الفصل الثامن
ظللنا ثلاث سنوات لا ننجب حتى إذا كانت السنة الثالثة ظهرت بوادر الحمل، ورحنا ننتظر مولودنا بفرح وشغف شاركنا فيهما جميع أهلنا.
وحدث لسوء الحظ أن توفي في فترة الحمل هذه عم زوجتي المرحوم عثمان بك أباظة الذي كان عضوًا بمجلس النواب لفترة طويلة، وحزنت زوجتي لوفاته حزنًا شديدًا، وأغلب الأمر أنها أجهدت نفسها في المأتم أكثر مما ينبغي لحامل أن تفعل، وكانت النتيجة القاسية المرة أن مات الجنين قبل أن يولد وكان باقيًا على ولادته فترة قليلة.
وأحسبني في غنى أن أذكر حزننا لهذا الحادث، وخاصة أنه جاء بعد وفاة والدي بفترة قليلة.
وفاة أبي
في ٣١ ديسمبر عام ١٩٥٢م شعر أبي ببوادر مرض عرفنا جميعًا أنه ليس مرضًا هينًا، وكانت أمينة هانم صدقي حرم عمي عزيز باشا تحب أن تحتفل برأس السنة في الربعماية بلدة عزيز باشا، وأصرت أن أحضر مع زوجتي هذا الاحتفال، وذهبنا فقد كنت أحب أمينة هانم كل الحب وأقدرها أنا وزوجتي التي تولت شأنها منذ كانت في السادسة عشرة من عمرها، فكانت لها أكثر حنوًّا من الأم؛ ولهذا أسمينا ابنتنا أمينة على اسمها، ذهبت إلى الربعماية، ولكنني وجدت نفسي لا يقر لي قرار خوفًا على أبي، فإنني لا أعرف أحدًا أحب أباه كما أحببت أنا أبي، ولعلك في غير حاجة إلى التعرف على هذا الحب الذي يزيده عمقًا الإجلال والتقدير والإعجاب بل والإبهار، فإن ما قرأته في الصفحات السابقة نبض بكل هذه المعاني.
لم أستطع البقاء في الربعماية وهمست لزوجتي أنني عائد إلى أبي في القاهرة، وأدركت ما يدور بنفسي ولم تعترض، وفي الليل البهيم قدت سيارتي إلى بيتنا في العباسية وحرصت أن أتسلل إلى الحجرة التي كنت أنام فيها قبل زواجي حتى لا أُشعِر أمي أو أبي بالرعب الذي تولاني خوفًا على أبي، ولكني لم أستطع في تسللي أن أتخفى عن الخدم الذين أنبئوا أمي وأبي بعودتي فاضطررت أن أدخل إلى أبي في حجرته، ولا شك أن مظاهر الانزعاج كانت بادية عليَّ، ولكنني اختلقت أعذارًا واهية لعودتي أحسب أنها لم تجز على السياسي المحنك، ولكنه تظاهر بتصديقها، وتركت بيتي ولحقت بي زوجتي في اليوم التالي، وأقمنا ببيت أبي طوال أيام مرضه.
تدهورت حالة أبي الصحية في سرعة عجيبة، فلم يستمر مرضه أكثر من اثنين وعشرين يومًا، وفجعت بموته فجيعة لم أعرف مثيلًا لها في حياتي حتى حين توفيت والدتي، فقد عانت قبل الوفاة المرض سنوات طوالًا ولم يخفف موتها حزني عليها، فقد ظلت إلى آخر لحظة من حياتها متنبهة تشاركنا الحديث بذكائها الحاد، وقد توفيت والدتي في السبعين من عمرها، أما أبي فقد توفي وهو في الرابعة والستين من عمره، وكنت في يوم الوفاة مضطرًّا أن أذهب إلى المحكمة لأحضر في قضية غير ذات قيمة، ولكن شعوري بالمسئولية حتَّم عليَّ أن أرسل القضية إلى الأستاذ إبراهيم أباظة قريبي الذي كنت أتمرن في مكتبه ليتصرف فيها وارتاح ضميري إلى ما فعلت، وتفرغت بعد ذلك إلى الكارثة التي حاقت بنا، وراح بيت من الشعر يلح عليَّ دون أن أستدعيه:
وكانت جنازة أبي بالقاهرة من الجنازات الكبرى ولم تتخلف جريدة ولا تخلف كاتب عن رثائه، وكان طبيعيًّا أن يكون مثواه الأخير غزالة، وقد أبى أهل غزالة أن يدفن دون جنازة أخرى، وما أحسب أحدًا تخلف عن هذه الجنازة.
وقد أقمنا المأتم لمدة ثلاثة أيام بغزالة، ومما لا أنساه أن مدني بك حزين أقام مأتمًا لأبي ببلدته إسنا وأرسل لي برقية يعتذر فيها عن عدم الحضور إلى غزالة؛ لأنه يتلقى العزاء بالسرادق الذي أقامه في إسنا، وبعد ذلك أقيمت حفلات التأبين لأبي في جميع بلاد القطر من أسوان إلى الإسكندرية، حتى إني لم أستطع أن أذهب إليها جميعًا، ومما لا أنساه موقف الشيخ شعيشع الذي كان أحد القراء الذين رتلوا القرآن في المأتم، وحين حاولت أن أقدم إليه مكافأته عن جهده قال: إذا كنت تريدني أن أقبل هذه المكافأة فهات لي يد الباشا لتقدمها إليَّ.
ورفض في حسم أن ينال مكافأته.
جل خطب عن عزاء، فلا أقول عزاءً ولا أقول صبرًا.
ثم أقام له بعد ذلك رجال حزب الأحرار الدستوريين حفل تأبين مع أن الحزب كانت الثورة قد حلته عندما حلت الأحزاب جميعًا، ولا أنسى واقعة من عميد الأدب العربي د. طه حسين في هذه المناسبة، فقد كنا في بيت هيكل باشا وهو يعد الإجراءات لحفلة التأبين، وقال هيكل باشا اطلبوا لي طه حسين على التليفون، وكنت بجوار هيكل باشا وهو يكلم طه باشا، وقال هيكل باشا: يا طه نحن نقيم حفل تأبين لدسوقي في يوم كذا.
فقال الرجل العظيم وأنا أسمع ما يقول: في هذا اليوم أنا مرتبط بمحاضرة ألقيها، سألغيها وأحضر التأبين وأتكلم.
وقد فعل، وكان المتكلمون جميعًا من أعظم رجال مصر، وألقى العقاد قصيدة رائعة نشرتها في كتابي «ذكريات لا مذكرات».
لا أريد أن أطيل في هذا الشأن فإنه يعيدني إلى حالة من الحزن والألم والأسى لم تعد سني تحتملها، ولكن لا أستطيع أن أترك هذا الأمر دون أن أذكر أن هذا الحدث كان في ٢٢ يناير عام ١٩٥٣م أي بعد الثورة ببضعة شهور، كان لا عمل للإعلام في أثنائها إلا الهجوم على رجال السياسة وزعماء مصر جميعًا بعنف لم تشهد له مصر مثيلًا، ولكن الحب الذي كان يربط هذه الجموع بأبي — رحمه الله — كان أقوى من كل هذا الهجوم الضاري الشرس الظالم، فإنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
•••
عدت إلى الفراغ الذي كنت أعانيه من عملي بالمحاماة، فقد كان المكتب الذي أعمل به مع المرحوم الأستاذ إبراهيم أباظة قليل القضايا، ومن شأن المحاماة أن تنكمش في أيام الحكم الشمولي، فكنت أذهب إلى المحكمة مرة كل أسبوع أو مرتين على الأكثر، ويحيط بي الفراغ من كل جانب.
ورحت أبحث عن وظيفة عبثًا، فالوظيفة التي وعدني بها عمي عزيز تأبت عليَّ ولم تظهر لها أي بوادر.
وكان خالي مدحت أباظة يعمل بإحدى شركات النقل فعرض عليَّ أن أعمل بها، وسارعت بالقبول وذهبت إلى الشركة، وكان قد تحدد لي مرتب ثلاثين جنيهًا، وقد كان مرتبًا عظيمًا في تلك الأيام، ومرت الأيام بي في الوظيفة دون أن أعمل شيئًا، فقد كان المفروض أن أكون محاميًا للشركة مع المحامي الرئيسي لها، وأشهد أنه كان من أسفل الناس خلقًا ورفض أن يكلفني بأي عمل خشية منه أن يستغنوا بي عنه، وكم كان تافهًا في التفكير، فأين محامٍ في أول حياته مثلي من محامٍ مثله ذي خبرة ودربة ومران، والغريب أنه عين محامية أخرى كلفها بالحضور في القضايا، ولم يكلفني بقضية واحدة.
ظللت بضعة شهور أتقاضى مرتبي وأنا كاره له غاية الكراهية، فلم أجد نفسي تقبل مالًا بلا عمل واستقلت وعدت إلى الفراغ لا يحميني منه إلا القراءة الجامحة تصاحبها سعاة غامرة وكتابات للإذاعة أو الصحف والمجلات من الخارج، ووضح وضوحًا تامًّا أن هناك أمرًا ألا أنتظم في العمل بأي جريدة، وكان الصديق الأخ إسماعيل الحبروك أكثر الناس اهتمامًا بإيجاد عمل لي، ولكنه كان يجد دائمًا حائطًا خفيًّا قاسيًا يحول بيني وبين التعيين.
في هذه الفترة تعرفت بالأستاذ فتوح نشاطي؛ لأني كنت أجلس معه لمدارسة مسرحية الناصر التي كان سيقوم بإخراجها وكان عزيز باشا قد سافر إلى أوروبا، وكلفني أن أدارس الرواية مع الأستاذ فتوح وأكون حلقة صلة بين المؤلف وبين المخرج، وقال لي فتوح إنه معجب بالحوار الذي أكتبه في تمثيلياتي الإذاعية، بل والحوار الذي أكتبه في مقالاتي بالرسالة والثقافة والمصري، وفكر أن نؤلف مسرحية معًا واختار موضوع المعتمد بن عباد الأندلسي، وتمهيدًا لكتابة هذه المسرحية طلب إليَّ الأستاذ فتوح أن أقرأ كتاب دوري عن تاريخ الأندلس ترجمة الأستاذ كامل الكيلاني، وقرأت الكتاب بمتعة عظيمة، وكتبت المسرحية مع الأستاذ فتوح، وطبعًا توليت أنا الحوار فيها كلها، وكان باللغة العربية المبسطة.
وقدم الأستاذ فتوح المسرحية إلى الأستاذ يوسف وهبي الذي كان مديرًا للفرقة القومية في ذلك الحين، ورفض الأستاذ يوسف المسرحية، ولست أدري حتى اليوم لماذا رفضها، أكان ذلك لأنها تستحق الرفض أم كان للخلاف الذي كان بين يوسف وهبي وفتوح نشاطي.
كل هذا كان في حياة أبي، فحين اختاره الله إلى جواره تذكرت كتاب دوري واخترت شخصية بهرتني سيرتها، وفكرت أن أتغلب على أحزاني بكتابة رواية عن هذه الشخصية يكون التاريخ فيها أساسًا، ولكن لا يكون في نفس الوقت قيدًا عليَّ. وهكذا بدأت أكتب رواية ابن عمار، أنسى به ما واجهته من موت أبي أحب إنسان وأعظم مثل أعلى عرفته من الأحياء وموت ابني قبل أن يولد.
أتممت ابن عمار ولم أجد لروايتي ناشرًا خيرًا من دار المعارف، خاصة أن الرواية صغيرة مما يجعلها مناسبة لعد من سلسلة اقرأ، وذهبت بكتابي إلى الأستاذ عادل الغضبان مستشار النشر بدار المعارف حينذاك، والشاعر الرقيق، وكان يعرف اسمي مما يقرؤه لي في الرسالة والثقافة والمصري وما يسمعه لي من تمثيليات في الإذاعة، وقال لي كلمة لم أكن أعرفها، وكنت قد كتبتها في سياق الرواية، فقد استعملت كلمة شراك بمعنى شرك، فقال لي إن الشراك رباط الحذاء، وليس بالمعنى الذي تقصده من السياق، وحمدت الله أن عادل الغضبان لم يجد في كل الرواية إلا كلمة واحدة في غير مجالها، وقد كان عادل الغضبان من المهتمين كل الاهتمام باللغة العربية وأسرارها.
