تفصيلات عن أعيان المتصوفة
أوصل المؤرخون طبقات المتصوفين إلى عشرين طبقة، وذكر أسماء أفراد كل طبقة ومؤلفاتهم، ولما كان ما يعنينا هنا هم أشهر مشاهير للصوفية لا جميع أفراد طبقاتهم، فقد آثرنا أن نلم بأولئك الأفذاذ حسب ترتيبهم الزمني، مغضين عن الطبقات التي احتوتهم، وعن الأمكنة التي عاشوا فيها، وإليك هذه الإلمامات، بالإضافة إلى ما قدمنا عنهم قبلًا.
(١) سفيان الثوري
هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، وقد وُلِد فيما بين سنتي ٩٥ و٩٧ھ/٧١٣ و٧١٥م، ولما نشأ تلقى الحديث على والده الذي كان أحد مشاهير علماء الكوفة، والذي تُوُفِّي حوالي ١٢٦ھ، ولما تم الأمر لبني العباس كان سفيان أحد الذين أرادوا أن يعلنوا كراهتهم للحكم الحاضر برفضهم مناصب الدولة التي عرضتها عليهم السلطات الجديدة، وفي سنة ١٥٠ھ عرض أبو جعفر على سفيان منصب القضاء فرفض وفر إلى اليمن، ولكن حكومة بغداد جعلت تتعقبه، فأحس بذلك فارتحل إلى مكة، غير أن أمير مكة محمد بن إبراهيم تلقى أمرًا من الخليفة بتعقبه، ويقول بعض المؤرخين: إنه كان أمر بقتله، ولعل هذه إشاعة منشؤها أن الشعب في ذلك العهد كان يتندر في الخفاء بأوامر العباسيين قائلًا: إذا عثرت عليه فاصلبه! إلا أن النووي وابن حجر يؤكدان أنه كان أمرًا جدِّيًّا.
ومهما يكن من شيء فإن سفيان قد تنبه إلى ذلك قبل فوات الفرصة، ففر إلى البصرة، وفيها اختبأ في منزل أحمد بن سعيد، وهناك نصح له بعض أصدقائه أن يحسن علاقته بالقصر، وبالفعل بُدِئ في المفاوضات بينه وبين بغداد، ولكنه مرض قبل تمامها، وتُوُفِّي في شعبان سنة ١٦١ھ/سنة ٧٧٨م.
هذا هو ما يحدثنا به التاريخ عن ذلك المتنسك، ولكن حياته قد أُحِيطت بسياج من الخرافات.
ومن غرائب الأمور أن بعض المؤرخين يضعونه في الصف الأول ويقدمونه على مالك بن أنس، وأن الذهبي يدعوه بالحجة والثبت على الرغم من أنه كان من كبار المدلسين في عصره، فكان مثلًا يعزو بعض الروايات في الحديث إلى شخصيات عظيمة لم يتلقها عنهم، بل تلقاها عن وثائق غير موثوق بها، وقد ذكر لنا الفهرست عددًا من مؤلفاته كالجامع الكبير والجامع الصغير والفرائض، ولكن لم يبقَ شيء من هذه الكتب، ويروي بعض المؤرخين أن الثوري أنَّبَه ضميره قبل موته على هذا التدليس فكلف أحد أصدقائه بإحراق كتبه.
كان سفيان من كبار فقهاء عصره، بل إنه حاول إنشاء مذهب، ولكنه لم يوفق في ذلك، وكان من أهل السنة الذين يؤمنون بالصفات وبأن القرآن غير مخلوق، وبأن علائم الإيمان القول والعمل والنية، وأنه يمكن أن يقوى ويضعف، وأن أبا بكر وعمر مقدَّمان على «علي»، وله آراء أخرى مثل قوله بصلاة الجمعة والعيدين خلف أي إمام، وبالعناية باختيار الإمام في الصلوات الأخرى، وقوله بتفضيل الإسرار بالبسملة على الجهر بها وبجواز المسح على الخفين بدون ضرورة وبوجوب الخضوع للسلطان عادلًا كان أو ظالمًا.
