الروحية من وراء المادية
هناك قوة أو حياة روحانية خلف الحياة المادية الظاهرة. وهنا يقول الأستاذ أحمد أمين بك: إن كنت ذا مزاج علمي فانظر الله في هذا النظام العجيب الدقيق في العالم، من أصغر ذرة إلى أرقى قسم، من الحصاة إلى الجبل، من البذرة إلى الشجرة، من الحشرة إلى الإنسان، من السديم إلى الشمس، من الأرض إلى السماء، تجدها كلها مكونةً تكوينًا واحدًا في ذراتها، خاضعةً لقوانين واحدة في سيرها، فلم يخبط منها شيء خبط عشواء، ولم يَسِرْ منها شيء حيثما اتفق، إنما هو النظام الدقيق والقانون المحكم والعقل الكلي المسيطر على الجميع، ولو كان العالم وليد الاتفاق البحت والمصادفات المفاجئة لاختل نظامه وما بقي لحظةً.
وكلما تقدمنا في العلم تقدمنا في اكتشاف القوانين، وما لم ندرك قوانينه فجهل بها لا خلو منها، ولولا هذه القوانين المنظمة الشاملة المبثوثة في العالم والتي يخضع بها خضوعًا دقيقًا لم يكن شيء اسمه العلم ولكان العلم مستحيلًا، فليس العلم إلا طائفةً من القوانين لجزء من أجزاء العالم، ولكانت الفلسفة مستحيلةً، فليست الفلسفة إلا اكتشاف القوانين الكلية للعالم، ولا شك أن العالم محكوم بقوانين معقولة يتجاوب معها عقلنا، وإلا كان الفهم أيضًا مستحيلًا.
وأعجب ما في هذا النظام قوة ارتباط أجزاء العالم ارتباطًا يجعله وحدةً، فإن رأيت طفلًا بلا أسنان فثم لبن، وإن نبتت أسنانه فثم ما يمضغ وإن رأيت معدةً فثم أسنان، وكل مجموعة من خلايا الإنسان تقوم بوظيفة لا يقوم بها غيرها. فأنت إن قلت نظام شامل وقوانين شاملة ووحدة كاملة وعقل مبثوث في جميع الأجزاء فقد قلت: «الله»، وإذا قلت: «الله» فقد قلت كل شيء.
أخذني شيخي من يدي وأجلسني في إيوان ومد يده فأخرج كتابًا وأخذ يقرأ، فتطلعت إلى معرفة هذا الكتاب، فلمح الشيخ هذه الحركة فقال لي: يا أبا سعيد «إن مائة وأربعة وعشرين ألف نبي بُعثوا ليعلموا الناس كلمةً واحدةً وهي «الله»، فمن سمعها بأذنه فقط لم تلبث أن تخرج من الأذن الأخرى، أما من سمعها بروحه وطبعها في نفسه وتذوقها حتى نفذت إلى أعماق قلبه وباطن نفسه وفهم معناها الروحي فقد انكشف له كل شيء.» إن الذين يكتفون بذكر اسم الله من غير عقل ولا قلب، ومن غير تفكير وتذوق، كمريض يعالج مرضه بترديد اسم الداء من غير أن يشرب نفس الدواء.
وإن كنت ذا مزاج فني فانظر الله في جمال العالم، وفكر في القوة التي نشرت هذا الجمال في كل شيء في اتساق وانسجام، انظره في جلال البحار وعظمة الجبال، وفي جمال الشمس تطلع وفي جمالها تغرب، وفي جمال الأشكال والألوان، في هندسة المحار، في شرشرة أوراق الأشجار.
