هل أنت روحاني؟
يقول «آرثر ترين» في مجلة «سكربنر»: قليل منا من تواجهه بعض تجارب تافهة أو محيرة تشبه ما يكون في سجلات جمعيات المباحث الروحانية، وقد رأيت عددًا منها كان له أثر بالغ في نفسي حين وقوعه وجعل بعض صحابي يعدونني «روحانيًّا»، ولكني كنت محاميًا قد مُرِّن على الدقة في تمحيص الأدلة وتحليلها فلم تقنعني هذه التجارب بأن في نفسي قوًى روحانية.
عرفت بعض المعرفة صبيًّا اسمه تايلرمورس أيام طفولتي في بوسطن، ولم أره بعد ذلك ولا خطر ببالي، حتى قرأت عَرَضًا — بعد انقضاء حوالي أربعين حولًا — أنه انتقل إلى نيويورك، وأنه كان حكمًا في معرض كلاب بجهة ما في لونج أيلاند، وللمرة الثانية بدا لي أن تايلرمورس غاب عن ذاكرتي الواعية بتاتًا، ومضى ما يقرب من خمس سنين، فبينا كنت أسير في نيويورك أخذت أفكر فجأةً في تايلرمورس، ثم أخذ شعوري بأنه قريب مني يزداد شدةً، وما أن اقتربت من الشارع التاسع والخمسين حتى ظهر تايلرمورس من معطف الشارع يقود كلبين في سلسلة.
انعقدت منذ حوالي خمسة عشر عامًا أواصر الصداقة بيني وبين اللورد مونتاجيو أوف بوليو، وزرته في مقامه في بوليو آبي بمقاطعة هانتس، ثم تراسلنا الحين بعد الحين، حتى تزوج للمرة الثانية وأرسل إليَّ صورةً شمسيةً لليدي مونتاجيو الجديدة، ولكني لم أتلقَّ منه بعد ذلك شيئًا حتى تُوُفِّي في سنة ١٩٢٩، وفي ربيع سنة ١٩٣٢ بينما كنت أسير أنا وزوجتي في نيويورك مضينا نتحدث عن رحلة أزمعنا القيام بها إلى إنجلترا، ولم أكن قد فكرت في مونتاجيو مدة أربع سنوات، ومع أني لم أكن قد قابلت الليدي مونتاجيو الجديدة قط، فإن ما كنت أحتفظ به من ذكريات جميلة لصداقتي بزوجها اقتضتني أن أقول: إن أغلب من كنت أعرفهم في إنجلترا لم يبق منهم أحد حيًّا، فإذا قمنا بهذه الرحلة فإن علينا أن نذهب إلى بوليو آبي لزيارة الليدي مونتاجيو.
ولما عدنا إلى منزلنا بعد ذلك ببضع دقائق وجدت كتابًا من الليدي مونتاجيو تذكرني فيه بسالف صداقتي لزوجها، وتخبرني بأنها مقيمة في أمريكا، وهو شيء كنت أجهله كل الجهل.
ولا أراني أميل إلى أن أرجع هاتين الحادثتين إلى الإيحاء العقلي أو إلى كشف الحجاب، بل إلى مجرد الصدفة، ولا يجب أن يعزب عن بالنا أنه إذا كانت الأفكار تتراكض في سرعة هائلة كسرعة الضوء، فليس من المستغرب أن تتطابق هذه الأفكار أحيانًا، وأنه لا يكفي أن تحصى مرات «الإصابة» دون مرات «الخطأ»، فإن تطابقها مرتين خلال ستين عامًا لا يُعد رقمًا عاليًا.
ومنذ حوالي ست سنين، رأيت رؤيا واضحة تمام الوضوح، فقد رأيتني جالسًا في حفل كبير ويدي اليمنى على ذراع المقعد، وإذا طير في حجم الببغاء قد حلق فوق رءوس المدعوين، وجهه وجه امرأة ناصع البياض، ذو شفتين حمراوين قانيتين، ثم أخذ يحوم حولي، وأخيرًا استقر على رسغي، وأمال رأسه ناحيتي وحملق فيَّ، ثم قال: «اسمي ولهلمينا.»
