجم السعديون صدقي باشا وراحوا يذكرونه بالعنف الذي عُرف عنه في وزارة سنة ١٩٣٠م وظل الرجل صامتًا حتى انتهى طالبوا الكلمات من هجومهم ووقف العملاق العجوز يقول في ثبات ما معناه تحدثتم عن صدقي سنة ١٩٣٠م، ولن أدافع عنه فأنا مقتنع بكل ما فعلته في هذه الوزارة، ولكن صدقي سنة ١٩٣٠م هو نفسه الذي كان عضوًا مع المرحوم أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا في الجبهة القومية، وهي جبهة تكونت بعد حادثة ٤ فبراير لتناهض وزارة النحاس باشا، وكان أبي وهيكل باشا من أعضائها فذكر صدقي باشا زمالته لزعيمي السعديين فيها ثم قال في حسم: «هذه الجبهة يا حضرات النواب التي كان لها الفضل في وجودكم على هذه الكراسي التي تجلسون عليها الآن.» وراح يشير بيده إلى مقاعد المجلس العتيد، والعجيب أن صدقي باشا نال الثقة مع تحديه للأغلبية السعدية في المجلس.
حين بدأت الدراسة في الكلية كانت بداية مضطربة كل الاضطراب، وكانت المظاهرات يومية حتى إننا لم نكمل يومًا دراسيًّا قط، وفوجئ الطلبة بصدقي باشا في الكلية، وكنت قد عدت إلى البيت، وإنما عرفت ما دار بين الطلبة ورئيس الوزراء من حوار، فقد قال لهم: ماذا تريدون؟
– خروج الإنجليز.
– وماذا نفعل نحن غير ذلك، ألا يحسن بكم أن تذاكروا أنتم حتى نجد في مصر رجالًا مثقفين نعتمد عليهم بعد خروج الإنجليز من مصر.
وطبعًا لم يجد الطلبة شيئًا يجادلون به منطق الرئيس العبقري وانصرف صدقي باشا.
ولكن المظاهرات استمرت كأن شيئًا لم يحدث، فكنا نذهب إلى الكلية ونجلس في المدرجات، وقبل أن يدخل الأستاذ تنفجر المظاهرة ونخرج.
وما هي إلا أيام حتى أعلنت الصحف أن رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا سيلقي في الساعة كذا بيانًا بالإذاعة حول مظاهرات الجامعة. وتجمعنا حول أجهزة الراديو لنستمع إلى بيان رئيس الوزراء الذي لم يستغرق سوى بضع ثوانٍ قال ما معناه:
«يتدخل بعض الغوغاء بين صفوف الطلبة ويثيرون الشغب، ولما كانت الحكومة حريصة على استتباب الأمن فسوف تعمل على ذلك بالطرق المشروعة وغير المشروعة.»
وذهبت إلى الجامعة في اليوم التالي فوجدت الحكومة قد أمرت بعودة الشرطة إلى مقارهم حتى إننا لم نجد شرطيًّا واحدًا من القوات الكبيرة التي كانت تحيط بالجامعة، ودخلت إلى المدرج فلم أجد مكانًا أجلس فيه إلا بشق الأنفس والذين دخلوا بعدي ظلوا واقفين.
ولم تقم مظاهرة واحدة في عهد صدقي باشا بعد بيانه هذا حتى تذاءب عليه زعماء مصر من المستقلين ورفضوا المعاهدة التي كانت أحسن ما توصلت إليه مصر في تاريخها، والتي تفضل — ولا شك — المعاهدة التي خرج بمقتضاها الإنجليز بعد ذلك بأعوام عديدة، ويكفي المعاهدة التي خرج بموجبها الإنجليز أنها أفقدتنا السودان إلى الأبد.
وقد كان أبي متحمسًا لمعاهدة صدقي-بيفن وأذكر أنه في أيام تكوين وفد المفاوضين جاء أبي إلى البيت متأخرًا قليلًا عن موعده وجلسنا على مائدة الغداء، وكان على المائدة بعض ضيوف لنا. وقال أبي: لقد خرجتُ من الوزارة.
وكان وزيرًا للأوقاف في ذلك الحين، فقلت أنا: إذن انضممتَ إلى وفد المفاوضة.
– نعم.
ولم تمضِ دقائق حتى دق جرس التليفون، فتركت المائدة وذهبت أجيب التليفون، وطالعني صوت لم يغب عني طبعًا: معالي الباشا موجود.