إذا رق شعورك اهتز قلبك للصباح الباكر وجماله وجوه وأرضه وهوائه، وتشربته في لذة كما تتلذذ الماء البارد على ظمأ، وخفق للبحر وأمواجه وحركاته كأنه يجري في عروقك، وراعتك السماء ونجومها حتى كأنك تسكر من تردد النظر إليها، وغمرك زهو بهذا العالم كأنك وارثه ومالكه، وطربت من نغمات العالم، فخفق قلبك يناغمها، وأحببت العالم وما فيه ومن فيه، لأنه مصدر هذا الجمال الذي يبهرك وأحببت نفسك، لأنك تحب هذا الجمال، وأخيرًا انبعثت من أعماق نفسك كلمة «الله» تغذى بها هذا الشعور الفياض المتموج ناشرًا هذا الجمال، ولم تجد خيرًا من أن تقرأ قوله تعالى: فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
هذا العالم بروحانيته العقلية وبروحانيته الفنية كتاب مفتوح للناس جميعًا، لا فرق بين متعلم تعلمًا عاليًا وغيره، بل قد يستفيد منه الأمي أكثر من المتعلم، والأمر يتوقف على الاستعداد وحسن التذوق وحسن التوجيه، وقد يستفيد إنسان من نظرة في حجر أو زهرة أو شجرة أو ثمرة ما لا يستفيد من معلم أو كتاب.
وكثير من الناس يخشون الآن كلمة الروحية، وخاصةً المتعلمين ودعاة الإصلاح، وقد يرون أنها ضرب من الرجعية ومن آثار القرون الوسطى، والذي دعاهم إلى هذا أنه إذا ذُكرت الحياة الروحية ذهب خيالهم إلى الأديرة وسكانها، والتكايا المنقطعين إليها، ورجال الذكر والموالد والمشعوذين من رجال التصوف، والدجالين من المنجمين وأمثالهم ممن هم عالة على الناس، فهذه الروحانية المزيفة، إنما نعني بالحياة الروحية حياةً تؤمن بأن هذا العالم ليس مادةً فحسب، وأن سيره لا يمكن أن يُفسر بقوانين «داروين» وحدها من الانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، وبقاء الأصلح، فإن هذا إن صلح تفسيرًا للتطور فلن يصلح تفسيرًا لحياة الخلية وحياة العالم، ففينا بجانب المادة روح، وفي الأحياء روح، والله من ورائهم محيط.
وهذا الروح الأعلى هو الذي أودع في العالم قوانينه، ونشر فيه جماله، واتصال الإنسان بهذا الروح يسمو به، ويُعلي من شأنه، ويرفع من ذوقه.
لعل أسمى ما قرره الإسلام ودعا إليه «الوحدانية» ولذلك كان شعاره دائمًا «لا إله إلا الله»، فالله خالق كل شيء من سماء وأرض وجبال وبحار وأشجار وحيوان وإنسان، هو رب العالمين لا رب غيره، وهو القادر على كل شيء، مدبر الكون وواضع قوانينه ومؤلف نظمه، وهو العالم بكل شيء: وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، كل شيء في الوجود يستمد منه وجوده وحياته، لا خلق إلا خلقه، ولا قوة إلا قوته، هو الحق وهو العدل، وهو المثيب على الخير والمعاقب على الشر: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
هذه العقيدة بالوحدانية تُكسب معتنقها قوةً وعزةً، فالله وحده هو القوي وهو العزيز، ليس الناس كلهم إلا خلقه، متساوين في الخشوع لقوته، والانقياد لإرادته، هو وحده المعبود، وهو وحده المستعان: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، ومعتنق الوحدانية ليس عبدًا لأحد إلا الله، فهو في العالم حر؛ لأن العالم ليس له إلا سيد واحد وهو الله، وأما باقي الناس فإخوة متساوون، فعقيدة الوحدانية كما تتضمن سيادة الله وحده تتضمن أيضًا أخوة الإنسان للإنسان، فلا سيادة أجناس، ولا استعباد ملوك، ولا استبداد طغاة، ولا اعتزاز بنسب أو مال أو جاه أو قوة، ولا خضوع لمن يريد أن يتصف بصفات الله زورًا، من بسط سلطان وفرض حماية ومحاولة استعباد، إن حاول أحد ذلك قال المؤمن: «لا إله إلا الله» مدركًا معناها رافضًا ما عداها.
عقيدة الوحدانية تُشعر الإنسان بالنبل والسمو، فخضوعه لله وحده يُشعره بالتحرر من سيادة أحد عليه، سواء في ذلك سيادة الناس أو سيادة قوى الطبيعة، فليس النيل معبودًا تُقدم إليه الضحايا، ولا العواصف والنجوم والشمس والقمر مما يُخشى بأسها، ولا يخضع للظلم؛ لأن الله نهى عن الظلم وعن طاعة الظالم أيًّا كان، وهو لا يخضع لجبروت من أي صنف، لأنه ليس لأحد حق الجبروت، ولكن له حق الأخوة.