على أنه لم يَرْتَبْ أحد في أنه كان يباشر التصوف العملي بين جماعة من رفاقه، منهم السيدة رابعة العدوية المتوفاة بالبصرة في سنة ١٣٥ھ.
(٢) المحاسبي
هو أبو عبد الله الحارث بن أسد العنزي، وقد وُلِد بالبصرة، ولم يحدد التاريخ الذي بين أيدينا سنة مولده، ولما نشأ تلقى الفقه على علماء الشافعية فكان أحد أعلامهم، وتبحر في علم الكلام وكان فيه من أنصار العقل، ولكنه كان يستخدم مفردات المعتزلة ومنطقهم لمهاجمتهم، وأخيرًا اعتزل الحياة العامة، وألقى بنفسه بين أحضان التنسك، بعد أن تأمل رَدَحًا من الزمن فيما هو قادم عليه، كما وصف ذلك بإسهاب في وصاياه، وقد اشتهر بالزهد القاصي في عصره، حتى لقد قيل: إنه كان إذا اشتهى لونًا من ألوان الطعام ومد إليه يده، تحرك في أصبعه عرق إنذارًا له، فيمتنع عنه، وقد أُطْلِق عليه لفظ المحاسبي لكثرة محاسبته نفسه على ما يأتيه من أعمال.
غير أن هذا الزهد لم يَحُلْ بينه وبين الاستزادة من العلوم الظاهرية والارتواء منها، بل إن مؤلفاته ومناظراته في علم الكلام قد احتوت من النظريات والمجادلات ما أحنق عليه فقهاء عصره كما حنقوا على جميع علماء الكلام، وقد ظهر هذا الحنق في حملة أحمد بن حنبل وأنصاره على أولئك العلماء، تلك الحملة التي كان من نتائجها أن اضطهد المحاسبي وانقطع عن المجالس العلمية العامة في سنة ٢٣٢ھ واعتزل الحياة كلها زهاء عشرة أعوام، وأخيرًا تُوُفِّي في عزلته في سنة ٢٤٣ھ/سنة ٨٥٧م.
أما مؤلفاته فمن أهمها ما يلي:
(أ) «الرعاية لحقوق الله» وهو كتاب في المبادئ التي يجب على المتصوفة اتباعها، وهو واحد وستون فصلًا في صورة نصائح مملاة على أحد المريدين، ويعد منهجًا كاملًا للإرشاد النفساني، وقد عكف الغزالي — قبل أن يؤلف كتاب الإحياء — على العمل بما فيه زمنًا طويلًا، وظلت تعاليمه ذائعةً في بيئات الصوفية ولا سيما الطريقة الشاذلية عدةً من قرون، رغم ما وُجِّه إليه من حملات الخصوم، وهذا الكتاب يوجد في مصر. (ب) «رسالة في المبادئ العشرة الموصلة إلى السعادة»، ويوجد في برلين. (ﺟ) «شرح المعادن وبذل النصيحة»، ويوجد في برلين. (د) «البعث والنشر»، ويوجد في باريس. (ﻫ) «رسالة في الأخلاق»، وتوجد في مكتبة محمد علي باشا الإسلامبولي. (و) كتاب «التوهم». (ز) «ماهية العقل ومعناه». (ﺣ) «رسالة في العظمة». (ي) «رسالة في فهم الصلاة».
شيء من آرائه:
غير أن هذا لم يمنع الأشعرية من أن يجلوه ويعدُّوه القبس الأول لمذهبهم الذي لم يجمد كما الذين لم يفرضوا للعقل وجودًا، ولم يسرف كما أسرف الذين نبذوا كل ما عدا العقل.
(٣) القشيري
ومن أشهر المتصوفة عبد الكريم أبو القاسم القشيري المولود في سنة ٣٧٦ھ في خراسان من أسرة يرجع تاريخ استقرارها في تلك البلاد إلى عهد الفتح الإسلامي، ولما شب ذهب إلى نيسابور ليتلقى فيها العلم، فالتقى هناك بأبي علي الدقاق كبير أستاذة المتنسكين في تلك المدينة في ذلك العصر وأخذ يختلف إلى دروسه، فدفعه هذا الأستاذ في طريق الصوفية ثم زوَّجه ابنته، وفي سنة ٤٣٧ھ ألف رسالته القشيرية الشهيرة، وفي سنة ٤٤٨ھ ارتحل إلى بغداد، وهناك جعل يلقي دروسًا في السنة والفقه على مذهب الإمام الشافعي، ثم عاد إلى نيسابور، وتُوُفِّي فيها في سنة ٤٦٥ھ.