ونشرت ابن عمار في عام ١٩٥٤م بعد أن تعاقدت عليها مع دار المعارف، وكان العقد يقضي بأن أتقاضى خمسين جنيهًا عن كل طبعات الكتاب، وقد أصبح هذا النوع من العقود باطلًا الآن، ولكنني أنا كنت مستعدًّا للتوقيع حتى ولو لم أنل مليمًا واحدًا عن الكتاب، فقد كان أول كتاب لي وهذا الذي خالجني بشأنه أمر طبيعي أن يخالج كل من يحاول المحاولة الأولى.
أرسلت كتابي إلى كل الصحف وإلى كل النقاد، سواء من عرفتهم أو لم أعرفهم، فلم تظهر عنه كلمة واحدة تشعرني أني كتبت شيئًا حتى كان يوم ذهبت فيه كعادتي إلى توفيق بك الحكيم في بترو بالإسكندرية وقصة تعرف توفيق بك عليَّ نشرتها في كتابي «ذكريات لا مذكرات»، ولا أرى داعيًا لإعادة نشرها.
وجدته يجلس وحده في بترو، فقد كان الوقت مبكرًا، ولم يكن رفاق الندوة قد تقاطروا عليه بعد، فما إن جلست حتى بادرني توفيق بك: مبروك يا سيدي.
– علامَ؟
– قرروا كتابك ابن عمار على السنة الإعدادية.
فرحة غامرة انسكبت في نفسي دفعة واحدة وصحت: صحيح؟
قال وهو يعطيني جريدة الأخبار: خذ اقرأ.
وقرأت الخبر وصمت توفيق بك قليلًا ثم قال بعد أن مصمص شفتَيه: شوف ولاد … يأخذون كتابك ويتركون كتابي.
وتلقيت الكلمة بدهشة كبيرة وأين أنا من توفيق الحكيم حتى يقارن نفسه بي.
هذه الفرحة الغامرة نادرًا ما شعرت بمثلها في حياتي كلها، فأنا في سني التي أنا عليها الآن أصبحت أكاد أفقد الشعور بالفرح، وإن شعرت به يتمشى في أوصالي فمشية واهنة الخطو هينة الشأن.
وحين عدت إلى القاهرة من المصيف وجدت في انتظاري خطابًا من دار المعارف ومعه شيك قيمته خمسون جنيهًا، والخطاب يخبرني أن هذا المبلغ هدية لي من الدار لتقرير كتابي على الإعدادية وليس حقًّا لي.
وكان تقرير الكتاب إشارة لي أنني أسير على الطريق، وأنني أستطيع أن أكتب الرواية، وكانت فكرة روايتي «هارب من الأيام» قد بدأت تراودني فبدأت أكتبها على وجل وبعد تقرير ابن عمار على الإعدادية، لم يكن من العسير أن أجد ناشرًا فقد طمع الناشرون أن يقرر كتابي على المدارس فيربحوا هم الربح الوفير.
وجدت ناشرًا لروايتي وظهرت «هارب من الأيام» في عام ١٩٥٧م على ما أذكر، وكانت جائزة الدولة التشجيعية قد أنشئت في هذا العام، فعزمت أن أتقدم بروايتي لهذه الجائزة، ولكني كنت حذرًا غاية الحذر، فرأيت أن أنتظر إلى اللحظة الأخيرة من التقديم لأعرف جميع المتقدمين معي، ووجدت بينهم أسماء على قدر من الشهرة ووجدت بينهم من يكبرني في السن بمدى طويل، ولكنني تجرأت وقدمت روايتي، وفوجئت في يوم بالتليفون يرن في بيتي وأحد أعضاء اللجنة التي تنظر في الأعمال يهنئني بفوزي بالجائزة، وكانت فرحة غامرة لا شك، وعرفت بعد ذلك أن الذي هنأني بنيل الجائزة هو الوحيد الذي يكان يعارض منحها لي في اللجنة، وحين سئل عن سبب رفضه قال في بساطة إن الرواية لم تعجبه، ولكن اللجنة أصرت أن يبدي سببًا معقولًا لهذا الرفض، فلم يجد العضو بدًّا من الموافقة على منحي الجائزة، وهكذا نلتها بالإجماع.
وقبل ظهور نتيجة الجائزة بفترة لا أذكرها زارني أخي الحبيب أمين يوسف غراب في البيت وأخبرني أن الدكتور طه يريد أن يراني، وأخبرني أمين أن الدكتور قرأ روايتي، وأنه معجب بها فكدت أطير من الفرح وصحت بأمين وماذا ننتظر هلم بنا، وحين دخلت حجرة د. طه وجدت معه الأستاذ عباس خضر — رحمه الله — وكنت أعرفه معرفة وثيقة، وما هي إلا دقائق حتى قال الدكتور: لقد قرأت روايتك يا ثروت وأعجبت بها كل الإعجاب.
– هذا شرف لم أتصور أنني سأناله يا معالي الباشا.
– أنت أديب قلت ما يريد أن يقوله عن طريق الرواية.
– الحمد لله.
وصمت قليلًا ثم قال: الحق أنه لم يكتب في تاريخ الأدب العربي عن الريف المصري، مثلما كتبت أنت في روايتك هارب من الأيام.
أصبحت الدنيا في ناظري زغاريد وموسيقى وبهجة لم أشعر بها حتى وأنا أتلقى خبر نيلي الجائزة.
وبعد أن جلسنا بعض الوقت استأذنت أنا وأمين، فإذا الدكتور طه يقول وهو يودعني: لا تحسب أنني سأمدحك حين أكتب عنك، ولكني سأشد أذنك.
فقلت والفرحة تزيد قلبي خفقًا: مرحبًا بكل ما يأتي منك يا معالي الباشا.
وما هي إلا أيام حتى طلبني محرر من جريدة الجمهورية يريد مني صورة ليضعها في المقال الذي كتبه عن روايتي د. طه حسين، وسارعت بالصورة إلى الجريدة.
ولم أنم في هذه الليلة حتى الصباح وبكرت إلى الجمهورية وقرأت المقال، فوجدت المقالة الكبيرة التي كتبها د. طه ووجدته يأخذ عليَّ أن جعلت فئة تتظاهر بأنها تأخذ من الأغنياء لتعطي الفقراء بينما تستولي هي على الجانب الأكبر مما تستلبه. قال د. طه إن هذا ليس في حياتنا وإنما كان أيام صعاليك العرب، أما باقي المقال فكان مديحًا لي ما زلت أشعر بالزهو أنني نلته من الأستاذ الذي أعتقد أن الأدب العربي الحديث قد تخرج على يديه.
انتظرت حتى أصبح الوقت مناسبًا وفي الساعة العاشرة كنت أقف على باب رامتان، وهو اسم الفيلا التي يقطنها الدكتور العميد، وكان جالسًا في مكتبه، واستقبلني وهو يقول: إذن أنت لم تزعل مني.
– أزعل! بل أنا أسبح في بحور من السعادة.
وصمت قليلًا وقال: ثروت! ماذا تقصد بروايتك؟
– لقد قلت لي معاليك إنني قلت ما أريد عن طريق الرواية.
– لا شأن لك بما قلت. أخبرني أنت ماذا تقصد؟
– أرسم عهد الطغيان الذي نعيش فيه.
– نعم، هذا ما فهمته.
– إذا لم تفهمه أنت فكأنني ما كتبت شيئًا على الإطلاق.
– ثروت اسمع أستحلفك برحمة والدك، وإني أعرف مدى حبك وإكبارك له وبحياتي، وأنا أعرف مكانتي عندك، ألا تخبر أحدًا بهذا الذي تقول، ولقد قصدت أن أموه في مقالتي ذاكرًا صعاليك العرب، وما إلى ذلك حتى تقول إذا ما سئلت بصفة رسمية إذا كان طه حسين لم يفهم أنني أهاجم العهد، فكيف تفهمون أنتم هذا المعنى، ولهذا كتبت ما كتبت من نقد لك لأتظاهر بأنني لم أفهم المعنى الذي قصدت إليه في روايتك يا ثروت، نحن نُحكَم بجماعة ليس لها حدود في الظلم والطغيان، والله وحده يعلم ماذا هم صانعون بك إن تبادر إلى ذهن أحدهم المعنى الذي تدور حوله روايتك.
وتأثرت بحديث الدكتور طه كل التأثر، وكنت في ذلك اليوم مسافرًا إلى غزالة لبعض شأني، فما إن وصلت إلى البيت في البلدة حتى بادرت بكتابة خطاب للدكتور طه أقول فيه ما معناه إنك بما كتبت عني أثبت اسمي في سجل الكتَّاب، وهذا أمر ربما كانت الأيام تستطيع أن تصل بي إليه في قابلها مهما يكن هذا التقابل بعيدًا، أما الحديث الذي دار بيني وبين معاليكم اليوم فقد وهب لي أبًا بعد أن فقدت أبي، وهذا ما أثق أن الأيام تعجز أن تقدمه إليَّ.
ذهبت إلى الدكتور بعد نيلي الجائزة، فإذا هو يبادرني قائلًا: ضحكت على الدولة يا أستاذ.
– مقالة معاليك أهم عندي من الجائزة.
كان مقدار الجائزة خمسمائة جنيه، ونلت معها أيضًا وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.
•••
نلت الجائزة ولكنني ما أزال بلا عمل وخطر لي أن أذهب إلى عبد الملك بك حمزة، فقد كان صديقًا لأبي، بل إن أبي تمرن في مكتبه حين تخرج في كلية الحقوق عام ١٩١٢م، وكان عبد الملك بك رئيسًا لمجلس إدارة شركة الملح والصودا. وأحسن عبد الملك بك استقبالي ووعدني أن يجد لي عملًا وطلب إليَّ أن أعود إليه بعد أسبوع، وفعلت ثم أجل موعدي أسبوعًا آخر. كان كتابي ابن عمار قد ظهر في ذلك الحين، فأخذت معي نسخة له وأهديتها إليه فتقبلها وطلب أن أعود بعد أسبوع آخر. وذهبت فكان العجب.
ما إن جلست حتى بادرني عبد الملك بك قائلًا: أنا لن أعينك.
وطبعًا سكت والدهشة لا شك قد طفرت إلى عيني.
– أنت عبقري وأنا أرفض أن أدفن عبقريتك في الوظيفة.
لست أدري لماذا يظن الناس حتى الكبار منهم وأصحاب التجارب والثقافة أنهم أذكى من كل الناس، وأن الناس كلهم أغبياء إلا هم، لقد واجهت هذه الظاهرة من علماء ومن رجال سياسة ومن فطاحل في علومهم ومكانتهم الاجتماعية لا يقدرون ذكاء الآخرين ويحسبون أنهم يستطيعون أن يستغفلوا جميع الناس، والحقيقة أنهم لا يستغفلون إلا أنفسهم.
وبصورة أكثر احترامًا واجهت هذا المصير من عبد الخالق حسونة باشا حين كان أمينًا للجامعة العربية، فقد توسط لي عنده عمي عزيز باشا لأعين بجامعة الدول العربية، وبين عبد الخالق باشا وأبي قصة طريفة سأذكرها لطرافتها.
كان أبي وزيرًا للشئون الاجتماعية وكان عبد الخالق باشا وكيلًا للوزارة، وكان في الوزارة موظف حصل على اثنتي عشرة دكتوراة في القانون، ومع ذلك كانت حركة الترقيات تتخطاه دائمًا، ولشدة شعوره بالظلم كان يضع على باب الحجرة التي يجلس بها ورقة تحمل اسمه وعناوين الدكتوراهات (إن صح الجمع) التي يحملها.