إن الذي يريد أن يستعبدنا يريد أن يكون إلهًا و«لا إله إلا الله»، والذي يريد أن يكون سيدًا طاغيًا يريد أن يكون إلهًا, و«لا إله إلا الله»، والحاكم الذي يريد أن يذلنا يريد أن يكون إلهًا و«لا إله إلا الله»، إنا لا نقبل من إنسان أيًّا كان ولا من أمة أيًّا كانت إلا أن يكون أخًا أو يكونوا إخوة، فأما السيادة والاستعباد فلا؛ لأنه لا إله إلا الله، إنا لا نقبل أن نشرك مع الله أحدًا غيره مهما كانت منزلته، ولو كان نبيًّا مرسلًا، فلا نتقرب بالنذور إلى الأولياء، ولا نمنحهم شيئًا من القداسة، ولا نعظم الحكام تعظيم عبادة، ولا نخضع لهم خضوع ذلة، إنما نطيع فيهم العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا وحده هو الذي يتفق ولا إله إلا الله، ليس يستعبدنا المال ولا الجاه ولا القوة، لأنها أعراض زائلة وليست من الألوهية في شيء ولا إله إلا الله.
والوحدانية الخالصة — مع بساطتها ومعقوليتها — من أصعب الأمور على النفوس تحتاج في اعتناقها إلى نوع من السمو، كما تحتاج إلى حياطة تامة حتى لا تشوبها شائبة من وثنية، لأن الناس سرعان ما ينزلقون إلى الشرك.
اليونانيون ألهموا قوى العالم، والفرس اختصروا الآلهة إلى اثنين: إله الخير وإله الشر، وجعلوهما يتنازعان، والعرب ملئوا الكعبة أصنامًا، فلما أتى الإسلام وحطمها ودعا إلى الوحدانية الخالصة وجعل لا إله إلا الله شعارها في كل مناسبة؛ في الأذان، في الصلاة، في كل عارض، لم تلبث بعض النفوس أن تسربت إليها الوثنية في أشكال خفية؛ بدأ بعض المسلمين يعظمون شجرة بيعة الرضوان، فقطعها عمر، وبدأ بعضهم يعظم أهل بيت الرسول تعظيمًا يقرب من العبادة، فنهاهم علي، ثم سال سيل الوثنية على الأيام، وامتلأ العالم الإسلامي بأقطاب يتصرفون في الكون تصرف الله، وأُقِيمت الأضرحة تُقدم إليها النذور ويُسْتَشفع بها ويُتقرب إليها كأنها آلهة، وانقلبت الخلافة إلى ملك عضوض، فالحكام كانوا يأمرون ولا راد لأمرهم، ويتصرفون ولا معقب لحكمهم، وذهب معنى أخوة الحاكم للمحكوم، وحل محله نوع من الألوهية، واستعبد الناس من ناحية الدين، واستعبدوا من ناحية الدنيا، وذهب معنى «لا إله إلا الله» إلا من قلوب الخاصة.
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ۗ أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ.
لكل زمن وثنية، ولكل حضارة أصنامها، حتى هؤلاء المثقفون المتعلمون العاقلون الذين يهزءون بعبدة الأحجار وعبدة النجوم قد يحجبون هم أنفسهم عن الوحدانية بضروب دقيقة من ضروب الوثنية.
إن المذاهب السياسية من ديمقراطية وفاشية واشتراكية وشيوعية مؤسسة عليها وناظرة إليها، والنظريات الاقتصادية مشتقة منها ومتفرعة عنها، والإنسان يشقى بهذه الآلات لتأليهها، وكانت تكون نعمةً عظمى ومصدر سعادة كبرى لو نُظِر إليها في ضوء وحدانية الله بشقي معنييها من تأليه الله وحده وما تستلزمه من أخوة الإنسانية، وبعدُ فما أكثر من يقول: «لا إله إلا الله» وما أقل من يعتنقها!