القضاء والقدر
أصدر الفلكي العالمي كميل فلامريون كتاب «أسرار الموت»، وفي هذا الكتاب قال فلامريون: من حوادث الاطلاع على المستقبل أن زوجة الجنرال الروسي جوتسكوف حلمت سنة ١٨١١ كأن والدها — وكان حيًّا — جاءها ممسكًا بيده أخاها الوحيد، وقال لها وسِمات الحزن ظاهرة على وجهه: «انتهى عهد هنائك يا بنية، فقد سقط زوجك صريعًا في بوودينو.» فانتبهت مذعورةً ثم تماسكت وزال خوفها تدريجيًّا لما رأت زوجها نائمًا بقربها وهو على خير ما يكون من قوة وعافية مترابطة بأسبابها ونتائجها، فلا تكون نتيجة إلا وقد سبقها سببها، ولإرادتنا نصيب كبير في اختيار هذا السبب، فحريتنا الشخصية غير مفقودة بل تُعد عاملًا يُضاف إلى غيره من العوامل الخفية التي يتألف منها النظام الأعلى لترابط الحوادث والحالات بعضها ببعض.
صحيح أن للإنسان جزءًا من الحرية وجزءًا من الاختيار فيما يقوله وينويه ويأتيه وهذا الجزء له تأثير على قدره في مجرى الأحوال والحوادث، جزء لا يمكن أحدًا أن يدحض وجوده أو يحملنا على إنكاره، لأنه أمر وجداني لا سبيل لنفيه، فهو ثابت فينا ثبوت التصور والفكر والشعور، أنا الآن جالس على كرسي في مكتبي بين أوراقي ودفاتري، أحس تمام الإحساس بأني أستطيع أن أكتب أو أقرأ، أن أكتب في هذا الموضوع على تلك الصورة أو أقرأ كتاب كذا أو أقوم أو أقعد أو أترك مكتبي على الفور أو أبقى فيه ساعات متوالية وما إلى ذلك، هذه إحساسات واقع أثرها فعلًا، فكيف يصح أن أقول أو يقال لي إنك مع ذلك يا فلان ليس لك شيء من الحرية والاختيار في قراءتك وكتابتك وقيامك وقعودك ولبثك طويلًا أو يسيرًا في مكتبك، وإذا قيل لي إن هذا الاختيار الذي يبدو لك هو ظاهر سطحي لا حقيقي، أجبت القائل: نعم إنه مثل وجود هذا الكرسي تحتي وهذا المقعد أمامي وهذا الباب عن يميني، إلى غير ذلك من الأشياء، فهل هي وهمية؟ كلا، لكنني لا أنكر أن حريتي فيما أنويه أو أفعله هي جزئية لا كلية مطلقة؛ إذ ينازع إرادتي في الشيء المقصود عوامل أخرى عديدة من طوارئ وميول وأخلاق، ومن تأثير الجو والمجتمع والعادة، وغير ذلك من سلسلة الأسباب العامة التي تتسلط على حوادث الكون، وتربط النتائج بأسبابها والمستقبل بالماضي، ولكنها تجعل أيضًا في جملتها حيزًا للإرادة البشرية، فإذا قيل: لو كان للإرادة البشرية شيء من التأثير لتحولت حوادث المستقبل المسطورة في لوح الغيب إلى شكل آخر حسب تأثير تلك الإرادة، إذا قال المعترض ذلك أجبناه: ومن أعلمك علم اليقين أن شكل الحوادث والحالات المسطورة في عالم الغيب ليس هو «الشكل الآخر» الذي نسبه إليه، ليس هو الشكل الذي عدلته قليلًا أو كثيرًا الإرادة البشرية، ولولا سلطة هذه الإرادة لكان الشكل المذكور منحرفًا عما هو عليه.
والصحيح عندي أن حرية الإنسان في إجراءاته ليست مطلقةً، ولكنها ليست معدومةً، وبمقتضى نصيبها من تلك المؤثرات يترتب على الإنسان التبعة الأدبية، هذا هو المذهب المتوسط الذي يُحاكي العقل والصواب في هذه المعضلة العظمى، وبهذا المذهب يمكن التوفيق ولو بوجه تقريبي بين حقوق الخالق وواجبات المخلوق، وإلى هذا المبدأ أشار المثل اللاتيني القديم القائل: «إن أعنت نفسك فالله يعينك.»