وشعر أبي بالظلم الفادح الذي يلاقيه فطلب إعداد مذكرة بترقيته إلى الدرجة الخامسة، وأعدت المذكرة وسارت في طريقها المرسوم حتى وصلت إلى وكيل الوزارة تمهيدًا لعرضها على الوزير، فإذا بعبد الخالق باشا يكتب على المذكرة لا يرقَّى، وجاءت المذكرة إلى مكتب أبي، فإذا به يكتب همزة واحدة فوق لا بسخرية من وكيل الوزارة، وليوضح له أن الأمر أولًا وأخيرًا للوزير وليس للوكيل، وضع أبي همزة على لا وفصلة، بعدها فأصبح القرار: لأ، يرقَّى. ورقي الدكتور بقرار وزاري دون حاجة للرجوع إلى الوكيل أو غيره، واستشاط عبد الخالق حسونة باشا لهذه التأشيرة وقدم استقالته وكان وكيل الوزارة إذا استقال تعرض استقالته على مجلس الوزراء، ولم يشأ مجلس الوزراء قبول الاستقالة لموضوع ليس من العسير معالجته، وتصدى عبد المجيد إبراهيم باشا الذي كان وزيرًا حينذاك للموضوع وطلب إلى مجلس الوزراء إرجاء النظر في الاستقالة حتى يبذل مساعيه بين أبي وبين عبد الخالق باشا، وفعلًا دعا أبي والوكيل إلى الغداء في بيته، وبدأ عبد الخالق باشا العتاب، وكان رجلًا في غاية الأدب والكياسة وحسن التأني، وكان دائمًا يقول كلمة مونشير لمحدثه، وهي كلمة فرنسية تعني يا عزيزي، قال لأبي: يا مونشير تكتب على تأشيرتي لأ، يرقى.
فقال أبي: وأنت تتمنع عن ترقية موظف تعلم أنني أمرت بترقيته.
– يا مونشير إنه لا يفهم شيئًا.
– يا عبد الخالق بك أنت وكيل وزارة وأنا وزير، وكل منا لا يحمل إلا ليسانس الحقوق، أكثير أن أرقي موظفًا يحمل ١٢ دكتوراه إلى الدرجة الخامسة.
– إنه ليس كفئًا.
– وهل رقيته إلى مدير عام، إنها مجرد الدرجة الخامسة.
– بردون يا مونشير.
وانتهى الأمر وأصبح أبي من أحب الناس إلى عبد الخالق حسونة باشا، كما أصبح عبد الخالق باشا من أحب الناس إلى أبي، وسحب الاستقالة وظل هو وأبي صديقين حميمين طوال الفترة التي قضاها أبي في وزارة الشئون، وامتدت الصداقة بينهما بعد ذلك لم تنقطع.
وعودًا إلى بدء حين ذهب عزيز باشا إلى حسونة باشا يرجوه أن أعين بالجامعة وقال له: إن لم يكن من أجلي أنا فمن أجل والده الذي أعرف أنه كان صديقًا أثيرًا لك.
وكنت في ذلك الحين قد أصبت نصيبًا من الشهرة، فقال حسونة باشا في أدبه الجم: يا مونشير ثروت أباظة لا يحتاج أن يستند إليك ولا إلى والده، فهو نفسه مكسب للجامعة وجدير بكل احترام.
ومع ذلك لم يستطع حسونة باشا أن يجد لي مكانًا في الجامعة، وعلمت بعد ذلك ممن لا أستطيع أن أذكر اسمه إنجازًا لوعد قطعته على نفسي أن الدولة منعت حسونة باشا أن يعينني، فعجز الرجل مع كل النيات الطيبة نحوي أن يعينني بالجامعة.
وهكذا كنت أقبل أي عمل يعرض عليَّ حتى لا تتسع أمامي هوة الفراغ، ومن بين الأعمال التي قبلتها على كره شديد وظيفة رئيس تحرير مجلة الإعلان، وقبل أن أمارس عملي حدث لي أمر جدير بالرواية كنت في منزلي ونزلت إلى سيارتي وجلست في مقعد القيادة، وإذا برجل لا أعرفه يفتح الباب الخلفي في سرعة ويدخل إلى السيارة ويبدأ بحديث عجيب. أنت فلان بن فلان وفي لحظات روى لي كل صغيرة وكبيرة في حياتي ثم قال: شكرًا، أنا مكلف من المخابرات بعمل تحريات عنك؛ لأنك ستصبح رئيس تحرير مجلة الإعلان، وأنا أعلم أنه ليس في تاريخك ما يستحق البحث وراءه، فقلت أسألك بدلًا من اللف والدوران، أرجوك لا تخبر أحدًا بهذا الذي صنعته معك، وإلا اعتُقلت وشُرِّدت وخرب بيتي، سلام عليكم.
ونزل من السيارة.
وقد نلت جائزة الدولة التشجيعية وأنا رئيس لتحرير مجلة الإعلان (بالنون وليس بالميم) وصدر مرسوم وسام العلوم والفنون باسمي يحمل هذه الصفة في صلبه دليلًا على حقارة العهد الذي كنا نعيش فيه وطغيانه وتخبطه وصَغاره.
بعد هذا طلب مني عمي فكري باشا أن أعمل بدار الهلال وطلب إليَّ أن أنقل اسمي من جدول نقابة المحامين وأقيد نفسي في نقابة الصحفيين، ووافقت فقد كنت ضقت ذرعًا بالمحاماة ووضح لي تمامًا أنني لن أصلح مفاوضًا مع الموكلين، وإن كنت أصيب كثيرًا من التوفيق في ساحة القضاء، حتى كان بعض المستشارين إذا وقفت أمامهم في مرافعة يتهامسون أنهم سيسمعون كلامًا رائعًا، وقد أتيح لي أن أسمع هذا الهمس؛ لأن حاسة السمع عندي قوية إلى حد بعيد وراثة عن أبي — رحمه الله — ولكن حدث لي مع الموكلين حادثتين جعلتاني أعزف عن المحاماة كل العزوف، وأرحب بنقل اسمي إلى جدول غير المشتغلين في نقابة المحامين وإثبات اسمي بجدول المشتغلين بنقابة الصحفيين، وكان ذلك في عام ١٩٥٨م.
وأعتقد أن الحادثتين جديرتان بالقص، فإحداهما أن قصد إليَّ أحد الموكلين يطلب مني أن أتولى قضية له في مصلحة الضرائب، وكان مدير عام مصلحة الضرائب في ذلك الحين ابن عمتي المرحوم محمد كامل أباظة الذي كنت أعتبره أخًا أكبر لي، فحين جاءني هذا الموكل أدركت ما بعث به إليَّ. قلت له: لماذا جئتني؟
– لأنك محامٍ شهير وعظيم، وأنا مستعد أن أدفع لك أربعمائة جنيه أتعابًا في هذه القضية.
ولعل أبناءنا من جيل هذه الأيام لا يدرك ضخامة هذا المبلغ وفخامته، ولكن الذي لا شك فيه أن أبناء جيلي والذين يصغرونني ببضع سنوات يدركون معنى هذا الرقم وقوته.
قلت للموكل: لا. إنك جئتني لأن ابن عمتي مدير عام مصلحة الضرائب، فهذه قضية وساطة وليست قضية محكمة، وسأتولاها ولكن لن أتقاضى منك مليمًا واحدًا؛ لأنه سيكون رشوة ولن يكون أتعابًا.
وسعيت في القضية ووفقت فيها ولم أتقاضَ أية أتعاب.
أما الحادثة الأخرى فكانت حين جاءني موكل أعرف أسرته لأترافع عن أخيه المتهم بالاشتراك في قتل سيدة عجوز ابنها ضابط بالجيش، وكان القتل بقصد السرقة، وكانت أسرة المتهم على صلة ببيتنا فقد كنا نبرهم، وكانت القضية شهيرة وقد كان كثير من المحامين على استعداد أن يدفعوا هم أموالًا لأقارب المتهم ليترافعوا في هذه القضية، وكان المحامون عن المتهمين الآخرين أحمد بك رشدي، واحد من أعظم المحامين في عصره. وعلي بك أيوب الوزير السابق والمحامي العملاق، وكان مجرد وقوفي إلى جانب هذين الاسمين الجليلين أمرًا من شأنه أن يجلب لي شهرة واسعة في دنيا المحاماة.
وعدت أن أطلع على الدوسيه، واطلعت وجاء أخو المتهم فقلت له: هل ارتكب أخوك الجريمة.
فأطرق وقال: نعم.
قلت: لقد قضى أخوك بعض الوقت في مستشفى الأمراض العصبية، وهذا يتيح لي أن أطلب التخفيف وليس البراءة، فإن قبلت أنا تحت أمرك، وإلا فاذهب إلى محامٍ آخر فنحن أقسمنا ألا نقول إلا الحق، ولا أستطيع أن أحنث بقسمي.
وطبعًا لم يعد، وقد تتبعت هذه القضية في الصحف وكانت قضية ذات شهرة أسمتها الصحف قضية أم الضابط، وقد تخلى عن القضية كل من أحمد رشدي وعلي أيوب وتولاها محامٍ ذو شهرة واسعة حتى الآن، واستطاع بفضل ألمعيته أن يحصل للمتهمين الأربعة على الإعدام، ولعله من الطريف أن أذكر تعقيبًا على هذه الواقعة حدث بيني وبين كبير المحامين في عصرنا مصطفى بك مرعي الوزير السابق، فقد رويت له هذه الواقعة فذكر لي قاعدة لم أكن أعرفها، قال لي: إن المحامي لا يسأل الموكل إن كان ارتكب الجرم أم لا، ولا شأن له إلا بالأوراق التي أمامه هي التي تكلمه، وهكذا يتخلص كبار المحامين من تأنيب الضمير.
وهكذا وجدت نفسي لا أصلح محاميًا على أية حال.
وذهبت إلى عمي فكري باشا وقابلت إميل زيدان وتم تعييني فلم أمكث محررًا بالمصور إلا نصف ساعة، ولم تكن الصحف قد أممت بعد طبعًا، والذي حدث أنني أعطيت مقالة لرئيس القسم الذي سأعمل معه فوجدته يبدي ملاحظات تدل على أنه لا صلة له مطلقًا لا بالأدب ولا بالصحافة، وأدركت أنني كل يوم سأظل رائحًا جائيًا بين مكتبي ومكتب عمي فكري باشا لأكلمه في الخلافات التي ستقع بيني وبين رئيس القسم الذي أعمل معه، والتردد على رئيس التحرير إذا جاز لكل المحررين والكتَّاب، فإنه لا يجوز لشخص هو بمثابة ابن أخي رئيس التحرير.
فخرجت من دار الهلال إلى لا عودة، وإن ظللت أمدها بقصصي القصيرة من الخارج.
وطبعًا بعد أن أُممِّت الصحافة أصبح تعييني أمرًا مستحيلًا، ولكنني ظللت أكتب من الخارج وكان من أعظم من أتاح لي فرصة الكتابة أخي وصديقي فتحي غانم، فقد أفسح لي صفحة أسبوعية في الجمهورية كتبت فيها مقالًا عن الشيوعيين بعنوان من خلال مجهر صدرت بعدها الأوامر إلى فتحي غانم ألا أكتب عنده مطلقًا، وقد أبى الرجل العظيم أن ينفذ الأمر، وطلب إليَّ أن أكتب في غير السياسة، وكانت هذه منه جرأة فائقة تمثلت في هذه الشخصية الفذة، وتكرر منه هذا الموقف الجريء المشرف حين نشر لي روايتي (شيء من الخوف) في صباح الخير حين كان رئيسًا لمجلس إدارة روز اليوسف، وكنت قد أعطيته الرواية وقال لي إذا جاءني مقال من طه حسين فإني أدفع به إلى المطبعة مباشرة دون أن أقرأه، وكذلك الأمر إذا جاءتني رواية من ثروت أباظة فإني أدفع بها إلى المطبعة مباشرة. وقذفت بي هذه الكلمة إلى حيرة شديدة وإشفاق على الرجل العظيم فتحي أن ينشر الرواية ويُفصَل من عمله إذا لم يُعتَقل، وأيد حيرتي أستاذي وصديق عمري نجيب محفوظ، الذي قال لي لا بد أن تجعله يقرأ الرواية بأية طريقة، وطلبت من فتحي غانم وقلت له أنا لا أريد مجرد نشر الرواية، وإنما يهمني أكثر من نشرها أن أعرف رأي الروائي الكبير فتحي غانم. وقرأ الرجل العظيم الرواية وقال لي إنك لأول مرة تكوِّن من وحدات شكلًا متكاملًا كالزخرفة العربية التي تكوِّن فيها الأجزاء شكلًا متكاملًا وكأنما ليس بالرواية رمز، ونشر الكاتب الجريء الرواية في رجولة يندر أن يعرفها هذا الزمان.