أما أهم مؤلفات القشيري في التصوف فهما كتابان، وهما: الرسالة القشيرية، والترتيب في طريق الله؛ لأن الأولى سجلت عن الصوفية الذين سبقوا مؤلفها أوثق المعارف، وهي بهذا تُعد في مقدمة المصادر المعتمدة عن التصوف والمتصوفين، وعنده أن الغزالي مَدِين لهذه الرسالة بالشيء الكثير، كتب القشيري هذه الرسالة إلى طوائف الصوفية في جميع بلاد الإسلام، فترجم فيها لاثنين وثمانين شيخًا من شيوخهم بعد أن أعلن تشاؤمه بما آل إليه مصير هذه الطائفة في عصره فقال: «اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم، ولم يبقَ في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل:
حصلت الفترة في هذه الطريقة بل اندرست بالحقيقة.»
تنقسم هذه الرسالة إلى قسمين أساسيين؛ فالأول عُني بالأحوال التنسكية التي منحها الصوفية من قبله اهتمامًا عظيمًا وحددوها تحديدًا دقيقًا. والقسم الثاني عُني بأخلاق المتصوفين.
ومما ذُكِر في القسم الأول أحوال الاضطراب والانقباض والانبساط، والفراق والاجتماع، والذكر والسكر.
وهذه العبارات في ذاتها — كما يلاحظ الأستاذ كارادي فو — كانت واضحةً بسيطةً لا تخرج عن شرحها عواطف النفس في حالة قربها من الإله، ولكن المتصوفين قد عقدوها بما وضعوا لها من تعريفات متعملة.
اهتم القشيري في هذه الرسالة على الأخص بالأحوال دون المقامات إلا أنه رغم ذلك ذكر من هذه الأخيرة ثلاثة: الأول مقام التوحيد، والثاني مقام الوجد، والثالث مقام الوجود. وهذا الأخير هو الغاية العليا.
أما الأخلاق الصوفية فقد بدأها بمقدمة عن حياة الزهادة قال فيها: إن مبدأ هذه الحياة هو الندم، وهو ثلاث درجات؛ التوبة، والإنابة، والأوبة. وبعد ذلك وصف سلوك المتنسكين ومشاعرهم، فذكر الإجلال والمجاهدة والخلوة والعزلة والمراقبة والصبر والشكر والخوف والرجاء. وأخيرًا ذكر الفضائل الضرورية للصوفي، وهي؛ الصمت والاستهانة بالنفس والخشوع والتوكل، وما إلى ذلك.
أما الكتاب الثاني فهو كمنهج للمبتدئين في التصوف، وقد كان لهذين الكتابين أثر عظيم في عصرهما وفي العصور التي تلته.
(٤) عبد القادر الجيلاني
وُلِد عبد القادر الجيلاني في جيلان في سنة ٤٧٠ھ من أسرة تنتسب إلى علي، وقد سجلت أَخْيِلَة الشعب حول طفولته وشبابه كثيرًا من الخرافات، فنبَّأتنا إحداها بأنه كان إذا حل شهر رمضان انقطع عن الرضاع، وذكرت لنا خرافة أخرى أنه حين اتجه إلى بغداد في الثامنة عشرة من عمره، عرض له الخضر وحال بينه وبينها سبعة أعوام، وبعد أن زال خوفه عليه من فتن تلك المدينة الزاخرة بالشكوك والريب سمح له بالدخول.
وأخيرًا تُوُفِّي في سنة ٥٦١ھ/١١٦٥م.
أما مؤلفاته فكثيرة، منها: «فتوح الغيب» و«الفتح الرباني» و«الغنيمة لطالبي طريق الحق» و«جلاء الخاطر» وغيرها.