وقلت: نعم. وأردت أن أستوثق من الصوت فقلت: نعم. من يريده.
وجاء الصوت: صدقي باشا.
وكان هو شخصيًّا المتحدث ولم يكن مكتبه.
وكلَّمه أبي وعدت أنا طبعًا إلى المائدة حريصًا أن أخلي غرفة المكتب التي بها التليفون، وجاء أبي إلى المائدة وقال: لقد بقيت في الوزارة.
وعرفنا سر هذا التعديل بعد ذلك، فبعد أن كان الرأي قد استقر على أن يكون وفد المفاوضين من أحزاب الوزارة عُدل عن هذا الرأي ليتكون الوفد من رؤساء الوزارات السابقين ومن رئيس حزب الأحرار الدستوريين والسعديين.
ولم يغضب أبي رغم ذلك، وبعد أن أجمع رؤساء الوزارات على رفض المعاهدة حقدًا منهم أن يقوم صدقي باشا بهذا النجاح الخالد وخوفًا من بعضهم مما أثاره عليه حزب الوفد الذي لم يرع وجه الله ولا وجه الوطن.
وأذكر في هذا الشأن حديثًا بين صدقي باشا، ولطفي باشا السيد في هذا الشأن.
قال صدقي باشا: ألم يصل بنا السن والخبرة يا لطفي أن نقود نحن الرأي العام.
فقال لطفي باشا السيد: أريد أن أموت على سريري يا إسماعيل.
واستقال صدقي باشا من الوزارة وتألفت وزارة جديدة برئاسة النقراشي باشا وكان أبي وزيرًا للمواصلات بها، وأبى في شجاعته ووطنيته أن يخفي إعجابه بمعاهدة صدقي-بيفن، فكتب هذه المقالة بأهرام ٥ ديسمبر سنة ١٩٤٦م رغم علمه أن النقراشي باشا يكره صدقي باشا كل الكراهية، ورغم التيار الجارف الذي ساد حينذاك ضد المعاهدة.
ظهر أهرام ذلك اليوم وبه عنوان آراء وأفكار «حول مشروع المعاهدة» ثم عنوان مقالة أبي «لماذا أوافق على المعاهدة»، وقالت الأهرام:
نشرنا منذ يومين بحثًا لحضرة الشيخ المحترم زكريا مهران باشا عنوانه: «لماذا لا أوافق على المعاهدة» وننشر اليوم بحثًا لمعالي إبراهيم دسوقي باشا يرد فيه على مَن سأله «لماذا يوافق على المعاهدة؟» قال الجواب سهل بسيط: ذلك لأنني أحب بلادي وأعتقد أن المعاهدة تحقق استقلالها وتحدد يوم الجلاء «بغير دماء …»
ولست أتكلم عن مشروع المعاهدة فأتناول بالبحث سائر مواده وأشرح ما أدخله عليها دولة صدقي باشا من تحسين واضح جلي عظيم، بل أكتفي بالكلام عن مادة الدفاع المشترك، فإن عيوب المعاهدة كادت في نظر المعارضين تنحصر فيها، وكانت تلك المادة في أول أمرها مشوبة بشيء من الغموض، فأزال دولة صدقي باشا غموضها ثم أحاطها بتحفظات قوية كافية، ودعمها لمصلحة مصر بسياج جعل المساس باستقلالها — اعتمادًا عليها — ضربًا من المستحيل إلا إذا تجرد المصريون من الوطنية والرشد والكرامة.
- (١)
لم يكن هناك نص على أن رأي اللجنة استشاري، فجاء النص صريحًا.
- (٢)
وأصبحت لا تجتمع إلا إذا دعتها الحكومتان للاجتماع.
- (٣)
ولا تنظر إلا في البيانات المتفق عليها من الحكومتين.
فبربك قل أيها المعارض ما الذي يخيفك منها بعد ذلك، وما الذي تخشاه إذا كنت لا تريد أن تجتمع، فليس ثَم ما يكرهك على دعوتها، وإذا رأيت أن تدعوها بسبب كوارث تريد أن تتخطاها أو عواصف تخشى عقباها، فاحذر أن تقبل في بيانات الإنجليز شيئًا يضر باستقلالك أو تدخلًا منهم في شئون بلادك وامتنع عن البحث في أي أمر لم يرد في بيانك.
وفي آخر الأمر إذا دعوتها للبحث في المسائل الواردة في البيان الذي قدمته أنت إليها، ثم لم يجبك رأيها فارفض لأن رأيها استشاري وحكومتك لها حق الرفض.