أصبح التفكير في عمل صحفي بعد التأميم أمرًا يعتبر نوعًا من العبط الذي لا مثيل له، فاكتفيت بالكتابة غير المنتظمة في الصحف وبكتابة رواياتي والحمد لله على ما وهب، والحمد لله على ما سلب، له الشكر على الحالين.
•••
نسيت في غمرة الحديث عن حياتي العامة أن أذكر لك حياتي الخاصة، فقد رُزقت في هذه الفترة بابنتي أمينة في أكتوبر عام ١٩٥٥م، وقد وُلدت في يوم المولد النبوي في ذلك العام، ووُلدت يوم الجمعة ساعة الأذان وقد حصلتْ على ليسانس الآداب قسم اللغة الفرنسية وعملتْ قليلًا بأجر خيالي في البنك العربي الدولي، ثم وجدتْ نفسها غير صالحة للتعامل مع المال مهما يكن الأجر فلكيًّا، شأنها في ذلك شأن أبيها، واستقالت، وهي تعمل الآن بعقد في التلفزيون ورفضت التعيين به حتى لا تمسك الوظيفة بتلابيبها، وهي قارئة في الفرنسية والعربية شديدة النهم في القراءة، وقد ترجمت لي رواية (شيء من الخوف)، ونشرت الترجمة، والحب بيني وبينها من نوع عظيم، فأنا أحب فيها خلقها الرقيق شديد الرقة، ورهافة الحس، ونقاء السريرة إلى درجة لا أجد لها مثيلًا في كل من عرفت في حياتي وبصورة تجعلني دائمًا أشفق عليها، فطيبتها وحرصها على معاونة الإنسان والحيوان مما يجعلانها في حالة شبه روحانية دائمة لا يرتاح صاحبها أبدًا، وكيف له أن يرتاح وقد جعل هموم العالم جميعها من بشر وحيوان همومه هو الشخصية؟! أسأل الله أن يهب لها من الخير والتوفيق قدر ما تهب هي لمخلوقاته جميعًا.
ورُزقت في يناير ١٩٥٨م بابني دسوقي، وقد نال ليسانس الحقوق وعمل بالنيابة ثم القضاء، واليوم وأنا أكتب هذا الحديث تفضل الدكتور عصمت عبد المجيد فأصدر قرار تعيينه بالجامعة العربية.
وقد تعلم دسوقي في المدارس الفرنسية فهو يجيد الفرنسية إجادة تامة، وهو كثير القراءة في العربية والفرنسية على السواء، ولعله من الطريف أن أروي كيف دخل كلية الحقوق، فهو حين حصل على الثانوية العامة كان مجموعه لا بأس به، وقال لي إنه يريد أن يدخل كلية الآداب قسم الفلسفة، فقد كان كثير القراءة في كتب الفلسفة مما جعله يتعلق بها، فقلت له افعل ما تريد، وكل ما أرجوه منك أن تتحدث في هذا الأمر مع عمك نجيب محفوظ، فهو خريج آداب فلسفة أيضًا، فقال وهو كذلك، وكنا في الإسكندرية وكنت أجلس مع نجيب بك في كازينو جليم، وكان كل منا يتحرى أن يذهب مبكرًا إلى الكازينو ليتاح لنا جلسة خاصة نتبادل فيها خاصة شأنينا قبل أن يأتي الأصدقاء الآخرون، وصحبت دسوقي إلى هذه الجلسة، وقال لنجيب: أريد أن أدخل كلية الآداب قسم فلسفة.
وقال نجيب بك: عظيم … ولكن هناك شرط.
– ما هو؟
– أن تكون أول دفعتك.
واندهش دسوقي وقال: وكيف أضمن هذا؟
– إنك تدخل إلى قسم الفلسفة لأنك تهوى الفلسفة، فإذا لم تكن الأول وتعين معيدًا بالكلية لتظل وثيق بالصلة بهوايتك فسينتهي بك الأمر أن تعمل موظفًا في الجمعية التعاونية.
وطبعًا اقتنع دسوقي ودخل إلى كلية الحقوق، وكان متقدمًا في دراسته، وحين تخرج ظل سنة تلميذًا في معهد الدراسات القانونية الذي لا بد أن ينتسب إليه الآن كل من يصدر القرار بتعيينه في النيابة، وكان حظ دسوقي أن كان الأول على دفعته لإتقانه للفرنسية، مما أتاح له السفر في بعثة ستة شهور للدراسة في فرنسا، ثم عاد وعمل أستاذًا للغة الفرنسية بعض الوقت في نفس المعهد، ثم تدرج في النيابة حتى جلس على كرسي القضاء، وحين يظهر هذا الكتاب سيكون إن شاء الله قد مرت عليه فترة يعمل فيها بجامعة الدول العربية.
ودسوقي — بحمد الله — على أحسن صلة بربه ويقوم على الإشراف على زراعتنا، فهو متعلق ببلدتنا غزالة كل التعلق، ومن نعم الله علينا أنه شاب جاد غير هازل وإن كان هذا يجعله قريب الغضب، ولكنه أيضًا قريب الصبر.
وقد تزوج دسوقي من ابنة الأستاذ منير حتاتة المحامي، ووهب لنا ياسمين وهي في الرابعة من عمرها وعفاف على اسم جدتها زوجتي وهي في الثانية من عمرها، والحفيدتان هما مصدر سعادتي التي لا أشعر بمثيل لها في أي منحى من مناحي الحياة إلا في لعبهما حولي.
•••
في هذه الفترة شهدنا حربين، أما الحرب الثالثة فلها حديث خاص بها. صباح تأميم القنال كنت في الإسكندرية وذهبت إلى بترو كشأني في كل صباح، فقد كنت متعودًا أن أجلس في ندوة الحكيم حتى الساعة الثانية عشرة، ثم أذهب إلى نادي السيارات وأستحم في مسبحه، وذهبت إلى توفيق الحكيم، وكان وحده متحمسًا كل التحمس للتأميم، فعارضته معارضة شديدة متوقعًا حربًا ضروسًا لا قبل لنا بها، وذكرت له أن هذه مسرحية ستدفع مصر وشعبها فيها ثمنًا غاليًا في مقابل لا شيء، فالقناة ستعود إلينا بعد سنوات قلائل ليس لها قيمة في عمر الشعوب.
وقال توفيق بك أنت تكره العهد، ولكن الإنسان في المناسبات الوطنية الكبرى ينسى كراهيته ولا يذكر إلا وطنه، واحتدم الخلاف، وكنت طبعًا لا أستطيع أن أعنف به ففارق السن له في نفسي نوع من التقديس، فصمت قليلًا وبدأ أهل الندوة يتقاطرون، فقمت مزمعًا ألا أعود، وقد فعلت.
ومر يومان أو ثلاثة وإذا بالتليفون يطلبني في نادي السيارات، وإذا بي أجد توفيق بك على الطرف الآخر يعتذر لي ويرجوني أن أعود إلى الندوة، وكان رقيقًا رقة زائدة، فغفرت له ما كان بيننا من نقاش عنيف، وعدت إلى الندوة فإذا الغالبية فيها من رأيي.
وفي أكتوبر حدث عدوان ١٩٥٦م وكان الدمار الماحق إلى جانب الأرواح والأموال الطائلة التي فقدناها مع مهانة لمصر لا مثيل لها، وكانت خطبة رئيس الجمهورية في الأزهر تدل على الانهيار الكامل الذي دب في كيان عهده، ومع إصراره على القتال فقد كان واضحًا أنه في حالة ثورة عارمة، وما دام هو ثائرًا فلتذهب الأرواح والبنايات وكرامة الوطن إلى الجحيم.
وفي أثناء العدوان كنت ألتقي بتوفيق بك وقال لي يومًا: كم كنتَ أنت محقًّا وأنا كنت أعارضك وكم كنتُ مخطئًا في رأيي!
وسكتُّ طبعًا ولم أعلق.
ولولا أن أمريكا بخلق رعاة البقر غضبت لأن إنجلترا وفرنسا وإسرائيل أشعلت نيران الحرب دون إذن منها مما جعلها توجه إلى الدول الثلاث إنذارها الشهير لكان الخراب الكامل لمصر، وكان الإعلام المصري في هذه الحرب قد بلغ حضيضًا لم يستطع أن يسفل عنه إلا في حرب ١٩٦٧م.
وفجرت الأغاني المصرية لتجعل من هذه المهانة نصرًا، فكنا بين شعوب العالم سخرية وأضحوكة لم يعرف العالم لها مثيلًا إلا بعد ذلك بقرابة ثلاثين عامًا على يد صدام حسين في حرب الخليج.
•••
ومرت السنوات وأقفل رئيس الجمهورية الطاغية شرم الشيخ، وما حدث بيني وبين توفيق الحكيم حدث بيني وبين أخي الأكبر وتوأم روحي عبد الرحمن الشرقاوي حين رأى هو هذا العمل بطولة ورأيت فيه خرابًا، وقد جرى الحوار بيننا في مكتبه بمؤسسة السينما بشارع سليمان باشا، واحتدم بيننا النقاش وتركته على نوع هين من المغاضبة ورغم حبي له نويت ألا أتصل به في هذه الفترة حتى لا تتسع هوة الخلاف، ونشبت الحرب وما كانت حربًا، وإنما كانت ما عهدتم من سحق كامل لجيوشنا وأرواح أبنائنا وأموالنا في مدن القتال.
وكنت طوال أيام الحرب في بيتي أتتبع الأنباء من محطات العالم كلها إلا مصر، فلم تكن مصر تذيع إلا الأكاذيب.
وفي يوم اضطررت أن أذهب إلى المجلس الأعلى للفنون والآداب لأستخلص بعض مستحقات لي، فقد كان السفر إلى البلد مستحيلًا ونفد المال من بيتي تمامًا، وبعد أن حصلت على هذه المستحقات هممت بمغادرة المجلس، وبينما أنا في ممشاه سمعت اسمي على ألسنة السعاة يلهثون خلفي، وقفت وأبلغني المنادون أن يوسف بك السباعي يريدني في حجرته، فصعدت إليه فإذا هو يقول لي: الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة يريدك.
– يريدني أنا.
– نعم.
– خيرًا.
– والله لا أدري كلمني وقال إنه يريدني ويريدك معي.
– متى؟
– الآن.
– لا بأس، نذهب.
– هل معك سيارة.
– نعم.
– إذن أذهب معك.
– أهلًا وسهلًا.
وركبنا سيارتي هذه المسافة القصيرة بين المجلس الأعلى للثقافة وبين قصر عيشة فهمي حيث كان مقر وزير الثقافة، ولم نكد نتحدث أنا ويوسف بك، فقد كان واضحًا أن الألم يعتصر نفوس المصريين كلهم، وكنت أضرب أخماسًا في أسداس حائرًا فيما يتخفى وراء هذا الطلب، أأكون قلت شيئًا يدل على غضبي ولكنني لا أخرج من بيتي وأنا أعيش بين إذاعات العالم منذ باكر الصباح إلى أن يتوقف الإرسال، لم تطل حيرتي فسرعان ما وصلنا.
وحين دخلت مقر الوزير هدأ طائري لم أكن أنا ويوسف بك وحدنا المدعوين، بل كان هناك ما يقرب من عشرين كاتبًا وصحفيًّا من بينهم عبد الرحمن الشرقاوي الذي صالحته طبعًا، كنا جميعًا تحت وطأة شعور بالسخط والتشوف والتوقع ويغلف هذا جميعًا ألم يعتصر النفوس.
وجلسنا على كراسي كانت معدة وأمامها منضدة ووراء المنضدة باب يفتح من الجانبين، ولم يطل بنا الانتظار وفتح الباب المواجه لنا وخرج الوزير وراح ينظر إلى كل الحاضرين فردًا فردًا، فإن كان يعرفه ذكر اسمه وإن لم يكن استبان منه الاسم فيذكره صاحبه.