(٥) أبو نجيب السهروردي
وُلِد أبو نجيب السهروردي في مدينة سهرورد حوالي سنة ٤٩١ھ من أسرة تنتمي إلى أبي بكر الصديق، ومنذ طليعة شبابه ارتحل إلى بغداد وتخصص في دراسة الفقه، وبعد أن أتم دراسته ارتحل إلى «أصبهان» وكان قد بدأ يتصوف، فاحترف السقاية ليعيش من عرق جبينه، وفي هذه الآونة اشتهر بالتقوى، ووقف كل أوقات فراغه على الذكر وإرشاد المريدين، فنال احترام الجماهير، وبنى أهل المدينة له ولمريديه عدةً من الملاجئ، وبعد ذلك عاد إلى بغداد واشتغل فيها بتدريس السُّنَّة لعدد كبير من التلاميذ.
وفي سنة ٥٥٨ھ ارتحل إلى دمشق، فخلع عليه نور الدين زنجي خُلَعًا فاخرةً، وأخيرًا عاد إلى بغداد فاستقر فيها حتى تُوُفِّي بها في سنة ٥٦٤ھ.
أما مؤلفاته فلم يأتنا من أنبائها إلا نبأ كتابيه: «آداب المريدين» و«شرح أسماء الله الحسنى»، ولم يَرِدْ فيهما من الآراء ما يؤخذ على مؤلفهما، وبهذا يبين أنه كان من المتصوفين العمليين، أو من قسم السنيين الذين لم يتأثروا بالفلسفة في نظرياتهم التنسكية.
(٦) عمر السهروردي
وُلِد أبو حفص شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في سهرورد في سنة ٥٣٩ھ، وهو ابن شقيق أبي نجيب السهروردي السالف الذكر، ولما نشأ تتلمذ على عمه وعلى الشيخ عبد القادر الجيلي، وبعد أن أتم معارفه عُيِّن شيخ الشيوخ في بغداد، وأخيرًا تُوُفِّي في سنة ٦٣١ھ بعد حياة طويلة حافلة بالعلم والعمل.
كان السهروردي من طراز أبي حامد الغزالي في حملته على الفلسفة الإغريقية ومناصرة الشريعة الإسلامية عليها؛ ولهذا كان من فصيلة عمه.
أما مؤلفاته، فمن أهمها: كتاب «كشف الفضائح اليونانية»، وليس في حاجة إلى التعليق؛ فعنوانه يوضح ما فيه، وكتاب «عوارف المعارف» وهو من المصادر الهامة لآراء مؤلفه وللأخلاق التنسكية الخاصة بطوائف الصوفية.
آراؤه: للقوى الإنسانية عند السهروردي ثلاث درجات؛ علياها الروح وهي متجهة إلى العالم اللامُحَسِّ، ودنياها النفس وهي متجهة إلى العالم المُحَسِّ، وبينهما القلب وهو صالح للاتجاهين الأعلى والأدنى، فقبل أن يتم نوره يكون اتجاهه موزعًا بين القوتين: العليا والدنيا، ولكنه عندما تتم إنارته يتجه بكُلِّيَّته إلى الروح فيتصل بالعالم الروحاني، وفي هذه الحالة تنجذب النفس إلى القلب، وعلامة اتجاه النفس إلى القلب هي إحساسها بالهدوء.
وكما أبان السهروردي درجات القوى الإنسانية شرح كذلك الفرق بين الحال والمقام في التصوف فقال: إن الشيوخ لم يتفقوا في هذه المسألة على رأي قاطع؛ لأن ما هو حال عند البعض قد يكون مقامًا عند البعض الآخر، ولكن أوضح الفروق بين الحال والمقام هو أن الحال متغيرة والمقام ثابت، وأن الحال إذا ارتقت صارت مقامًا، وأن الحال موهوبة والمقام مكتسب بمجهود الفرد.
وقد ذكر السهروردي عددًا من الأحوال والمقامات؛ فمن الأحوال: الحب والشوق، والأنس والإجلال، والانقباض والانبساط، والقرب والبعد، والاجتماع والانفصال، والبقاء والفناء.
