نشأة وحدة الوجود
زعم متأخرو الصوفية أنهم تلقوا وحدة الوجود عن بعض آيات القرآن، وهي تعبيرات الزهاد
الأولين، وعن قول الأشعرية بأن جميع الحوادث الكونية أفعال إلهية محضة، وعن عبارات البسطامي
والحلاج وأمثالهما من الوحديين الذين لم ينقصهم في هذا المذهب إلا الاسم الفني، ولكنهم
استمدوها في الحقيقة — فيما يرى الأستاذ ماسينيون — من مزج فكرة النور المحمدي، الذي
هو عند
الكثيرين مبدأ الخلق بفكرة العقل الفعَّال الهيلينية، ويقرر هذا الأستاذ أن ابن عربي
هو أول
من صرح تصريحًا قاطعًا بهذا المذهب وأعلن أن جميع الكائنات انبثقت عن العالم الإلهي الذي
سبق وجودها فيه — وهو المعروف بالثبوت — وجودها الخارجي، وأن الأرواح بعد الموت تعود
إلى
الجوهر الإلهي، وأن الفرغاني والجيلي لم يُدخلا على هذه النظرية إلا تعديلات طفيفة، وأنها
لا
تزال إلى اليوم عقيدة المتصوفين الإسلاميين، كما لا تزال موضع تغني الشعراء الفارسيين،
بل
إن الكوراني والنابلسي قد أهاجا في القرن السابع عشر سخط أهل السنة حين أعلنا أن وحدة
الوجود هو المعنى الصحيح الدقيق الذي ينطبق على وحدانية الإسلام، وأكثر من ذلك أن الجيلي
وابن عربي قد قررا أن «الشهادة» معناها حلول الإله في جميع مخلوقاته، وهذا ما يقتضي أن
تكون
مجموعة الكائنات في جميع أحوالها جديرة بالعبادة؛ ولهذا حكم الجيلي برد شرف إبليس، وحكم
ابن
عربي برد شرف فرعون.١
أما نحن فنرى أن من البواعث التي حملتهم على تشرُّب فكرة وحدة الوجود أنهم لما اعتقدوا
أن
أسلافهم قد اتصلوا بعالم الملكوت على إثر قطع علاقاتهم بالمادة أيقنوا أن المادة لم تكن
إلا
حجابًا بين الفرع الذي هو النفس البشرية والأصل الذي هو الإله، وإذا كان ذلك هكذا، كان
الكل
صادرًا عن الباري، وما عاد إلى مصدره استضاء، وما ابتعد أظلم، وما منشأ ظلمة المادة إلا
ابتعادها عن مصدرها الذي هو الكل الأوحد. ولا ريب أن هذا هو مذهب الأفلاطونية الحديثة
وقد
أدخل عليه المتأخرون منهم بعض تغييرات أخذوها من فرقتي الإسماعيلية والرافضة، مثل القول
بقطب الوقت المتصرف في شئون الكون وما شاكل ذلك، وفي هذا يقول ابن خلدون: «إن هؤلاء
المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير
منهم
إلى الحلول والوحدة وملئوا الصحف منه، مثل الهروري في كتاب «المقامات» له وغيره، وتبعهم
ابن
عربي وابن سبعين وتلاميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم، وكان
سلفهم مخالطين للإسماعيلية والمتأخرين من الرافضة المنادين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة،
وهو مذهب لم يُعرف لأولهم، فأُشْرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت
عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين، يزعمون أنه لا يمكن
أن
يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان.»٢
١
انظر صفحتي ٧١٧ و٨١٨ من المجلد الرابع من دائرة المعارف الإسلامية
الفرنسية.
٢
انظر صفحتي ٤١٢ و٤١٣ من مقدمة ابن خلدون.