ثم بدأ الوزير الحديث وعرفنا رسميًّا أن الجيش المصري قد انسحب، وقال الوزير إن الانسحاب لا يعني الهزيمة، وإنما هو لون من ألوان القتال لا يدل على الهزيمة، وعرفنا من الوزير أيضًا أن الطيران المصري كله قد دمر، ولكنه قال ولكنني أؤكد لكم تأكيد مثقف لمثقفين أن روسيا سترسل لنا طائرات أخرى إن لم تكن قد وصلت فعلًا، فهي في طريقها إلى الوصول في أقرب وقت، وتحدث الحاضرون وأذكر أنني قلت إنني أطالب الإعلام المصري أن يذكر لنا الحقائق حتى نكون على بينة من أمورنا، فإن الذي تطالعنا به الإذاعات الأجنبية مروع وفظيع، ويبدو أنني تكلمت بلهجة حادة، فراح الوزير يهدئ من روعي بكلمات رقيقة.
خرجنا من الاجتماع وصحبني عبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ لأذهب بهما إلى منزليهما، وفي الطريق كان أستاذنا نجيب مروعًا حزينًا، وكذلك كان عبد الرحمن الشرقاوي، ولو أنه كان يكتب مقالًا يوميًّا في تحية الجيش، وقد أثارني منه قوله في إحدى مقالاته إنه لا يجوز أن يتكلم الشعب عن الخطط العسكرية لأنه لا يفهم شيئًا في هذا المضمار، ولكني لم أشأ أن أحدثه في شأن هذه المقالة ونحن في السيارة فقد كان ثلاثتنا في حال لا تسمح بمزيد من الجدل، وأذكر مما قاله عبد الرحمن الشرقاوي في السيارة: أليس من المحتمل أننا نسحب الجيش الإسرائيلي لنطوقه في عملية كماشة.
فقلت له: وهل كنا ذاهبين إلى فلسطين لنحررها من اليهود أم لنطبق جيشها في كماشة.
فقال نجيب محفوظ: لك حق.
– والله الواحد أصبح لا يعرف شيئًا.
وفي المساء في نفس هذا اليوم أعلن مندوبنا في هيئة الأمم استسلام مصر الكامل، وكانت للإذاعة قناة متصلة بهيئة الأمم تعمل طوال فترة الاجتماع التي تعمل فيها الهيئة، ومع توقعي لهذا توقعًا لا جدال فيه وجدت نفسي أنخرط في نشيج عالٍ من البكاء، وراحت زوجتي أعزها الله تخفف عني غير واجدة من الكلمات ما تقوله؛ إلا أنه ربما كانوا مخطئين، ربما يقول شيئًا آخر.
وأحسب أنني ما زلت أبكي حتى اليوم على الرغم من الانتصار الخالد الذي حققه الجيش بقيادة السادات ومعاونة حسني مبارك، وبعد أيام طلبت عبد الرحمن الشرقاوي في التليفون وقلت له: أنا لن أعاتبك على مقالاتك إلا عن مقالة واحدة نهيت فيها الشعب أن يتكلم في وقائع الحرب، أهذا معقول؟
وفي لهجة من كان ينتظر المكالمة قال لي: أتأتي إليَّ أم أجيء إليك؟
– تعالَ.
وبعد لحظات كان عندي في البيت وبدأ كلامه: أولًا أعتذر إليك لاختلاف رأيي عن رأيك، فقد كنت أنت على صواب منذ الوهلة الأولى.
ولم أجد شيئًا أقوله وعاد نمير الأخوة الصافي بيننا إلى جدوله لا يرنق صفاءه شيء.
•••
أحسب الأيام سارت بي سيرًا رتيبًا بعد حرب أكتوبر، وأحسب أنني في غير حاجة أن أقص أنباء رواياتي التي كتبتها، فكل هذا ظهر في أحاديث إذاعية وتليفزيونية ومقالات، وبعضها ذكرته في كتب.
بعد حرب ١٩٦٧م انتقلنا إلى المعادي لنقيم مع عمي عزيز باشا والسيدة الفاضلة زوجته أمينة هانم في محاولة منا لضغط المصروفات كما يقول الاقتصاديون، وأجَّرت شقتي بالزمالك مفروشة، وكان ما نناله منها يواجه حاجاتنا الضرورية، ثم كان اعتمادي بعد ذلك في مواجهة مصاريف الأولاد والملبس وبنزين السيارة على بيع أرضي، وما كنت أتقاضاه من مكافآت من مقالاتي وقصصي ما ينشر منها في الصحف أو ما يذاع من رواياتي أو ما يؤخذ للسينما أو للتليفزيون، وفي هذه الفترة كان هناك وفد رسمي إلى العراق اشتركت فيه وكان معي فيه المرحوم صالح جودت وأخي الحبيب أنيس منصور أطال الله عمره، واتفقنا ثلاثتنا أن نذهب معًا في سيارة إلى الكويت لنزور بها بعض الأصدقاء، وقد كانت المرة الأولى التي أزور فيها العراق أو الكويت، وكان معنا في العراق أيضًا أخونا الشرقاوي، وقد كان الاستقبال لأشخاصنا في العراق رائعًا، فقد قصد إلينا الصحفيون والإذاعيون، وكنا موضع تقدير لا شك فيه، أما الهجوم على مصر فكان في كل خطب المهرجان وقصائده، لقد كنا السخرية والنقد الضاري المروع، فقد كانت هزيمتنا مذلة للعرب أجمعين.
وأذكر حادثة طريفة أنني ذهبت أنا والشرقاوي إلى فندق آخر غير الفندق الذي كنا ننزل به في بغداد، وبالصدفة وجدت جماعة كبيرة من أساتذتي في كلية الحقوق أذكر منهم د. علي راشد ود. سليمان مرقص وغيرهم، وكانت جلستي بجانب د. علي راشد فروى لي أمرًا غريبًا، كان هذا اللقاء في عام ١٩٦٩م، وأنا كنت تلميذًا للدكتور علي راشد في عام ١٩٤٨م، وأذكر أني أديت امتحان الجنائي في السنة الثانية أداءً لا بأس به، ولكنني وجدت الدرجة التي نلتها ٦ من عشرين، وهي أقل درجة تسمح بالنجاح بشرط أن يجبرها امتحان الشفوي، وكنت قد نجحت فلم أشأ أن أثير موضوع ضعف الدرجة في الكلية، ولكني في جلستي مع د. علي راشد تبينت الأمر وذهلت له. قال د. علي: هل تعرف أنك كنت ستودي بي في داهية؟
– لماذا؟
– الورقة التي أجبت فيها على الجنائي ضاعت مني.
فصرخت: ألهذا أعطيتني ٦ من ٢٠؟
– قلت أعطيه أقل درجة للنجاح وإن كان تلميذًا جادًّا يحصل على درجة أعلى في الشفوي.
– أهذا عدل يا دكتور؟ على الأقل أعطني ١٠ من عشرين، لقد ظلمتني ظلمًا لن أنساه لك.
وفعلًا لم أنسه.
وذهبنا إلى الكويت في هذا العام، ومما لا أنساه تلك الحفاوة البالغة التي لقيها ثلاثتنا هناك، سواء من وسائل الإعلام أو من الهيئات والجماعات والأفراد على السواء.
•••
حين تولى الرئيس الخالد الذكر أنور السادات الحكم، تلقيت النبأ بمشاعر بعيدة كل البعد عن الرضى، وكنت في ذلك الحين أذهب كثيرًا إلى الزعيم العظيم إبراهيم باشا عبد الهادي، فقد كنت أقيم بالمعادي في ذلك الحين حيث كان يقيم إبراهيم باشا، وقلت له فيما قلت إنني لا أعرف أنور السادات إلا أنه كان يرسل لي بطاقة معايدة في كل عيد، ولم ينقطع عن إرسالها قط، رغم أنني لم أكن أشكره على هذه المعايدة لأنني لا أعرف له عنوانًا أرسل الشكر عليه، أو لأنني كنت أعتقد أنها بطاقة عامة ترسل للجميع، ولكني عرفت بعد ذلك من صديق عمري عبد الفتاح الشناوي أن أنور السادات كان على صلة بأبي، وهي صلة لم أعرفها أنا إلا من الشناوي الذي كان سكرتيرًا فمدير مكتب لأبي، ثم قلت لإبراهيم باشا إنني لست متفائلًا مطلقًا برئاسته، فإذا بالسياسي العظيم يقول لي: سترى يا ثروت أن هذا الفتى هو خير من عرفت وسترى مصر على يديه خيرًا لم تكن تحلم به.
وكنت أثق بآراء الزعيم السياسي أحد أبطال ثورة ١٩١٩م والرجل الذي واكب الحياة السياسية، وكان من صناعها فترة طويلة من الزمان تتجاوز نصف القرن.
ومرت الأيام وبدأت الأحداث تتوالى، فإذا السادات سياسي داهية من الطراز الأول.
ولكن وعده بحرب فلسطين ليرد إلى مصر شرفها لم يكن يدور بخلدي أنه سينفذه، وقد أكد لي هذا تأكيدًا لا يقبل الشك مقالات محمد حسنين هيكل بالأهرام التي كانت جميعها تجعل الحرب ضربًا من المستحيل لا يتحقق إلا بقنبلة ذرية.
وفي أحد الأعوام أطلق عليه السادات عام الضباب يقصد بذلك أن الأمور لم تكن واضحة أمامه في ذلك العام، ولذلك امتنع عن الحرب، وأقيم معرض للكتاب في ذلك العام وكانت روايتي (الضباب) معروضة في المعرض، كانت الجماهير تقف أمام الرواية وتضحك، أهذا هو الضباب الذي يقول عنه الرئيس.
إلى هذا الحد كنت ومعي الأغلبية الكاثرة من الشعب المصري لا نصدق أسطورة الحرب هذه.
وكان الأستاذ توفيق الحكيم والأستاذ نجيب محفوظ يشاركاني هذا الرأي، وفي يوم دخلت إلى مكتب توفيق بك في الأهرام، ولم أكن عملت به فأطلعني على بيان مكتوب بلهجة عنيفة معناه أنه ما دام أمر الحرب مستحيلًا فلا أقل من أن ننال حريتنا ونعود إلى الديمقراطية الغائبة عنا منذ سنوات.
وأمر هذا البيان معروف فقد عزلونا من الاتحاد الاشتراكي، والذي وقع قرار عزلي زميلان لي هما د. كمال أبو المجد ومحمد حامد محمود، وكلاهما متخرج معي في نفس الدفعة وقد أرسل لي محمد حامد مع شقيق زوجتي محمد واثق يقول لي: إنه يعلم أنه عزلني من الاتحاد الاشتراكي رغم أنني لست عضوًا به، ولعل في هذه الجملة ما يغنيني عن التعليق. ومنع السادات أسماءنا أن تظهر بالصحف، ونشرت الصحف أنه سينظر في أمر كل كاتب على حدة إذا قدم الكاتب تظلمًا من قرار العزل هذا، وكلمت أخي الأكبر الحبيب يوسف السباعي: طبعًا ستشفع لي ليرفع عني قرار العزل والحظر.
فقال: طبعًا.
– أرجوك ألا تفعل فإنني لن أقدم تظلمًا.
وثار بي أخي يوسف بك، ولكنها كانت ثورة حبيبة إلى نفسي؛ لأنها كانت صادرة عن حبه العميق لي.
وحدث في هذه الفترة أنني كنت مرشحًا لمرافقة وفد أدبي فيه عمي عزيز باشا إلى تونس، فرُفع اسمي من الوفد وأُبلغت بذلك فلم أهتم أي اهتمام، إلا أنني أسفت لأنني حُرمت من مرافقة عمي عزيز خارج مصر، فقد شاء الله — على كثرة أسفاره وأسفاري — ألا يجمعنا بلد آخر خارج مصر حتى وفاته رحمة الله عليه.
وحدث أن ذهب الشاعر الرقيق صالح جودت ويوسف بك السباعي إلى عزيز باشا وطلبا إليه أن يقنعني بالعدول عن موقفي، فكان عزيز باشا عظيمًا وهو يقول لهما: إن ثروت ليس زوج ابنتي فقط، ولكنه عندي أنا ابني المقرب، وأنا على استعداد أن أحادثه في أي شيء إلا في مواقفه السياسية، فهذا شأنه وحده.
واستدعى الرئيس السادات توفيق بك للقائه وروى لي توفيق بك بعد ذلك أنه في أثناء الحديث لم يذكر من أسماء الموقعين جميهم إلا اسمي أنا.
– كيف؟
– قال في حدة وغضب وثروت أباظة.