وقصصت رؤياي على زوجتي ونحن نتناول الإفطار صباح اليوم التالي، فسألتني: «أبين من تعرف امرأة اسمها ولهلمينا؟» أجبتها: لا أعرف إلا ملكة هولندا، وفي اليوم نفسه رغبت إلي زوجتي أن أصحبها لمشاهدة هوديني الساحر الشهير، ولما لم أكن قد رأيت ألعابه من قبل، فقد وجدت في نفسي إقبالًا على مشاهدته، فلما رُفع الستار، جاء هوديني إلى مسرح خال، وفرقع بأصابعه، فطار من الأجنحة إلى المسرح سرب من الحمام، وبعد أن حلق فوق رءوس الحاضرين عاد أدراجه إلا حمامةً واحدةً، حمامةً كبيرةً متميزةً ذات وجه ضارب إلى البياض، وجعلت تحوم حولنا، وهي تهبط شيئًا فشيئًا، ومد الساحر ذراعه اليمنى فاستقرت عليها، ثم دنا من أنوار المسرح الأمامية والحمامة مستقرة على رسغه وأدار ذراعه حتى خُيِّل إليَّ أن الحمامة إنما تحُدق فيَّ، ثم قال: «اسمها ولهلمينا.»
عند ذلك اعترتني رعدة، سرت في مفاصلي، وسألتني زوجتي: «هل رأيت هوديني يقوم بهذا الدور من قبل؟» فأجبتها صادقًا: «لم أره يمثل أدواره من قبل، بل لم أرَ مثل هذا الدور من قبل، بل لم أسمع به.»
وتُوُفِّي والدي لخمسين سنة خلت، وكان محاميًا شهيرًا، وكنت يومئذ في الثامنة من عمري، وكانت عادتنا أن نقضي إجازتنا في نزل خشبي بسيط في بعض الجبال، إذ أقمت مع أبي وأمي في حجرتين متصلتين، وكان ملازمًا لفراشه عدة أسابيع، ولكن لم يكن خطر ببالي أنه مريض مرضًا خطيرًا، وفي ليلة هادئة الريح، كنت مستغرقًا في النوم عدة ساعات وإذا بي أصحو على صوت ثلاث طرقات على باب والدي، تملكني الذعر وناديت أمي خلال الباب المفتوح بين الغرفتين: «بالباب طارق يا أماه»، ففتحت أمي الباب المؤدي إلى الردهة من فورها، وكانت هي أيضًا قد سمعت هذه الطرقات كما سمعتها الممرضة، ولكنها لم تجد أحدًا، ولم أكد أجمع شتات نفسي لأعاود النوم حتى تكررت الطرقات الثلاث ولكن على باب غرفتي، فنفضت والدتي الردهة بنظرها مرةً ثانيةً، ولكنها كانت خاليةً كما كانت من قبل، أغلقت الباب وجاءت إليَّ ووقفت إلى جانبي، ولم تكد تفعل ذلك حتى سمعنا للمرة الثالثة ثلاث طرقات على باب غرفة والدتي، فقفزت من فراشي مذعورًا وأجلت بصري في الردهة المضاءة وأنا أرتعد، وأنا أقطع في غير شك أو تردد بأن الردهة كانت خاليةً ليس بها أحد، وإذ أخذت أعود أدراجي سائرًا على أطراف أصابعي همست الممرضة وهي جاثية على والدي: «لقد مات مستر ترين.»
إني أعرض الحوادث السالفة في صدق وأمانة، وهي صحيحة من كل وجهة على قدر ما يسمح به قصوري الشخصي كشاهد، وأزعم أنه قد يُغْتفر لي اعتقادي بأني «روحاني»، أو أن عقلي الباطن — على الأقل — كان على اتصال في تلك الأوقات بعقل آخر، سواء أحيًّا كان صاحبه أم ميتًا، على أني لا أعتقد — وإن كانت جميع العوامل غير معروفة لنا — أن تلك الحوادث لا تقبل التفسير العلمي، وفي غير حاجة إلى اللجوء إلى فرض الإيحاء العقلي أو كشف الحجاب، بل إني مستعد أن أعزو ما تخيلته من طرق على باب غرفة والدي حين حضرته الوفاة على حالة الصبية أو حساسية حادة مرهفة في ذاك الوقت لسماع الأصوات المادية، الطبيعي منها والعارض، ولكن حادث ولهلمينا يُعْيِيني تفسيره، غير أن هذا لا يحملني على أن أسارع إلى نتيجة الرأي القائل بأني على اتصال بعوامل خارقة للعادة، بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول: إني أفضل أن أشك في صدق ما أجده، على أن أقبل تفسيرًا لا يتفق مع ما أثبتته التجارب الإنسانية واتجاهاتها بوجه عام، بل إني أوثر أن أدعها دون تفسير، على أن أقبلها دليلًا على كشف الحجاب.
إن مثل هذه الحوادث تنقصها عناصر أخرى، ولا يمكن الركون إليها، بحيث تعد مقدمات تُبنى عليها نتائج خطيرة.