فلسفة «يوج»
«يوج» معناه بالسنسكريتية الاتصال والانضمام، وهو اسم يُطلق في الفلسفة الهندية وديانتها على مذهب خاص، وخلاصة ذلك المذهب وتعليمه — كما هو عند جميع المذاهب الصوفية — الإصرار والتأكيد على أن هناك إمكانًا للاتصال المباشر مع الله، وذلك برفع مستوى الإنسان عن مستواه الطبيعي، ومتى ارتفع الإنسان إلى ذلك المستوى نال — عند أصحاب هذا المذهب — النجاة النهائية من جميع أدوار التناسخ، وعلى هذا يشتمل المذهب أساليب وقواعد ونظمًا وأصولًا يرفع التمرين عليها مستوى التمرن.
إن الأغراض الذاتية والعواطف الذاتية والعواطف الخاصة تحول دائمًا بين آلة العقل وبين الحقيقة الملهمة، فإذا أثرت شخصية الموضوع على طبيعة الآلة أصبح العكس ناقصًا، كذلك جهل المشاهد للمشهود يجمع دائمًا أوهامه حوله؛ لأن ميول المشاهد السائدة تتسلط في تلك الحالة على حقيقة المشهود، فتصوره له تصورًا خاطئًا، لذلك كان الخطأ لديهم في الحقيقة هو هجوم نقائص الآلة على الحقيقة، وبناءً عليه يحتاج الأمر إلى موقف معتدل مجرد عن الشخصية لاكتشاف الحقيقة، فإن ما يرجع إلى الشخصية يعارض الموقف الكاشف للحقيقة بطبعه طابعًا غير معتدل، والخروج عن الاعتدال فيه فوت الغاية ومرتع الضلال، فكيف يمكن إذن اتقاء هذا الضلال وصيانة عقولنا من الخيبة؟
يقدم مذهب «يوج» طريقًا لذلك، ويرشد به إلى تصفية العقل وتحسين المرآة، والطريق هو الاجتناب عما هو مختص بمكونات الشخصية، فيزف إلى الطالب مناهج يمكن له أن يرتفع بالعمل عليها إلى علو مستحكم الأسباب، تنعدم فيه شخصيته المكونة من عواطفه وهواه، وهو علو تقدر منه ذوات المواهب الخاصة على أن ترى رؤياهم البعيدة الغور رأي العين.
إن شعورنا الطبيعي يولي ظهره للعالم الأبدي غير المرئي ويضيع في العالم المادي الفاني منبوذًا بالعقل لأجل آثار الحواس، فحينما ترتفع عن ذاتنا الاختبارية لا نصل إلى سلبها بل إلى قوتها؛ لأن الذات إلى أن تكون مقيدةً بحوادثها الاختبارية لا تشغل عزيمتها كلها، فإن حدود تلك الحوادث المحصورة الضيقة تحول دون ذلك، ومتى علت الذات حدود الوجود الاختباري تقوت الحياة بأسرها فأحرزنا به غناء الذات أو تضخم الشخصية وجذب هذا الغناء أو التضخم إلى نفسه عالم التجارب بأجمعه، لأنه حين تحقق الذات شخصيتها في الأدوار الأولى بمركز معين ناشئ عن الحوادث الزمنية والمكانية لا يصبح عالم التجربة بأسره خاصًّا بها، لذلك يجب أن يغلب تماسكنا بدائرة ضيقة من التجارب، قبل أن نجمع في أنفسنا عالم التجربة بتمامه الذي مركزه ودائرته لله والإنسان، وحينئذ نصل نحن إلى الحالة التي لا فرق فيها بين الباطن والظاهر، فمذهب «يوج» يصر على أنه يجب أن يكبح المنظر الخارجي الباطل قبل أن تسنح فرصة الحياة والظهور للأمثل الباطني، ويجب أن نكف عن أن نعيش في عالم الظلال عيشةً مخدوعةً ضائعةً قبل أن نقدر على أن ننال الحياة الأبدية.
يشير به إلى أن عقل الإنسان الذي لم يعرف نفسه يتيه هنا وهناك كالماء المصب على قمة الجبل، ولكن متى عرف ذاته بصيانة عقله عن التأثير من محيطه المادي اتحد بعالم الحياة الراقي الذي وراء المظاهر المادية الفانية، فإن العقل إذا أُلقي حبله على غاربه تشتت وضاع في أخاديد الرمال من بيداء العالم المادي، فالواجب على الطالب أن يكبله ويسوقه إلى الباطن لينال به كنزًا مخفيًّا فيه.
يُنادي المذهب «يوج» بأنه يجب علينا أن نقهر نطقنا ونحوله إلى الإحساس، والإحساس إلى الفكر، والفكر إلى الشعور العام، حينئذ فقط نقدر به على أن ندرك عمق الطمأنينة الموجودة في السرمدي، إننا لا يمكننا أن نبلغ العلو المنشود إلا إذا هدأت المصادر الخمسة للعلم وهي الحواس، وسكن العقل والفهم، والطريق لارتياد ذلك الهدوء والسكون هو تركيز أفكارنا وحواسنا في هدف واحد، ومحو الأهداف الأخرى، وتوجيه النفس بذلك إلى اتجاه جديد حر لا يلين للدواعي المختلفة العارضة لإخضاعها، فإن ما يضيع من قوى الفكر والفهم لدى الإنسان، ويبيد استعداد نفسه، هو توجهه إلى الأهداف الكثيرة وتصادمها المنتج له الفرح والترح بأهداف أخرى في المجتمع البشري.
هكذا يبين لنا مذهب «يوج» طريقًا للسيطرة على النفس والحواس والعقل والفهم، وذلك للسلوك نحو الكمال. ودرجات المسلك ومنازله ومخاطره مذكورة مشروحة في كتبهم، لا يسمح لنا المجال بالاسترسال في بيانها هنا، ففلسفة «يوج» هي في الحقيقة سعي الهنود المنظم لبلوغ الكمال بالاستيلاء على العناصر المختلفة في طبع الإنسان سواء أكانت نفسية أم جسدية.