– هذا مبتدأ فأين الخبر؟
– لم يكمل الجملة.
وقدرت أنا استنتاجًا أنه كان يتوقع مني التأييد لا المعارضة بعد القدر من الحرية الذي أتاحه ومع علمه بمعارضتي الشديدة للعهد السابق لعهده.
وسافر عزيز باشا إلى تونس وعاد، وبعد فترة سافر إلى الكويت وما هي إلا أيام حتى جاءنا خبر بأنه أصيب هناك بأزمة قلبية حادة، ورحنا نعد أنا زوجتي للسفر فإذا بي أفاجأ في الجوازات أنني ممنوع من السفر، ورحمه الله يوسف السباعي مثلًا أعلى في الوفاء والإخلاص والقلب الكبير الذي يسع الناس أجمعين، ما هي إلا ساعة حتى أبلغ الجوازات برفع الحظر عن اسمي، وسافرت وزوجتي إلى الكويت.
وكانت الأزمة حادة، ومكثنا بجوار عزيز باشا لا نتركه إلا للنوم، وحين اطمأنت نفسنا بعض الشيء طلبت مني إذاعة الكويت أن ألقي بها بضعة أحاديث، فرأيت أن أكتب عن روعة السرد القصصي في القرآن الكريم، وقد جمعت أحاديثي هذه بعد ذلك في كتابي السرد القصصي في القرآن الكريم.
وحين اطمأنت نفوسنا على عزيز باشا عدنا إلى مصر ولحق بنا بعد أيام، وقد شاء الله أن يكرمه فاختاره إلى جواره وهو في بيته وبين أهله. وقد فقدت بفقده أبًا حانيًا لي ولابنتي وابني، وكانت كارثة عظمى ربما مهد لها الله سبحانه وتعالى بمرضه الذي أنذرنا بالخطب قبل وقوعه.
وكنا قد انتقلنا في هذا العام إلى القاهرة، سبقت أنا بالعودة ولحق بنا الباشا وأمينة هانم، ليسكنا الفيلا الواقعة بأعلى العمارة التي أقيم بها أنا وأسرتي في الدور الأول منها، توفي عزيز باشا في ١٠ يوليو عام ١٩٧٣م، ولم يشهد الحرب.
•••
كنت أنا وعبد الفتاح الشناوي وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود محمد محمود بك وعبد المجيد باشا بدر ود. محمد هاشم باشا نقضي فترة الظهيرة من رمضان في مقهى مواجه للبنك الأهلي صغير اسمه بار الأنجلو، وكان جميعنا صائمًا، فكنا ندفع أثمان طلبات لا تقدم إلينا، ولكننا نبرر بها وجودنا في المقهى، وكنا نظل نتحدث في شتى الأمور حتى يقترب موعد صلاة العصر فنقوم ونستقل سياراتنا إلى واحد من المساجد الكبرى بالقاهرة أو نتجه إلى مسجد أثري ونقيم الصلاة جماعة، ثم نتمشى في الحي بعض الوقت ويكون المغرب قد آذن بالأذان فنتجه إلى بيوتنا قبيل الإفطار بدقائق، وفي أوائل أكتوبر فوجئنا بقرار من الرئيس السادات برفع الحظر عن أسمائنا وإعادة أعضاء الاتحاد الاشتراكي إليه.
وفي العاشر من رمضان سمعنا بنبأ الحرب ونحن مجتمعون بالمقهى وتولانا جميعًا الذهول، ولا أخفي أنني أصبت بهلع فإن مصر لم تكن تحتمل هزيمة أخرى، ولا يعقل أن جيشًا هُزم هزيمة ٥ يونيو سنة ١٩٦٧م يستطيع بعد ست سنوات أن يقلب الهزيمة إلى نصر.
ولكن المعجزة الإلهية تحققت على يد القائد العملاق الخالد أنور السادات وبمعاونة رئيسنا العظيم حسني مبارك أطال الله عمره وأيده.
ما كان أهون ما عاقبنا به أنور السادات لو وقع منا هذا الذي فعلنا في عهد الرئيس السابق عليه لكان الموت أقل ما يواجهنا. وأذكر في هذه المناسبة أن صديقًا لي من الكتَّاب اقترح عليَّ بعد هزيمة يونيو أن نكتب بيانًا ندعو فيه رئيس الجمهورية إلى إعادة الحرية لمواجهة عواقب الهزيمة، وتحمست لهذا القرار وكتبت البيان ووقعته، فكان أول الناكصين عن توقيعه الكاتب الذي اقترحه، ولم يوقع معي البيان إلا نجيب محفوظ وحده، وأبى جميع الكتَّاب التوقيع، ولن أذكر أسماء الذين عرضت عليهم التوقيع، وطبعًا لم أرسل البيان.
أصبحت أنا وتوفيق بك ونجيب بك من أشد المتحمسين لأنور السادات، ورغم أنني لم أكن كاتبًا ثابتًا بأي جريدة فقد حرصت على نشر تأييدي الصريح للزعيم العملاق في تحمس لا مثيل له، وكذلك فعل الكاتبان الكبيران توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.
وبعد فترة عرفني خالي مدحت بالسيد بك مرعي، وقد وجدت فيه إنسانًا غاية في الرقة والعذوبة، كما وجدت فيه سياسيًّا حاذقًا متمرسًا.
وأبلغني السيد مرعي أن الرئيس السادات معجب بما أكتب، واقترح خالي مدحت أن الأوان قد آن لأعين بمكان ما في الصحافة، وقد وجدت الفكرة ترحيبًا من السيد بك. وأبلغنا بعد ذلك أن الرئيس أيضًا يرحب بالفكرة، وبعد قرابة سنتين علمت من السيد بك أن الرئيس سيأمر بتعييني في مجلة الإذاعة والتليفزيون كرئيس لمجلس إدارتها، وكان د. كمال أبو المجد في ذلك الحين وزيرًا للإعلام الذي تتبعه المجلة، والتقيت به وأخبرني برغبة الرئيس، كما أخبرني أن الرئيس يهنئني على روايتي، والواقع أن لقائي بكمال لم يترك في نفسي أثرًا طيبًا، ولا وجدت منه ما كنت أتوقعه من زميل دراسة وصديق.
وأذكر أنه عرض عليَّ أن أعمل معه بالوزارة فرفضت، فراح يثير حديثًا عن العقبات التي ستواجهني في المجلة فلم يقنعني، وكنت في يوم لقائه أعد نفسي لرحلة عمرة اتفقنا أن يتم تعييني بعد عودتي منها واعتمرت وعدت، وكانت أمينة هانم صدقي في لوزان بسويسرا في ذلك الحين، فاستدعت زوجتي أن تذهب إليها ورحبت زوجتي فهي تحب السفر إلى الخارج حبًّا جمًّا، وتحرص عليه حرصًا شديدًا مهما تكن العقبات، وسافرت وبقيت أنا، وشاء الله أن يخرج كمال أبو المجد من الوزارة ويوقع قرار تعييني أخي الأكبر وواحد من أقرب الناس إلى قلبي يوسف السباعي، وأبلغت زوجتي بسويسرا أنني عُيِّنتُ، وأتولى رئاسة مجلس إدارة الإذاعة والتليفزيون، ولن أذكر عن الفترة التي قضيتها بها شيئًا، ولكن ما قاله لي عميد الصحافة العربية المعاصرة مصطفى بك أمين: كيف استطعت أن تجعل من الفسيخ شربات؟
وأحمد الله.
وحدث أن كتب الأستاذ جلال الحمامصي مقالًا يشكك في نزاهة الرئيس الأسبق، ووقف السادات في خلق الفلاح الأصيل يدفع التهمة في إصرار دون أن يدفع الحجة بالحجة، وإنما كان دفاعًا عن صديق له مهما يكن الدفاع نوعًا من الخطابة وليس تفنيد وقائع.
وقلت في نفسي كنا نكتب رمزًا حين كنا لا نستطيع أن نصارح، واليوم أنا مسئول وحدي عن المجلة التي أكتب فيها، فمتى أقول الحق الصريح إذا لم أقله اليوم.
وكنت أنتظر توفيق بك الحكيم في صباح أحد أيام الجمع بالطابق الأعلى من فندق النيل، وكنا قد اتخذنا منه مكانًا لندوتنا، ويبدو أنني ذهبت مبكرًا فوجدت نفسي أخرج بعض أوراق وجدتها في جيبي بها كتابات، ولكن بها أيضًا فسحات من البياض تتيح لي الكتابة، فرحت أقطع الانتظار بكتابة المقالة التي غيرت مجرى حياتي، وقد كانت أول مقالة صريحة تظهر في الصحافة العربية تهاجم الطاغية، وحين جاء توفيق بك كنت قد انتهيت من كتابة المقال ووضعته في جيبي ولم أذكر عنه شيئًا لأحد حتى ذهبت في صباح السبت إلى مكتبي في المجلة.
وفي أي شيء صدق؟
أية غريبة أن يقال ما يقال؟ وما المال وقد سرق أمننا، ولص كرامتنا، وامتص دماء أبنائنا، وأهدر على رمال سيناء شرف مصر والعرب وتاريخ أمة ومستقبلها.
وفي أي شيء صدق حتى يصدق في ذمته؟!
قال ارفع رأسك يا أخي، وحطم كل رأس فكر في الارتفاع أو فكر فقط، وأبى أن يجعل أحدًا من الناس أخًا، بل أرغم الجميع أن يكونوا عبيدًا له أو هم أعداء.
قال ديمقراطية، ثم فشا وحده مسعورًا، منفردًا بالحكم، مسئولًا وحده عن كل خفقة نفس في البلاد.
وقال قضينا على الإقطاع، فإذا بأصحاب الملايين في عهد الرأسمالية كانوا لا يتجاوزون أصابع اليدين عددًا، فأصبحوا خمسمائة نتيجة لعهده، ثروة الواحد منهم مهما تبلغ من الضآلة تلتهم ملايين الإقطاع جميعًا والإقطاعيين.
وقال ثورة بيضاء، ثم أهدر دماء الشباب في حروب اليمن وحربي سيناء من أجل مجده الشخصي، ومن أجل خراب مصر في دمائها ومالها وكرامتها.
وأسال الدماء في خسة غادرة مجرمة وراء أسوار السجون والمعتقلات.
قال الشرف وهدد الرجال في عفة زوجاتهم وشرف بناتهم وأخواتهم.
قال تكافؤ الفرص وأغدق الأموال على أبنائه، حتى لقد كان الواحد منهم يلهو بقيادة الطائرة لا يحلم أغلب الشعب أن يركبها مرة في حياته، وتقدمت ابنة له تفكر في شراء أرض يتجاوز ثمنها مائة وخمسين ألف جنيه، ولُقِّب ابنه بالمليونير في إذاعة لندن، وسكب أموال الدولة على إخوته وعلى كلابه من ماسحي أحذيته، ولاعقي نعاله، فهم ينبحون باسمه حتى اليوم وقد فجعتهم فيه الفاجعة، وزالت من أفواههم دماء الشعب التي أتاح لهم أن يمتصوها، تؤيدهم في نباحهم فئة أخرى اعتدى عليهم في المعتقلات وجعل زوجاتهم بلا موئل لطول حبس الأزواج ولحبس المال عنهم، ومع ذلك ينبحون باسمه مع كلابه النابحة.
لأن الحكم الجديد … قال الله.
وقال الحرية.
وقال القانون.
ونفذ ما قال وانتصر.
في أي شيء صدق؟!
قال الرجل المناسب في المكان المناسب ثم اختار أهون الناس وجعل منهم رؤساء على العمالقة، ووضع في أغلب المناصب رئيسًا جاهلًا؛ لأن الجهلاء هم علماء النفاق، فانهار العمل في الحكومة وفي القطاع العام، وحين قال محافظ من علمائه:
أعطى القانون إجازة. رُقِّي إلى وزير؛ لأنه عبر عن شعار الدولة.
في أي شيء صدق؟!
