الرواد
(١) واشنطون أرفنج ١٧٨٣–١٨٥٩
يلقب «أرفنج» بسفير أمريكا الأدبي إلى القارة الأوروبية، ويلقب أحيانًا بأبي الأدب الأمريكي، وهو جدير بكلا اللقبين، يستحقهما بمزايا متعددة، أكبرها وأظهرها أنه رجل لم تستغرقه بيئة قط، سواء أكانت بيئة الزمن أم بيئة المكان، أم بيئة الفكر والثقافة.
يكتب عن الأقاليم المحلية، ويكتب عن أقاليم الولايات من شرقها إلى غربها، ويصف شئون العالم الجديد ولا يقصر في وصف شئون العالم القديم، ويتتبع مسائل عصره، ويتتبع كذلك مسائل التاريخ القريب والبعيد، ويُعنى بالشرق، كما يعنى بالغرب في عالميه الجديد والقديم … فمن مؤلفاته كتاب عن النبي محمد عليه السلام، وكتاب عن خلفائه، وآخر عن فتح غرناطة، وآخر عن خواطر يوحيها قصر الحمراء! وثقافته تلم بأطراف متباعدة؛ فمنها الترجمة والقصة والمقالة والرسائل التي لا تخلو جميعًا من أسلوبه الغالب عليه، وهو أسلوب النقد الاجتماعي في قالب الفكاهة الرضية التي لا تنطوي على عداء لأحد أو لجماعة من الناس … وتتعدد بيئته في تراجمه كما تتعدد بيئاته في سائر موضوعاته، فهو يترجم — كما تقدم — للنبي محمد عليه السلام، ويترجم لكولمبس ولواشنطون، ويترجم للأديب الإنجليزي أوليفر جولد سمث، وتظهر سجيته كلها في إعجابه بهذا الأديب لأن جولد سمث قد اشتهر بكتابه عن «المواطن العالمي» وهو فيلسوف صيني يطوف في العالم، ويعلق على مشاهداته وتجاربه بنظرة شرقية تتجلى فيها غرائب النقائض والمفارقات.
وقد رشحته لهذه السماحة الثقافية أحواله جميعًا، ما كان منها عامًّا يرجع إلى عصره ومنشئه، وما كان منها خاصًّا يرجع إلى أسرته ومزاجه وتربيته، فإنه ولد في عصر الاستقلال، وحضر خلافات الحرب الأهلية، ونشأ من أسرة موسرة لها أعمال في نيويورك وليفربول، وقد عاش في هذه المدينة بضع عشرة سنة وكيلًا عن أسرته في أشغالها التجارية، وترعرع بعد أن عبرت الثقافة الأمريكية بأطوارها الثلاثة: وهي طور الكتابة الدينية في القرن السابع عشر، وطور الكتابة السياسية في القرن الثامن عشر، وطور الكتابة الأدبية في عصر الاستقلال، وإذا نظرنا إلى لباب فكاهته رأينا لها محورًا عامًّا من البيئة الزراعية التي أخذت تتحول إلى بيئة التجارة والصناعة، ومن البيئة المختلطة التي أخذت تتحول إلى الوحدة القومية الشاملة! ولهذا نرى لفكاهته هدفين تنصبهما له تلك المرحلة من تاريخ بلاده: أحدهما السذاجة الريفية، والآخر غرائب الأجناس التي يبرزها التقابل بين الأمم في وطن واحد.
أمَّا ملكته الفكاهية في جملتها فمصدرها القدرة على النظر إلى الأمور جميعها من زاويتين لا من زاوية واحدة، وكثيرًا ما كتب عن شئون وطنه كما تبدو لعين الطارئ المختلف كل الاختلاف عن جميع بنيه، ومن ذاك رسائل التركي المنفي الذي تخيله مهاجرًا إلى الديار الأمريكية، يكتب الرسائل عنها، ويصف منها فيما يصف نظام الحكومة والدولة فيقول: إن الولايات المتحدة تحكم على نظام يسميه نظام حكم الكلام «لوجوقراطي» وإنها الآن في حرب أهلية لاختيار «الباشا» الحاكم عليها، وليس للمتقاتلين في هذه الحرب سلاح غير سلاح الخطب والمقالات.
•••
وُلد بنيويورك (٣ من أبريل سنة ١٧٨٣) ومال بطبعه إلى دراسة القانون ومطالعة الآداب، فلم يتابع تعليمه الجامعي، ثم سافر إلى القارة الأوروبية وهو في الحادية والعشرين مستشفيًا، وعاد إلى السياحة فيها مستطلعًا منقبًا وهو يناهز الأربعين، فالتقى بكبار أدبائها، وشهد مسارحها، وتنقل بين إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا، واخْتِير بعد ذلك لوظيفة في المفوضية الأمريكية بمدريد، ونُقل منها إلى المفوضية الأمريكية بلندن، ثم ارتقى وزيرًا مفوضًا لبلاده في إسبانيا، واختاره معهدها الملكي لدراسة التاريخ عضوًا فيه، فكان من أبرز أعضائه، وخُيِّل إلى الناشرين في وطنه في أثناء غيابه أنه قد نُسي، وخلفه على زعامة الأدب كُتَّاب جيل بعد جيله، فأعرضوا عن طبع كتب بعد نفادها، ولكن واحدًا منهم — وهو بتنام — كان يطوف في البلاد الإنجليزية لشئون تتعلق بصناعته؛ عرض عليه بعد عودته أن ينقده ألفي ريال في السنة مع حصة في الأرباح لطبع كتبه القديمة، وما عسى أن يصدره من مؤلفاته الجديدة؛ فتبين للناشرين والنقاد معًا أن مكانته في بلاده وغير بلاده ترتفع ولا تهبط، وأن تعبيره عن القومية الأمريكية «العالمية» كان أصدق التعبيرات في تلك المرحلة من مراحل الثقافة والتكوين الاجتماعي والصلات الخارجية …
ولم تكن السياحة هي العامل الوحيد في تعدد الجوانب الثقافية التي اشتهر بها أرفنج، فقد كانت مطالعاته لا تقل عن سياحاته، ويمكن أن يشار إلى بعض أساتذته الأدبيين، ولا يمكن حصرهم جميعًا، فمنهم مونتسكيو وسكوت وأديسون وجولدسمث، ومنهم كُتَّاب القرن الثامن عشر عامة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، ويندر أن يشار إلى أديب من أدباء السلف اليونان أو اللاتين لم يطلع عليه.
وأسلوبه سهل رشيق، خلو من اللهجة التعليمية التي كانت تشيع بين أساليب القرن الثامن عشر، ويلاحظ عليه أنه يتجنب العواطف القوية، وينفر من الفواجع والسَّوْرات النفسية، ولكنه يحسن تصوير الملامح الشخصية بغير تكلف، ويعطي «اللون المحلي» حقه من العطف والفكاهة الرضية.
وقلَّ أن يطلع القارئ على أثر لهذا الكاتب النابغ إلا وجد فيه خصائصه جميعًا ممثلة عفوًا بغير مجهود …
ونتخذ المثل من القصة التي احتوتها هذه المجموعة، وهي قصة «ريب فان ونكل» فإنها قصة رجل ساذج لم يحصره جيل واحد، وفيها دعابته المعهودة عن سذاجة الريفي وعادات الهولنديين في أيام الهجرة الأولى، وفيها كذلك لمحة إلى قصة «أهل الكهف» وإلى طرائف عصر الانتقال بين أيام الاستعمار وأيام الاستقلال، وليس أوضح من صورة بطل القصة وصورة المجتمع البسيط الذي عاش فيه منذ شبابه إلى شيخوخته المضاعفة، تلك الشيخوخة التي صاحبت جيلين من الشباب والشيوخ.
ريب فان ونكل
وحق أودين رب السكسون، الذي يُنسب إليه يوم أودين أو الأربعاء ليكونن الحق لزامًا أحرص عليه إلى اليوم الذي أتوارى فيه إلى الضريح …
كل مَنْ ألقى به المسير إلى هدسون يذكر ولا ريب جبال كاتسكل فرع الأسرة الجبلية التي تُعرف بالأبلاشية، وتُرى على غرب النهر من بعيد مرتفعة إلى علو نبيل، مشرفة على ما حولها من الأرضين، يطرأ عليها في كل موسم أو جو يتغير، بل في كل ساعة من ساعات النهار طارئ من الألوان الساحرة التي تغشى أشكالها وملامحها، وتحسبها ربات البيوت في تلك الجيرة مقياسًا من أدق مقاييس الجو والهواء، فإذا اعتدل الجو واستقر تسربلت بالزرقة والاحمرار، وارتسمت صورتها الفخمة على أفق الغروب، ويتفق أحيانًا حين يصحو الأفق من حولها أن تتجمع فوق رأسها كمية من الأبخرة المرحة تطيف بقمتها، فتلمع في أشعة الشفق الأخيرة كأنها تاج العظمة والفخار.
في هذه القرية، وبين جدران بيت من هذه البيوت التي أبلاها الزمن، وران عليها طول العهد بتقلب الأجواء، كان يعيش من زمن بعيد — أيام كانت القرية ولاية بريطانية — رجل طيب ساذج يُسَمَّى «ريب فان ونكل» ينحدر من سلالة «فان ونكل» الذي ذاعت شهرته في تلك الأيام، أيام البطولة والفروسية في عهد الحاكم بيتر ستو فيزان، وقد صحبه حين ذهب إلى حصار قلعة كرستيا، ولكن «ريب» لم يرث إلا القليل من خلائق أجداده الحربية، فهو رجل سمح بسيط حسن العشرة لجيرانه، مستسلم لزوجته التي لا تفتأ تنهره وتسيء إليه، ولعل هذا الخلق الأخير هو الذي أورثه تلك الهوادة التي تحبب صاحبها إلى الناس، وتلازم خارج الدار كل مَنْ ابتُلي داخلها بالخضوع للزوجات السليطات؛ إذ تُراض أمزجتهم ولا ريب بالمطرقة والكير في نيران الخلاف المحتدم، حيث تغني الخطبة الواحدة عن عظات المنابر في العالم كله، وهي تحاول أن تعلم الناس فضائل الصبر والاحتمال، ومن ثَمَّ تُحسب الزوجة الصاخبة في عداد النعم المرضية، ويقال عن «ريب فان ونكل» بحق إنه مثلث البركات!
والواقع أنه كان على حظوة عظيمة عند زوجات القرية الصالحات، وهن على عادة الجنس اللطيف يعطفن عليه في كل مشكلة بيتية، ولا يفوتهن في سويعات السمر أن يُلقين اللوم كله على السيدة فان ونكل، كلما قلبْنَ شجون الحديث … وقد تعوَّد الأطفال أن يتلقوه بصيحة الفرح كلما طلع عليهم، فيساعدهم في اللعب، ويصنع لهم ألاعيبهم، ويعلمهم كيف يرسلون الطيارات في الهواء، وكيف يصيبون المرمى، ويقص عليهم أقاصيص العفاريت والساحرات والهنود، وحينما ذهب يدلف في أزقة القرية أحاط به جيش منهم يتعلَّق بأذياله، ويصعد على ظهره ويداعبونه بغير احتشام، ولا تسمع كلبًا واحدًا ينبحه بذلك الجوار!
وآفة «ريب» الكبرى كراهته العصية لكل عمل نافع، وليس ذلك لقصور منه عن الدأب والمثابرة؛ فإنه قد يجلس النهار كله وفي يده سنارة أثقل من رمح التتري يصطاد بها السمك، ثم لا يسأم الجلوس وإن لم يسعده الحظ بانتفاضة واحدة من الخيط تبعث فيه الأمل، وربما حمل بندقية الصيد ساعات بين الغابات والمستنقعات، وفوق التلول، وتحت الأودية عسى أن يظفر ببعض السنجاب أو الحمام، ولم يرفض قط أن يمد يد المعونة لجار يدعوه إلى أشق الأعمال، ولم يزل في الطليعة في كل مهرجة من مهارج الحصاد، أو في كل حشد يتلاقى لإقامة الحواجز والحدود. وقد تعود النساء كذلك أن يبعثن به في رسائلهن، وأن يندبنه لتلك المهام التي لا يتقبل الأزواج منهن أن يستجيبوهن إليها! فكان بعبارة أخرى على استعداد لأن يقوم بكل عمل غير عمله … أما المستحيل عنده فهو أن يُعنى بحقله أو شئون داره، وكل ما له فيه منفعة أو صلاح!
وواقع الأمر أنه كان يقول إن العمل في مزرعته عناء ضائع، فإنها كانت ألعن قطعة من الأرض في الإقليم كله، وليس فيها إلا ما هو غلط ينتهي إلى غلط على الرغم منه، فحواجزها لا تزال تتساقط وحدها، وبقرته تضل الطريق أو تجوس خلال الكرنب، والعشبُ فيها كأنما أقْسمَ ليسبقن في نموِّه وتكاثره كل عشب مثله في المزارع الأخرى، وكذلك كان المطر على عهد أن ينهمر كلما اتفق له عمل خارج داره، ومن ثَمَّ فنيت مزرعته الموروثة فدانًا في إثر فدان، ولم يَبْقَ منها غير رقعة صغيرة يزرع فيها الحبوب والبطاطس، وهي أسوأ المزارع حالًا على الإطلاق.
وكان أطفاله كذلك شُعثًا غبرًا كأنهم شرداء لا ينتسبون لأحد، ومنهم ابنه «ريب» الذي نشأ على صورته، تنمُّ مخايله على أنه سيخلف أباه في عاداته وأطواره كلما شوهد بملابس أبيه البالية، وكان كالعجل الصغير يقفو آثار أمه حيث سارت، ملتفًّا بسراويل أبيه، وقد طوى فضولها بيده فعل السيدات الرشيقات؛ إذ يأخذن أذيالهن بأيديهن في الهواء العاصف.
على أن «ريب فان ونكل» كان من أولئك السعداء الذين رُزقوا ذلك المزاح الرضي الأبله، الذي يتلقى الدنيا على علاتها في يسر وقلة اكتراث … يأكل الخبز أبيض أو أسمر حسبما يتفق، ويؤثر أن يعيش جوعان بدرهم على أن يعيش بالعمل والمشقة على دينار، ولو أنه تُرك وشأنه لصفر للحياة يطويها في غير اكتراث، ولكنها هي امرأته التي لا تني تطن في أذنيه مؤنبة له على كسله وتراخيه، وعلى الخراب الذي يسوقه إلى أهله، وتدأب على ذلك صبحًا وظهرًا وعشيًّا، فلا يهدأ لها لسان. ومهما يَقُلْ فهو على يقين أن كلمة منه يتبعها لا محالة فيض من تلك البلاغة المنزلية، حيلته الوحيدة حياله أن يصبر عليه، وأن يهز كتفيه وينفض رأسه، ويمط شفتيه، ويرسل بصره أمامه، ولا ينبس بحرف … وتلك على الدوام مناسبة جديدة لانطلاق زوجته في طوفان آخر من التأنيب والتبكيت، فلا يسعه إلا أن يشد عزمه ويفارق المنزل إلى الخلاء، وهو المكان الوحيد الذي يملكه الزوج المغلوب!
وكان أليفه الوحيد في الدار «كلبه وولف» الذي كان حظه من مدام «ريب» كحظ صاحبه! كلاهما رفيق بطالة وكسل، وربما لحظته السيدة بعين السخط لاتهامها إياه بإغراء الرجل والتواطؤ معه على الكسل والتشرد … والحق أن «وولف» كان كما ينبغي لكل كلب شجاع مثلًا للكلاب، لا يسبقه سابق في مطافه بالغاب، ولكن ما جدوى ذلك كله أمام لسان امرأة سليط؟! فما هو إلا أن يدخل المنزل حتى يهبط صدره، ويتدلى ذنَبه، أو ينطوي بين رجليه، ويتسلل في خجل ورهبة، ملقيًا بالنظر من هنا وهناك إلى مدام «ريب» متأهبًا للفرار كلما لمح من بعيد شبح المكنسة في يدها …!
