مراحل التصوف الإسلامي
قبيل الوحي المحمدي كان الرسول يتبتل ويتعبد في غار حراء مطلقًا روحه للتأمل والتفكر في بدائع الله وآياته الكونية صارفًا قلبه عن متاع الحياة وشواغل الوجود، ليتفرغ بقلبه وعواطفه للمناجاة والعبادة وتلمس المعرفة حتى كانت العرب تقول: «إن محمدًا عشق ربه.»
وبداية الأنبياء هي نهاية ما اصْطُلِح على تسميتهم بالصوفية الذين يقولون إن المجاهدة والمحبة، والفناء في معاني المحبة والعبادة تعد الروح للتذوق والتلقي وتوصل إلى العلوم والمعارف، فالمعارف — في اعتقادهم — كامنة في الروح البشري أصيلة في مادتها لا دخيلة عليها، والتغلب على الجسد بإعلاء مكانة الروح يمزق تلك الحجب ويرفع الظلمة التي تحول بين الروح والنور.
ويعبر الغزالي عن المعرفة بقوله: «إنها نور يُقْذَف في القلب.»
وقد كان الإمام مالك يقول: «ليست المعرفة بكثرة الرواية، ولكنها نور يضعه الله تعالى في القلب.»
وقد أثار التصوف جدلًا وحوارًا في الفكر الإسلامي، وأكبر الظن أن هذا الجدل أو هذا الحوار سيبقى خالدًا ما بقي الفكر، كما أوضحنا قبلًا.
والذين نقدوا التصوف الإسلامي وجهوا نقدهم الأكبر إلى أهداف ثلاثة:
فالفلاسفة وأصحاب المذاهب العقلية عابوا طريقته إلى المعرفة، وأنكروا أن يكون التفرغ والتجرد من متع الحياة والزهد في شهواتها ونعيمها سبيلًا إلى المعرفة، بل سبيل المعرفة عندهم هو تغليب أرقى أجزاء النفس على الحواس وهو يقصدون بذلك قوى العقل وإرادته، كما وصفوا الانتصار العقلي على الحواس بأنه أرفع مراتب السعادة، كما يقول ابن رشد.
وهم بذلك يؤيدون الصوفية أكثر مما ينقدونها أو ينقصونها؛ لأن في سعيهم إلى تغليب العقل نزوعًا إلى الصوفية وإن اختلف الوضع فنادوا بالعقل ونادى المتصوفون بالروح.
وعلماء الاجتماع ورجال الأخلاق تهكموا بالصوفية وأساليبها، وأسرفوا في التهكم والتجريح، لأنها في نظرهم لا تصلح للحياة العملية، ولا يقوم نظام المجتمع ولا يمكن أن تتأسس على نظمها الزاهدة الأمم.
وتلك شهادة للتصوف لا عليه؛ فهي تدل ضمنًا على أنهم لا ينشدون مظهرًا في الحياة ولا غلبةً في مضمارها، ولا يبغون مأربًا ولا يتلمسون مغنمًا من مغانمها، وإنما ينشدون طهرًا وقربًا من الله وفوزًا برضوانه وعبادةً للعبادة، بل إن التصوف الإسلامي جعل العبادة أصلًا والمعرفة فرعًا.
والصوفيون لا يقولون إن طريقهم للناس جميعًا؛ لأن المثالية لم تكن يومًا من الأيام شرعةً مباحةً لكل من يخطر بقدمين على الكوكب الأرضي.
وليس في استطاعة الناس جميعًا أن يكونوا ملوكًا، ولا أن يكونوا فلاسفةً أو أطباء مثلًا أو غيرهم من الطوائف والمذاهب العقلية والعلمية.
وأما الفقهاء وعلماء الكلام فقد هاجموا المتصوفة هجومًا عنيفًا، بل غالوا في هجومهم حتى رموهم بالمروق والضلال ومفارقة الشريعة وظاهر السنة.