هكذا تقول معاهدة صدقي …
أتريد أن تعرف بماذا أجاب أحد الشجعان من المفاوضين؟ إنه قال وكلمته مشهورة: إنني لا أطمئن على أي حال؛ لأن الإنجليزي من أعضاء اللجنة إذا نظر إلى المصري فإن المصري ترتعد فرائصه، فأجاب صدقي قائلًا: إذن يا أخي، إن مصر — إذا صح هذا — لا تستحق الاستقلال!
أي عار يسربل هذه البلاد إذا صدق هذا المفاوض؟ وكيف يصوِّر لهم الوهم أن المصري يرتعد جزعًا وينتفض خوفًا وهلعًا إذا ألقى عليه البريطاني نظرة تهديد؟
وقرأت في «الأهرام» بحثًا لشيخ معارض هممت بأن أرد عليه ومضيت في تلاوته إلى أن وجدته يقول: «وماذا علينا — لو صح أن معاهدة ١٩٣٦م لا تزال قائمة — إذا انتظرنا سبع سنوات أخرى بعد السنوات الثلاث.» فحدقت في جملته ووقعت من يدي «الأهرام» وقلت على الوطنية السلام. ثم عدت إلى الجريدة فأخذتها وإلى الجملة المشئومة فحدجتها واسترسلت في القراءة فإذا به يقول بأن الإنجليز لا يعنيهم الآن إلا الاحتلال المادي الاقتصادي، وهم يربطوننا برباط الاسترليني، فعجبت لهذه «السلطة» إذ ما دخل الاسترليني فيما نحن فيه؟ وفي العالم ممالك عديدة مستقلة تربط نفسها به طائعة مختارة وجميع كبار الاقتصاديين في مصر يرون الانفصال عن دائرة الجنيه الاسترليني في الوقت الحاضر كارثة مالية.
وبهذه المناسبة أذكر أن الكثيرين طوح بهم العناد إلى اللجاجة في المقارنة بين معاهدة ١٩٣٦م ومشروع المعاهدة الأخيرة، ومعاهدة ١٩٣٦م تفرض على مصر محالفة أبدية، بينما تفرض هذه المعاهدة عشرين عامًا، ومعاهدة ١٩٣٦م تبقي جنود الإنجليز بعدها إذا ثبت أن مصر أصبحت قادرة على الدفاع عن نفسها، ومعاهدة ١٩٣٦م لا تسمح بالجلاء عن المدن المصرية إلا إذا بنينا ثكنات من منطقة القنال تتسع لجيوش الاحتلال تكلف خزينتنا ما لا قبل لنا به، وقد بذل المغفور له محمد محمود باشا جهودًا جبارة لاشتراك الإنجليز في النفقات لإقامة هذه الثكنات، وقد فات الباشا عضو الشيوخ المعارض صاحب مقال «الأهرام» أن البريطانيين يشترطونها في معاهدة ١٩٣٦م.
ولا أذكر كل ما في معاهدة ١٩٣٦م من عيوب فقد قبلها المصريون على علاتها وبكل عيوبها من محالفة أبدية إلى بعثة عسكرية تدخل في شئوننا الداخلية، ورفرف سرب من الحمام على المفاوضين عند قدومهم، وأطلقت المدافع تكريمًا لهم، وأسرع مكرم باشا إلى الجامعة يخطب الطلبة ساعات ويؤكد لهم قول النحاس باشا: «اسجدوا لله شكرًا فقد جئتكم بمعاهدة الشرف والاستقلال.»
ثم تناول معاليه مسألة السودان فقال:
لم يكن يدور في خلد الكثيرين أن صدقي باشا سيأتي بالنصوص التي أتى بها «وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري» والفرق بين ما كان المفاوضون قد طلبوه وما جاء به صدقي باشا هو أنهم كانوا يرون التأجيل، ورأى دولته التعجيل.