وساء الزمن عامًا بعد عام مع «ريب فان ونكل» في حياته الزوجية، فليس من شأن السن أن تداوي طبيعة النكد … ومن شأنها دائمًا أن تزيد مرانة اللسان وتشحذه بكثرة الاستعمال! وطالما عَزَّى نفسه كلما برح المنزل بالتردد على نادي الحكماء وذوي الحنكة والخبرة وزملائه في الكسل والهوادة، حيث كان المجلس ينعقد على كنبة عند باب خان، تعلوه صورة صاحب الجلالة «جورج الثالث» وتأوي إليها الزمرة، فتقضي نهار الصيف في الظل، وتتحدث هنالك بفضول الغيبة القروية أو بلا شيء، ولكن الإصغاء إليهم في بعض ثرثرتهم متعة تساوي دراهم السياسي الأريب؛ إذ يجيلون النظر في صحيفة من الصحف القديمة، يلتقطونها من مسافر عابر، ويصغون سكوتًا إلى الأستاذ العلَّامة «دريك فان بومل» وهو يتنقل بين موضوعاتها، ولا تخيفه منها أضخم كلمة من كلمات المعجمات الغامضات، ثم يتبادلون الرأي في أصداء من الحوادث العامة مضت عليها بضعة أشهر …!
وكان المسيطر التام على آراء هذه النخبة شيخ القرية وصاحب خانها «نيقولا فيدار» وعلى بابه يقضي النهار من الصباح إلى المساء، لا يتحرك إلا ريثما يتقي الشمس في ظل شجرة كبيرة، يستطيع مَنْ يراه على مقعده وراءها أن يعرف الساعة كما يعرفها من علامة المِزْولة! نعم إنه كان كثير الصمت، كثير التدخين، قلما تنفرج شفتاه، إلا أن مريديه — ولكل عظيم مريدون — كانوا قد عرفوه وعرفوا كيف يستشفُّون رأيه من ملامح وجهه، فإذا سمع كلامًا لا يعجبه، فآية ذلك أن ينفخ الدخان نفخة الغضب والاستياء! أمَّا إذا وافق الكلام هواه، فآية ذلك أن يطيل النفس ثم يرسله سحبًا هِينة خفيفة، أو ينحي البيبة عن فمه، ويطلق منه الدخان المتموج ليهز رأسه هزة التأمين والاستحسان!
وحتى هذا المعقل الأمين قد طُورد فيه «ريب فان ونكل» آخر الأمر، ولاحقته عنده زوجته اللجوج، حيث كانت تفاجئ الجمع بصيحاتها، وتصف كل عضو من أعضائه بصفاته عندها، فلا يعتصم منها حتى تلك الشخصية المُوَقَّرة، شخصية «نيقولا فيدار» ولا يأمن أن يسمع من ذلك اللسان الصاخب تهمة التحريض على البطالة، يغري بها قرينها المسكين …!
وران اليأس بعد طول الصبر على المسكين «ريب» ولم يكن له منجًى من هذه المطاردة ومن متاعب الحقل إلا أن يحمل بندقيته ويأبق إلى الغابات، ويستريح إلى جذر شجرة، يشاطره في ملجئه منها كلبه وولف الأمين، وهو قسيمه أيضًا في البلاء والاضطهاد!
وربما التفت إلى «وولف» حينًا بعد حين، يناجيه بكلمات العزاء والمواساة: «آه يا وولف العزيز، إن سيدتك تسومك سوم الكلاب، فلا تأس ولا تحزن، إنك لن تعدم ما دمت بقيد الحياة صديقًا يقف إلى جانبك ويواسيك!»
ويقابل وولف هذا العزاء ناظرًا إلى وجه مولاه مبصبصًا بذنبه، وما من شك أنه كان يجاوبه من أعماق قلبه، ويفصح له عن كامل عطفه، لو يقدر كلب أعجم على الإفصاح!
وفي إحدى هذه الرحلات، يومًا من أيام الخريف، صعد «ريب» — على غير قصد منه — إلى قمة من أعلى قمم التلال؛ يتشاغل بملهاته المحببة صيد السنجاب، ويستمتع بالسَّكِينة حيث تتجاوب أصداء بندقيته كرَّة بعد كرَّة، ثم ألقى بنفسه وقد أجهده التعب عند الأصيل على ربوة خضراء، تجللها الأعشاب الجبلية على حافة الهاوية، ولاحت له من فرجة الغصون غابات الوادي التي تمتد تحته ميلًا بعد ميل، وعلى مد البصر منظر النهر الفخم في مجراه الصامت تنعكس عليه سحابة حمراء أو شراع زورق يتهادى هنا وهناك، ثم يتوارى في زرقة التلال، وإلى الجانب الآخر وهدة عميقة في عزلة موحشة يمتلئ قاعها بفتات الهضاب المطلة عليها، وقلما يبلغ إليها شعاع الشمس الغاربة …
وراح «ريب» يسرح البصر في هذه المشاهد هُنيهة، والليل يقبل بأكنافه، والظلال تتطاول من حوله، فبدا له أن الظلام ملقٍ سدوله — ولا شك — قبل أن ينتهي إلى القرية، لو أنه أزمع الهبوط إليها، وتنهد طويلًا حين جال بخاطره ما سيلقاه من أهوال السيدة «فان ونكل» وزماجر غضبها!
وأنه لَيَهِم بالنزول فإذا بهاتفٍ يصيح به: «ريب فان ونكل» … «ريب فان ونكل» … ويلتفت فلا يرى أحدًا هنالك، اللهم إلا غرابًا على جناحيه خلال التلال، فيُخيل إليه أنه سمعه قد خدعه، ويستدير لِينحدر فيعاوده الصوت: «ريب فان ونكل» … «ريب فان ونكل» كما سمعه أول مرة، وإذا «بوولف» يقوس ظهره ويعوي عواءً عاليًا، ويزحف إلى جانب مولاه، وفي عينيه نظرات الخوف، وهو يطل على الوهدة، فيخامر الخوف جوانح «ريب» وينظر حيث رأى كلبه يطيل النظر، فيلمح ثمة إنسانًا يدلف مصعدًا في الجبل بين تلك التلال المهجورة، وعلى ظهره حملٌ ينوء به ويثقله … فأدهشه أن يلقى أحدًا هناك، وخطر له لعله أن يكون جارًا من جيرانه في حاجة إلى العون، فأسرع منحدرًا إليه …
وتضاعفت دهشته حين اقترب منه لغرابة مرآه؛ إذ كان قصيرًا، ممتلئًا، مربع القادمة، كث اللحية، يلبس ملابس أهل هولندة، وحول حَقْويه صدار يستدير عليهما فوق سراويله القصار التي ترصعها الأزرار على الجنبين وفوق الركبتين، وكان يحمل على كتفه برميلًا يبدو عليه أنه مترع بالشراب، ويومئ إلى «ريب» ملتمسًا منه المساعدة.
فبادر «ريب» إلى نجدته كعادته، وإن ساورته خاطرة من الاستغراب والتهيب، وتعاونا معًا على الصعود بالحمال إلى مثعبة جفت في طريق السيل، وكان «ريب» يسمع كلما ارتقيا مصعدين قصفًا كقصف الرعود البعيدة، يخيل إليه أنه آت من بعض الشقوق بين الجبال حيث يتجهان، فتمهل قليلًا، ثم خطر له أنها قد تكون نوبة من نوبات الرعود المعهودة في تلك الذرى. فتقدم، وطفق يتقدم هو وصاحبه، حتى أفضيا إلى فجوة كالمدرج تحيط بها مزالق الوهاد، وتعلوها الأشجار التي تشابكت فروعها، فلا تبدو من خلالها غير رقعة هنا ورقعة هناك، من قبة السماء الزرقاء وسحائب المساء اللامعة … وكان «ريب» وصاحبه يرزحان بحملهما صامتين؛ لأنه — وإن عجب لهذا الحمل يصعد به صاحبه إلى تلك الذروة — كان يحس حول الرجل الغريب شيئًا من الغموض يحول دون الألفة ورفع التكليف بينهما …!
واعتراه طارق جديد من الغرابة حين انتهيا إلى الفجوة المدرجة؛ إذ نظر ثمة فلمح طائفة من الشخوص الغريبة تلعب لعبة الأوتاد التسعة، وعليهم تلك الأكسية العجيبة من السراويل والصدائر قد تَعَلَّقت من نطاقها الخناجر، وفي لباسهم مشابهة لملابس دليله، وعلى سماتهم عجب عجاب؛ إذ كان فيهم الضخم الدماغ، العريض الوجه، الذي تحكي عيناه أعين الخنازير، ومنهم مَنْ يبدو عليه كأنما رُكِّبَ وجهه من أنف ولا شيء، وعلى رءوسهم قلانس يتدلى الريش فوق أقفيتها، وكلهم من ذوي اللحى التي اختلفت ألوانها وأشكالها، يرأسهم واحد منهم قصير القامة في لون بشرته سفعة من تقلب الأجواء، وعلى صدره «عنترى» مُطَرَّز الحوافي، وفوق رأسه قبعة يعلوها الريش، وفي قدميه حذاء مرتفع الكعبين تُزَيِّنه وردتان … ومنظرهم جميعًا يُخَيَّل إلى «ريب» أنه ينظر إلى الصورة الفلمنكية التي كان يراها في حجرة القس «فان شيك» مُعَلَّقة هناك منذ أيام الهجرة الأولى …!
والذي أدهش «ريب» بصفة خاصة أن هؤلاء السادة كانوا في تسليتهم ولعبهم يتشحون بوشاح الرهبة والوقار، ويلتزمون الصمت الخفيَّ، ويلوحون للعين كأغرب ما وقعت عليه من محفل أناس يلعبون ويتلهون، ولا يتخلل صمتهم غير ما كان يسمعه حين يلقون بكراتهم من دوي كدوي الرعود …!
فَلَمَّا اقترب منهم «ريب» وصاحبه، أمسكوا عن اللعب، ونظروا إليهما فأطالوا النظر، كأنهم التماثيل الجوامد، وتراءت على ملامحهم صرامة أفزعته، فسقط قلبه، واختلجت ركبتاه، وعمد صاحبه إلى البرميل فأفرغه في بواط واسعة، وأومأ إليه أن يدور بها على الرفاق، فلبى الأمر وهو يرتجف من الرعب، ورآهم يجرعون الشراب في صمتٍ عميق، ثم يعودون إلى اللعب …
وسكن روعه رويدًا رويدًا، وبلغ من طمأنينته أنه اجترأ على ذلك الشراب يتذوق منه، فاستعذب مذاقه كأطيب ما تكون الأشربة الهولندية، وكان من دأبه اللهفة على الشراب حيث وجده، فعاود الكَرة وأغرته لحسة بلحسة، وأكثر من معاودة البواطي لحظة بعد لحظة حتى غام حسه وغامت عيناه، ومال رأسه، واستغرق في نومٍ عميق!
فلما تنبَّه ألفى نفسه على الربوة الخضراء حيث التقى بصاحبه، ومسح عينيه ونظر، فإذا الصباح مشرق وضيء، وإذا الطير تقفز وتغرد بين الغصون، والنسر محلق باسط جناحيه يستقبل النسيم صافيًا على قنن الجبال، وهجس في نفسه: أتراني قضيت الليل كله ها هنا؟! ثم راح يستعيد ما حدث قبل استغراقه في النوم، ويذكر ذلك الرجل الغريب صاحب برميل الشراب، وفجوة المدرج، وتلك الرفقة العبوس اللاهية بلعبة الدبوس، وتلك الباطية الخبيثة، يا لها من باطية خبيثة حقًّا! فكيف يكون اعتذاره للسيدة «فان ونكل» يا ترى؟!
والتفت إلى جانبه ينظر بندقيته، فلم يجد في موضعها غير هنة رثة أكل الصدأ حديدها، فخطر له أن تلك الرفقة العبوس قد عبثت به وأسكرته لتختلس منه بندقيته، واختفى وولف أيضًا! فهل تراه انطلق وراء حجلة أو سنجابة؟ إنه ليصفر له ويناديه ولا من سميع، إنما يجيبه الصدى بمثل صفيره وندائه، ولا كلب هناك.
واعتزم أن يعود إلى مكان الرفقة يسألهم حيث وجدهم عن كلبه وبندقيته، فما هو إلا أن همَّ بالحركة حتى أحس في مفاصله بيبوسة، وعجز عن الحركة على غير عهده بنشاطه! فقال لنفسه: إن هذه المراقد الجبلية لا توافقني، ويا له من وقتٍ ممتع أقضيه بين يدي السيدة «فان ونكل» لو لزمت الدار بداء المفاصل والعياذ بالله!
لقد وصل إلى الوهدة بمشقة، ورأى الهضبة التي ارتقاها مع صاحبه، ولكنه لفرط دهشته وجد عندها جدولًا يتدفق من صخرة إلى صخرة، ويملأ الجبل بأصداء خريره، فعالج أن يتخطاه، وسلك طريقه في جهد ومشقة بين ألفاف الشجر وهي تعترضه كالشباك في الطريق، وبلغ آخر الأمر إلى حيث الفجوة المدرجة، ولكنه لم يجد هناك ثغرتها التي كان يذكرها، ووجد الصخر قائمًا أمامه كالسد المنيع يهوي عليه الماء، كأنه الدخان مندفعًا إلى حوض غائر قد اسود في ظلال الغاب التي أحاطت بجهاته … واضطر «ريب» المسكين أن يقف في ذلك الموضع، فعاود الصفير والنداء على كلبه، ولم يستمع من جواب غير النعيب من سرب غربان تحوم كسلى من فوق شجرة يابسة على الهاوية، وتنظر دونها آمنة في فضائها، كأنما تسخر من ذلك الآدمي المسكين في حيرته …!
ماذا تراه يصنع؟ إن الصباح يمضي وهو يتضور جوعًا، وتلعجه لوعة الحزن على كلبه وبندقيته، ويكربه لقاء زوجته المنتظر، ولكنه لا يقدر على البقاء حيث يهلك جوعًا في مكانه، فهز رأسه وحمل بقايا بندقيته، وتحوَّل وهو مثقل الفؤاد بالغم والقلق إلى ناحية داره.
راح يقترب من القرية، فيلقى عندها طوائف من الناس لا يعرف منهم أحدًا، ويدهشه أن ينكرهم جميعًا، وهو يحسب أنه على معرفة تامة بكل فرد في أفراد المكان وما حوله، ويلاحظ أن ملابسهم تخالف الزي الذي يعلمه، وأنهم ينظرون إليه بدهشة كدهشته، ويتأملونه طويلًا ثم يحكون ذقونهم، فلمَّا مدَّ يمينه يصنع مثل صنيعهم، إذا بلحيته قد طالت نحو قبضتين أو تزيد!
وكان قد دنا من ظاهر القرية، فلحقت به زمرة من الصغار تُهلل في أعقابه وتشير إلى لحيته البيضاء، ونبحته الكلاب التي لم يكن كلب منها ينبحه من قبل، فنظر إليها فلم يعرف أحدًا منها. وتبدلت القرية كلها؛ فهي أكبر وأحفل بسكانها، ولا أثر فيها لمزاراته التي كان يألفها، وعلى الأبواب أسماء غريبة، وفي النوافذ وجوه غريبة، وكل شيء يراه غريبًا غريبًا!
خانه عقله، وداخلته الشكوك، ولاح له أنه يمشي مسحورًا في عالم مسحور! فلا ريب أنها قريته التي فارقها بالأمس، وهذه جبال كاتسكل، ما في ذلك ريب، وهناك نهر «الهدسون» المفضض على مسافته حيث كان، وهنالك كل هضبة ووهدة حيث كانت من قديم …! فيا للشراب الخبيث! إنه قد بلبل رأسي أيما بلبال!