ولو كانت حرية الإنسان مستقلةً تامةً، وخياره مطلقًا، لم يبقَ معنًى للقدرة الإلهية أو لناموس الأكوان العام وأحكام القضاء والقدر، ولو كانت حرية الإنسان معدومة ولا أثر البتة لإرادته لما بقي معنًى لمؤاخذته، ولم يكن فارق أدبي بين وجوده ووجود الجمادات، بل لكان من الأوهام الصبيانية والخزعبلات تفرقتنا بين الخير والشر وبين الفضيلة والرذيلة، وهل من فوضى أهول وأفظع من هذه الفوضى التي تسود الأرض والسماء يومئذ.
لا شك أن لكل إنسان مصيرًا، وأن مصيره هو نتيجة أسباب عديدة ومؤثرات وفي جملتها إرادته ومساعيه، ولا شك أن كل حادث كبير أو صغير يحدث في العالم تقدمته أسباب وبواعث في سلسلة متصلة الحلقات، وهذه السلسلة لا بد من حصولها ولو اطلعنا في حاضرنا على ذلك الحادث الاستقبالي.
ومهما بلغ اعتقادك في القضاء فلا أظنك تستسلم إليه وتقول: إنه واقع لا محالة كيفما كان الأمر، بحيث إنك لا تلجأ إلى الطبيب، حين يقع ابنك أو أخوك في مرض شديد، وبحيث لا تستغيث برجال المطافي، حين تبدو علامات الحريق في بيتك، ومساعيك هذه حلقات في سلسلة الأسباب لوقوع ما سيقع، ولا تنسَ أن الحرية الجزئية أو الحرية النسبية التي ينعم بها كل إنسان، يتفاوت مقدارها في الشدة والضعف على قدر ما في المريد من جوهر روحاني وما يطرأ عليه من المؤثرات الخارجية، وقد يكون للمرء الواحد في أمر من الأمور حرية نسبية تزيد أو تنقص عن حريته النسبية في أمر آخر.
ثم إن ما نسميه قضاءً وقدرًا في هذا الكون ليس من الصواب أن نتصوره قوةً عمياء تتخبط في سبيلها، بل هو خاضع للنظام الكوني الأعلى في الأسباب والنتائج، وبهذا الاعتبار يجدر بنا أن نسميه «الوجوب الأعلى» أو «القوة التتميمية العليا» إذا كان بعض الناس يفهمون من اسم «القضاء والقدر» معنى التحكم والتنفيذ الاستبدادي، وبين المبدئين فرق ظاهر.
وعلى أن الزمان ليس له قوام ثابت بحد ذاته، فهو شيء نسبي اصطلحنا عليه، لأننا محتاجون إليه في معايشنا وفي اتخاذ مقياس لحوادثها، الزمان عندنا ناجم عن دورة الكرة الأرضية، فلو كانت سرعة هذا الدوران ضعف ما هي عليه لكانت مدة كل يوم من أيامنا قدر نصف مدتها الحالية، ولولا دوران الأرض والكواكب لما وُجِد الزمان، كما أن الأوقات في كل كوكب من الكواكب تُخالف مددها في الأيام والشهور والسنين وذلك حسب سرعة دورة كل كوكب، فإذا علمنا ذلك، إذا علمنا أن الزمان شيء وهمي لا قوام له فكيف نهتم به ونجعل شأنًا عظيمًا لاعتباراتنا في ماضيه وحاضره ومستقبله، مع أن الثلاثة هي على مستوى واحد في نظر الحقيقة المجردة، ومن ثم فأية غرابة إذا استجلت القوة الروحانية اليوم أمرًا سيجري غدًا أو بعد غد أو بعد سنة أو بعد سنين، وليس هنالك مستقبل حقيقي لديها، بل هو مستقبل اصطلاحي ألفته قوانا الجسدية ولاءم قواها المحدودة.
هذا ما يقال عن الزمان بإطلاقه، وأما المكان المطلق فليس هو مثله، بل له وجود في ذاته، ومرجع وجوده هو إلى هذا الفضاء الذي لا ندرك تخومه.
كلا، لا علاقة بين ما علمته وبين حرية الرجل واختياره، فإن علمك بالأمر تابع لذلك الأمر، ولم يكن الأمر تابعًا في كثير أو قليل لعلمك المعجل به.