دعا إلى الاشتراكية، وعاش، وعاش خدمه والمحظوظون من أتباعه عيشة تتضاءل عندها عيشة الفجار من العاهرين في الرأسمالية، فسمعنا عن فواكه تأتي بالطائرات وعن سيارات نقل تحمل الفراء والسجاجيد، ويعلن هذا علينا حين يغضب على الفاعل، ويستر علينا حين يترضاه ويضع رأسه تحت قدميه، ألا، إلى غير رجعة يا زمن الهمس والصراخ، والنوم المفزع، والقلق الشائع، والخوف المبيد، والعرض المباح، والدم المسفوك، والشرف الجريح، والتاريخ الممزق، والأمل المظلوم، واليوم الكالح، والغد العبوس، والحق المضاع.
ويقولون اكتموا على السرقات أن تذيع، فإنها إن شاعت أحجمت أموال العالم عن مصر والانفتاح، جهلوا الحقيقة، لن تأتي الأموال وأصحابها يعرفون أن اللصوص هنا تتخفى وراء الأستار تحمل التشكيك في أمانة بلادنا، يوم تنكشف الحقائق ويعرف العالم أننا أصبحنا على الطريق القويم، شريفة أيدينا، واثقة نفوسنا، مطمئنًا اقتصادنا، يأتي إلينا أصحاب الأموال الشرفاء واثقين مطمئنين، والحق دائمًا بالدول أجدر.
ولست بحاجة أن أذكر الدوي الذي تفجر عن هذا المقال، وكان الأستاذ حسن عبد المنعم رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وكانت مجلة الإذاعة تابعة له تبعية اسمية، فأرسل إليَّ بكلمة لأنشرها مؤداها أن ما كتبته لا يعبر عن رأي الاتحاد، فنشرت الكلمة وعلقت عليها في نفس الصفحة بما معناه أن أصابع الكتاب حرة حتى لا يتخللها أصابع الآخرين من ذوي المناصب الحكومية أو من غيرهم.
وهاج يوسف بك السباعي وكان وزيرًا للإعلام والمجلة تابعة له طبعًا، وقال لي: هل أكتب أنا هذا الكلام؟
– ولماذا تكتبه أنت؟ وهل كتبت أنت هارب من الأيام وقصر على النيل وشيء من الخوف، أنت تعرف قدر حبي لك، ولكن هذا لا يعني مطلقًا أن أكتب بقلمك.
وبيعت النسخة من المجلة في هذا اليوم بخمسين قرشًا وكان ثمنها الرسمي عشرة قروش، وعرفت أن الكثيرين وضعوا المجلة في إطار وعلقوها في بيوتهم وأصحاب المحلات علقوها في محالهم.
وظلت المقالة حديث الناس فترة طويلة، وفوجئت يومًا بيوسف السباعي يستدعيني إلى مكتبه في الوزارة ويفاجئني بقوله: ما رأيك أن تأتي للعمل معي وكيلًا للوزارة؟
فقلت في حسم: لا يمكن، أستقيل أحسن.
– أترفض العمل معي؟
– أرفض أن أترك الكتابة وأنا بهذا أحمي عهد السادات الذي يذيع أنه يتيح الحرية للكتَّاب، ثم ينقل كاتبًا إلى عمل إداري؛ لأنه كتب مقالًا لم تأمر الحكومة بكتابته.
– يا أخي إنك لم تُعيَّن إلا بطلوع الروح.
– ما زال عندي بضعة أفدنة أبيعها ولا تحمل همي.
– الوزراء غاضبون وثائرون.
– هذا شأنهم.
وفي يوم أُبلغت أن أحضر جلسة مجلس الشعب التي سيلقي فيها الرئيس السادات خطابه، وذهبت ووجدت جميع رؤساء مجلس الإدارة للصحف والمجلات قد دُعوا إلى الجلسة، وكان معنا عمي فكري باشا رحمه الله، وجلسنا في مقصورة الملكة بالدور الثاني من الشرفة وألقى الزعيم خطابه الذي ألغى المعاهدة التي كانت قائمة بين مصر وروسيا، وفي أثناء الجلسة صعد إلينا من أخبرنا أن الرئيس يريد لقاءنا بعد الخطاب في حجرة رئيس المجلس وانتهى الخطاب وذهبنا إلى لقاء الرئيس، وكنت حريصًا أن أقود خطوات عمي فكري نظرًا لضعف نظره، وكان الزعيم السادات واقفًا حين دخولنا، فوقفنا حوله بعد أن صافحنا وقال: نحن قلنا ما نريد قوله، ولا أرى ضرورة لمهاجمة روسيا.
فوافق الحاضرون على رأيه ثم التفت إليَّ قائلًا: يا ثروت اكتب مقالة أخرى أحسن الجماعة زعلانين، اكتب مقالة أخرى.
قلت: لقد كتبت مقالة بعدها هل قرأتها سيادتك؟
قال في سماحة: قرأتها إنما المقالة الأولى لم أقرأها. اكتب مقالة أخرى.
– أمرك.
وخرجنا وسرت مع عمي فكري باشا وقال لي: ماذا ستفعل؟
– لا أدري.
– إنه لم يستدعنا جميعًا إلا ليقول لك ما قال.
– هذا واضح.
– امدح الرئيس السابق.
– الموت أهون.
وذهبت إلى البيت وأدركت أنني إذا حاولت النوم فإن النوم سيستعصي عليَّ، فأمسكت بالقلم وكتبت ما معناه في ظل الحرية التي أتاحها لنا أنور السادات سننسى ما فات ونحاول أن نقيم ما تحطم من نفوسنا.
وكان مقررًا أن يسافر الصحفيون مع الرئيس السادات إلى السعودية، وسافرت فطالعني في السعودية أمر لم أكن أتصور أنني ملاقيه، فقد تعرفت في الطائرة بالدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام حينذاك. وحين وصلت إلى الفندق لم تمضِ إلا بعض الساعة وحدثني في التليفون من يبلغني أن وزير الإعلام في انتظاري على الغداء، وقد دعا معي الأستاذ أحمد زين وذهبنا، وهناك التقيت لأول مرة بعالم الدعوة الإسلامي العالمي فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وفرحت بلقائه كل الفرح، وكنت قد شهدته يخطب جموع الحجاج في البيت الحرام، وكانت الدمعات تتقاطر من عيني ومن عيني زوجتي ونحن نستمع إلى خطابه وقلت له هذا فإذا هو يقول في خفة ظل لا تتأتى إلا له: أي خطبة يا مولانا. سمع عليَّ سمع.
وإذا هو يلقي علينا مقالتي «في أي شيء صدق؟» من الذاكرة فقد حفظها عن ظهر قلب، ولا أحد يتصور ما داخلني من شعور في هذه اللحظات فما تصورت أن أسمع كلامي محفوظًا من أحد مطلقًا، فما بالك وحافظه هذه الظاهرة التاريخية في العالم الإسلامي.
وقال الشيخ الجليل: لقد قرأتها ثم ظللت أنظر إليها فما رفعت عنها عيني إلا وقد حفظتها جميعًا.
وكان في رفقة الرئيس واحد من أنسباء الرئيس السابق، وحاول أن يقوم ببعض السخافات في خفية عني طبعًا، ولم يحاول أن يواجهني فتجاهلت أمره، وكأنه شيء غير موجود، وقد كان كذلك بالنسبة لي فعلًا.
وعدنا إلى القاهرة وكان من المقرر أن يحدث تغيير عام في الوزارة وفي الصحف على السواء في نفس الوقت الذي كنا نستعد فيه للسفر في رحلة إلى أوروبا مع الرئيس، وظهر التأليف الوزاري الجديد فعلًا وخرج يوسف السباعي من الوزارة وجاء مكانه جمال العطيفي وبدأت التغييرات في الصحافة، وكان رئيس الوزراء الرجل المهذب الإنسان ممدوح سالم.
وبينما كنت في مكتبي بالمجلة طلبني رئيس الوزراء وحدد لي موعدًا للقائه يخيل إليَّ فيما أذكر أنه كان في نفس اليوم.
ولا أنسى الجزع الذي بدا على أسرة المجلة، الأمر الذي أسعدني ولم أتصور أن يتغير مكاني بعد أن طلب مني الرئيس أن أكتب مقالة أخرى، ولكنني على كل حال لم أكن مهتمًّا، وذهبت إلى مكتب رئيس الوزراء فوجدت معه الأستاذ إحسان عبد القدوس الذي كان إلى هذه اللحظة رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام فانتظرت، وقليلًا ما أنتظر ودخلت إلى ممدوح بك وكان رقيقًا إلى درجة أنه لم يجلس إلى مكتبه وإنما جلس إلى الأريكة وجلست بجانبه، وقال لي دون مقدمات: الرئيس يريد أن تكون كاتبًا في الأهرام؟
ودون ريث تفكير قلت: قوي.
– عظيم، إذن لا تخبر أحدًا واستمر في عملك حتى يصدر القرار.
– والسفر إلى ألمانيا؟
– إذا لم يصدر القرار قبل السفر رافق الرئيس.
وودَّعني الرجل في أدب جم.
وتجمع بعض المحررين في المجلة وراحوا يسعون لدى رئيس الوزراء ولدى سيد بك مرعي رئيس مجلس الشعب ولدى الرئاسة أن أبقى في مكاني، مما جعلني أكلم سيد بك مرعي، وأرجوه ألا يتغير قرار نقلي للأهرام، وأن الذي يقوم به بعض المحررين يتم دون علم مني. فقال سيد إنهم يعرفون ذلك على وجه اليقين، والجمع هنا تفيد الرئيس لا شك في ذلك.
وحدث في هذه الفترة أن التقيت بالسيد بك مرعي ربما في نفس يوم لقائي برئيس الوزراء، وعرفت منه أن يوسف السباعي سيكون رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام.
فحين خرجت من مقابلة رئيس الوزراء حرصت أن أكلم اثنين صديق عمري علي حمدي الجمال وأخي الحبيب يوسف بك، وجدت علي الجمال بسهولة، وقد فرح — رحمه الله — بنبأ ذهابي معه إلى الأهرام فرحًا هائلًا، أما يوسف بك فعلى غير العادة لم أجده في أي مظنة من مظانه التي أعرفها جميعًا، فلم يطلبني إلا بعد ما يزيد عن ساعة فقلت له: أنا وراك وراك.
فضحك وقال: ورائي فين؟
– أنا ذاهب معك إلى الأهرام.
– ماذا؟
– أخبرني رئيس الوزراء اليوم أن الرئيس يريدني كاتبًا في الأهرام.
– صحيح؟
– صحيح.
– وأنا، كيف عرفت أني ذاهب إلى الأهرام؟
– معلوماتي الخاصة.
– يعني مَن أخبرك؟
– المفروض إنه سر.
– عليَّ أنا؟
– لك حق، ليس عندي سر عنك، أخبرني سيد مرعي، يكفي؟
– يكفي جدًّا.
طلبت من مكتبي في المجلة الوزير الجديد جمال العطيفي لأهنئه بالوزارة، وصاح في فرح: أخيرًا سنعمل معًا.
ودهشت أن ذهابي إلى الأهرام ما زال سرًّا عليه فقلت: كم كنت أتمنى ذلك.
– تتمنى. وماذا حدث لهذا التمني؟
– أنا ذاهب إلى الأهرام.
ودهشت دهشة واضحة في التليفون ظهرت من ألفاظ كثيرة ثم سألته عن السفر إلى أوروبا، فقال لي إنني رسميًّا ما زلت في مكاني، وأن عليَّ أن أمضي في عملي كأن شيئًا لم يكن.
وفعلًا سافرنا إلى ألمانيا ليبدأ الرئيس رحلته إلى أوروبا، وفي اليوم التالي لوصولنا عرفنا أن قرارًا قد صدر بتعيين الأستاذ يوسف السباعي رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام والأستاذ أحد بهجت رئيسًا لمجلس إدارة الإذاعة، ولم يذكر اسمي في شيء من القرارات.
وكانت رحلتي هذه رحلة ممتعة فأنا غير مطالب بعمل أو بكتابة شيء، وكل ما عليَّ أن أتنزه، وكان علي حمدي الجمال معنا فطلب إليَّ ونحن في الرحلة أن أتولى القسم الأدبي في الأهرام فلم أمانع، وحين عدنا مرت بضعة أيام ثم استدعاني يوسف السباعي ليخبرني أن قرار نقلي إلى الأهرام قد صدر.