ولم يعرف طريق بيته إلا بعد لأي … فجعل يمشي إليه متهيبًا متوجسًا، يترقب في كل لحظة أن يسمع صيحة امرأته مجلجلة في أذنيه، فإذا بالدار قد تداعت، والسقف قد تهدم، والنوافذ قد تهشمت، والأبواب قد تفككت من مفاصلها، ولديها كلب يحوم حولها يوشك أن يهلك من هزال الجوع، كأنه صاحبه «وولف» … فناداه باسمه فكشر له عن أنيابه … يا له من جحود: كلبي ينساني فيما بين ليلة ونهار؟!
ودخل المنزل، ولا نكران أن السيدة «فان ونكل» تدأب على تنظيمه وتنظيفه. فوجده خلاء خواء، يلوح عليه أنه مهجور ومتروك، وغلبت وحشته على خوفه، فنادى زوجته وأطفاله، فرنَّ صوته هنيهة في الحجرات الخالية، ثم ران عليها السكوت!
وهرول إلى الخان مزاره المعهود، ولكنه ذهب … أما المكان فقد قام فيه في موضع الخان بناء من خشب متخاذل، مفغور النوافذ، مرقع الثغرات هناك بالقبعات والسراويل، وعلى بابه نقشة تقول: «فندق الاتحاد» لصاحبه «يوناتان ديلتل» … وعاين — بدلًا من الشجرة الكبيرة التي تُظل الخان — عمودًا فوقه شيء كالقَلَنْسُوة الحمراء عليه خطوط ونجوم، كل ما هنالك غريب غريب!
وتعرف هنالك صورة الملك «جورج» التي دخن تحتها كم من بيبة مشتهاة، ولكنها — حتى هذه الأخرى — قد تبدلت، وحلَّت في محل الكسوة الحمراء أخرى زرقاء، وسيف في اليمين بدل الصولجان، وقبعة في مكان التاج، وتحت ذلك كله حروف تقول: «جنرال واشنطون»! وكان على الباب زحام، لكنه غير الزحام الذي ألفه «ريب» … تغيرت منهم حتى حركاتهم وخلائقهم وعاداتهم، فحلت الجلبة محل السكينة التي تعودها في زمرة الحكيم «نقولا فدار».
وتطلع مليًّا عسى أن يرى الحكيم «نقولا فدار» بوجهه العريض، وذقنه المزدوجة، وبيبته الطويلة المليحة تلفظ الدخان بدلًا من سقط الكلام، ولكن على غير جدوى، أو عسى أن يرى الأستاذ «فان بوميل» ينثر ما احتوته إحدى الصحف القديمة … أو سائر تلك الرفقة، ولا من حس لهم أو خبر، وإنما يشغل مكانهم مخلوق نحيل صفراوي، مفعم الجيوب بالإعلانات، يهدر بما يسميه حقوق المواطنين، والانتخابات، وأعضاء المؤتمر، والحرية، وتل بنكر، وأبطال سنة ست وسبعين، وما شابه ذلك من رطانة كأنها أخلاط برج بابل [ثم] سمع «فان ونكل» الحائر المشدوه …!
ولم يلبث مطلع «ريب» بلحيته الطويلة البيضاء، وبندقيته الصدئة، وملابسه المشعثة، وفي ذيله جيش من النسوة والصبية، أن لفت أنظار ساسة الخان إليه، فتكوَّفوا حوله يرمقونه من رأسه إلى قدمه مستطلعين، وأسرع إليه الخطيب فانتحى به جانبًا يسأله: في أي جانب ينتخب؟ فحملق «ريب» وأتأر النظر إليه في غير فهم وبغير معنى! وجاءه شخص آخر قصير ملهوج فجذبه من ذراعه وسأله: اتحادي أنت أم ديمقراطي؟ فذهل «ريب» ماذا يعني هذا السائل؟! وإنه لفي ذهوله لمَّا يُفِق، إذا بشخص بادي الخطر، مزهر السمات، تنحرف قبعته المستقرة على رأسه، يدفع الجمع يمنة ويسرة، ويثني إحدى ذراعيه على خاصرته، ويستند بالأخرى إلى عصاه، وينظر إليه نظرة نافذة فاحصة عن دخيلة ضميره، ثم يسأله في جد وصرامة: كيف سولت له نفسه أن يحضر إلى مجتمع الانتخاب مسلحًا ببندقيته قائدًا وراءه ذلك الجيش من النسوة والصبية؟! أتراه ينوي أن يثير الشغب في القرية؟
قال «ريب»: معذرة يا حضرة السيد، إنني رجل هادئ فقير من أبناء الموطن، ومن رعايا الملك الموالين لجلالته … حفظه الله وأسبغ بركاته عليه.
فانفجرت من الجمع صرخة عاتية وهتفوا به: محافظ، محافظ، جاسوس، هارب. اطردوه، اقذفوا به إلى بعيد …
ولأيًا ما استطاع الرجل المزهو الخطير أن يعيد السكينة إلى المكان! واتخذ وجهه من سمات الجد والصرامة عشرة أضعاف ما كان عليه، وعاد يسأل المتهم: ما باله قد حضر إلى ذلك المكان، وعمَّنْ يبحث فيه؟ فأكد له المسكين أنه لا يضمر شرًّا، وأنه لم يقصد إلا السؤال عن بعض جيرانه من أصحاب الخان.
قال الرجل المزهو الخطير: حسنًا، مَنْ هم؟ أخبرنا عن أسمائهم؟
ففكر «ريب» لحظة، ثم قال متسائلًا: أين «نقولا فدار»؟
وأتبع سؤاله صمت وجيز، وارتفع صوت كصفير الغاب من قبل شيخ كبير مرددًا ما سمع: «نقولا فدار»! … إنه مات منذ ثماني عشرة سنة، وهنالك في مقبرة الكنيسة شاهد على قبره ينبئ عنه، ولكنه كذلك قد فني منذ حين.
قال «ريب»: وأين «بروم» الهولندي؟
فأُجيب: إنه ذهب إلى الحرب عند نشوبها، وقيل: إنه مات في الهجمة على «أستوني بونيت»، وقيل غير ذلك: إنه غرق بجوار «أنتوني نوز»، ولا ندري فإنه لم يعد قط منذ رحل عن هذا المكان!
قال «ريب»: وأين الأستاذ «فان بوميل»؟
فأُجيب: إنه ذهب أيضًا إلى الحرب، وأصبح من قادتها الكبار، وهو الآن في المؤتمر «الكونجرس».
وانقبض قلب «ريب» وهو يستمع إلى أنباء هذه الغير والأحداث في موطنه وبين أصحابه، وبدا له أنه في الدنيا غريب منفرد، يحيره الجواب عن كل سؤال، كما يحيره التحدث عن تلك الفترات من الزمن، وتلك لا يفقه لها معنى: الحرب، المؤتمر، «أستوني بونيت». فلم يلقَ في نفسه الجرأة على المزيد من الأسئلة، وصاح يائسًا: أليس في هذا المكان أحد يعرف «ريب فان ونكل»؟
فأجابه اثنان أو ثلاثة: «ريب فان ونكل»؟ آه، إنه هناك مستند إلى تلك الشجر.
فالتفت «ريب» فلمح نسخة أخرى منه كما كان يوم أصعد في الجبل … ورآه مثله في أسماله، وفيما يبدو عليه من الكسل … فتمت دهشة المسكين، وشك في ذاته، ولم يدرِ أهو هو؟ أم ذاك إنسان سواه في جلده؟!
وإنه لفي هذا البُحْران؛ إذ سأله الرجل المزهو الخطير: مَنْ عسى أن تكون؟ وما اسمك؟
قال: يعلم الله أنني لست «أنا» …! إنني كائن آخر! فهذا أنا هناك …! كلا! بل ذلك إنسان آخر دخل في حذائي! … وقد كنت أنا بعيني ليلة أمس، ثم أخذتني سِنَة فوق الجبل، فغيروا بندقيتي، وتغير كل شيء … وتغيرت أنا … ولا أحسبني أعرف ما اسمي، ولا مَنْ أكون …!
وتبادل الواقفون النظرات والغمزات والإشارات ذات المغزى، وراحوا يضربون جباههم بأصابعهم، ويفكرون في انتزاع البندقية من الرجل، والاحتماء من أذاه إن أراد شرًّا … وتراجع الرجل المزهو الخطير على عجل، وتقدمت في تلك اللحظة الحرجة امرأة أنيقة تتأمل الرجل الأَشْيب، وكان على ذراعها طفل سمين راعه منظره فانطلق يبكي … فصاحت به: صه. صه يا «ريب»، لا تكن أحمق، فإن الرجل الأشيب لن يمسَّك بأذًى.
وأعاد اسم الطفل وهيئة المرأة ونبرة صوتها طائفة من الذكريات إلى ذهنه، فسألها: ما اسمك أيتها المرأة المباركة؟
قالت: اسمي «جوديت جاردنير».
قال: واسم أبيك؟
قالت: آه! يا للمسكين … كان اسمه «ريب فان ونكل»! ولكنه منذ عشرين سنة ترك البيت ببندقيته، ولم يُسمع عنه خبر، وعاد كلبه وحيدًا … ولكننا لا نعلم هل بخع نفسه أو اختطفه الهنود؟ وإنما كنت طفلة صغيرة يومذاك.
لم يبقَ على لسان «ريب» غير سؤال واحد، سأله وهو مرتجف فقال: وأين أمك؟
فتنهدت وقالت: إنها ماتت بعده بقليل، وكانت تساوم بائعًا متجولًا من «نيوانجلاند» فأخذتها سَوْرة غضب، وانفجر لها شريان فقضى عليها …
خبر فيه أخيرًا شيء من الراحة، فلم يطق الرجل أن يملك نفسه، بل راح يعانق بنته وطفلها، ويقول لها: أنا أبوك … أنا الفتى «ريب» بالأمس، وأنا الشيخ «ريب» اليوم … أليس ها هنا مَنْ يعرف «ريب فان ونكل» المسكين؟!
فوجموا جميعًا، ودرجت إليه عجوز من الزحام، فرفعت كفها إلى جبينها، ونظرت إليه من تحتها هنيهة، ثم صاحت: هو هو، لا ريب، بعينه. مرحبًا بك في جوارك عائدًا إليه بعد حين، أيها الجار الكريم، أين كنت طوال هذه السنين العشرين؟!
وعرفت قصة «ريب» على الأثر، فما كانت السنون العشرون لديه إلا كليلة واحدة، وفتح الجيران حماليقهم حين سمعوها، وجعل بعضهم يغمز لبعض، ويديرون ألسنتهم في أشداقهم، أما الرجل الخطير المزهو الذي عاد إلى المكان عقب هدوء الحال وانفثاء الروع، فقد زم فاه، وهز رأسه، وتبعه الجمع فهزوا رءوسهم مقتدين به.
وعولوا بعد على الرجوع إلى «بيتر فاندر دونك» الذي شوهد تلك الساعة مصعدًا في الشارع، وكان سليل المؤرخ المعروف بهذا الاسم، وأقدم سكان القرية، وله إلمام واف بعجائبها ونوادر أنبائها … عرف «ريب» لساعته، فأَوَّلَ لهم قصته على أحسن الوجوه، مؤكدًا لهم بالرواية عن سلف المؤرخ أن جبال كاتسكال كانت على الدوام مزار الغريب من الأطياف والأشباح، وإن «هنريك هدسون» العظيم أول مَنْ كشف النهر الذي سُمِّيَ باسمه، كان يغبها للحراسة كل عشرين سنة مع النواتية من سفينة الهلال، فتهيأت له الفرصة لغشيان ميدان مساعيه الأولى، وتعهد «النهر» الكبير برعايته، وإن والده قد بصر بتلك الأطياف في أكسيتهم الهولندية، يلعبون لعبتهم إلى جانب فجوة الجبل، وأنه هو نفسه قد سمع دوي كراتهم وهي كالرعد المجلجل من بعيد …
والخلاصة الوجيزة أن الجمع قد انفض، وعاد إلى ما هو أجد وأجدى من شواغل الانتخاب، وأخذت بنت «ريب» أباها ليعيش معها في كِنِّها الأنيق حيث تقيم وزوجها الفلاح المرح القوي، وقد تذكره «ريب»؛ إذ كان واحدًا من أولئك الأطفال الذين عودهم أن يتسنموا ظهره. أما وريثه وابنه الذي شوهد مستندًا إلى الشجرة وكان نسخة منه، فقد كلفوه العمل في المزرعة، فجرى على دأب أبيه، وطفق يولي عنايته كل شيء إلا عمله …
وقد عاد ريب إلى جولاته وعاداته، ولم يلبث أن عثر بطائفة من صحابته الأقدمين، إلا أنهم قد أبلاهم الزمن وجارت عليهم السن، فآثر صحبة الجيل الناشئ على صحبتهم، ولم ينقضِ غير قليل حتى ظفر بالحظوة بين أبناء هذا الجيل الجديد.
ولما كان خلوًّا من الشواغل في البيت، وكان قد بلغ السن التي تبيح لصاحبها أن يركن إلى الكسل غير ملوم، فقد اتخذ مكانه مرةً أخرى إلى جوار الخان، وأُحيط هنالك بالتوقير والإجلال على اعتباره شيخًا من شيوخ القرية الأجلاء، وسجلًّا لأخبارها قبل أيام الحرب، وظل برهة ريثما استطاع أن يتابع الأحاديث عن تلك الوقائع التي غبرت في سنوات رقاده! فعلم كيف ثارت البلاد على إنجلترا وخلعت نيرها، وكيف أنه أصبح مواطنًا حرًّا من أبناء الولايات المتحدة، ولم يعد رعية خاضعًا لصاحب الجلالة «جورج» الثالث.
وواقع الأمر أن «ريب» لم يكن من أهل السياسة، ولم يكن تبدُّل الدول والعروش مِمَّا يعنيه، وإنما كان هناك سلطان مطلق ظل يشكوه ويئنُّ من طغيانه عليه، وذلك هو سلطان المرأة، ولكنه قد نجا منه بحمد الله، وخلص عنقه من نير الحياة الزوجية، وأصبح قادرًا على الطواف حيث شاء، غير متهيب لسطوة السيدة «فان ونكل»! على أنه كان إذا سمع اسمها حرك رأسه، وهز كتفيه، وأرخى بصره، ولا يدري مَنْ يراه أذاك منه علامة استسلام لقدره، أو علامة اغتباط بخلاصه؟
وراح يروي قصته لكل طارئ على خان مستر «دولتل»، ولوحظ عليه أنه يتصرف في سرد بعض الأخبار كل مرة، لعله كان متأثرًا بقرب عهده بالسبات، ثم صقلها أخيرًا على صيغة واحدة، هي هذه الصيغة التي نرويها، فلم يبقَ رجل أو امرأة أو طفل في الجيرة إلا وقد حفظها واستظهرها … وكان منهم مَنْ يبدي شكوكه فيها ويحسب أن «ريب» مخامر في عقله، وأن هذه القصة إحدى فلتاته! إلا أن السكان الهولنديين الأقدمين كانوا مجمعين على تصديقها والثقة بصحتها، ولم يزالوا حتى اليوم كلما سمعوا قصف الرعود أصيل يوم من أيام الصيف على جبال كاتسكل قالوا: ذاك «هنريك هدسون ونواتيته» يلعبون لعبة الأوتاد التسعة … ويتمنى منهم كل مبتلى بزوجة سليطة لو تُتاح له جرعة من باطية «فان ونكل»!
(٢) إدجار ألان بو ١٨٠٩–١٨٤٩
شاعر، ناقد، قاصٌّ.
يتفق النقاد على ملكاته الشعرية والنقدية والقصصية، ولكنهم يختلفون في ترتيب نصيبه منها، فيحسبه بعضهم شاعرًا قبل كل شيء، ويحسبه الآخرون ناقدًا قبل كل شيء، والأكثرون على أنه أستاذ في القصة القصيرة، وأن أثره فيها أكبر الآثار، والمعترفون له بهذه المزية معظمهم من الفرنسيين ذوي الشهرة العالمية.
