التصوف
منذ ظهر الإنسان في هذا العالم، مضى بعض بنيه يقيمون في حالة اعتكاف وزهد، أو انطواء مع نظر إلى السماء واحتقار للمادة والشهوة الحيوانية، كان هذا المعنى ساذجًا وبدائيًّا، ثم أصبح فلسفيًّا، أعني ثمرة المران والدُّرْبَة والرياضة، ومن آثاره الدعوة إلى القناعة والزهد والرغبة عن الماديات، وإكبار القوى الطبيعية والإلهية، وكان هذا يبدو في صور شتى، تابعة لأحوال البيئة وأشكال الحكم.
ولقد اختلف المفسرون في تفسير كلمة «التصوف» فمنهم من أرجعها إلى لبس الصوف الذي كان يؤثره المتصوفة على سواه مبالغة في الزهد والتقشف، ومنهم من قال إنها من «الصفاء» لما يقصد به من صفاء الروح، ومنهم من قال غير ذلك مما أفاضت في شرحه كتب اللغة ومؤلفات التصوف، وقد وُجِد التصوف في الأديان كلها تقريبًا عدا الوثنية؛ ففي البراهمية مثلًا نجد أن أعلى درجات الكهنوت هي درجة «النسك» التي لا بد أن يهيم فيها المتعبد على وجهه في الغابات شريدًا طريدًا، يقتات بالعشب وما إليه، حتى إذا ما جاز هذه المرحلة بنجاح سُمِّي «فقيرًا»، وخرج من إنسانيته وصفت روحه، وجاءت البوذية فأيدت ذلك بذكر أن الاندماج في «النفس الأولى» — أي الذات العلية — يجب له إنكار الذات والتأمل والزهد في الدنيا.
وظهرت في المسيحية مذاهب في التصوف كثيرة، على أيدي رهبان الأديرة المختلفة، فمنهم من جعلها انقطاعًا للعبادة، ومنهم من أشرك فيها بعض الأعمال الدنيوية على أن تتصوف إلى الخير، والخير وحده، ولما ظهر الإسلام ظهرت فيه طرائق في التصوف مختلفة ما يزال بعضها قائمًا بين ظهرانينا، وأشهر متصوفة الإسلام «شفيق البلخي» و«رابعة العدوية» و«الإمام الغزالي»، وعلى هذا كان التصوف يتلون بلون العقيدة الدينية للمتصوف؛ لأن لكل صوفي طريقته الخاصة في العبادة على أساس تلك العقيدة، وإن كانت جميعًا تتفق في الغاية، وهي «الوصول»، ومعناه في لغة المتصوفة الاتصال الروحي بالذات العلية.
ونحن نُؤْثِر أن نزيد الأمر جلاءً وبيانًا فنقول:
إن طريقة الكلام التي تصدت إلى شرح العقائد الدينية وإيضاحها مبرهنة على صحتها من طريق النظر؛ لم تصل — برغم تطور الحياة العقلية العربية — إلى المرتبة التي تطمئن إليها قلوب جميع المسلمين، ومن أجل هذا نزعت نفوس كثيرة إلى التعرف بالخالق والاتصال به، لا من طريق النظر العقلي فقط، بل بواسطة المشاهدة أيضًا، فعمدت إلى المجاهدة في سبيل الوصول إلى تلك الغاية العظمى بمحو كل ما يحول دون ذلك من العوائق المادية، وهتك الحجب القائمة بين عالمي الملك والملكوت، وإن المسلم الورِع لشديد الحاجة إلى التقرب من خالقه؛ ليتمكن من القيام بخدمته على قرب منه، وليحظى بمشاهدته ويسعد بمعرفته في حالة مباشرة لا تحتاج إلى وساطة شرع وإعمال عقل في تكوين برهان على وجوده وبيان في حقيقته.
ما قام هذا الإحساس، وما ظهرت تلك الحاجة في بعض النفوس بعد أن تكون علم الكلام «التوحيد» ووصل إلى الحد الذي انتهى عنده النظر العقلي، بل ظهرت علامات ذلك منذ بدأ الإسلام، يظهر جليًّا، ونمت نموًّا متواصلًا بما عرفه المسلمون من الورع المسيحي والزهد الهندي وما دعت إليه تطورات المدنية المتأثرة بمدنيات الأمم القديمة في العموم، فنشأ عن ذلك كله نظريات دينية وآراء فلسفية عُرِفت باسم «التصوف» وعُرِف أصحابها باسم الصوفيين، قال ابن خلدون في مقدمته: «هذا علم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف، ولما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختُصَّ المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.»
ولقد اختلفت آراء الباحثين في أصل هذه التسمية، فمنهم من أرجعها إلى الصفاء، ومنهم من أعادها إلى «الصُّفَّة»، لكن خطأ هذا واضح لعدم صحة الاشتقاق بناءً على مخالفة القياس اللغوي، ويرجح رجوعها إلى «الصوف»، ونص السهراوردي في عوارف المعارف على أن المتصوفة خالفوا الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف، وقد جرى أيضًا على هذا الرأي ابن خلدون، وأخذ به «نولدكه» مخالفًا في ذلك رأي «مركس» القائل بالرجوع في هذه التسمية إلى كلمة «صوفيا»، وقد جرى على رأي «نولدكه» جمهور من المستشرقين، وأخذ جرجي بك زيدان برأي مركس في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية.
وغرض المتصوفة الوصول إلى الحقيقة من طريق الاتصال بالذات الأقدس ومشاهدته، والحقيقة عندهم هي ذات الباري، وطريقهم إلى ذلك التفاني في محبة الذات الأقدس إلى درجة يسقط عندها التكليف بين المحب والمحبوب.
ولذلك رأوا أن وسيلتهم إلى ذلك لا تكون إلا بالنأي عن كل شيء سواه، فتورعوا وزهدوا في جميع مظاهر الحياة الدنيا، واجتنبوا الملاذ واعتزلوا الناس لترويض النفس بالجوع والذكر، وغير ذلك من أنواع المجاهدات.
وإن الصوفي لينقطع بهذه المجاهدة الروحية والرياضة النفسية عن عالم الحس شيئًا فشيئًا، ذلك العالم الذي يعده من العوائق الكلية عن الوصول إلى السعادة والغبطة في مقام الشهود، ولهذا يتمنى المتصوف لو أن حواسه الخمس تقل عدًّا، على خلاف ما كان عليه الإغريق من تمني الزيادة في عدد تلك الحواس؛ كي يتمكنوا من إدراك أكثر مما أدركوا من جمال الوجود وأسرار الكون العام.
هذا، ويتبع هذه المجاهدة والرياضة بالخلوة والذكر في الغالب شيء من الكشف عن الروح ليس لصاحب الحس إدراك شيء منه، ويتزايد هذا الكشف من وقت إلى آخر ومن درجة إلى درجة بملازمته طرق الرياضة حتى يصير كما يظنون شهودًا، وهنا تصل نفس الصوفي إلى الدرجة القصوى والاستعداد إلى الإدراك الكلي، فيتلقى عندئذ المواهب الربانية والعلوم اللدنية وينكشف له كثير من حقائق الوجود التي لا تُدرك بالحس والنظر.
ويُعْرَف عن الصوفية أن الواصل منهم إلى هذا المقام يتجلى له أمر المستقبل، فيعرف كثيرًا من الحوادث قبل وقوعها، وبذلك يمكنه أن يتصرف بهمته وقوى نفسه في الموجودات السفلية، والعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يخبرون بشيء عنه ولم يؤمروا بالتكلم فيه؛ لأنه قد يكون لهم من قبيل المحنة والابتلاء.