وبدأت عملي بالأهرام، ولم يمر طويل وقت حتى فجعت بالرصاصة الغادرة المجرمة التي أصابت رجلًا من أعظم الرجال الذين عرفتهم وأحببتهم في حياتي يوسف السباعي، كان يوسف السباعي في عهد الطغيان هو مانعة الصواعق عن الأدباء، ولولاه لدُمِّر الأدباء في مصر تدميرًا كاملًا شأن كل ما هو كريم مشرق في حياتنا، رحمه الله رحمة واسعة وتقبله بين الصديقين والشهداء.
•••
دق جرس التليفون في بيتي في أحد الأيام وكان المتحدث د. طلبة عويضة أمين عام الحزب الوطني بالشرقية، وأخبرني أن الرئيس يريدني أن أنضم إلى الحزب الوطني؛ لأنه يريد أن يرشحني لمجلس الشورى، ولما كنت مؤيدًا كل التأييد للسادات فلم أجد ما يمنعني من الانضمام وأرسل إليَّ الدكتور طلبة أوراق العضوية، وانضممت إلى الحزب الوطني.
وكلمت زميل دراستي الوزير حلمي عبد الآخر أن يرشح الحزب عبد الفتاح الشناوي في المطرية ووعد خيرًا، وعلمت بعد ذلك أن اسمي عُرض في اجتماع الهيئة البرلمانية لمجلس الشعب في الشرقية، كان الحزب قد ارتأى أن يعرض أسماء المرشحين في كل محافظة على أعضاء مجلس الشعب بها، وكان الحاضرون في الجلسة خمسة وعشرين عضوًا عرفت أنهم وافقوا بالإجماع على ترشيحي في مجلس الشورى، فحمدت الله على هذه الثقة، وسافرت لقضاء المصيف بالإسكندرية، ومن هناك وقبل ظهور الترشيحات بيوم واحد طلبت أخي المرحوم حلمي عبد الآخر لأطمئن على ترشيح عبد الفتاح الشناوي فقال لي: لن يظهر اسمه في الترشيحات ولن يظهر اسمك أنت أيضًا.
فضحكت وقلت: أنا لم أطلب الترشيح لنفسي.
فقال: الرئيس السادات قال إن ثروت أباظة لا يجوز أن يرشح عن دائرة واحدة في القطر المصري، بل من حقه أن يمثل مصر كلها، ولذلك فقد قررت أن يكون اسمه بين المعينين لا بين المرشحين.
وقد سعدت بهذا التقدير وحمدت الله أن وقاني من جهد الانتخابات المضني.
وفي هذه الأثناء كان اتحاد الكتاب قد أعلن أنه يرجو الرئيس السادات الموافقة على أن يكون الرئيس الفخري للاتحاد، ووافق الرئيس السادات، وكان رئيس الاتحاد في ذلك الحين توفيق بك الحكيم، وكنت نائب الرئيس، وحدد لنا الرئيس السادات موعدًا للقائه وإهداء وثيقة الرئاسة الفخرية له في منزله بالمعمورة، وكنا في رمضان وتناول أعضاء الاتحاد طعام الإفطار بنادي السيارات بالإسكندرية، وكنت قد أعددت كلمة ألقيها أمام الرئيس وبعد الإفطار قصدنا إلى استراحة الرئيس واستقبلنا بكثير من الحفاوة وأحببت أن أمازح توفيق بك الحكيم الذي أجلسه الرئيس بجانبه، فذهبت وملت على أذن الرئيس السادات، فإذا بالرجل العظيم يهب واقفًا لا أحادثه وأنا واقف وهو جالس فقلت له بصوت يسمعه توفيق الحكيم: أتعرف سيادتكم لماذا أنابني توفيق بك في إلقاء كلمة الاتحاد؟
– لماذا؟
– لأنه سيكتب ولا ينال أجرًا على ما كتب.
وضحك الرئيس ملء فمه وقال لتوفيق بك: لماذا يعاكسك أبناؤك يا توفيق بك؟
وضحك توفيق بك.
وألقيت كلمتي وعلق عليها الرئيس السادات تعليقًا كريمًا، ومن طريف ما دار حول الكلمة أن عضوًا من الاتحاد مشهورًا بتفاهته سألني هل أنت الذي كتبت هذه الكلمة؟ فلم أجب سؤاله وإنما رويته على سبيل الفكاهة لصديقي سعد وهبة، فضحك وقال: إن لم يكن أنت كاتبها فلا بد أن يكون طه حسين هو الذي كتبها، فهذا الأسلوب لا يكتبه إلا هو.
وقد رويت هذه الواقعة لأظهرك على مدى التفاهة التي قد يصل إليها بعض مدعي الأدب.
ومن طريف ما حدث في ذلك اليوم أن الرئيس السادات بعد انتهاء مراسم الاحتفال ظل بيننا يجوس الحديقة متحدثًا للأدباء وأذكر أنني قلت له: يا سيادة الرئيس أنت أول إنسان في التاريخ يضحك على اليهود.
فضحك وقال: بيجن يقول دائمًا لن أنسى ما فعلته بي عمري كله.
قلت له: يا سيادة الرئيس سيادتك غضبت من البيان الذي كتبناه بينما كان البيان من ضمن علامات التمويه التي استعملتها سيادتك بذكاء شديد قبل المعركة.
فضحك وقال: فعلًا، فعلًا لك حق.
ولم يتركنا الرئيس إلا بعد أن رجوته أن يصعد إلى البيت حتى يصيب قدرًا من الراحة بعد هذا الجهد فقال: شكرًا، لك حق.
وصعد.
ولقيته بعد ذلك في أوائل أيام اجتماع مجلس الشورى في لقاء استدعاني إليه، فازددت به إعجابًا في الاجتماع الذي لم يكن معنا فيه ثالث.
وانتهى المصيف وعدت إلى القاهرة، وفي يوم بينما كنت في مكتبي بالأهرام طلبني أخي أنيس منصور في التليفون، وقال لي إن الرئيس يهنئك بتعيينك في مجلس الشورى، فشكرت صديق عمري ورجوته أن يشكر الرئيس باسمي.
أما كلماتي في مجلس الشورى فقد نشرت بالجرائد ولا أستطيع أن أجمعها، ولا أرى داعيًا لذلك أيضًا.
ولكن وقعت قصة طريفة أجد من حقها أن أنشرها، في إحدى الجلسات تكلم أخي عبد الرحمن الشرقاوي وكنت أعارض كل ما قاله، فوقفت بعد جلوسه لأرد عليه وأذكر أنني شددت عليه النكير وتكلمت بحماسة معارضًا له، وجلست وكان عبد الرحمن يجلس ورائي في المجلس فغمز كتفي وقال: ألا تحب أن تشرب فنجان قهوة.
– أحب جدًّا.
– هيا بنا.
وخرجنا أنا وهو نرتشف القهوة ونتحدث في كل شيء إلا ما دار في الجلسة، وكان الأعضاء كلما رأونا دهشوا وأبدوا لنا تعجبهم من جلستنا معًا، فكنا نقول لهم اختلاف الرأي شيء والصداقة شيء آخر.
•••
في يوم مصر الحزين الذي فقدت فيه زعيمًا من أعظم زعمائها كنت في سويسرا والله وحده يعلم كم بكيت وأمليت رثاءه بالتليفون من لوزان. ولم أطق أن أكمل الفترة التي كنت مقررًا أن أبقى فيها خارج مصر حزنًا على السادات، فقطعت إجازتي وعدت إلى القاهرة.
وكان د. صبحي عبد الحكيم رئيس مجلس الشورى في ذلك الحين قد أصيب في ساقه في يوم المنصة المشئوم، فبادرت بزيارته، فأخبرني أن الرئيس مبارك يريد أن يراني.
وكنت قد التقيت بالرئيس العظيم في اجتماعات الحزب الوطني وتكلمت أمامه حين كان نائبًا لرئيس الجمهورية، ومن أفضاله عليَّ وعلى كتَّاب مصر أنني طلبت في أحد الاجتماعات أن تُعفي الحكومة الكِتَاب الأدبي من الضرائب أسوة بالكتاب الجامعي، وكانت حجتي أن الكتاب الجامعي سيوزع حتمًا أما الكتاب الأدبي فمصيره مجهول.
وفي الاجتماع التالي أعلن السيد الرئيس مبارك: وأعفينا الكتاب الأدبي من الضرائب علشان خاطر الأستاذ ثروت.
وأذكر أنني تكلمت أمامه بضع مرات وكنت ألمح في وجهه رضاءه عن كلماتي.
فحين أخبرني د. صبحي أن الرئيس يريد أن يراني بادرت بطلب المقابلة، وبعد أيام قلائل كلمني صديق لي على صلة بالحزب الوطني ليخبرني أن الرئيس سيراني في الساعة الواحدة من يوم كذا.
وقبل الموعد بربع ساعة كنت في مقر الرئاسة، فلقيني الرجل الذي أصبح من أحب أصدقائي أخي جمال عبد العزيز سكرتير الرئيس، وفي ابتسامة مشرقة قال لي: إنك ستقابل الرئيس، ولكن لماذا تأخرت؟
– كيف إن موعدي الساعة الواحدة؟
– بل موعدك الساعة الحادية عشرة.
– لقد كلمني فلان أخبرني أن موعدي الساعة الواحدة، وليس من المعقول أن أتأخر عن موعد مع رئيس الجمهورية، وأنا أدور بالسيارة منذ نصف ساعة حول المقر حتى أحضر قبل الموعد بربع ساعة.
وضحك جمال بك، وقال إن الذي كلمك لا شأن له بمواعيد الرئيس، وعلى كل حال حصل خير.
ولقيت الرئيس العظيم ومنذ ذلك اليوم وأنا أشعر أنني أحظى بثقته؛ لأنه أدرك أنني لا أكذبه في شيء قط، وأدرك أيضًا أنني غير طامع في شيء على الإطلاق.
وكلفني الرئيس العظيم بعد ذلك ببعض مهام أرى من حقه عليَّ أن أبقيها طي الكتمان فقد كانت جميعها لمصلحة مصر ومصر وحدها، وفي يوم من الأيام فوجئت بالأستاذ سامي متولي صديقي وزميلي بالأهرام يكلمني في بيتي: مبروك.
– مبروك ماذا؟
– ألا تعلم؟
– لا والله لا أعلم.
– لقد رشحك الرئيس لتكون وكيلًا لمجلس الشورى.
– أنا لا أعرف شيئًا عن هذا مطلقًا.
وكان موعد نومي في القيلولة قد حان، فدخلت حجرتي ونمت كأنني لم أسمع شيئًا، وحين صحوت أبلغني أهل بيتي أن الأستاذ كمال الشاذلي سأل عني وقبل أن أطلبه طلبني، وقال وهو يضحك قائلًا: أنت نائم يا أخويا!
فضحكت وقلت: هل هناك مانع؟
وأبلغني بنبأ ترشيحي لوكالة مجلس الشورى التي ما زلت أشغلها حتى اليوم.
أيها القارئ العزيز
هذه لمحات من حياتي ورأيت أن أقدمها بين يديك قبل أن يجف مني القلم وترتعش مني اليد، ربما أكون قد أخفيت شيئًا ولا شك أنني نسيت أشياء، ولكني أحسست أن من حق القراء الذين وهبوا لي رضاءهم الذي أحيا به وله، أن يعرفوا بعض الخوافي من حياتي، وأحمد الله إليهم أنني اليوم لا أطمح إلى أي منصب، فإن أي منصب سيقف حائلًا بيني وبينهم إلا هذا المنصب الذي أشغله اليوم، والذي أقنع به كل القناعة؛ لأنه يتيح لي أمرين هما كل ما أعيش له، أولهما: أن أخدم في مجلس تشريعي مصر التي أعبدها بعد الله عبادة محب مقدس أرضها وسماءها وشعبها وهواءها وكل ما فيها. أما الأمر الثاني: فهو أن أظل ممسكًا بهذا القلم ليكون صلة بينك وبيني، وهي صلة أعتبرها أنا أكرم الصلات وأشرفها وأرفعها قدرًا في صلات البشرية جميعًا، والحمد لله على الكثير الكثير الذي أعطى والقليل القليل الذي منع، له الشكر والفضل على الحالتين تقدست آلاؤه.
الأهرام في ٣٠ أكتوبر سنة ١٩٩٢م
الموافق ٣ ربيع ثاني سنة ١٤١٣ﮬ