ترجم «بودلير» نثره، وسمَّاه الرائد الأول في القارة الأوروبية، وترجم «مالرميه» شعره ونشر آراءه ومقاييسه في صناعة النقد وفي الأدب عامة، وقال «فاليري» عنه: إنه «خَلَّاق صور»، وعدَّد من الصورة الأدبية التي خلقها: صورة القصة البوليسية، وصورة القصة العلمية، وصورة الشعر الكوني الحديث، يعني بذلك ملحمته التي نظمها بعنوان «وجدتها».
ومن خصائص فنه حب الغريب أو حب الأغراب، ومن ذلك ولعه بالشرق، واختياره العناوين الإسلامية لقصائده، كعنوان إسرافيل والأعراف، ونظمه في سيرة تيمور لنك، ولهجه بالصوفية الشرقية على الإجمال.
وإلى جانب الولع بالإغراب، ولع بالمزعجات والنوافر، وإلحاح على نوازع النقمة أو الانتقام … ويلاحظ في قصتيه المترجمتين هنا أن النقمة هي المحور المهم الذي تدوران عليه دون الإشارة إلى الإساءة أو التِّرَة التي أوجبتها، كأنها تعبر عن شعور ناقم بمعزل عن الحوادث والجرائر، ويظن أن مرجع هذا الشعور فيه إلى نشأته المضطربة، ومعيشته السيئة، وعثرات الجد التي لازمته من طفولته، وأضاف إليها هو جناياته على نفسه بالإدمان والمقامرة وقلة الانتظام في عمل من الأعمال!
كان مولده في بوسطون (١٩ من يناير سنة ١٨٠٩) من أبوين ممثلين، يعملان في فرقة جوالة، وماتت أمه وهو في الثانية، ومات أبوه وهو لم يبلغ الرابعة، فتبناه رجل عقيم على حظ من اليسار والطيبة، يُسَمَّى «جون ألان» وباسمه تَسَمَّى بقية حياته.
وانتقل ألان — ومعه الطفل — إلى إنجلترا، فأحسن تعليمه بالمدرسة الابتدائية، ثم عاد إلى أمريكا فأدخله مدرسة راقية في ريشموند، ثم دخل جامعة فرجينيا وبلغ سن الفتوة، فتجسمت الفوارق بين مزاجه الفني الخيالي ومزاج وليِّ أمره العملي الواقعي، وزاد الفجوةَ بينهما أن وليَّ أمره قرَّر حرمانه من تركته، ورفض تسديد دينه في القمار … وبعد فترة من الجفاء والوفاق بينه وبين وليِّ أمره لحق بالجيش، وتقدم فيه، ثم تعمد سوء السلوك لِيُفْصل منه، فتقرَّر فصله، وتزوج قريبة له في نحو الرابعة عشرة، فلم تعمر طويلًا، ورثاها بقصيدة من خيرة شعره.
وقد ظهرت له دواوين شعرية وقصص منظومة ومنثورة وهو في نحو العشرين، وعمل في الصحافة فلم ينجح، ولم تحسن العلاقة بينه وبين شركائه فيها، ولكنه أحرز بعض الجوائز في الصحف السيارة وشاعت له شهرة ملحوظة جاوزت حدود الإقليم.
وخليق بهذه الحياة القلقة أن تطوي النفس على النقمة والمرارة، ولكن الاحتراس واجب من أقوال مترجميه الذين جمعوا ترجمته من أوراقه، وبخاصة ترجمة «ريونس جريسولد» الذي أفرط في الإنحاء عليه، وثبت من تعقيب الكاتب الإنجليزي «إنجرام» أنه افترى عليه في مزاعم كثيرة تَبَيَّن بطلانها بالدليل القاطع.
توفي ولم يكد يجاوز الأربعين، نزيلًا بأحد المستشفيات، في السابع من شهر أكتوبر سنة ١٨٤٩.
وَمِمَّا لا خلاف عليه أنه رسم للقصة الصغيرة خطوطًا مميزة عُرفت بها طريقته في اللغة الإنجليزية وسائر اللغات الغربية، وامتاز باستقلاله في هذه الطريقة، وعلى وفرة اطلاعه ومحصوله من القراءة في الآداب العالمية، ولا شك أنه استفاد من ديكنز وبروننج، كما استفاد من «هوفمان» الألماني، ولكن صبغته في كتابة القصة القصيرة لا تلتبس بصبغة أخرى.
أَمَّا قصتاه المترجمتان هنا فهما مِمَّا نُشِرَ في المجاميع المختارة، وقد نُشرت قصة باطية النبيذ وهو في الخامسة والثلاثين، ونُشرت قصة الخطاب المفقود قبل ذلك بسنة، فهما من فنه الناضج الذي ارتضاه وفقًا لشرطه في القصة وفي الكتابة الأدبية.
الخطاب المفقود لإدجار ألان بو
ما من معرفة أهون من أن تعرف.
في باريس غب مساء مظلم عاصف من خريف عام ١٨، كنت أنا وصديقي س. «أوجست دوبان» ننعم براحة مزدوجة من التأمل والتدخين في مكتبته الصغيرة، أو صومعة كتبه، على الدور الثالث من المنزل ٣٣ بحي سان جرمان، وقد خيم علينا الصمت زهاء ساعة، وكان يخيل للناظر إلينا أننا منصرفان بكل تفكيرنا إلى سحائب الدخان التي تحلق في أنحاء الحجرة، على أنني كنت أعمل التفكير في مسألة خاصة كانت مدار أخذ ورد بيني وبين صديقي أول المساء: تلك هي الحادث الذي وقع في شارع مورج، وما أحاط قضية مقتل «ماري روجيه» من الغموض … وكان غالب الظن عندي أن هذا الحادث إنما وقع عرضًا … فإننا لكذلك إذا بالباب قد فُتح على مصراعيه دفعة واحدة! ودخل منه صديقنا مسيو ج. رئيس الشرطة بباريس … رحبنا بمقدمه كل الترحيب، إذ كان في الرجل من دواعي الترحيب بمقدار ما فيه من دواعي الازدراء. وقد مضى على آخر عهدنا به سنوات كنا نجلس في الظلام، فهمَّ «دوبان» أن يوقد المصباح، ولكنه عاد فجلس مكانه حين ابتدره ج. بأنه إنما قدم ليستشيرنا أو ليأخذ رأي صديقي على الأقل في مسألة من أعمال الإدارة جرَّتْ إلى كثير من المتاعب!
قال دوبان وقد عدل عن إيقاد المصباح: إذا كان هناك أمر يحتاج إلى إعمال الرويَّة فيحسن أن نبحثه في الظلماء.
قال رئيس الشرطة: وتلك إحدى بدواتك.
وكان يدعو كل شيء لا يدركه بدوة أو نزوة؛ حتى عاش وهو محوط بعالم من البدوات والنزوات.
قال دوبان: هذا صحيح!
قال: كلا! لا شيء من هذا، إن الأمر جد بسيط.
ولم يخامرني الشك في أننا نستطيع أن نتدبره بأنفسنا بِما يكفي، ولكني قلت: قد يكون دوبان يريد أن يسمع تفاصيل الموضوع، لأنها من الأسرار العجيبة في بابها.
قال «دوبان»: إنها بسيطة وعجيبة حقًّا!
والسبب الذي لا سبب غيره، ومدار حيرتنا أن المسألة على ما بها من البساطة قد حيرتنا جميعًا!
قال صديقي: إن بساطة الأمر هي التي تقودك إلى الخطأ.
وقال رئيس الشرطة وهو يغرق في الضحك: ما هذا اللغو الذي تقوله؟ يا إله السموات! مَنْ سمع في حياته مثل هذا الرأي!
– هذا أمر بسيط لا يحتاج إلى برهان!
وقهقه زائرنا من أعماق قلبه وقال: ها ها ها، إنك موشك أن تخنقني بحذلقتك هذه!
قلت: وعلى هذا ما هي جلية الأمر؟
وأجاب رئيس الشرطة، وهو يضحك ضحكة طويلة في هدوء وتفكير بعد أن جلس على كرسيه: سأخبرك في كلمات وجيزة، ولكن قبل أن أبدأ حديثي ينبغي أن أنبهكم إلى إحاطة كل ما يقال بالكتمان … إن وظيفتي لعلى خطر إذا اتضح أنني أفضيت بهذا الأمر إلى إنسان كائنًا مَنْ كان!
قلت: إذن هات ما لديك؟
وقال «دوبان»: أوَ لا تقول ما لديك؟
– إذن أقول: «إنني قد تلقيت أنباء خاصة من جهة عليا بأن وثيقة خطيرة الشأن قد اختلست من القصور الملكية، والرجل الذي اختلسها معروف ما في ذلك شك، وقد شوهد وهو يأخذها، ومعروف كذلك أنها لا تزال في حوزته!»
قال «دوبان» مسائلًا: وكيف عُرِف ذلك؟
أجاب رئيس الشرطة: لقد استبان ذلك بوضوح من مزية الوثيقة، وأنها لو خرجت من يد السارق لظهرت لذلك نتائج مقدرة، أو استبان ذلك من استخدامه إياها فيما قصد إليه باختلاسها.
قلت: زدنا إيضاحًا؟
– إنني أستطيع أن أقرر أن تلك الوثيقة تخول حاملها نفوذًا لدى جهة معينة، للنفوذ عليها منافع جليلة.
وكان دأب صاحبنا أن يصطنع شيئًا من اللباقة في حديثه!
قال «دوبان»: إنني إلى الآن لم أفهم حق الفهم.
– كلا! إن إفشاء أمر هذه الوثيقة إلى شخص ثالث لسنا في حل من ذكره يعرض للشبهات سمعة ذات سامية، ومن شأن هذا أن يمكن حامل الوثيقة من السيطرة على الذات السامية التي يهدد سلامتها وشرفها.
وقلت مقاطعًا: ولكن هذا النفوذ لا بد أن يعتمد على شيء، وهو أن يعرف سارق الوثيقة أن المسروق يعلم مَنْ هو.
قال ج: إن اللص هو الوزير د. الذي يقدم على ما يليق وما لا يليق، وقد كان في طريقة اختلاسه نصيب من الجرأة لا يقل عن نصيبها من البراعة، والوثيقة التي نبحث عنها صراحة هي خطاب وصل إلى «الذات» السامية، وهي وحدها في الجناح الملكي، وقد فوجئت إذ كانت تتصفحه بدخول مَنْ تود إخفاءه عنه، وبعد أن حاولت عبثًا في عجلة وارتباك أن تلقي به في الصوان، اضْطُرت أن تضعه أمامها على المائدة، وكان العنوان ظاهرًا عليه، فلم يلتفت إلى الخطاب لخفاء ما كان ينطوي في داخله، خلال ذلك دخل الوزير د. والتقطت عيناه الثاقبتان تلك الورقة توًّا، وأدركنا الخط المكتوب على عنوان الخطاب، كما أدركنا ارتباك الذات المُوَجَّه إليها العنوان، وبادر الوزير يؤدي بعض الأعمال وكأنه في حالة طبيعية، ثم أخرج خطابًا مماثلًا وفَضَّ غلافه، واصطنع قراءته، ووضعه محاذيًا أحدهما الآخر، وأخذ يتحدث في الشئون العامة هنيهة، فلما أراد أن ينصرف التقط الخطاب من فوق المائدة دون اكتراث، وقد رأت صاحبة الخطاب ذلك، ولم تستطع بالطبع أن تبدي أي اهتمام في حضرة الشخص الثالث الذي ظل تحت مرفقها، وذهب الوزير وقد ترك خطابه الذي لا خطر له على المائدة!
وهنا قال «دوبان» وهذا ما تفهم منه كيف تتم السيطرة، وهو علم المختلس بأن فاقد الخطاب يعرف مَنْ هو!
قال رئيس الشرطة: أجل، وإن هذا النفوذ الذي اكتسب منذ بضعة أشهر قد استغل استغلالًا سياسيًّا غير مأمون، وكانت الذات المسروقة تزداد يقينًا كل يوم بوجوب استخلاص ذلك الخطاب، وليس ذلك بميسور علانية، ومن ثَمَّ ساقها اليأس إلى مكاشفتي بالأمر.
قال «دوبان» وهو محاط بدوامة من الدخان: إنك خير مَنْ يُعتمد عليه في مثل هذا الأمر!
قال رئيس الشرطة: إنك لتتملقني! ربما خطر على البال شيء من هذا القبيل.
وقلت: من الواضح — كما ترى — أن الخطاب لا يزال في حوزة الوزير، وهذا ما يخوله النفوذ، وليس استخدام الخطاب، فإذا استُخدم تقلص ذلك النفوذ بمجرد استخدامه!
قال ج: أجل، وقد سرت وأنا مقتنع بهذا الرأي، وكان أول همي أن أبحث في الفندق الذي يقيم فيه الوزير، وكان موضع الحيرة في هذا الشأن هو أن البحث لا بد أن يحدث دون أن يصل إلى علمه، ولقد حذرت من النتائج السيئة التي تقع إذا فتحنا أمامه ثغرة للشك في حسن قصدنا.
قلت: ولكنك تسير على غرار غيرك في مباحثك … إن الشحنة الباريسية طالما سارت على هذا الأسلوب.
– أجل، ومن أجل هذا لم أيأس، وقد ساعدني ما اعتاده الوزير من التخلف طوال الليل، وأن خدمه الكثيرين ينامون على بعد من مخدعه، وكثيرًا ما يدركهم النعاس وهم ثملون، شأن أمثالهم من أبناء وطنهم، وإن لدي كما تعلم مفاتيح لا عدد لها، وأستطيع معها أن أفتح أي حجرة أو مكان في أنحاء باريس، ولقد سلخت في البحث والتقصي ثلاثة أشهر، لم تمضِ منها ليلة واحدة لم أقتفِ فيها أثره، وإن اهتمامي الخاص بهذا الأمر يتعلق بكرامتي، ويتصل بِسِرٍّ كبير لا أخفيه عنكم، وهو أن المكافأة جزيلة، ولن أدع البحث حتى أومن يقينًا بأنه أحصف مني وأدرى، وإنني لأحسبني فتشت كل ركن يرد على الخاطر أنه يحتوي هذا الخطاب!
وأشرت قائلًا: إن الخطاب ولا شك في حوزة الوزير، ولكن أَلَا يكون قد أخفاه في مكان غير مسكنه؟
وهنا قال دوبان: إن ذلك غير بعيد، وليس مستغربًا من خلائقِ مكرِه ودسائسه المعهودة، فإنه ليحرص على سهولة تقديم الخطاب حرصه على حيازته.
قلت: لعلك تعني احتمال الحصول عليه؟
قال دوبان: أعني احتمال البطش بحامله لانتزاعه.
قلت: هذا صحيح، ومن الواضح أن الورقة لا تعدو أن تكون في مسكنه، أمَّا أن الوزير نفسه يحملها فاحتمال يجب أن نخرجه من حسابنا!
قال رئيس الشرطة: لقد ترصدنا له مرتين، وتربصنا كما يتربص قُطاع الطرق، وقد فتشناه شخصًا، وكان تفتيشه دقيقًا، وألحفنا غاية الإلحاف في تقليب جيوبه وملابسه.
قال دوبان: لعلك تجشمت كل هذه المتاعب على غير جدوى! إن مَكْرَه ليس بالهين الساذج كما أعتقد، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يتوقع هذا، كأنه أمر واقع لا محالة.
قال ج: إنه لم يكن أحمق ألبتة، لكنه شاعر، وهذه مرحلة قريبة من الحماقة.
قال دوبان وقد تناول نفسًا طويلًا من «بيبته»: أجل وأنا نفسي قد شُغلت زمنًا بنظم مقطوعات متواضعة من الشعر!
قلت: فكر في أن تقص علينا تفاصيل بحثك.