أما ما يدعيه المعارضون من أن النص يحتمل التأويل ويخول للسودان حق الانفصال فلا نسلم به بأي حال، وقد فسر دولة صدقي باشا النصوص بما يطمئن أشد الناس تعنتًا وأكثرهم مكابرة، وترك الباب مفتوحًا بعد ذلك للمفاوضة لأن التعاون بين المملكتين على العمل الباب لرفاهية السودان وترقيته وجعله أهلًا للحكم الذاتي يجعل لنا الحق في المطالبة بتمكين مصر من ممارسة حقوقها، ويكفل لها الهيمنة التي كفلتها المعاهدة لها، وتفسير دولة صدقي باشا هو الذي نقره ونعتمد عليه، وكل ما يحصل عليه السودان بعد ذلك من حقه في الحكم الذاتي والنظام الذي يترتب عليه لا يخرج عن نطاق وحدة وادي النيل تحت التاج المصري. يبقى مجلس الأمن، وأمر المعارضين فيه غريب فقد كان مجلس الأمن رجسًا إلى وقت قريب، وحمل الوفد على سياسة الاشتراك في جمعية الأمم المتحدة وأخذ يشهر بها وينكر الفائدة من وجودها، وقُتل الشهيد أحمد ماهر في سبيلها.
فلما وجدت وتكوَّنت هيئاتها وأصبحت مصر من أعضائها وتشكك بعض المصريين في نتيجة عرض قضيتها عليها، انقلبت جمعية الأمم خيرًا عميمًا وفوزًا للحرية عظيمًا وقاضيًّا عادلًا صادقًا رحيمًا.
وأرد الله أن يجلو الشك باليقين فطرح ممثلنا في هذه الجمعية منذ أسبوع واحد مسألة الجلاء، جلاء الجيوش الأجنبية عن بلاد الأمم المشتركة في الجمعية، وأُخذت الأصوات فأسفرت عن ٢٩ صوتًا بالرفض و١٣ صوتًا بالموافقة على الاقتراح أكثرها من الأمم العربية، هذه النتيجة العظيمة، هذا البرهان القوي الملموس الدافع، هذا الرد السريع الصريح، لا يفتح عيون المعارضين ولا يبصرهم بالعواقب يتغنون بأنشودتهم المحبوبة: مجلس الأمن! مجلس الأمن!
ولست في حل من الكلام عن مجلس الأمن، ومن الوطنية أن أكف عن الاسترسال في بيان رأيي فيه، ولكني أحيلكم إلى ساستنا الوطنيين الأكْفاء المخلصين الذين خبروه عن قرب واشتركوا في اجتماع هيئة الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن وفي سائر المؤتمرات، فوقفوا في اتجاهها وتبينوا حقيقة نياتها.
هؤلاء الساسة المصريون لا يرقى الشك إلى وطنيتهم، ولا يجرؤ إنسان على الطعن في كفاءتهم، فقد رفعوا رءوسنا ولفتوا أنظار العالم لنا، فوقف باهتًا مشدوهًا مأخوذًا بتلك الجرأة العجيبة والكفاءة الممتازة والحماسة الوطنية التي جعلت بريطانيا تتململ متوجعة تشكو، وكانت تنتظر منهم بعض مظاهر الود والمجاملة.
أنأخذ بكلام رجالنا هؤلاء، وتلك خبرتهم وهذه مواقفهم، أم نأخذ برأي المتفائلين الذين كانوا متشائمين، ونتأثر بحملات بعض المعارضين، وقد كانوا إلى وقت قريب موافقين يحبذون ويصفقون؟
إذا وُقِّعت المعاهدة فإن الجلاء عن القاهرة والإسكندرية وبلاد الدلتا يتم في شهر مارس، أي بعد ثلاثة أشهر وبضعة أيام، وبعد ذلك بسنتين ونصف سنة يتم الجلاء عن بلادنا بأسرها في يوم محدد هو أول سبتمبر، والفضل لصدقي باشا في هذا التحديد، أتريد من وطني صادق الوطنية ومن مصري مخلص صادق النية أن يتردد في الموافقة على خلاص بلاده من أسرها واستكمال حريتها واستقلالها وتريد من مصري نزيه عاقل يحب بلاده ويفديها بحياته أن يستبدل ذلك بقضية خاسرة يقدمها إلى محكمة يعتقد أنها ستحكم فيها بالإعدام ولديه على ذلك ألف برهان؟
كان المغفور له قاسم أمين يقول:
«أعرف قضاة يحكمون بالظلم ليشتهروا بالعدل.» وأنا أعرف رجالًا يسيئون إلى وطنهم ليشتهروا بالوطنية.
•••
كانت هذه المقالة ذات صدًى بعيد عندما نشرت، ولكن متى ناقش الوفديون بالمنطق، لقد رفضوا أن يتحقق هذا النجاح الفائق الذي بلغه صدقي على غير أيديهم ولتذهب مصر والوطنية إلى أي جحيم تشاء.