ومن المقامات: الزهد والصبر، والخوف والرجاء، والتوكل والتواضع.
وأهم ما أُثِرَ عن هذا الصوفي بعد الذي أسلفناه هو آراؤه الأخلاقية التي تمثل الصوفي الحقيقي أصدق تمثيل، والتي هي إلى الديانتين: البوذية والمسيحية أقرب منها إلى الإسلام، فمن ذلك مثلًا أنه كان يجل التواضع إلى حد المهانة التي حمل عليها الإسلام في عنف، وكان يغالي في الرحمة والصفح عن مهينيه إلى حد التمثل بقول التعاليم المسيحية: «من ضربك على خدك الأيمن فأَدِرْ له الأيسر.» وكان يدعو كذلك إلى احتمال كل ما يجيء من الآخرين. ومما أُثر عنه قوله: «لو أحب الناس بعضهم بعضًا وقدروا ما في الإحسان من الخير لاستغنوا عن العدالة؛ إذ العدالة أدنى مرتبة من الرحمة، ولا تُستعمل الأولى إلا عند غَيْبة الثانية، وإن من ينفذ أوامر الرحمة أسمى ممن ينفذ أوامر القانون؛ لأن إطاعة القانون خارجية، أما إطاعة الرحمة فهي داخلية.»
(٧) يحيى السهروردي
حياته: هو شهاب الدين يحيى السهروردي، ولا يعرف التاريخ الصحيح شيئًا عن مولده وطفولته، وإنما هو يقدمه إلينا شابًّا مشردًا بين بغداد وأصبهان وحلب، ثم ينبئنا هذا التاريخ بأنه بينما كان السهروردي يطوف هذه البلاد الإسلامية ناشرًا مذهبه بلغ أمره صلاح الدين، ونقل إليه أنه ضال مضل يُبدل في دين الله ما شاء له هواه، فبعث إليه ابنه أن يقتله ففعل، وكانت وفاته في سنة ٥٨٧ھ، وكان عمره إذ ذاك ثمانية وثلاثين عامًا، وقد جعل ذلك المؤرخين يستنتجون أنه وُلِد حوالي سنة ٥٤٩ھ، ولا يزال قبره يُزار إلى الآن، وتسميه الجماهير بالشيخ المقتول.
إن الفكرة الأولى التي تلهمنا إياها مطالعة هذين الكتابين هي أن الفلسفة ولا سيما التنسكية منها قد انبثقت من إلهام هو موجود منذ بدء العالم، أي إن جميع حكماء العصور القديمة والحديثة مصريين كانوا أو هنودًا أو إغريقيين أو فارسيين أو عبرانيين قد بشروا جميعًا تحت صور مختلفة بمذهب هو واحد في أعماقه، وأنهم لم يعرفوا هذا المذهب عن طريق النظر العقلي معرفةً أساسيةً، وإنما عرفوه عن طريق المشاهدة التنسكية والكشف الفوقي الطبيعي.
أما الفكرة الثانية التي تخطر لقارئ هذين الكتابين فهي أنه وُجِد أيضًا في جميع العصور الإنسانية أفراد ذوو معارف بالأسرار ومواهب لاكتشافها، وأن رئيس أولئك الأفراد في كل عصر يُدعى بالإمام أو بقطب الوقت، أما الآخرون فهم أعوانه وهم يحملون أسماء مختلفة، وهذا القطب يجب أن يكون أعظم الحكماء المتنسكين في عصره، وإذا تتبعنا تعاليم هؤلاء الأقطاب في جميع العصور كما ينبغي، ألفيناها كلها متفقةً في نقطها الأساسية.
وعند السهروردي أن هذا القطب يجب أن يكون إمام الإنسانية ورئيس العالم كله.
مذهبه: على الرغم من الاختلاف في الأسلوب والتعبيرات، يُلاحظ الباحث أن مذهب السهروردي لا يخرج عن كونه نسيجًا محكمًا على منوال مدرسة ابن سينا الإشراقية المتأثرة بالأفلاطونية الحديثة.