– إننا في الواقع قد صرفنا وقتنا وبحثنا في كل منطقة، وقد فتشت البناء حجرة حجرة! وخصصت لكل حجرة أسبوعًا كاملًا … بحثت أثاث كل شقة، وفتحت كل صوان، ولعلكم تعرفون كيف يتم ذلك على يد رجل خبير مثلي، ولقد يخطر على بال أحد أننا يتعذر علينا أن نفتح خزانة سرية، إن مَنْ يخطر بباله مثل هذا الخاطر لا يفقه شيئًا؛ إذ الأمر سهل، ولدينا عدد كبير من المفاتيح لشتى الأماكن، ولنا طرق دقيقة في البحث حتى لا يعدونا جزء من خمسين ممَّا يعرض علينا، أو يفلت من أيدينا، وبعد أن أتممنا البحث في الخزائن تناولنا الكراسي والوسائد نتفحصها بالإبرة الطويلة التي رأيتموني أستعملها أمامكم ورفعنا أغطية الموائد …
– لماذا؟
– إن مَنْ يريد أن يخفي شيئًا قد يرفع أغطية الموائد وما شاكلها من الأثاث ليخفي تحتها ما يريد، فتثقب رجل المائدة، ويوضع الشيء الذي يراد إخفاؤه داخل الثقب، ثم يوضع الجزء الأعلى فوقه، وكذلك الشأن في أعمدة الأسرة.
قلت مسائلًا: ألا يمكن أن تعرف الثقوب برنين الصوت؟
– إن ذلك لا يمكن إذا حُشي جوفها قطنًا، وفي حالتنا هذه كان علينا أن نخرج كل شيء ولا نحدث صوتًا.
– ولكنك لم تصل إلى شيء ببحثك، فأنت لا تستطيع أن تمزق كل قطعة من الأثاث!
– كلا، لا شك، ولكننا عملنا خيرًا من هذا، لقد فحصنا أرجل الكراسي التي بالفندق جميعها، والقطع التي تتصل بها بمجهر قوي، فإذا ظهرت لنا إشارات تدل على تغيرات حادثة، لم نعجز عن إدراكها في الحال، وإن مقدار ذرة ممَّا يترك على الثقوب ليبدو في حجم التفاحة، أعني أن أية ثغرة غير طبيعية كافية لاكتشاف ما وراءها.
– أظنك بحثت وراء المرايا والألواح والأطباق، وبحثت وراء الأسرة والحشايا وسائر البسط؟
– بطبيعة الحال، ولما انتهينا من فحص كل قطعة من الأثاث على هذا النحو، فتشنا المنزل نفسه وقسمنا سقفه إلى أجزاء، ووضعنا له أرقامًا حتى لا تعدونا واحدة منها، ثم بحثنا قيد كل أنملة في سائر المساكن بالمجهر، ومنها المنزلان الملاصقان كما قدمت.
قلت مسائلًا: المنزلان الملاصقان؟! لا بد أنك عانيت كثيرًا في بحثك؟
– أجل عانينا، ولكن الجزاء جزيل على هذا العناء.
– وهل اشتمل بحثك الأرض التي حول المنازل؟
– إن تلك الأرض جميعها مرصوفة بالحجارة، وقد كان العناء فيها أشد وأصعب، وتناول البحث كل ما حولها حتى الطحلب الذي يكمن بين الحجارة، ووجدنا أنها لم تمس.
– وبطبيعة الحال فتشت أوراق درسه، والكتب التي تحويها مكتبته؟
– لا شك في ذلك، لقد بحثنا كل مجموعة وكل رسالة منها، ولم نكتفِ بفحص كل كتاب، بل قلبنا كل صفحة من كل جزء ولم نقصر بحثنا على بعض الأجزاء، كما يفعل بعض أناس من رجال الشرطة، وكذلك قسمنا سمك كل غلاف من أغلفة الكتب بكل دقة، وفحصنا كل ما فيها بالمجهر فحصًا دقيقًا، ولم يكن يعزب عن ملاحظتنا أثر المساس بغلاف منها أو كعب لو حصل شيء من ذلك، وكان مِمَّا تناولناه خمسة كتب أو ستة كانت واردة حديثًا من عند مجلد الكتب، ففحصنا أطرافها بالإبرة بعناية فائقة.
– هل بحثت وراء البلاط الذي تحت البسط؟
– بلا شك، لقد رفعنا كل بساط وفحصنا كل لوح بالمجهر.
– والأوراق الموضوعة على الجدران؟
– أجل!
قلت: إذن لقد أخطأت في بحثك، وليس الخطاب في المسكن كما تظن!
قال رئيس الشرطة: أخشى أن تكون على صواب في قولك، والآن بماذا تنصحني؟
– أن تبحث المساكن بحثًا كاملًا.
قال ج: هذا أمر لا حاجة إليه على الإطلاق، إنني لا أثق بأنني حي أتنسم أنفاس الحياة قدر ثقتي بأن الخطاب لا وجود له بالفندق!
قال دوبان: ليس لدي نصيحة خيرًا ممَّا قدمت، إن لديك ولا شك وصفًا دقيقًا للخطاب!
قال: أجل!
وهنا أخرج رئيس الشرطة مفكرة، وأخذ يقرأ بصوت مرتفع وصفًا دقيقًا للخطاب المفقود، ومظهره الخارجي بصفة خاصة، ثم انصرف عنا وهو مكتئب على نحو لم أعهده في هذا الرجل البشوش من قبل!
وبعد شهر على التقريب من هذه الزيارة، جاءنا مرة أخرى، ووجدَنا على مثل حالنا من قبل، وأخذ بيديه كرسيًّا، ودخل معنا في حديث مألوف.
قلت: ولكن ماذا تم في شأن الخطاب المسروق يا ج. أظنك اهتديت أخيرًا إلى أن الوزير لا يحمله.
– لعنة الله عليه … لقد أعدت البحث كما أشار «دوبان» وعبثًا كما توقعت!
وسأل «دوبان»: وما مقدار المكافأة المخصصة لهذا العمل؟
– وكيف؟ إنها مكافأة جزيلة، ولا أريد أن أذكر كم هي، ولكن أمرًا لا حرج من ذكره، وهو أنني لا أبالي أن أسلم تحويلًا من عندي بمبلغ ٥٠ ألف فرنك لِمَنْ يقدم هذا الخطاب، إن الأمر تزداد أهميته يومًا عن يوم، وقد تضاعفت المكافأة أخيرًا، ولو بلغت ثلاثة أضعافها فما أنا بقادر عل غير ما فعلت.
قال «دوبان» وهو ينفخ دخان بيبته: إنني أعتقد حقًّا أنك لم تبذل كل ما لديك من جهد، وإنك لفي وسعك أن تبذل مزيدًا من جهدك.
– وكيف ذلك؟ وبأي وسيلة؟
– كيف ذلك وبأي وسيلة؟
– اتخذ لك مستشارًا! أتذكر القصة التي يروونها عن «إبرنش»؟
– كلا! لا كان هذا «الإبرنش»!
– نعم، لا كان، ولكن كان ذات مرة أن رجلًا بخيلًا من الأثرياء أراد أن يستخلص رأيًا طبيًّا من «إبرنش» وأعد لهذا الغرض حديثًا من الأحاديث المألوفة في بعض مجالسه، وعرض حاله على الطبيب كأنه يروي قصة ويتخيلها.
قال البخيل: لنفرض أن الأعراض التي تنتابه كانت كذا وكذا، ماذا نصف لعلاجه؟
قال «إبرنش»: يستشير طبيبًا ولا شك!
قال رئيس الشرطة في شيء من الحيرة: إنني لراغب كل الرغبة في الاستشارة وأجزيها أوفى جزاء، وإنني لأعطي خمسين ألف فرنك لِمَنْ يساعدني في هذه المهمة، وأجاب «دوبان» وهو يفتح صوانًا ويخرج منه دفتره: إذن يمكنك أن تكتب تحويلًا بالمبلغ الذي تشير إليه، وسأسلمك الخطاب على أثر توقيعك على التحويل!
وتملكني العجب، أما رئيس الشرطة فقد صعق تمامًا! وظل صامتًا لا يتحرك وهو ينظر إلى صاحبي مستريبًا، وقد فغر فاه وحملق فيه بعينين كأنما تريدان أن تشبا من محاجرهما، فلما تمالك نفسه قليلًا أمسك بالقلم وتردد، ثم كتب التحويل ووقعه بخمسين ألف فرنك، وناوله من فوق المائدة إلى «دوبان»، وتفحص الأخير التحويل جيدًا، ثم وضعه في محفظته، وفتح خزانته وأخرج منها خطابًا وأسلمه إلى رئيس الشرطة، فأخذ هذا يفحصه بسرور بالغ، وفتحه ويداه ترتجفان، ثم ألقى نظرة سريعة على فحواه، وانسل إلى الباب، واندفع أخيرًا من الحجرة ومن المنزل، غير عابئ بما ينبغي من واجب التحية والتوديع، ولم يفه بكلمة واحدة منذ طلب إليه «دوبان» أن يوقع التحويل؛ وإذ غادرنا أخذ دوبان يشرح لي بعض التفسيرات.
قال: إن رجال الشحنة الباريسيين لهم براعتهم فيما يتبعون من الطرق والأساليب، وإن لهم فطنة في الملاحظة واحتيالًا على معالجة الأمور، ولهم العبقرية والبراعة التي يستلزمها هذا العمل.
فلما شرح لنا ج. طريقته في التنقيب وراء د. أيقنت تمامًا أنه استوفى البحث في حدود ما يفهمه ويقدره.
قلت: في حدود ما يفهمه ويقدره؟
قال «دوبان»: أجل إن الإجراءات التي اتُّبِعت لم تكن فذة في نوعها فحسب، بل لقد بلغت غاية الكمال، فإذا كان الخطاب مدسوسًا في الحيز الذي يجري فيه تنقيبهم فإنهم لا شك واجدوه.
وقابلت ذلك القول بالابتسام، إلا أنه ظهر لي أنه جاد فيما يقول واستمر قائلًا: إذن كانت الإجراءات قيمة في بابها، وقد عني بتنفيذها أشد عناية، أما العيب فإنما يأتي من إغفال طبيعة الرجل وإغفال دخائل هذه الحالة بصفة خاصة؛ إن التدابير التي يتبعها رئيس الشرطة تجري مجراها المرسوم بغير اختلاف، وإنما يعروه الخطأ لفرط تعمقه واستقصائه، مما يسلم منه تلميذ مبتدئ لا يلجأ في تفكيره إلى مثل هذا التعمق، وقد عرفت طفلًا في الثامنة من عمره نجح نجاحًا أعجب الملأ في لعبة «الزوج والفرد»! وأنت تعلم أنها لعبة ساذجة تدور على أن يخفي اللاعب كرات صغيرة، ويسأل الآخر: زوج أو فرد؟ فإذا كان الحدس صحيحًا فإن صاحبه يربح، وإذا كان خطأ فإنه يفقد واحدة، أما الصبي الذي نال إعجابي فقد ربح جميع الكرات من تلاميذ المدرسة قاطبة؛ إن هذا الطفل يبني حدسه على مبدأ مقرر يرجع إلى قوة الملاحظة، وتقدير ما لدى خصمه من الذكاء، فإذا كان نده مثلًا غريرًا أبله يرفع يده ويسأل: «زوج أو فرد»؟ ويجيب صاحبنا التلميذ «فرد» ويخسر واحدة، ولكنه يربح في الدورة الثانية؛ لأنه يقول في نفسه إن خصمه الغرير قد جعل العدد زوجًا، وكسب في المرة الأولى، وحسبه من الحيلة على قدر ذكائه أن يجعل العدد فردًا في المرة التالية، فيقول في نفسه إذن أجيبه «بفرد». يقول ذلك ويربح، فإذا صادفه آخر أذكى من الأول وزن المسألة بهذا الميزان: إن هذا اللاعب سيجد أنني في المرة الأولى أجبته ﺑ «فرد»، فيقول في نفسه متأثرًا بالمرة الأولى: تغيير بسيط بين الزوج والفرد، كما قدر الغرير الأول، ولكن سيعاوده تفكير آخر وهو أن هذا التغيير جد ساذج، وينتهي عزمه أخيرًا إلى جعلها «زوجًا» كالمرة الأولى، فيهجس في نفسه أن يقول «زوج» ويقول ذلك ويربح، فهذه الطريقة التي يتبعها التلميذ يسميها رفقاؤه حظًّا على ما فيها من التحليل، فهل هي كذلك؟!
قلت: إنها ولا شك دليل على امتياز صاحب هذه التقديرات على زملائه!
– أجل هي كذلك، وقد سألت الصبي: كيف استطاع أن يكشف أسرار هذه الشخصيات بهذه الطريقة التي أدت إلى نجاحه؟ فكان جوابه: إنني حينما أريد أن أزن ما يحوي إنسان من الذكاء أو الغباء، أو الخير أو الشر، أو أعرف ما يجول بخاطره في اللحظة التي أختبره فيها، أجعل تعابير وجهي مماثلة بقدر الإمكان لما يرتسم على وجهه، ثم أنتظر لأرى ما يجول بخلدي من الأفكار والعواطف التي تتفق وتتجاوب مع هذه التعابير!
هذا الجواب الذي ألقاه التلميذ يكمن في أعماق ذلك الدهاء الذي اشتهر به «روشفكول، وبوجيف، ومكيافيلي، وكابا نيللا»!
قلت: وهذه المحاولة من امرئ يريد أن يضع نفسه في موضع خصمه في تسلسل تفكيره، تتوقف — إن صح ما فهمت منك — على صدق قياس التفكير عند ذلك الخصم.
وأجاب «دوبان»: إنها تتوقف في قيمتها العملية على ذلك، وإن رئيس الشرطة ورجاله كثيرًا ما يخفقون؛ لأنهم أول الأمر يغفلون عن هذا القياس، ويفرضون أن الناس جميعًا على غرارهم، وأنهم يحتالون على مثال حيلتهم، إنهم في ذلك على كثير من الحق، فإن ذكاءهم يصف لهم ذكاء العامة وصفًا صادقًا، ولكنهم إذا اختلف تفكير المجرم وتفكيرهم؛ أحبط المجرم عملهم بطبيعة الحال. يحدث هذا إذا ارتفع التفكير عن تفكيرهم، وإذا هبط عن طبقته في كثير من الأحوال، وليس لديهم تصرف في طرق البحث التي يقومون بها، وإنهم ليبذلون كل ما لديهم من جهد عند الضرورة، وحيث تغريهم المكافأة الجزيلة، فيتمادون في اتباع طرقهم البالية، ولن يحيدوا قيد شعرة عن مبادئهم الراسخة. ماذا فعلوا في موضوع د. مثلًا مما يغاير تلك المبادئ؟! ما كل هذا التنقيب، والتعقيب، والاستماع، والبحث بالمجهر، وتقسيم سقف السطح إلى مربعات، وقراريط؟! ماذا في هذا إلا المبالغة في اتباع مبادئ مرسومة تُطبق على كل فكرة مما تعوده رئيس الشرطة في اضطلاعه زمنًا طويلًا بهذه الشئون، ألا ترى أنه قد اعتقد أن سائر الناس لا يعمدون إلى ثقب الكرسي يخفون به الخطاب فحسب، ولكن على الأقل يتبعون هذه الطريقة في أي جهة أو أي ركن آخر مدفوعين بالفكرة نفسها؟ كذلك إن هذه الطرق في التنقيب عن الأشياء المختفية، إنما هي منطبقة على الحوادث المألوفة من عامة الناس.
إن سائر أحوال الإخفاء يحتمل اكتشافها بهذه الطريقة، ولا يُعتمد في اكتشافها على الذكاء ألبتة، ولكن على العناية والصبر وعزيمة الباحثين، وحيث يكون الأمر له خطر عند رجال السياسة، أو يكون الجزاء عنه جزيلًا، فإن طريقة البحث لن تتغير في جوهرها، وستعرف الآن ما أقصد. حين أقول إن الخطاب المفقود إذا كان قد أُخفي في أي مكان على نمط رئيس الشرطة، فإن اكتشافه أمر لا شك فيه، إن صاحبنا رئيس الشرطة قد ضُلل، وكان أساس تضليله اعتقاده أن الوزير رجل أبله لشهرته بنظم الشعر، وهو يعتقد أن سائر الشعراء مجانين، وإنه في حكمه على الشعراء جميعًا بالجنون لآثم إلى حد الإجرام!