•••
في وزارة النقراشي باشا التي أعقبت استقالة صدقي باشا قررت الوزارة أن يذهب وفد مصري إلى هيئة الأمم، وتكوَّن الوفد وكان وزير الخارجية من بين أعضائه وتولى أبي وزارة الخارجية بالنيابة.
رأس وفد مصر النقراشي باشا، وبلغت وطنية النحاس الحضيض في هذه الأيام، فقد أرسل برقية إلى هيئة الأمم يقول فيها إن هذا الوفد لا يمثل مصر، كان ينبغي لو كان يحمل ذرة من الشعور بالوطنية أن يؤيد النقراشي باشا والدرجة الأدنى أن يصمت وينتظر، أما إرسال برقية إلى هيئة الأمم يبلغ فيها أن النقراشي باشا لا يمثل مصر فتلك كبيرة من كبائر الخيانة العظمى لا نستطيع أن ننساها للنحاس باشا أو لحزب الوفد.
في هيئة الأمم وعلى ملأ من العالم وقف النقراشي باشا وصاح في وجه الإنجليز: اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة. ودوت الصيحة في أنحاء الدنيا، فهي المرة الأولى التي تسمع فيها إنجلترا مثل هذه العبارة، وهي في هذه الأيام الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن الدول التابعة لها.
وقد استقبل الشعب النقراشي استقبالًا حافلًا حين عاد، ولكن رحم الله شوقي حين وصف مصر بقوله:
لم يمضِ وقت كثير حتى قُتل النقراشي باشا بيد غادرة ممن يسمون أنفسهم بالإخوان المسلمين، وما هم بإخوان وما هم بمسلمين.
وتولى الوزارة إبراهيم باشا عبد الهادي الذي كان يومذاك رئيسًا للديوان الملكي وكان هذا طبيعيًّا، فقد كان الشخص التالي في حزب الهيئة السعدية، ولو أن الملك اختار بدلًا منه هيكل باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين لكان في هذا شبه موافقة من السراي على قتل النقراشي باشا. واختير أبي وزيرًا للمواصلات في وزارة إبراهيم باشا عبد الهادي.
وفي لقاء بين هيكل باشا وبين الملك قال له الملك: رئاسة الوزارة تنتظرك وستنالها في يوم من الأيام حتمًا.
فإذا الأديب العملاق والزعيم العظيم يقول له: إنني يا مولاي حين أجلس إلى مكتبي تصغر في عيني كل وظائف العالم.
استمرت حكومة إبراهيم باشا عبد الهادي إلى أواخر عام ١٩٤٩م وكان مجلس النواب بهذا قد أكمل دورته الخامسة، وأعتقد أن هذا المجلس هو المجلس الوحيد في الحياة النيابية التي بدأت بدستور ١٩٢٣م الذي أكمل في مقاعده خمس سنوات كاملة تقريبًا، وأصبح لا بد من التفكير في حل المجلس.
استقال إبراهيم باشا عبد الهادي وظهرت في الأفق بعض آمال أن تتكون وزارة مؤتلفة من كل الأحزاب، وتمهيدًا لهذا الأمل كلف الملك حسين سري باشا بتأليف الوزارة من كل الأحزاب وقبل حزب الوفد أن يشترك في الوزارة، وكان أبي وزيرًا فيها وفي الإسكندرية راح الوزراء يدعون إخوانهم لموائد الغداء لتأكيد التآلف، وكان من ضمن أعضاء الوزارة كريم ثابت باشا الذي فرضه الملك فرضًا فكان الوزراء يدعونه مع الأعضاء الآخرين على موائدهم حتى جاء دور أبي ليدعو الوزارة فوجه إليهم الدعوة للغداء في بيته بالإسكندرية، ولكنه رفض أن يدعو كريم ثابت، وكنت أنا موجودًا في هذه الدعوة.
قليلًا ما بقيت هذه الوزارة وتفجر الائتلاف، وهو أمر كان منتظرًا طبعًا، وألف سري باشا وزارة من المستقلين كان أوضح ما فيها أنه أشرك منه زوج ابنته الدكتور محمد هاشم باشا وأطلق عليه الشعب لقب شيانو مشبهًا إياه بزوج ابنة موسيليني الذي كان الديكتاتور القتيل يطلق يده في حكم إيطاليا أيام رئاسته، وقد قتلهما الشعب معًا وعلق كليهما من أرجليهما في ميدان عام.