وهنا يبدو موقف دقيق؛ ففريق من المتصوفة قد غالوا وأفرطوا كجماعة الحلوليين الذين قالوا بوحدة الوجود، وفريق آخر عبث بظاهر الشرع وأفرط في السبحات والوثبات والاستغراقات حتى تحلل من الفرائض والآداب.
ولكن التصوف الصادق لا يعترف بهؤلاء ولا هؤلاء، بل يبرأ منهم ويهاجمهم بأشد من هجوم الفقهاء أنفسهم.
اعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل والمدعي فيه كثير، ونحن نعرفك علامتين له، العلامة الأولى: أن تكون جميع أفعاله الاختيارية موزونةً بميزان الشرع موقوفةً على حد توقيفاته إيرادًا وإصدارًا وإقدامًا وإحجامًا، إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها، ولا يصل فيه إلا من واظب على جملة من النوافل، فكيف إليه من أهمل الفرائض، والسالك لسبيل الله يعرض عن الدنيا إعراضًا لو ساواه الناس بكلهم لخرب العالم.
فإن قلت: فهل تنتهي رتبة السالك إلى حد ينحط عنه بعض وظائف العبادات ولا يضره بعض المحظورات، كما نُقِل عن بعض المشايخ من التساهل في هذه الأمور؟ فاعلم أن هذا عين الغرور، وأن المحققين قالوا لو رأيت إنسانًا يمشي على الماء وهو يتعاطى أمرًا يُخالف الشرع فاعلم أنه شيطان وهو الحق.
وإذن فالغزالي يقرر بأن المتصوفين فئة خاصة، ولا يمكن أن يكون العالم على مثالهم وإلا لخربت الدنيا وتغيرت معالمها وفسد نظامها.
كما أنه يربط التصوف بالشريعة رباطًا لا ينفصم، فيجعل التمسك بقواعد الشريعة غاية السالك، فإذا خالف الشريعة ولو سار على الماء وطار في الهواء فهو شيطان.
إني علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصةً، وأن سيرتهم أحسن السير وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جُمِع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئًا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلًا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.
وماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها وأول شروطها تطهير القلب عما سوى الله تعالى ومفتاحها استغراق القلب بالكليَّة في ذكر الله وآخرها الفناء بالكلية في الله، وأول هذه الطريقة المكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
ينقسم التصوف الإسلامي إلى قسمين: قسم يتعلق بالتربية وتهذيب الروح ونبل الخلق والتحلي بالفضائل والمحاسن الأدبية، وهو ما اصطلح على تسميته بعلم المعاملة، وقسم يتعلق بالرياضة الروحية والعبادة وما فيها من نور وطهر وكشف وفيض.
والقسم الأول هو عماد فلسفة الغزالي الأخلاقية، بل هو عماد كتابه الأكبر «الإحياء»، الذي خَلَّد في تاريخ الفكر الإسلامي وخَلَّد به الغزالي «كحجة للإسلام» توضيح فضائله وأنواره.
وهو مادة دسمة لروَّاد الأخلاق، ومادة دسمة لمن يبغي إنسانيةً نبيلةً مهذبةً لا تعرف التخاصم والتنابز بالألقاب ولا تعرف الفسوق والجدال وسوء الخلق، وفيه تتجلى وتبرز معاني الحديث الشريف: «وإنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق.»
- المرحلة الأولى: مرحلة العمل الظاهر؛ أي مرحلة العبادة والإعراض عن الدنيا وزخرفها وزينتها والزهد في شهواتها والانفراد والعكوف على الذكر والاستغفار.
- والمرحلة الثانية: مرحلة العمل الباطني بتزكية الأخلاق وتطهير القلب وتصفية الروح ومحاسبة النفس ومراقبتها والتجمل بالأخلاق النبيلة والصفات الزكية.