وسألت: ولكن أصحيح أن هذا هو الشاعر؟ إنني أعرف أن هناك أخوين، وكلاهما له شهرة بالأدب، وأعتقد أن الوزير كتب عن علم في نظرية «حساب التكامل» فهو رجل رياضي وليس شاعرًا!
– أنت مخطئ في ظنك، وإنني أعرفه حق المعرفة، إنه يجمع بين الملكتين، فهو شاعر ورياضي معًا، ويستطيع أن يزن الأمور، وإذا اقتصر أمره على أنه رجل رياضي، فلن يستطيع أن يزن الأمر بتاتًا، ومن ثَمَّ يقع في براثن رئيس الشرطة!
قلت: إنك تدهشني بهذه الآراء التي يناقضها كل مَنْ في هذا العالم! إنك لا تنظر بعين الاعتبار إلى الآراء التي هُضمت مدى القرون، ولطالما كان الميزان الرياضي هو الميزان المُرجح في سائر الأحوال منذ آماد بعيدة.
وأجاب دوبان متمثلًا قول شنفور: إنني أراهن على أن كل فكرة عامة يتوارثها الناس ما هي إلا خرافة لاتفاق الناس جميعًا!
وإن كلمة الرياضة تشمل معنى الصلاة ومعنى اللعب، من قولنا: رياضة الروح ورياضة العدو والسباحة!
قلت: لا شك أن بينك وبين رجال الجبر في باريس ضغينة، ولكن أَتممْ حديثك!
– إنني أنبذ القضايا العقلية التي تبنى على غير المنطق المجرد، ولا أحسب لها أية قيمة، وأعارض النتائج العقلية التي تأتي عن طريق الدراسة الرياضية؛ إن الرياضيات هي علم الشكل والعدد، والتفكير الرياضي ما هو إلا تطبيق للمنطق في حدود الأشكال والأعداد، والخطأ الكبير هو اعتقادنا أن الحقائق التي يسمونها «الجبر المجرد» هي حقائق مطلقة، أو منفصلة عن المحسوسات، وإنه لخطأ فاحش يدهشني أن يشيع هذا الشيوع مع فرض وضوحه. إن المقررات الرياضية ليست حقائق مطلقة، وما صح من وجهة العلاقة بين الشكل والعدد قد يكون باطلًا غاية البطلان من وجهة الأخلاق، ففي هذا العلم — علم الأخلاق — لا يصدق على الحقيقة دائمًا أن يكون الكل مجموع الأجزاء، وكذلك علم الكيميا، لا تصدق هذه القاعدة عليه، فلا يلزم من وجود قيمة مفردة أن تجتمع هذه القيم عند الامتزاج والاتصال، وكم من حقائق رياضية لا تحسب من الحقائق إلا بالنسبة إلى موضوع أو مقدار، ولكن الرياضيين يبنون تفكيرهم على حقائقهم المكتسبة بحكم العادة.
وقال دوبان متممًا حديثه: وأنا لا أزيد على أن أضحك من ملاحظاته. إنني أعني أن الوزير لو كان رياضيًّا فحسب لما كان برئيس الشرطة من حاجة إلى أن يمنحني هذه المكافأة. إنني عرفته رياضيًّا وشاعرًا، وكانت أقيستي تلائم مقدرته والظروف التي تحيط به، لقد عرفته رجلًا من رجال البلاط، رجل أحابيل قوي الشكيمة، ومثل هذا الرجل لا يفوته الحذر من أساليب رجال الشحنة ولا يغفل عن الشِّباك التي كانت تُنصب له، وقد برهنت الوقائع على ذلك، ولا شك أنه أدخل في حسابه هذا التنقيب الذي أُجري وقاموا به في مسكنه، وإن غيابه من الفندق الذي أَعدَّه الضابط عونًا له للوصول لغايته، إن هو إلا خدعة كي يدع الفرصة سانحة لرجال الشرطة ليفتشوا ما شاءوا، ويقتنعوا بأن الخطاب ليس هنالك كما اقتنع رئيس الشرطة، ولقد شعرت كذلك بأن سلسلة التفكير التي تعودها الشرطة لا بد قد وردت جميعها على خاطر الوزير، وإنها بلا شك ستقوده إلى نبذ كل طريقة مألوفة للإخفاء والروغان.
ورأيت أنه قمين أن يلجأ إلى البساطة مضطرًا، إن لم يلجأ إليها عفو الخاطر باختياره، وإنك لتذكر كيف أغرب رئيس الشرطة ضاحكًا حينما قلت في مستهل حديثنا: إنه عانى كثيرًا من المتاعب لاكتشاف هذا اللغز الغامض! وما كان قد غمض عليه إلا لأنه واضح غاية الوضوح!
قلت: أجل، وإنني لأعرف كفايته تمامًا، وقد أدركت أنه وقع في حيرة وارتباك!
وواصل دوبان حديثه فقال: إن المحسوسات تفيض بما يشابه غير المحسوسات، ومن هنا كان هنالك مسحة من الحق في تلك القضية الخطابية التي تزعم أن الأمثلة والمجازات ضرورية لتمكين الحجج العقلية وتعزيزها، كضرورتها في تجميل الأوصاف وزخرفتها، ومبدأ القصور الذاتي مثلًا يبدو متشابهًا في عالم الطبيعة وما وراء الطبيعة، وليس هذا المبدأ في الطبيعيات بأصدق منه حين نطبقه على قولنا: إن الجسم الكبير يحتاج لتحريكه إلى جهد أكبر من الجهد الذي يحرك الجرم الصغير، وإنه أصعب دفعًا وتحريكًا من ذاك، ويسري هذا الحكم على حركة العقول الكبيرة والعقول الصغيرة، فإن العقل الكبير على قوته حين يتحرك؛ ليصعب في مبدأ الأمر دفعه إلى الحركة، ألم تلاحظ أي اللافتات أرعى للنظر؟
قلت: إنني لم ألتفت إلى هذا من قبل!
قال: هناك لعبة محيرة تُلعب على الخرائط، وفحواها أن يذكر فريقٌ من اللاعبين كلمة أو اسمًا يقترح الاهتداء إليه … فالحاذق من اللاعبين يختار أبرز الكلمات والأسماء التي يتخطاها الباحث الجاهل ظنًّا منه أن البحث يستلزم لا محالة أن ينظر في الخفايا والمجهولات!
وكذلك الكلمات الكبيرة المنقوشة على اللافتات، فإنها مما تتخطاه النظرة الأولى إلى ما هو أخفى منها وأحوج إلى الانتباه، وتتشابه في هذا الأمر نظرة البصر ونظرة البصيرة.
فلما اختمرت هذه الأفكار في رأسي تزودت بمنظار أخضر، وتوجهت صباح يوم مشرق إلى الفندق الذي يقيم فيه الوزير، ووجدت د. بمقره يتأفف ويتكاسل ويتباطأ كعادته، ويصطنع أنه في غاية الإعياء، وربما كان أنشط إنسان على وجه الأرض حين ينفرد بنفسه.
ولكي أكون معه على سواء، شكوت ضعف عيني وضرورة وضع منظار عليها، وتحت ستارها تفحصت سائر أنحاء الحجرة، بينما كنت أُظْهِر أنني لا أهتم إلا بحديث مضيفي.
ولقد وجهت انتباهي خاصة إلى مكتب كبير كان يجلس على مقربة منه، وكانت عليه خطابات وأوراق مختلفة موضوعة بطريقة مشوشة مع آلات موسيقية، وكُتبٍ شتى، ولم أجد هنالك ما يلفت النظر.
ثم وقعت عيناي أخيرًا — وهما تتفحصان الحجرة — على صندوق من الورق المُقَوَّى، مِمَّا يُستعمل في وضع البطاقات، يتدلى من خيط أزرق مُعَلَّق في أكرة نحاسية فوق الموقد، ويتألف هذا الصندوق من ثلاث عيون أو أربع، وبداخله خمس بطاقات أو ست، بينها خطاب منعزل … كان هذا الخطاب قذرًا ويعلوه الغبار، ممزقًا من وسطه، كأنما أراد صاحبه أن يمزقه ثم عدل عن ذلك، وكان عليه خاتم كبير أسود يحمل علامة باسم د. ظاهرة لكل مَنْ يراه، وعنوانه مكتوب بخط نسائي دقيق موجه إلى د. الوزير نفسه، ملقى بغير عناية في متناول اليد، ويبدو مهملًا فوق الصندوق.
وأدركت أنه هو الخطاب الذي أبحث عنه عندما ألقيت نظري عليه، ولا ريب أنه كان يبدو في مظاهره مختلفًا تمام الاختلاف عن الخطاب الذي تلا علينا رئيس الشرطة وصفًا دقيقًا له، فهنا الخاتم كبير أسود عليه علامة د. وهذه العلامة كما وصفها حمراء، وعليها السلاحان الملكيان يمثلان أسرة س. وهنا العنوان موجه للوزير بخط نسائي دقيق، بينما هو في الثاني موجه إلى شخصية ملكية بصورة واضحة المعالم، إلا أنه كان منطبقًا تمام الانطباق من ناحية الحجم فحسب، ولكن هذا الاختلاف الشديد، وهذه القذارة التي لا توافق دأب الوزير في عامة أحواله تشعر بأنه تعمد أن يصرف نظر الباحث عن الاهتمام بهذه الورقة.
وقد أطلت زيارتي عنده وأنا مستغرق في بحث جلل بيني وبين الوزير حول مسألة أعرف أنها لا بد تثير اهتمامه وتهيج خواطره، وكان كل انتباهي في الحقيقة منصبًّا على الخطاب، وقد وضعت في ذاكرتي منظره من الخارج وموضعه من الصندوق، ودفعت عن نفسي آخر الأمر سائر الشكوك والهنات التي ربما كانت تعترض تفكيري في هذا الشأن، وتأملت أطراف الورقة فوجدتها مهلهلة بغير داع، وكأنها من سقط المتاع، وقد طُويت مرة ثم ضُغطت وأُعيد طيها وضغطها من الناحية الأخرى فوق الحروف والخطوط التي طُويت عليها أول مرة … كان هذا الاكتشاف كافيًا! وقد تبيَّنَ لي أن الخطاب قد قُلب من الداخل كما يُقلب القفاز، وأُعيدت تسويته، وخُتم من جديد، وهنا حييت الوزير وانصرفت في الحال، وتركت على المائدة علبة سعوط ذهبية.
وفي صباح اليوم التالي عدت لأطلب العلبة، فاستعدنا الحديث كما بدأناه بالأمس في حرارة واهتمام، وبينما نحن مشغولان على هذا النحو سُمع طلق ناري ينبعث من الخارج تحت نافذة الفندق مباشرة، تلته صرخات فزع متوالية وصيحات من الغوغاء، واندفع د. إلى شرفة ففتحها على مصراعيها ونظر خارج الفندق، وتقدمت إلى صندوق الخطابات وأخذت منه الخطاب ودسسته في جيبي، ووضعت مكانه خطابًا مماثلًا له في مظهره الخارجي، وكنت قد أعددته في مسكني بدقة وعناية، وأحكمت تقليد الخاتم الذي وضعه د. بخاتم مصنوع من الخبز …!
كان الهياج الذي وقع في الشارع قد أثاره رجل مقنع أطلق مقذوفًا ناريًّا بين جمع من النساء والأطفال، ووثب يعدو كأنه مجنون أو سكران، وكان المسدس في الحقيقة لا يحمل رصاصًا، فلما ذهب عاد د. من النافذة التي تَبِعْتُه إليها، ثم أسرعت فودعته، وكان المجنون المزعوم مطلق القذيفة رجلًا من أتباعي.
قلت: وما هو الغرض الذي من أجله وضعت خطابًا مماثلًا للخطاب الأول؟ ألم يكن من المستحسن أن تأخذ الخطاب عنوة عند الزيارة الأولى ثم تنصرف؟
أجاب دوبان: إن د. رجل يائس عصبي المزاج، والفندق الذي ينزل فيه لا يخلو من الخدم يأتمرون بأمره … فإذا هجمت على الخطاب تلك الهجمة التي تقترحها فلا أبرح حضرة الوزير وأنا بقيد الحياة، واختفى اسمي من ذلك اليوم، فلا يذكره أحد من أفاضل سكان باريس …
إلا أن لي عَدَا هذا وجهة غير الوجهة التي تهم رئيس الشرطة من هذا الخطاب، فإنك تعرف مبادئي السياسية، وإني في هذا الأمر إنما أعمل كرجل مشايع للحزب الذي يناصر تلك السيدة، وإن الوزير قد وضعها تحت سيطرته ثمانية عشر شهرًا ووضعته الآن تحت إمرتها، وإنه ليستمر في سلطانه وعنفه وهو يعتقد أن الخطاب لم يخرج من حوزته إلى الآن، ومن هنا يقيم نفسه بمدرجة الهلاك، ولن يُعد سقوطه متى سقط هوجًا، بل سخفًا وخرقًا. ويحسن هنا أن أردد قول مَنْ قال: «ما أسهل السقوط على مَنْ سقط!» وكما يقول كتلاني في الغناء: «إن الصعود أسهل كثيرًا من الهبوط.» ولست الآن أعطف عليه، أو على الأقل لست أشفق عليه، فهو مثل للعبقري الذي لا يتحرج ولا يتأثم، ولوددت الآن أن أنفذ إلى سريرته لأرى كيف يدور تفكيره حين تتحداه السيدة صاحبة الخطاب، فينكفئ راجعًا إلى موضعه المُخَبَّأ فيه ويعلم أنه قد ضاع!
– وكيف ذلك؟! هل أودعت ذلك الخطاب كلامًا موجهًا إليه؟!
– وكيف لا؟! فلم يكن من اللائق أن أترك داخل الخطاب فارغًا، فهذه إهانة.
باطية النبيذ الشريشي «الأمنتيلادو»٧ لإدجار ألان بو Edgar Allan Poe
صبرت جهد الطاقة على شتى الإساءات من فورشناتو، ولكنه حين اجترأ على إهانتي آليت لأنتقمن منه. إن مَنْ يعرف خلائقي يعرف أنني لا أجهر بتهديدي، ولكنني أدرك ثأري آخر الأمر، وهذا أمر مفروغ منه، وإنني لن أقنع بعقاب خصمي، بل أمعن في العقاب، وليس من بلوغ الثأر أن يتعرض صاحبه لأذى وهو ينتقم لنفسه، وليس من بلوغه كذلك أن يجهل غريمه من أين أُصيب.
إنني كما أحب أن يفهم، لم أقل ولم أعمل عملًا يدعو فورشناتو إلى إساءة الظن بمقصدي.
فكنت أَهشُّ في وجهه على عادتي، ولم يكن ليستبين من وراء ابتسامتي أنها تخفي عزيمة القضاء عليه!
كانت في فورشناتو ناحية من نواحي الضعف، وإن كان رجلًا يُبجل ويُخشى بأسه في سائر النواحي الأخرى. وكان يزهى بمعرفته بالنبيذ، وقليل بين الإيطاليين من يتذوق روح الفن الحقة، وإن كان همهم على الدوام أن يتحينوا الفرصة للاحتيال على أصحاب الملايين من الإنجليز والنمسويين.
كان فورشناتو دجالًا في فن التصوير كأبناء وطنه، وإن كان ثقة في فن الأنبذة، وإنني لعلى غراره في هذا الصنف؛ إذ كنت على خبرة بالأنبذة، وكنت أبتاع مقادير كبيرة منها كلما استطعت.
صحبت صديقي هذا مساء ليلة من ليالي «المساخر» الصاخبة، ولاقاني بحرارة بالغة؛ إذ كان مغرقًا في شرابه، وكانت عليه ملابس مختلفة الألوان؛ يلبس حلة مشدودة على جسمه، وعليها شارات الجماعة التي ينتسب إليها، ويضع على رأسه قبعة تتدلى منها جلاجل صغيرة … فهششت للقائه وكدت لا أنتهي من مصافحته أبدًا!