ينقسم العالم عند السهروردي إلى قسمين: عالم النور، وعالم الظلام، فالأول هو العالم الروحاني الأعلى المنير، وعلى رأسه الإله الذي يدعوه بنور النور، ويلي هذا الإله في المكانة عقول الكواكب، وهو يسميها الأنوار القاهرة أو الحاكمة أو السائدة، وتليها العقول الأخرى ويسميها الأنوار فقط.
والثاني هو عالم المادة والوضاعة والرداءة، وأشخاص هذا العالم تُدعى عنده بالأوثان أو بالبرازخ.
وكيفية صدور الموجودات عن الإله هي أنه قد انبثق إشراق واحد من نور النور، وهذا الإشراق الأول، أو النور الحاكم الصادر عن الإله هو عين ما كان ابن سينا يدعوه بالمعلول الأول، وهذا النور على إثر صدوره ينظر إلى بارئه وإلى ذاته فيجد نفسه مظلمًا بالنسبة إلى الإله، ومن هذا ينشأ البرزخ الأول، وهو ما كان ابن سينا يسميه بجسم الفلك الأول أو الفلك المحيط، وعلى هذا النظام تصدر الأنوار والبرازخ الأخرى، وهذه البرازخ تتحرك بتأثير الأنوار حركةً تجعل الأنوار قاهرةً والبرازخ مقهورةً، وهكذا يظل النور ينتشر نازلًا حتى يعم عالمنا على النهج الذي رأيناه في العالم الأعلى، أي إن كل عقل إنساني يمثل في برزخه العقول العليا في برازخها.
من هذا يبين أن السهروردي متأثر طورًا بالأفلاطونية الحديثة وطورًا آخر بالفلسفة الفارسية التي تقسم الكون كله إلى نور وظلام وتخضع الثاني للأول، وتجعله قاهرًا له سائدًا عليه.
(٨) ابن الفارض
وُلِد في القاهرة في سنة ٥٧٦ھ، وتوفي في الأزهر في سنة ٦٣٢ھ، وهي السنة التي تُوُفِّي فيها عمر السهروردي، وكان في حياته التصوفية فريسةً لأنواع كثيرة من الغيبوبة والاضطراب إلى حد أنه كان أحيانًا يظل ممتدًّا على الأرض بضعة أيام دون أن يبدي حراكًا، وأحيانًا أخرى يتقلب ويتدحرج على سطح الأرض يمينًا وشمالًا دون أن يعرف أحد ما به، ومن الغريب أنه كان يصنع شِعره على أثر هذه النوبات مباشرةً.
منتجاته: أما أهم منتجاته فهو ديوانه المفعم بقصائد الحب والغرام والغزل والخمريات، إلى غير ذلك من القصائد التي يقولون إنها موجهة كلها إلى الإله معشوقه الأعلى، ويلاحظ الأستاذ «كارادي فو» أن هذه المعاني — إذا صح أنها متجهة إلى الباري — قد أُديت بألفاظ خليعة شهوانية، ومن أشهر أشعاره تائيته التنسكية الطويلة التي يقول فيها.
وقد أثبت في هذه القصيدة أن الحب هو الوسيلة المُثْلى للسمو والاتصال بالذات الأوحد، وهو الذي يحقق لصاحبه التفوق على جميع الكائنات، وأن المحب هو سيد الأتقياء وأفضل المتنسكين الذين لا ينشغلون إلا بالزهادة والتقاليد الظاهرية وأرقى من الصنفين المتعارضين، الذي يتبع في حكمه الشرع والذي يتبع العقل.
ومن قصائده الممتازة أيضًا قصيدته التي يقول فيها.
وقد كتب بعض المتأخرين شروحًا لهذه القصيدة، أقل ما يقال فيها أنها مزيج من مذاهب الشيعة التي لا تَرضى بأقل من أن تُقحم عليًّا في كل شيء حتى في مذهب الحلول ووحدة الوجود.
(٩) محيي الدين بن عربي
حياته: وُلِد محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن عربي الحاتمي الطائي في مدينة «المورثية» بالأندلس في سنة ٥٦٠ھ، وفي الثامنة من عمره بعثه أهله إلى إشبيلية فدرس فيها الحديث والفقه حتى تضلع فيهما، وفي سنة ٥٩٩ھ قام برحلات واسعة إلى الشرق فزار مصر.