وقد توثقت صلتي بعد ذلك بالمرحوم محمد هاشم باشا، وأشهد أنه كان كفئًا للمنصب الذي تولاه مع حميه، بل كان أكبر منه بعلمه وثقافته واتزانه، وقد نال في هذه الوزارة لقب الباشوية، وأجرت وزارة سري باشا الانتخابات وقد اكتسح الوفد، وكان اكتساحه لسببين؛ أولهما وأهمهما طول بقاء الوزارات المعادية للوفد في الحكم والشعب المصري تواق إلى التغيير، حتى وإن كان التغيير إلى الأسوأ؛ ولذلك فإنني أعتقد أن الوفد لم يحافظ على شعبيته إلا لأن الملك كان يقيله دائمًا، وكانت هذه الإقالة ترفع أسهمه عند الشعب الذي يقدر أي إنسان يقف في وجه الحاكم الأعلى، ولو أن الوفد تُرك في الوزارة ليكمل دورة واحدة لفقد شعبيته التي كان يتمتع بها إلى الأبد.
أما السبب الثاني لنجاح الوفد نجاحًا باهرًا في هذه الانتخابات فهو شعور رجال الشرطة أن التيار العام مؤيد للوفد فأعملوا تزويرهم لحسابه حتى يطالبوا بالمكافآت حين يقتعد الوفد كراسي الوزارة.
ومع ذلك فحين أحصى أهل الإحصاء الأصوات التي نالها حزبا الأحرار الدستوريين والهيئة السعدية في هذه الانتخابات أوضحت الإحصاءات أنها كانت تفوق بكثير عدد الأصوات التي نالها الوفد مع أن كلًّا من الحزبين لم ينل إلا حوالي ثلاثين مقعدًا في البرلمان، وهكذا كانت المعارضة ممثلة في ستين نائبًا ونيف من مجموع عدد الأعضاء الذي كان مائتين وخمسين عضوًا في تلك الأيام.
نهج الوفد في هذه الوزارة نهجًا جديدًا كل الجدة على سياساته السابقة، والجدة فيه أنه أخذ نفسه بالنفاق الرخيص كل الرخص للملك، وقد بدأ ذلك في اليوم الذي حلفت فيه الوزارة اليمين برئاسة النحاس باشا؛ إذ قال النحاس للملك فجأة وبدون مقدمات: مولاي إن لي عندك رجاءً أنا مصمم أن أناله.
– ما هو؟
– أن أقبل يدك.
وبهذه الجملة وهذا الشعار بدأت الوزارة الوفدية الجديدة عهدها الذي نسبت فيه الملك إلى النبي — عليه الصلاة والسلام — والذي قال في أثنائها النحاس باشا حين سئل عن رأي له في إحدى المشكلات: «إن في «كابري» قبلة نتجه إليها جميعًا.» وكان الملك يصطاف في «كابري» في هذه الأيام، وأذكر أن روز اليوسف ظهرت في أحد أعدادها وفي صدرها صورة لحذاء ضخم وكتبت تحته: القبلة التي يتجه إليها رئيس الوزراء.
على أي حال، دخل أبي طبعًا هذه المعركة الانتخابية وكنت في ذلك الحين في السنة النهائية من كلية الحقوق، وقد شاركت في هذه الانتخابات مشاركة جدية ونجح أبي طبعًا نجاحًا ساحقًا، ومن الطرائف التي لا أنساها أنه طلب مني أن أحضر له من كاتب الحسابات المبالغ التي أنفقها في المعركة الانتخابية، وكانت هذه المبالغ تنفق على الولائم التي كانت يومية طبعًا في بيتنا، وفعلت ما أمر به وأحضرت الحساب وصعدت به إليه في الطابق الأعلى، وكان المبلغ أقل من ألف جنيه فنظر في الورقة ومزقها ونظر إليَّ قائلًا: لا أحب أن يعرف أحد هذا المبلغ. فقلت: طبعًا. وأدركت أنه يستكبر أن يعرف الناس أنه ينفق في الانتخابات هذا المبلغ مع أنه أنفق كله على مواجهة الزوار، فلم نكن نعرف في هذه الأيام كلمة الرشوة للأصوات ولا عرفناها في انتخابات أخي في انتخابات ١٩٧٦م والحمد لله.
أصبح أبي في مجلس النواب زعيم المعارضة عن الأحرار الدستوريين، وكان الأستاذ حامد جودة الذي كان رئيسًا للمجلس السابق زعيمًا للمعارضة عن الهيئة السعدية.
وظل الأمر كذلك حتى حريق القاهرة وانهيار الحياة البرلمانية في مصر.