قلت له: إنني جد سعيد بلقائك يا صديقي فورشناتو، إنك تبدو اليوم غاية في حسن الطلعة والأناقة، لقد وقعت يدي على باطية من النبيذ الذي يبيعونه باسم «الأمنتيلادو» وإنني ليخامرني الشك في جودته وأصالته!
قال: وأنَّى لك ذلك؟! باطية من الأمنتيلادو! هذا مستحيل، وفي أيام المساخر أيضًا!
قلت له: إن لي شكوكي، وإنني لغفلتي دفعت فيها ثمنًا باهظًا دون أن أستشيرك، ولكن لم أجدك، وخفت أن تضيع مني الصفقة.
– أمنتيلادو …!
– سأدعك في شغلك هنا وأذهب إلى «لوشيزي» فهو الرجل الوحيد الذي له خبرة بهذا النوع.
– هلم نذهب …
– إلى أين؟
– إلى مخابئك.
– كلا يا صديقي، إنني لا أريد أن أثقل عليك، وأنت مرتبط بلقاء لوشيزي.
– لست مرتبطًا بأحد. هلم!
– كلا يا صديقي، ليس الأمر أنك مرتبط بموعد، ولكن هذا البرد الشديد يضايقك، وإن للمخابئ رطوبة لا تُحتمل، وأرضها تنز بالأملاح!
– فلنذهب على أية حال، إن البرد لا يهمني. أمنتيلادو! لقد غُششت فيه، أما لوشيزي فهو لا يميز بين نبيذي شريش!
وأخذ فورشناتو بذراعي وانصرفنا، وكنت أضع على وجهي قناعًا من الحرير الأسود، وأتدثر بمعطف مشدود على جسمي، وسمحت لفورشناتو أن يسرع بي نحو داري.
كان منزلي خاليًا من الخدم، فقد تسللوا إلى أفراح المساخر بالمدينة يسهمون فيها، وقد أخبرتهم بأنني لا أعود قبل الصباح، وإن كنت قد أعطيت أمري بألَّا يتحركوا من المنزل، وإنها لأوامر كافية كما أعلم، إلا أنني أعلم كذلك أنهم سيختفون ساعة أوليهم ظهري!
وأخرجت من أدراجهم مصباحين — شمعدانين — وأعطيت أحدهما لفورشناتو، وقُدْتُه من حجرة إلى أخرى، حتى وصلْنا إلى المدخل الذي يفضي إلى المخابئ، وانحدرت من سلم حلزوني طويل، ودعوته أن ينزل منه بحذر وهو يتبعني، حتى انتهينا إلى آخر الدرج، ووقفنا معًا على الأرض أمام مقابر مونتريزر التي أشبعتها الرطوبة.
وكانت قامة صاحبي تترنح، والجلاجل التي على قبعته تصلصل كلما تحرك.
قال: أين الباطية؟
قلت: ستصل إليها بعد قليل، ولكن عليك أن تحترس من تلك الأنسجة البيضاء التي تلمع من جدران هذه الكهوف!
ثم اتجه نحوي وحملق بعينيه، وحدقتاه تنضحان سكرًا!
وسألني أخيرًا: أهذه أرض ذات أملاح؟!
قلت: أجل، إنها أرض سبخة ذات أملاح، متى نالك هذا السعال؟
وراح يسعل ويسعل، ثم توقف صديقي المسكين، وهو لا يقوى على الإجابة.
ثم قال: لا شيء!
قلت: هلم، وأظهرت العزم على العودة، وقلت: سوف نعود من حيث أتينا. إن صحتك ثمينة، أنت رجل غنيٌّ مبجل محبوب وسعيد، كما كنت أنا يومًا من الأيام، وإنك لتُفتقد إذا ما غبت، أما أنا فلا يؤبه بي. لِنعد أدراجنا، إنك قمين أن تصاب بمرض، وإني غير مسئول إذا ما أصابك شيء من جراء هذا، ثم أمامنا موعدك مع لوشيزي.
قال: كفى، إني لا يهمني السعال أبدًا، سوف لا أموت من السعال.
وأجبته: هذا صحيح! صحيح، والحق أنني لا أريد أن أزعجك بغير جدوى، إلا أنك خليق أن تحذر كما ينبغي، إن جرعة من هذا العقار تقينا رطوبة هذا المكان.
وتناولت زجاجة من الزجاجات الكثيرة المصطفة على الرف وضربت رأسها، ثم قدمت إليه النبيذ وقلت: احتسِ.
ورفعها إلى شفتيه وهو ينظر إليَّ بألفة ومودة، ثم التفت وأشار برأسه والجلاجل تصلصل من فوقها: إنني أشرب في حب هؤلاء الموتى الراقدين من حولنا.
– وأنا أشرب في حياتك الطويلة.
ثم عاد فأخذ بذراعي وانطلقنا.
– إن هذه الكهوف ممتدة إلى بعيد.
وأجبت: إن أسرة مونتريزر كانت كبيرة كثيرة العدد.
– لقد نسيت ذراعيك!
– هذه قدم كبيرة مُذَهَّبة في حقل من اللازورد، تسحق بقايا أفعى تغرس أنيابها في عقبها، تلك شارة القوم.
– وماذا يقول الشعار؟
– كل امرئ يُجزى بما فعلت يداه.
– أجل.
وكان النبيذ يلتمع في عينيه، والجلاجل تصلصل على رأسه، وقد أذكى النبيذ خيالي، وسرنا وسط جدران من العظام المختلطة بالبواطي في كهوف المقابر، ثم وقفت واجترأت، فطويت مرفقه تحت ذراعي!
قلت: انظر، ها هي ذي الأملاح تتراكم وتطفو على الأقبية كأنها الطحلب، ونحن الآن تحت قاع النهر، وقطرات الندى تتساقط على العظام. هلمَّ لنعد قبل أن يفوت الميعاد، ويفتك بك السعال!
قال: كلا، ليس بي شيء، لنستمر في طريقنا، ولكن ناولني قدحًا من الشراب قبل كل شيء.
ففتحت له قنينة من نبيذ الجراف أفرغها في جوفه جرعةً واحدة، وكانت عيناه تشعان بريقًا وحشيًّا، وقهقه وقذف بالزجاجة وهو يشير إشارة لم أفهمها.
نظرت إليه دهشًا، ثم أعاد الحركة مرة ثانية.
قال: ألم تفطن لإشارتي؟!
قلت: كلا!
– إذن لست من الإخوة!
– وكيف ذلك؟!
– لست من البنائين الأحرار!
قلت: بلى، بلى.
قال: أنت؟ كلا، مستحيل!
وأجبت: بل أنا ماسوني.
قال: إذن أبرز العلامة!
قلت: هاك، وأخرجت المسطار من وراء معطفي!
قال: أنت تسخر بي؟
وتراجع خطوات وهو يقول: فلنذهب إلى الباطية.
قلت: ليكن.
وأعدت المسطار تحت عباءتي، وأعدت إليه ذراعي، واستند عليها بقضه وقضيضه، وواصلنا سعينا نبحث عن الأمنتيلادو بين أقباء هابطة، حتى وصلنا إلى سرداب عميق كان فساد الهواء فيه يكاد يطفئ المصباح!
وقد ظهر في نهاية السرداب طريق ضيق، كانت جدرانه محاطة برفات الأجسام البشرية طبقة فوق طبقة إلى السقف على مثال مقابر باريس الكبرى … وكذلك كانت الجوانب الثلاثة من قبو السرداب، أما الجانب الرابع فقد تهافتت عظامه على الأرض، ووجدنا داخل الحائط بمعزل عن العظام مدخلًا آخر عمقه أربع أقدام، وعرضه ثلاث، وارتفاعه من ست إلى سبع أقدام، وكأن بُناته أعجلوا دون تمامه لأمر من الأمور، ولكنه أُقيم ليصل بين سقفي المقابر، ومن ورائه جدار يحيط به من الحجر الصوان.
لم يستطع فورشناتو أن يرفع نور شعلته لينظر إلى عمق هذا السرداب، ولم يمكنه على ضوئه الضئيل أن يستبين مداه.
وتقدمت منه قائلًا: ها هو ذا الأمنتيلادو، ولا تَقُلْ لصاحبنا لوشيزي.
فقاطعني وهو يترنح في غير اتزان إلى داخل الحفرة، وقال: إن صاحبي لفَدْم جاهل!
وتبعته على الأثر، فبلغ نهاية السرداب في لحظة، ثم وقف عند صخرة وتملكته الدهشة، وفي لحظة أخرى كنت قد قيَّدْتُه بذلك الحجر الصوان، وكانت على سطحه حلقتان بين الواحدة والأخرى قدمان مستويتان في إحداهما سلسلة قصيرة وبالأخرى قفل. لم أستغرق في تطويق خصره بالسلسة بضع ثوان، وهو في ذهول شله عن الحركة، ثم أدرت المفتاح وعدت أدراجي من السرداب.
ناديته: تلمس بيديك الجدران، وإنك لن تنجو من رطوبتها، وإنها لشديدة الرطوبة حقًّا. فدعني أتوسل إليك مرة أخرى أن تعود … ماذا؟ ألا تريد؟! إذن يجب أن أتركك حيث أنت، وسأبذل إليك ما في وسعي من صنوف الرعاية وإنها لقليلة!
وصاح صاحبي، ولما يفق من دهشته: الأمنتيلادو؟!
وأجبت: حقًّا. الأمنتيلادو!
قلت هذا وأنا منصرف إلى العظام أبعدها، وتكشفت عن شيءٍ من الطين وحجر البناء، وبهذه المواد والمسطار الذي معي اندفعت أقيم جدارًا على باب السرداب، وما كدت أضع أول حجر حتى أخذ يفيق من السكر. وكانت بوادر ذلك صوت أنين ينبعث من داخل السرداب، لم يكن صوت رجل تملكه الخمار، وران على المكان صمت طويل، فوضعت الحجر الثاني والثالث والرابع.
وهنا سمعت السلسلة تضطرب اضطرابًا عنيفًا أصغيت إليه بضع دقائق راضيًا قرير العين، ثم انتهيت من عملي، وجلست فوق العظام، فلما سكتت صلصلة الجلاجل والقيود، استعدت المسطار، ووضعت الحجرين الخامس والسادس دون مقاطعة، ووقفت ورفعت الشعلة على رأس البناء، وقد ألقت بصيصًا من الضوء على الهيكل الذي بداخله، وراحت الصرخات تتوالى عارمة هوجاء من فم الرجل المُكبَّل، كأنها تجتذبني من ورائي، فترددت لحظة، ثم استولت عليَّ هزة عنيفة، وجردت سيفي أتحسس به طريق السرداب، فعاودتني الطمأنينة بعد تفكير هنيهة، ووضعت راحتي على جدار البناء المتحجر مستريح الفؤاد!
عدت إلى الحائط، وأنا أحكي صياح ذلك الدفين بصياح مثله، وأردد صداه، بل أساعده على المزيد وأفوقه في شدته، وكدت أنتهي من عملي؛ إذ وضعت الحجر الثامن والتاسع والعاشر، فإذا بقهقهة تنبعث من السرداب منخفضة النبرات، وقف لها شعر رأسي، وتبعها صوت حزين تبينت بجهد جهيد أنه صوت فورشناتو النبيل، كان يقول: ها، ها، ها. إنها لفكاهة طريفة حقًّا، لعبة ناجحة، سنضحك منها كثيرًا عند عودتنا إلى الملهى على مائدة النبيذ … ها ها، ها ها!
قلت: والأمنتيلادو؟
– هي، هي، هي … نعم الأمنتيلادو! ولكن ألسنا تأخرنا الآن، أليسوا في انتظارنا في ذلك الحي: السيد فورشناتو، وباقي الجمع، فلنذهب الآن.
– بحق الله، يا مونتريزر!
قلت: أجل، بحق الله!
وأهبت أناديه، وأجيب عن هذه الكلمات، ولكن دون جدوى.
ثم صحت بصوتٍ عالٍ: فورشناتو!
ولم أسمع جوابًا.
– فورشناتو؟!
ولم أظفر بجواب، وقذفت بشعلتي من الكوة الباقية، فلم يجبني غير صليل الجلاجل والقيود، وانقبض صدري من رطوبة المكان، فأسرعت إلى عملي أنجز البقية الباقية منه، ووضعت الحجر الأخير في مكانه، وألقيت عليه وعلى البناء الجديد سورًا من العظام التي بقيت ثمة نصف قرن من الزمان، دون أن تزعجها يد الإنسان.
(٣) مارك توين ١٨٣٥–١٩١٠
كانت رسالة الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر — كما أسلفنا — أن يكشف العالم القديم، وأن يعطي أمريكا أدبها الخاص، وكان مارك توين أحد الأعلام الذين قاموا بأداء هذه الرسالة، فأصبحوا — في مدى حياتهم — من الكُتَّاب القوميين والكُتَّاب العالميين في وقتٍ واحد.
وُلد بالولايات الوسطى، وانتقل مع أبيه إلى الغرب، فعرَف في صباه كثيرًا من أقاليم بلاده، وكان أبوه من أصحاب الخطط و«المشروعات» في طلب الغنى، ولكنه مات فقيرًا وابنه في الثانية عشرة من عمره، فعمل مع أخيه أوريون في صحيفته صفَّافًا ومحررًا مساعدًا، ثم خرج في طلب الرزق، فعمل في الملاحة وعاهد أمه — ويده على الكتاب المقدس — ألا يمسك بورقة لعب ولا يشربن قطرة خمر. ولما نشبت الحرب الأهلية اشترك فيها، ثم تخلى عنها، ولم يزل يتنقل بين الأقاليم ويزاول العمل بعد العمل حتى انقطع للصحافة والأدب، وساح في البلاد الأوروبية وغيرها، فمارس حياة العصر، عامَّها وخاصَّها، بالمعاينة والتجربة العملية، وحصَّلَ فلسفته لنفسه بالمشاهدة والنظر القريب قبل البحث والاطلاع، ولم يكن نصيبه من البحث والاطلاع مع هذا بالقليل.
وقد نحيط بشيء من اتساع هذه الشهرة إذا علمنا أن كتابه عن رحلته الخارجية طبع منه مائة ألف نسخة في سنواته الثلاث الأولى، وكان ثمن النسخة منه ثلاثة ريالات ونصف ريال، وأن موسوليني كان أحد أعضاء الجماعة العالمية التي تألَّفت باسمه لدراسة كتبه وترجمتها إلى اللغات الأوروبية!
وإذا استعرنا لفلسفة مارك توين وصفًا من مصطلحات الرياضة البدنية، جاز أن نقول: «إنه فيلسوف من وزن الريشة.» لأنه يتناول فلسفة الأخلاق، ويعالج مختلف الآراء، بالخفة والسرعة، ولا يثقل على قرائه بالتعمق والاستقصاء، ومجمل فلسفته أنه يَسْخر من الحذلقة حيث كانت، ويهزأ بالنفاق في كل صورة، وهو مع فكاهته وخفته يؤمن بالقداسة والجد، ويعطيهما كل حقهما من الرعاية، كما يُرى من كتابه في سيرة جان دارك، وكتابه عن الفساد الاقتصادي باسم «الرجل الذي أفسد هدلبرج». فليست فكاهته هزلًا «بغير روح» كما يقولون، ولكنها أسلوب من أساليبه في التعبير عن نقائض الحياة.
اسمه الأصيل صمويل كليمنس، واشتهر باسم «مارك توين» من مصطلحات الملاحة، بمعنى العلامة الثانية، وقصته في هذه المجموعة «الضفدعة النطاطة» هي القصة التي أذاعت شهرته في بلاده، وفيها تصوير لهوس المراهنة الذي لا يستغرب بين قوم يواجهون الغيب، ويقتحمون المجهول، ويودون تجربة الحظ واستطلاع المصير!
وقد وُجدت بين مفكراته المحفوظة في كاليفورنيا ورقة كُتبت عليها هذه الإشارات: «كولمان وضفدعته النطاطة، راهن رجلًا غريبًا على خمسين ريالًا، الرجل الغريب لم تكن له ضفدعة، فأحضر كولمان له واحدة، في أثناء ذلك حشا الرجل الغريب جوف ضفدعة كولمان بالرش، فعجزت عن النط، ربحت ضفدعة الغريب!»