كان ابن عربي يؤمن بوحدة الوجود وإن كان قد أنفق في سبيل حجبها عن الجماهير مجهودًا عظيمًا دفعه إليه حرصه على الحياة بعد ما أفزعته ذكريات الحلاج ويحيى السهروردي.
ومعلوم ثانٍ هو الحقيقة الكلية التي هي للحق وللعالم لا تتصف بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقدم، إذ هي في القديم إذا وصف بها قديمة وفي المحدث إذا وصف بها محدثة، فلا تعلم المعلومات قديمها وحديثها حتى تعلم هذه الحقيقة، ولا توجد هذه الحقيقة حتى توجد الأشياء الموصوفة بها، فإن وُجِد شيء من غير عدم متقدم كوجود الحق وصفاته قيل فيها: موجود قديم لاتصاف الحق بها، وإن وُجِد شيء عن عدم كوجود ما سوى الله تعالى وهو المحدث الموجود بغيره قيل فيها: محدثة وهي في كل موجود بحقيقتها، فإنها لا تقبل التجزؤ فما فيها كل ولا بعض، ولا يتوصل إلى معرفتها مجردةً عن الصورة بدليل ولا برهان، ومن هذه الحقيقة وُجِد العالم بوساطة الحق تعالى، ولم تكن بموجودة فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم يثبت لنا القدم، وكذلك لتعلم أيضًا أن الحقيقة لا تتصف بالتقدم على العالم المعقول، فإن قلت إنها العالم صدقت، أو إنها ليست العالم صدقت، أو إنها الحق أو ليست الحق صدقت، تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم وتتنزه بتنزيه الحق، وإن أردت مثالها حتى تقرب إلى فهمك فانظر في العودية في الخشبة والكرسي والمحبرة والمنبر والتابوت، وكذلك التربيع وأمثاله من الأشكال في كل مربع مثلًا من تابوت وبيت وورقة، فالتربيع والعودية يحققانها في كل شخص من هذه الأشخاص، وكذلك الألوان كبياض الثوب والجوهر والكاغد والدهان والدقيق من غير أن تتصف البياضية المعقولة بالانقسام حتى يقال: إن بياض الثوب جزء منها، بل حقيقتها ظهرت في الثوب كما ظهرت في الكاغد، وكذلك العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وجميع الأسماء كلها.
أقام في مدينة قونية زمنًا تزوج أثناءه بسيدة أَيِّمٍ، وهي والدة صدر الدين القوني المتنسك المعروف، ثم عاد إلى سوريا فأقام بها حتى تُوُفِّي فيها في سنة ٦٣٨ھ، ودفن بالقرب من دمشق، وقد هدم بعض المتعصبين قبره، ولكن السلطان سليم حين فتح دمشق أعاد بناء هذا القبر وأسس بالقرب منه مسجدًا جميلًا.
مؤلفاته: كتب ابن عربي من المؤلفات عددًا أدهش الباحثين المستشرقين إلى حدِّ أن حمل أحدهم وهو الأستاذ «كليمان هوار» على أن يقول: إنها لكثرتها لا يحصرها الخيال، وهي في رأيه تبلغ نحو ثلاثمائة مؤلف، وقد نقل الأستاذ «ماسينيون» عن قائمة ابن عربي المعنونة: «فهرس الكتب المصنفة» أن عدد هذه المؤلفات أربعمائة وتسعة وثلاثون كتابًا، وقد عثر الأستاذ «بروكلمان» المستشرق الألماني منها على نحو مائة وخمسين كتابًا في مكتبات الشرق والغرب، ومن أهم هذه الكتب ما يأتي:
(أ) «الفتوحات المكية»، وهو عرض تام لجميع المعارف الصوفية، ودراسة كاملة لمناهجهم وتعاليمهم في خمسمائة وستين فصلًا تقع في اثني عشر جزءًا، ويحتوي الفصل التاسع والخمسون بعد الخمسمائة منه على مجمل كامل للكتاب كله، وقد كتب الشعراني المتوفى في سنة ٩٧٣ھ/١٥٦٦م ملخصًا هامًّا لهذا الكتاب، وحين طلب ابن عربي إلى ابن الفارض أن يكتب شرحًا لتائيته أجابه بأنه لا يعرف شرحًا خيرًا من الفتوحات. (ب) «فصوص الحكم»، وقد عرض فيه للرسل الخمسة والعشرين وأهميتهم، وادعى أنه لم يكتب عن أي رسول منهم إلا بعد ظهوره له، وقد أتمه المؤلف في دمشق في سنة ٦٢٧ھ، وطُبِع مع شرح بالتركية في بولاق في سنة ١٢٥٢ھ، ثم أُخِذت منه صورة شمسية بالقاهرة مع شرح عبد الرازق القاشاني في سنة ١٣٠٩ ثم في سنة ١٣٢١ھ.