- والمرحلة الثالثة: مرحلة الرياضة والمجاهدة التي يقول فيها الرسول: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» وبتلك المجاهدة يقوى سلطان الروح وتتحرر النفس من الأدران الأرضية فتسمو وتصفو حتى تنطبع فيها حقائق العالم وأسراره، وينسكب في القلب نور ينكشف به جمال العالم وجلاله ودقائقه وأسراره، فيرقُّ الحس ويتنبه الشعور ويستيقظ الإحساس فتكون حركة حياة في المشاعر عامةً، وتشعر تلك المشاعر بلذة عليا وعلوم نورانية تقوى في النفس حتى تصير لازمةً، ويتوالى الكشف للنفس وتُزَاح عنها الحجب شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى الأنوار العليا في عرفهم.
- أما المرحلة الرابعة: فهي مرحلة الفناء الكامل بوصول النفس إلى مرتبة شهود الحق بالحق، وانكشاف
العوالم الخفية والأسرار الربانية وتوالي الأنوار واللذة الروحانية.
وتلك المرحلة هي مرحلة الخطر، ومن أجلها نشبت المعارك، وأن يتذوق التصوف ثم يدرس أخلاقيات الغزالي فيتذوق نبل رسالته الأخلاقية وجلال شأنها.
وإن كان رجال التربية وأساتذة الفكر المثاليين يفكرون اليوم في إيجاد طبقة من الإنسانية ممتازة كاملة الرجولة قوية الحيوية سامية الخلق والفكر متلائمة التناسق ممن أطلقوا عليها اسم «سوبر مان»، أي الرجل الكامل أو الخلق الكامل، فقد وضع الغزالي منذ قرون الصورة الحقيقية التامة لهذا النوع الممتاز من البشرية السعيدة الطاهرة.
فإن المبادئ الأخلاقية النبيلة التي وضعها الغزالي وشرطها للمؤمن لجديرة بإيجاد مجتمع إنساني ملائكي فاضل سليم من الضغن والتنازع، بعيد عن الفحش والرذيلة.
وإن النظم التي سنها الغزالي ووضعها للمجتمعات وطرق اتصالها وتعاملها وعوامل اتحادها ومحبتها، لخليقة بإنشاء دولة أو عُصْبة من الأمم عالمية متحابة متعاونة متفانية في فضيلة واحدة، تهدف نحو وجهة عليا يرفرف عليها علم المحبة ويوحدها قانون الأخوة ويسعدها السلام الدائم للروح والقلب والأحاسيس.
ورسالة الغزالي الأخلاقية هي تطهير الجوارح تطهيرًا كاملًا عما يلوثها بين الفقهاء والصوفية، ومنها نشأ التيه لكثير من الصوفية؛ لأن من تزل قدمه هنا ضاع إلى الأبد.
وتلك المرحلة لا تُكْتب ولا تُوصف، لأنها خارجة عن نطاق التصور العقلي، والغزالي وهو علم الصوفية وكاتبها الأكبر لم يتعرض لها ولم يشغل قلمه بها، وإن كان لم ينكرها، بل تركها لأصحابها وأربابها.
ولكنه جال وأفصح في المراحل الثلاث السابقة ونثرها في كتبه نثرًا أشبه بالنور والعطر، واستمد منها روعة أسلوبه وروعة تهذيباته وروعة مبادئه التي جعلت من الحياة محرابًا أعظم لعبادة الله ودعوة عباده إلى الهدى والرشاد.
وقد تخصص الغزالي لآداب التصوف تخصصًا جعله نَسِيجَ وَحْدِهِ بين رجال الفكر الإسلامي؛ فقد مزج الشريعة بالتصوف، كما مزج العبادات بروح من التصوف أطلق فيها النور والروح إطلاقًا يبعث في القلب نشوة الإيمان ورعشة الخوف وفرحة الحس المطمئن إلى واجبه المقدس.
ودارس الأخلاق عند الغزالي، لا بد أن يدرس التصوف.