وإلى جانب هذه المفكرة كلمات يقول فيها: «كتب هذه القصة لناشره المغفل، سلمها إلى ستر داي برس …»
وهذا «التخطيط» عن قصته الصغيرة يدل على عنايته برسم موضوعه، خلافًا لما يظن من إرساله عفو الخاطر بغير روية، وأسلوبه فيها نموذج لطريقته في تشويق قارئه، فقد يشوقه بتزهيده فيما سيقرؤه، فيكون هذا التزهيد أول حافز على التشويق. وقد كانت هذه القصة مع بعض التعليقات أول كتاب ظهر لمارك توين في عالم المطبوعات.
الضفدعة النطاطة المشهورة
تلبية لرغبة صديقي الذي كتب إليَّ من الشرق، ذهبت إلى الرجل الطيب الثرثار الشيخ سيمون هويلر واستقصيت عن صديق صديقي ليونيدا. و. سميلي، كما طلب مني، وهأنذا أروي خلاصة ما علمت: كان يقع في حدسي أن ليونيدا. و. سميلي أسطورة، وأن صديقي لم يعرف قط شخصًا كهذا، وأنه ظن أنني حين أسأل الشيخ هويلر عنه يتذكر هذا فضيحة جيم سميلي، ويشمر عن ساعده ليضجرني ببعض ذكرياته الجهنمية التي فيها من الملالة لي، بمقدار ما فيها من قلة العائدة عليَّ.
لئن كان هذا قصده لقد نجح أيما نجاح!
ألفيت سيمون هويلر يهوم في ارتياح إلى جانب المدفأة في حجرة البار من الخان العتيق: خان محلة التعدين في آنجل، ولحظت أنه بدين أصلع تلوح عليه سِيما الطيبة الجذابة والبساطة … فنهض قائمًا وحياني فتمنى لي نهارًا سعيدًا، وأنبأته أن صديقًا لي أوفدني في مهمة السؤال عن بعض الأمور التي لها علاقة برفيق صباه المدعو ليونيداس. و. سميلي … الأب ليونيداس. و. سميلي، القس الشاب الذي سمع عنه أنه كان يومًا ما مقيمًا بمحلة آنجل.
وأضفت قائلًا: إنه إذا استطاع أن يخبرني بشيء عنه كنت مدينًا له بأكثر من دين.
فقادني سيمون هوبلر إلى زاوية حصرني فيها بكرسيه، وبعد أن أجلسني فرط شريط هذه القصة الرتيبة التي تعقب هذه العبارة؛ لم يبتسم قط، ولم يعبس قط، ولم يغير قط نبرة صوته من اللهجة التي استهل بها كلامه، ولم يشعرني قط بمسحة من العطف والحماسة، وإنما كانت تسري خلال قصته المتصلة نغمة من الجد والإخلاص تبينت منها أنه لا يحسب أنه كان يروي مهزلة مضحكة، وكان يعتقد أنها شيء مهم، وأن بطليها عبقريان سماويان من عباقرة الكياسة.
أما أنا فإن منظر إنسان يستطرد في رواية تلك القصة العجيبة دون أن يبتسم كان في عرفي غاية السخف والمناقضة. وقد أسلفت أنني سألته أن يقص عليَّ خبر الأب ليونيداس. و. سميلي، فأجابني بما يلي، وتركته يمضي على نسقه، ولم أقاطعه قط أثناء روايته.
•••
قال: كان هنا شخص يُسَمَّى جيم سميلي [في] شتاء سنة تسع وأربعين، وربما كان في ربيع سنة خمسين، لا أدري على التحقيق، ولكن الذي جعلني أذكر أنه جاء في هذا الموعد أو ذاك أن القناة الكبيرة لم تكن تمت يوم قدم إلى المحلة، وقد كان على أية حال أعجب مَنْ رأيت، يراهن على كل مسألة، ويحتال جهده كي يجد مَنْ يراهنه على الخلاف، فإن لم يجده غَيَّر موقفه وراهن على الطرف الآخر، وكان كل ما يوافق الطرف الآخر يوافقه ولا تهمه إلا المراهنة على أية صورة، ولا يزال في كل أولئك موفَّقًا ناجحًا سعيد الحظ في جميع مراهناته، فقلَّما يخسر في رهان.
كان على الدوام متربصًا لرهان، فلا يسمع بشيء كائنًا ما كان إلا اتخذ منه موضوعًا للتحدي والمناقضة، واختار أي الطرفين يصادفه في تحدياته ومناقضاته، كما أنبأتك آنفًا.
فإن كان ثمة سباق خَيْلٍ ألْفيتَه مشرقًا متهللًا، أو رأيته قابعًا في رأس الحلبة، وإن كان ثمة هراش كلاب فهو مشترك فيه، وإن كان ثمة قتال قطط أو نقار ديكة، بل إن كان ثمة عصفوران على فرع يتناقران، فهو مراهنك أيهما يبدأ بالفرار! وإن كان في المحلة اجتماع ينعقد فهو مواظب على حضوره، مراهن على القس ووكر الذي يقول عنه: إنه أبلغ الوعاظ، وإنه لكذاك، وإنه لرجل صالح فوق ذاك!
وربما لمح حشرة تدب، فلا يلبث أن يراهنك إلى أين تسير وأين تقف بعد المسير، ولو أنك طاوعته لتتبع تلك الحشرة وذلك الرهان إلى بلاد المكسيك، ليعلم ما مقصدها وأين طريقها وكيف يكون مقامها وترحالها!
وكثير من الفتية هنا رأوا سميلي وفي وسعهم أن يخبروك بخبره. إنه — كان الله له — يتحدى كل أحد ويراهن على كل أمر. واتفق مرة أن قرينةَ القسِّ ووكر مرضتْ ولم يظهر من مرضها أنه مؤذن بشفاء، ولكنه أتى يومًا وسأله سميلي عنها، فقال: إنها تحسنت تحسنًا ظاهرًا، والحمد لله على رحمته وكرمه، وإنه ليرجو ببركة الله أن تتماثل وتعود إلى صحتها، فإذا بسميلي يقول دون تفكير: على أني أراهن بكذا وكذا أنها لن تشفى …!
وكانت لسميلي فرس، يطلق عليها الفتيان لقب «سيسي ربع ساعة» ولكنهم يمزحون لأنها — ولا ريب — كانت أسرع من ذلك، إلا أنه تعود أن يكسب من مراهناته على تلك الفرس؛ لأنها كانت تتلكأ أو تصاب باللهاث أو الحران أو النزلة الصدرية أو أي مصاب من هذا القبيل، وكان من عاداتهم أن يسمحوا لها بفرق مائتي ذراع ثم يجاوزوها في الطريق، فإذا هي في النهاية تقبل مستميتة وترمي بسيقانها هنا وهناك على جنب منحرف أو في الهواء … ترفس وتثير الغبار وتسعل وتعطس وتأتي على مدى الرقبة بأية حال!
وكان له كلب، تنظر إليه فتقول إنه لا يساوي سحتوتًا، ولا يحسن إلا أن يتسكع على غير هدى لعله يتمكن من اختطاف ما يتفق، ولكنه لا يلبث أن تضرب عليه مراهنة من المراهنات بمقدار من المال حتى يتبدل كلبًا غير الكلب، وتبرز أنيابه من فكه، ويلمع كاللهب، وربما داعبته بعض الكلاب ومرغته وعضته وألقت به إلى الأرض مرة بعد مرة، ولكن أندرو جاكسون — وهذا اسمه — لا ينشط إلا على هواه، ويرتفع مبلغ الرهان في هذه الأثناء ويتضاعف مصعدًا حتى لا مزيد، فإذا به فجأة يقبض على مفصل الساق الخلفية من الكلب الآخر ويجمد على ذلك، ولا يخطرن ببالك أنه يعمل أظافره، بل كل ما هنالك أن يقبض عليه ويتشبث به إلى أن يشهد الحكم بالغلبة ولو بعد سنة!
ولبث سميلي يخرج رابحًا من المراهنة على هذا الكلب حتى جيء له بكلب مبتور الرجلين قطعتا بمنشار، فلما بلغ الهراش أمده وارتفع مبلغ الرهان إلى أَوْجه، وعمد أندرو جاكسون إلى حيلته المعهودة خاب حسابه، وعرف مكيدتهم له، فلاح عليه الدهش والانكسار، ونظر إلى سميلي نظرة عاتبة كأنما يقول له: إن الذنب ذنبه لأنه أتى له بكلب ليست له رجلان، ثم ترك الرهان يأسًا من الظفر. وما زال يهزل ويبلى حتى نَفَق، وما كان أعجبه من كلب أندرو جاكسون هذا! لقد كان جديرًا بالصيت الواسع لو أنه عاش؛ فقد كانت له همة، وكانت فيه عبقرية، وعرفت ذلك بالنظر إليه وإن لم ينطق بكلمة، فما ينبغي لنا أن نرى حيوانًا أبكم فنجرده من ملكات العبقرية لأنه لا يتكلم، وما زلت حزينًا يعاودني الحزن كلما ذكرت موقفه الأخير من الرهان وكيف انقلب عليه.
على أن سميلي كانت له كلاب أخرى، وكانت له ديكة وسنانير، وكانت كلها من الطراز الذي لا يُجارى ولا يتركك في راحة أن تعرض عن رهانه.
وذات يوم صاد ضفدعًا وأخذه إلى بيته، وقال: إنه سيدربه، فلم يكن له عمل خلال ثلاثة أشهر غير أن يجلس في فناء داره ويعلم الضفدع كيف يقفز، وتالله لقد نجح وعلَّمه! وما كان ليزيد على أن يغمزه في مؤخره فلا تنقضي لحظة حتى تراه واثبًا في الهواء كأنه شظية بقلاوة، ثم يهبط مستويًا على أقدامه كأنه قط هابط، وعلمه كذلك صيد الذباب فبلغ من مهارته في الصيد أنه يتناول الذبابة على مد النظر. وكان «سميلي» يقول: ما بالضفدع من حاجة في رياضة من الرياضات إلا أن يتدرب عليها فلا يعيبه شيء! وقد صدقته، وكيف لا أصدقه، وإني قد رأيت بعيني دانيال وبستر، نعم «دانيال وبستر» اسم الضفدع الذي نتحدث عنه؛ رأيته بعيني يطرحه على الأرض ويغني له: الذباب يا دانيال! الذباب! وقبل أن يرتد إليك طرفك تراه قد وثب في الهواء وعاد إلى الأرض كأنه قطعة من الطين، وجعل يحك رأسه بقدمه كأنه لم يأتِ بعجب من العجاب لا يأتي به ضفدع من بني جنسه! ولن تبصر بضفدع في مثل هذا الحياء ومثل هذه الاستقامة، فهو لا جرم ضفدع موهوب، وما من ضفدع قط يجاريه حين يدخل السباق على الحلبة الممهدة، فقد كان «سميلي» يراهن عليه بأكبر مقدار في حسابه، وما كان أعظم فخره بضفدعه! فإن أصحابنا الذين ساحوا وأكثروا من السياحة وشهدوا العجائب في سياحاتهم قد سلَّموا معترفين للضفدع بأنه فرد بغير نظير!
وحفظ سميلي الضفدع في صندوق مشبك، ثم تعود أن يحمله إلى المدينة حيث يراهن عليه، واتفق يومًا أن زائرًا طارئًا على المحلة لقيه ومعه صندوقه، فسأله: ما عسى أن يكون في هذا الصندوق؟!
فقال «سميلي»: لعله ببغاء، لعله عصفور كنار، لكنه لا هذا ولا ذاك، إنه ضفدع.
فأخذ الرجل الصندوق وقلبه ونظر فيه، ثم قال: وما نفع هذا الضفدع؟!
قال «سميلي» في غير اكتراث: نفعه شيء واحد؛ إنه يستطيع أن يسبق كل ضفدع في هذا الإقليم: إقليم «كالفيرا»!
فعاد الرجل يتأمل الضفدع، وقال بعد أن أطال النظر إليه: ما أرى في هذا الضفدع مزية على غيره من الضفادع في كل مكان.
قال «سميلي»: ربما، وربما كنت أنت خبيرًا بالضفادع، وربما كنت غير خبير، وقد تكون من الهواة في هذه الصناعة، أما أنا فعلى رأيي لا أتحول عنه، وهذه أربعون ريالًا أراهن بها على أنه يسبق لا محالة كل ضفدع في الإقليم.
وتريث الزائر الطارئ برهة يعيد فيها التأمل ويتدبر في أمره، ثم قال: إنني غريب هنا وليس عندي ضفدع من ضفادع الإقليم، ولكنني إذا اقتنيت ضفدعًا فسوف أراهنك عليه.
عندئذٍ قال «سميلي»: حسن ما تقول، حسن. دَعْ هذا الصندوق معك وسأمضي وآتيك بضفدع.
وعلى هذا أخذ الزائر الصندوق وأعطى سميلي الأربعين ريالًا وقعد ينتظر.
وبعد هنيهة قضاها في الانتظار والتفكير، مد يده إلى الضفدع فأخرجه، وفتح فمه وحشاه برش الصيد، حشاه حتى الذقن، وأرسله على الأرض. ومضى «سميلي» إلى المستنقع يدور حول الوحل برهة، حتى قبض على أحد الضفادع، وقفل به إلى الزائر الغريب فأسلمه إياه قائلًا: دونك هذا الضفدع إن كنت على وعدك، وضعه مع دانيال على سواء، وسأنادي: واحد، اثنين … ثلاثة، اجرِ، ويبدأ التسابق.
ولقد كان، وغمز كلاهما ضفدعه، فقفز الضفدع الجديد، وأما «دانيال» فجثم في مكانه وهز كتفيه، مثل الفرنسي الذي لا يعنيه ما يُدعى إليه، وضاع النداء على غير جدوى؛ فقد جثم «دانيال» كأنه سنديان راسخ في موضعه، فدهش «سميلي» وتأفف مشمئزًا، ولكنه لم يدرِ ما الخبر ولا جرم!
وقبض الزائر الريالات وانطلق لسبيله، ثم وقف عند الباب ولمس دانيال بإبهامه، وردد ما قال آنفًا: لعمري لا أرى في هذا الضفدع مزية على سائر الضفادع في كل مكان!
أما «سميلي» فقد لبث يحك رأسه وينظر إلى دانيال، ثم قال أخيرًا: تالله لا أعلم ماذا أصابه، وأحسبه قد انتفخ على غير ما أعهد، ثم أمسك به من عنقه ورفعه وهو يقول: ويحي، لعن الله سنانيري جميعًا إن لم يزن بهذه الحالة خمسة أرطال، وقلبه ظهرًا لبطن، فسقط منه ملء كفين من رش الصيد، فعلم دخيلة الأمر، وجنَّ جنونه، وأرسل الضفدع من يده، وعدا وراء الزائر الغريب يريد اللحاق به، فإذا هو قد اختفى بين الأرض والسماء.
•••
وسمع «سيمون هويلر» اسمه يُنادى عليه من الفناء الخارجي، فنهض مستجيبًا والتفت عند الباب إلى مَنْ يقول: مكانك أيها الضيف، إنني لن أغيب.
إلا أنني أرجوك المعذرة، فما كان لي أن أترقب من بقية أخبار ذلك المتشرد المخاطر «جيم سميلي» بيانًا نافعًا عن سيرة الأب المُوَقَّر «ليونيداس. و. سميلي» … ونهضت للمسير.
فلما التقيت «بهويلر» الودود الحفي عائدًا، إذا به يحذبني من عروتي ويستأنف قصته قائلًا: ولقد كان لسميلي بقرة صفراء عوراء بتراء ضئيلة كأنها القزم …
فقلت في رفق وهوادة: لعنة الله على «سميلي وبقرته» المُشَوَّهة، وحييت الشيخ تحية الوداع، وعدت أدراجي.