(ﺟ) «محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار»، وهو مجموعة من النكت والمُلَح والنوادر في الأدب، طُبِع في القاهرة في سنة ١٢٨٢ ثم في سنة ١٣٠٥ھ. (د) «مشاهد الأنوار القدسية». (ھ) «الأنوار». (و) «إنشاء الدوائر»، وقد عرض فيه مؤلفه لبيان خلق الإنسان في العالم، (ز) «حلية الأبدال». (ﺣ) «كيمياء السعادة». (ط) «الإفاضة» من الفتوى أنواع المعرفة الثلاثة الأساسية وهي معرفة الله، والعالم العقلي، والعالم الحسي. (ي) «ترجمان الأشواق»، وهو مجموعة قصائد صوفية يوهم ظاهرها أنها غزل ووصف لحب مادي، وقد كتب لها شرحًا دفع به هذه التهمة التي قد وجهها السطحيون إلى كتابه. (ك) «كتاب الأمر المحكم»، طُبِع مع ترجمة تركية في الأستانة في سنة ١٣٠٠ھ. (م) «التجليات الإلهية». (ن) «تاج الرسائل ومنهاج الوسائل». (س) «تفسير سورة الضحى». (ع) كتاب الأجوبة على الرسائل «المنصورية». (ف) «أنا القرآن والسبع المثاني»، وهي قصيدة عصماء قد احتوت من الآراء التصوفية والوحدية ما لا يُستهان به. (ص) «الرسائل الإلهية»، قد طُبِع في القاهرة في سنة ١٣٢٥ھ. (ق) «مواضع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم»، طُبِع في القاهرة في سنة ١٣٢٥ھ. (ر) «كتاب الأخلاق»، طُبِع في القاهرة بدون تاريخ. وله كذلك من الكتب الفلسفية والتاريخية والأخلاقية ما لو حاولنا الحديث عنه لطال بنا المدى، فآثرنا أن نقف عند هذا القدر، معلنين أن هؤلاء الرجال الأفذاذ كان لهم على الحركة العقلية الشرقية والنهضة الأوربية أثر غير ممكن الجحود. أما وحدة الوجود، فقد عرض ابن عربي في كتابه «فصوص الحكم» لكثير من النظريات الفلسفية، ولكنه لكي يكون في مأمن من مهاجمة المتعصبين قد مزج بتاريخ كل نبي من الأنبياء الذين تناول الكتابة عنهم في هذا السفر شيئًا من هذه النظريات، ليضعها تحت حماية ذلك النبي على نحو ما يعبر أحد المستشرقين، فمن ذلك مثلًا نظرية صدور العالم التي مزجها بتاريخ آدم فقرر أنه قد وقع فَيْضَان: الأول هو الذي وجدت المادة المستعدة لتقبل الصور ثم أعدها لقبول الحياة الإلهية، والثاني هو الذي أنتج الوجودات الشخصية بإظهار الكائنات التي أُرِيدت بهذا الإعداد، وعن الفيض الأول نتجت الجواهر المعينة أو الكليات واستعداداتها المحددة لها في العلم الإلهي، وعن الثاني نتج التحقق الخارجي لهذه الأشياء ونتائجها المرادة منها.